نصوص في علوم القرآن

اشارة

نام كتاب: نصوص في علوم القرآن

سرشناسه : موسوی دارابی، علی، 1334 -

عنوان و نام پديدآور : نصوص فی علوم القرآن/ تالیف علی الموسوی الدارابی؛ باشراف محمد واعظزاده الخراسانی.

مشخصات نشر : مشهد: مجمع البحوث الاسلامیه، 1422ق.-=1380.-

مشخصات ظاهری : ج.

شابک : دوره: 964-444-380-2 ؛ ج. 1: 964-444-381-0 ؛ ج. 3: 964-444-957-6 ؛ 70000ریال(ج.5، چاپ اول)

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج. 3(چاپ سوم:1385).

يادداشت : ج.5(چاپ اول: 1429ق=1386).

یادداشت : کتابنامه

مندرجات : ج. 1. النزول.- ج. 3. جمع القرآن.-ج.5 مصاحف الصحافه،رسم القرآن...

موضوع : قرآن -- علوم قرآنی

موضوع : قرآن-- وحی.

شناسه افزوده : واعظ زاده خراسانی، محمد، 1304-، مصحح

شناسه افزوده : بنیاد پژوهشهای اسلامی

رده بندی کنگره : BP69/5/م 8ن 6 1380

رده بندی دیویی : 297/15

شماره کتابشناسی ملی : م 79-24129

تاريخ وفات مؤلف: معاصر

تعداد جلد: 1

نوبت چاپ: اوّل

الفهرس العام

التّصدير 9

المدخل في أقسام الكتاب 21

القسم الأوّل: نزول القرآن و فيه أبواب:

الباب الأوّل: كيفيّة النّزول، و فيه فصول:

الفصل الأوّل نصّ البخاريّ 31

الفصل الثّاني نصّ الطّبريّ 34

الفصل الثّالث نصّ ثقة الإسلام الكلينيّ 51

الفصل الرّابع نصّ الشّيخ الصّدوق و الشّيخ المفيد 54

الفصل الخامس نصّ الشّريف المرتضى 57

الفصل السّادس نصّ البيهقيّ 66

الفصل السّابع نصّ الشّيخ الطّوسيّ 73

الفصل الثّامن نصّ الواحديّ 77

الفصل التّاسع نصّ الميبديّ 79

الفصل العاشر نصّ الشّيخ أبي الفتوح الرّازيّ 86

نصوص في علوم القرآن، ص: 6

الفصل الحادي عشر نصّ الزّمخشريّ و نصّ السيّد الشّريف 90

الفصل الثّاني عشر نصّ الطّبرسيّ 97

الفصل الثّالث عشر نصّ ابن الجوزيّ 106

الفصل الرّابع عشر نصّ الفخر الرّازيّ 109

الفصل الخامس عشر نصّ أبي شامة 136

الفصل السّادس عشر نصّ القرطبيّ 149

الفصل السّابع عشر نصّ البيضاويّ 158

الفصل الثّامن عشر نصّ النّيسابوريّ 161

الفصل التّاسع عشر نصّ ابن جزيّ الكلبيّ 161

الفصل العشرون نصّ أبي حيّان 170

الفصل الحادي و العشرون نصّ ابن كثير 179

الفصل

الثّاني و العشرون نصّ الزّركشيّ 186

الفصل الثّالث و العشرون نصّ ابن حجر العسقلانيّ 189

الفصل الرّابع و العشرون نصّ السّيوطيّ 197

الفصل الخامس و العشرون نصّ القسطلانيّ 214

الفصل السّادس و العشرون نصّ شيخ زاده 217

الفصل السّابع و العشرون نصّ الخطيب الشّربينيّ 224

الفصل الثّامن و العشرون نصّ ملّا فتح اللّه الكاشانيّ 227

الفصل التّاسع و العشرون نصّ الشّيخ على ددة 231

الفصل الثّلاثون نصّ صدر المتألّهين 238

الفصل الحادي و الثّلاثون نصّ ملّا صالح المازندرانيّ 258

الفصل الثّاني و الثّلاثون نصّ الطّريحيّ 260

الفصل الثّالث و الثّلاثون نصّ الفيض الكاشانيّ 262

الفصل الرّابع و الثّلاثون نصّ البحرانيّ 264

الفصل الخامس و الثّلاثون نصّ العلّامة المجلسيّ 268

الفصل السّادس و الثّلاثون نصّ البروسويّ 274

نصوص في علوم القرآن، ص: 7

الفصل السّابع و الثّلاثون نصّ شبّر 283

الفصل الثّامن و الثّلاثون نصّ الآلوسيّ 286

الفصل التّاسع و الثّلاثون نصّ البروجرديّ 302

الفصل الأربعون نصّ الأصفهانيّ 305

الفصل الحادي و الأربعون نصّ السّيّد رشيد رضا 310

الفصل الثّاني و الأربعون نصّ ابن باديس 312

الفصل الثّالث و الأربعون نصّ الزّنجانيّ 318

الفصل الرّابع و الأربعون نصّ النّهاونديّ (1) 320

الفصل الخامس و الأربعون نصّ النّهاونديّ (2) 323

الفصل السّادس و الأربعون نصّ المراغي 330

الفصل السّابع و الأربعون نصّ سيّد قطب 333

الفصل الثّامن و الأربعون نصّ الزّرقانيّ 339

الفصل التّاسع و الأربعون نصّ عزّة دروزة 359

الفصل الخمسون نصّ الشّعرانيّ 373

الفصل الحادي و الخمسون نصّ مالك بن نبيّ 378

الفصل الثّاني و الخمسون نصّ الشّيخ أبي زهرة 383

الفصل الثّالث و الخمسون نصّ العلّامة الطّباطبائيّ 387

الفصل الرّابع و الخمسون نصّ الشّهيد مطهّريّ 419

الفصل الخامس و الخمسون نصّ السّبكي 424

الفصل السّادس و الخمسون نصّ الاشيقر 441

الفصل السّابع و الخمسون نصّ الشّيخ خليل ياسين 445

الفصل الثّامن و الخمسون نصّ الدّكتور صبحيّ الصّالح 448

الفصل التّاسع و

الخمسون نصّ الدّكتور حجازيّ 460

الفصل السّتّون نصّ الخطيب 478

الفصل الحادي و السّتّون نصّ الدّكتور العطّار 492

الفصل الثّاني و السّتّون نصّ الشّيخ معرفت 504

نصوص في علوم القرآن، ص: 8

الفصل الثّالث و السّتّون نصّ الآصفيّ 513

الفصل الرّابع و السّتّون نصّ الدّكتور أبي شهبة 526

الفصل الخامس و السّتّون نصّ الدّكتور خليفة 549

الفصل السّادس و السّتّون نصّ القطّان 552

الفصل السّابع و السّتّون نصّ الدّكتور حجّتي 567

الفصل الثّامن و السّتّون نصّ الشّيخ محمّد الغزاليّ 571

الفصل التّاسع و السّتّون نصّ الشّيخ الزّفزاف 575

الفصل السّبعون نصّ الشّيخ السّبحانيّ 580

الفصل الحادي و السّبعون نصّ الشّيخ الأراكيّ 585

الفصل الثّاني و السّبعون نصّ مرتضى العامليّ 591

الفصل الثّالث و السّبعون نصّ الملكيّ 604

الفصل الرّابع و السّبعون نصّ السّيد الحكيم 617

الفصل الخامس و السّبعون نصّ البوطيّ 621

الفصل السّادس و السّبعون نصّ الدّوزدوزانيّ 626

الفصل السّابع و السّبعون نصّ السّيد مير محمّديّ 665

الفصل الثّامن و السّبعون نصّ الصّابونيّ 671

الفصل التّاسع و السّبعون نصّ الأبياريّ 681

الفصل الثّمانون نصّ الشّرقاويّ 684

الفصل الحادي و الثّمانون نصّ الدّكتور عليّ الصّغير 689

الأعلام و المصادر 701

مصادر الأعلام 723

نصوص في علوم القرآن، ص: 9

تصدير

اشارة

بقلم العلّامة آية اللّه الشّيخ محمّد واعظ زاده الخراسانيّ، مدير قسم القرآن بمجمع البحوث الإسلاميّة و أستاذ علوم القرآن و الحديث بكليّة الإلهيّات و المعارف الإسلاميّة بجامعة مشهد.

نحمد اللّه تبارك و تعالى، و نصلّي و نسلّم على حبيبه محمّد و على آله و صحبه و من اهتدى بهداه.

إنّ هذا الكتاب- كما يدلّ عليه اسمه- يضمّ مجموعة من النّصوص في علوم القرآن مرتّبة ترتيبا زمانيّا، منذ القدم و حتّى العصر الحاضر.

علوم القرآن

اشارة

تشمل علوم القرآن بمعناها الواسع (لا المعنى الاصطلاحيّ) كلّ علم يتعلّق بالقرآن بأيّ نحو كان. و يمكن تقسيم هذه العلوم إلى ثلاثة أقسام: 1- علوم للقرآن 2- علوم في القرآن 3- علوم حول القرآن. و فيما يلي بحث موجز حول كلّ قسم من هذه الأقسام الثّلاثة؛ لكي نرى أيّا منها يصدق عليه مصطلح «علوم القرآن».

نصوص في علوم القرآن، ص: 10

1- علوم للقرآن

يستشفّ من هذا العنوان أنّ المراد منه جميع العلوم الّتي وجدت لخدمة القرآن، و تمهيد الأرضيّة لفهمه و درك معارفه أو اكتناه جوانبه الأخرى. و لو أمعنّا النّظر في علوم الأدب الّتي لها علاقة بالقرآن لرأينا أنّ جميعها تقريبا ينضوي تحت هذا العنوان. فعلم النّحو- مثلا- قد وجد لهذا الغرض كما هو معروف، و ذلك حينما سمع الإمام عليّ عليه السّلام رجلا يقرأ آية البراءة على النّحو التّالي: أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ «1» بكسر لام «رسوله»، فالمعنى على هذا إنّ اللّه متبرّم و مشمئزّ من المشركين و رسوله. و هذا غلط، فإنّ معنى الآية هو أنّ اللّه و رسوله متبرّئان من المشركين. فأدرك عليه السّلام حينذاك الخطر المحدق بالقرآن الكريم، فأحضر أبا الأسود الدؤليّ، و لقّنه علم النّحو بقوله: «الكلمة اسم و فعل و حرف، و كلّ فاعل مرفوع، و كلّ مفعول منصوب، و كلّ مضاف إليه مجرور» ثمّ قال له: «انح هذا النّحو»، و لهذا سمّي النّحو نحوا، و اعتبر الإمام عليّ عليه السّلام مبتكر هذا العلم، و قد نقل المرحوم آية اللّه العظمى النّائينيّ بعض الرّوايات في هذا الخصوص. «2»

فعلم النّحو و شقيقه الصّرف قد وضعا لأوّل مرّة للقرآن، ثمّ عمّ اللّغة العربيّة و علومها. كما هو الحال في

علم المنطق؛ إذ ابتكره الفيلسوف اليونانيّ «أرسطو»، للوقوف أمام السّفسطة في علم الفلسفة، و شمل بعد ذلك جميع العلوم و خصوصا العلوم العقليّة.

أمّا علم المعاني و البيان و البديع في الإسلام فقد وضع أساسا لدرك سرّ إعجاز القرآن الكريم؛ لأنّ إحدى النّواحي البارزة للإعجاز القرآنيّ منذ بدء النّزول هي بلاغة القرآن الّتي اعتبرت و لا زالت من المسلّمات عند أرباب البلاغة و قد تحدّى بها القرآن غير مرّة. بيد أنّ قواعدها و أسرارها كانت غير واضحة المعالم، على أنّ الملحدين في القرن الثّاني فما بعده أخذوا يشكّكون في بعض آيات القرآن و عباراته، و كانوا يرمون من وراء ذلك المساس بصحّتها. ممّا حدا بالأدباء المسلمين، و خصوصا المعتزلة منهم أن يهبّوا لبيان كنايات القرآن الّتي تبدوا متشابهة بحسب ظاهرها، و يدعوا إلى التّمعّن في القرآن من النّاحية الأدبيّة. و وقفوا شيئا فشيئا على سرّ إعجاز القرآن الّذي يعدّ أساس هذه العلوم الثّلاثة الّتي يرتبط كلّ منها بإحدى جوانب البلاغة و الفصاحة للقرآن و محسّناته اللّفظيّة و المعنويّة، ثمّ أصبحت فيما بعد ثلاثة علوم مستقلّة عن بعضها بعضا.

______________________________

(1)- التّوبة 3.

(2)- راجع (أجود التّقريرات) للمرحوم آية اللّه العظمى السّيّد الخوئيّ 1: 22.

نصوص في علوم القرآن، ص: 11

و ممّا يؤيّد ذلك هو أنّ مواضيع كهذه قد طرحت على بساط البحث لأوّل مرّة في كتب الإعجاز القرآنيّ، و لذا فإنّ الشّيخ عبد القاهر الجرجانيّ المتوفّى عام (471 ه)- الّذي يعتبر واضع علم البلاغة- قد أطلق على أحد كتبه اسم «دلائل الإعجاز»، و أطلق على كتاب آخر له اسم «أسرار البلاغة».

و كان العلماء المتقدّمون يلحظون إعجاز القرآن في آياته و عباراته، و لكن بعض علماء العصر الحاضر كالدّكتورة عائشة

عبد الرّحمن بنت الشّاطئ طرحت في كتابها «الإعجاز البيانيّ:

194» إعجاز الكلمة في الاستعمال القرآنيّ، و كذا فعل الشّيخ محمّد أبو زهره في كتابه «المعجزة الكبرى: 109» و حذا حذوهما آخرون، و هو رأي ثاقب. و يسعى قسم القرآن في مجمع البحوث الإسلاميّة تحت إشرافي و بمباشرتي إلى بلوغ هذا الهدف من خلال كتابه المهمّ «المعجم في فقه لغة القرآن و سرّ بلاغته»، و هو موسوعة قرآنيّة كبيرة.

و أمّا علم اللّغة فإنّه وجد لأوّل مرّة في صدر الإسلام عند شرح ألفاظ القرآن، و الشّاهد على هذا أسئلة نافع بن الأزرق (65 ه) لعبد اللّه بن عبّاس (68 ه)؛ حيث سأله بمائتيّ كلمة تقريبا من كلمات القرآن الكريم، و كان ابن عبّاس يجيبه عنها مستشهدا بشاهد شعريّ لكلّ كلمة. «1»

و تعتبر الكتب الّتي تحمل عنوان «مفردات القرآن» أو «غريب القرآن» أقدم معاجم اللّغة العربيّة. و كان الخليل بن أحمد الفراهيديّ المتوفّى عام (175 ه) يستشهد بالقرآن لشرح معاني الكلمات، أو يعمد إلى شرح الآيات في كتابه «العين» الّذي يعدّ رائد المعاجم العربيّة. و كذلك كان شأن تلميذه البارز سيبويه المتوفّى عام (180 ه) فقد سلك نهج أستاذه في الاقتباس من القرآن بشرح كثير من ألفاظه في «الكتاب». و قد أعددت مقالة بعنوان (علاقة «الكتاب» بالقرآن) للمؤتمر الكبير الّذي عقد في جامعة شيراز قبل حوالي 17 سنة بمناسبة مرور ألف و مائتين سنة على وفاة سيبويه، فطبعت بجامعة شيراز ضمن المقالات الفارسيّة المعدّة لذلك المؤتمر.

و لعلّ أقدم كتب تفاسير القرآن تلك الّتي يطلق عليها اسم معاني القرآن، و قد وصلنا بعضها اليوم، مثل معاني القرآن للفرّاء المتوفّى عام (207 ه)، و هو يحوي شرحا لألفاظ القرآن، و كأنّ

______________________________

(1)-

الإتقان للسّيوطيّ 2: 67.

نصوص في علوم القرآن، ص: 12

القدماء كانوا يطلقون علم معاني القرآن على علم التّفسير خلال حقبة من الزّمن، و يدعون المفسّرين باسم أصحاب المعاني.

و قبل أن نتصدّى لبيان القسمين الآخرين لعلوم القرآن، حريّ بنا أن نذكر هنا رأيين لعالمين معاصرين في هذا السّبيل، أي أنّ كثيرا من العلوم الإسلاميّة قد وجدت لخدمة القرآن الكريم.

الرّأي الأوّل: للعلّامة الشّيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر سابقا، المتوفّى عام (1384 ه) و قد كتب مقدّمة «1» لتفسيره الّذي كان ينشر في أعداد متتالية لمجلّة «رسالة الإسلام»، و هي من منشورات (دار التّقريب بين المذاهب الإسلاميّة) بالقاهرة، ثمّ طبعت أعدادها- و هي ستّون عددا- في خمسة عشر مجلّدا في كتاب مستقل من قبل المجمع العالميّ للتّقريب بين المذاهب الإسلاميّة و «مجمع البحوث الإسلاميّة» قال الشّيخ شلتوت بعد أن بيّن اهتمام المسلمين بالقرآن اهتماما منقطع النّظير: «لا نكاد نعرف علما من العلوم الّتي اشتغل بها المسلمون في تاريخهم الطّويل إلّا كان الباعث عليه هو خدمة القرآن الكريم من ناحية ذلك العلم. فالنّحو الّذي يقوّم اللّسان و يعصمه من الخطأ أريد به خدمة النّطق الصّحيح للقرآن، و علوم البلاغة الّتي تبرز خصائص اللّغة العربيّة و جمالها أريد بها بيان نواحي الإعجاز في القرآن، و الكشف عن أسراره الأدبيّة، و تتبّع مفردات اللّغة، و التماس شواردها و شواهدها، و ضبط ألفاظها و تحديد معانيها، أريد بها صيانة ألفاظ القرآن و معانيه أن تعدو عليها عوامل التّحريف أو الغموض، و التّجويد و القراءات لضبط أداء القرآن و حفظ لهجاته و التّفسير لبيان معانيه و الكشف عن مراميه، و الفقه لاستنباط أحكامه، و الأصول لبيان قواعد تشريعه العامّ و طريقة الاستنباط

منه، و علم الكلام لبيان ما جاء به من العقائد و أسلوبه في الاستدلال عليها. و قل مثل هذا في التّاريخ الّذي يشتغل به المسلمون تحقيقا، لما أوحي به الكتاب الكريم في مثل قوله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ «2»، وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ «3»، وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ «4». و قل مثل هذا أيضا في علم تقويم البلدان، و تخطيط الأقاليم الّذي

______________________________

(1)- العدد الأوّل الصادر عام 1368: 14.

(2)- يوسف/ 3.

(3)- هود/ 120.

(4)- القمر/ 4.

نصوص في علوم القرآن، ص: 13

يوحي به مثل قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ «1»، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها «2». و في علوم الكائنات الّتي يوحي بها مثل قوله: أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍ «3»، أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ* يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ* وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ «4»

و هكذا علوم الفلك و النّجوم و الطّبّ، و علوم الحيوان و النّبات و غير ذلك من علوم الإنسان، لا يخلو علم منها أن يكون الاشتغال به- في نظر من اشتغل به من المسلمين-

مقصودا به خدمة القرآن، أو تحقيق إيحاء أوحى به القرآن. حتّى الشّعر إنّما اشتغلوا به ترقية لأذواقهم و تربية لملكاتهم، و إعدادا لها كي تفهم القرآن و تدرك جمال القرآن. و حتّى العروض كان من أسباب عنايتهم به أنّه وسيلة لمعرفة بطلان قول المشركين: إنّ محمّدا شاعر، و إنّ ما جاء به شعر.

و عقّب الشّيخ شلتوت في نهاية حديثه قائلا:

لهذا كلّه أعتقد أنّي لا أتجاوز حدّ القصد و الاعتدال إذا قلت: إنّه لم يظفر كتاب من الكتب سماويّا كان أو أرضيّا في أيّة أمّة من الأمم قديمها و حديثها بمثل ما ظفر به القرآن على أيدي المسلمين، و من شارك في علوم المسلمين ... انتهى موضع الحاجة.

الرّأي الثّاني: للمحقّق الشّهير سعيد الأفغانيّ، و قد اقتبسناه من مقدّمته على كتاب «حجّة القراءات: 19» «5» للإمام أبي زرعة المتوفّى بعد المائة الرّابعة للهجرة؛ قال الأفغانيّ- و قد حقّق الكتاب-: «بين علوم القرآن الكريم و علوم اللّغة العربيّة ترابط محكم، فمهما تتقن من علوم العربيّة و أنت خاوي الوفاض من علوم القرآن فعلمك بها ناقص واهي الأساس، و قدمك فيها غير

______________________________

(1)- الأنعام/ 11.

(2)- الملك/ 15.

(3)- الأنبياء/ 30.

(4)- النّور/ 45- 43.

(5)- طبع مؤسّسة الرّسالة في بيروت، تحقيق سعيد الأفغانيّ.

نصوص في علوم القرآن، ص: 14

ثابتة، و تصوّرك للغة غامض، يعرّضك لمزالق تشرف منها على السّقوط كلّ لحظة. و سبب ذلك واضح لكلّ من ألمّ بتاريخ العربيّة، فهو يعلم حقّ العلم أنّها جميعا نشأت حول القرآن و خدمة له، فمتن اللّغة اهتمّ قبل كلّ شي ء بشرح مفردات القرآن. و تجد غير واحد من المؤلّفين الأوّلين ألّف في غريب القرآن و غريب الحديث.

و النّحو و الصّرف أنشئا لعصمة اللّسان عن الخطأ

في التّلاوة أوّل الأمر، و كان الحافز على التّفكير في وضعهما أخطاء في التّلاوة بلغت مسامع المسئولين فتنادوا لتدارك الأمر. و علوم البلاغة همّها جلاء روعة البيان القرآنيّ لأذهان النّاس؛ ليتذوّقوا حلاوته، و تتلقّح ملكاتهم بفصاحته.

لذا كان أمرا طبيعيّا قيام أئمّة القرّاء بعلوم العربيّة، و كان كبارهم أئمّة العربيّة الفحول، كأبي عمرو بن العلاء (154 ه)، و يعقوب الحضرميّ (205 ه)، و ابن محيصن (123 ه)، و اليزيديّ (202 ه)، و قبله الخليل بن أحمد (175 ه)، حتّى الكسائيّ (189 ه) في كوفته على ضعف ملكته، و كذلك الرّواة عنهم. و هذا الإمام ابن مجاهد (324 ه) مسبّح السّبعة يقول: لا يقوم بالتّمام إلّا نحويّ عالم بالقراءات، عالم بالتّفسير، عالم بالقصص و تلخيص بعضها من بعض، عالم باللّغة الّتي نزل بها القرآن «1». انتهى موضع الحاجة.

و أنا أقول: إنّ هذه الآصرة المتلاحمة بين القرآن و اللّغة العربيّة أفرزت علما جديدا يدعى باسم (تأثير القرآن في اللّغة العربيّة و آدابها)، فألّفت كتب عديدة في هذا المضمار.

أجل، لقد ولدت علوم كثيرة في ظلّ القرآن، و لا زالت تتمخّض علوم أخرى، و أخيرا انخرط الكمبيوتر في جوقة علوم القرآن و خدمته.

2- علوم في القرآن

و هي العلوم الّتي استنبطت من القرآن، و تبيّن بنحو ما مفهوما من مفاهيم القرآن و توضّح أغراضه، كأنواع التّفاسير و أقسامها، و علم الفقه و علم الكلام و علم الأخلاق، و كافّة العلوم الشّرعيّة الأخرى المستخرجة من القرآن بأيّ كيفيّة كانت.

و لعلّه يمكن القول بأنّ هذه العلوم غير محدودة؛ لقوله تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ

______________________________

(1) الوقف و الابتداء لابن الأنباريّ: 25، طبعة دمشق، تحقيق الأستاذ محيي الدّين رمضان.

نصوص في علوم القرآن، ص: 15

تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ

«1».

و من المسلّم به أنّ علوم القرآن لا متناهية على الرّغم ممّا نلمّ به إلى هذه السّاعة، فمثلا هناك قسم من التّفسير يدعى بالتّفسير العلميّ، و له ارتباط بالعلوم الطّبيعيّة؛ إذ كلّما تطوّرت هذه العلوم يطرأ عليه تحوّل و تغيّر. فقد تحدّث القرآن عن النّجوم و الأجرام و الجبال و البحار و الرّياح و الأمطار و السّحاب و غيرها من الظّواهر الطّبيعيّة. هذا على الرّغم من أنّ الهدف الأساسيّ للقرآن هو معرفة اللّه لا وصف الطّبيعة، إلّا أنّ ما تناوله القرآن حول عالم الخليقة تلميحا أو تصريحا له حقيقة، و سوف تدرك العلوم البشريّة كنهه تدريجيّا.

و قد دوّنت كتب عديدة و تفاسير كثيرة في مجال علاقة العلوم مع القرآن، و نحن نبارك هذه المحاولات و نشدّ عضد من يسعى إلى ذلك، بشرط أن لا ينزع إلى الإفراط، و يلجأ إلى فرض هذه العلوم على القرآن. و حبّذا لو اكتشف علماء الإسلام أسرار الكون و استنبطوها من القرآن قبل أن يطّلع عليها الخبراء و المختصّون، و يكونوا روّاد الحركة العلميّة دائما و لا يسيروا خلفها كما هو الحال عند المسلمين!.

3- علوم حول القرآن

المقصود من هذه النّقطة جعل القرآن محورا و موضوعا للبحث و التّحقيق، كما هو الحال في الطّبّ مثلا؛ إذ جعل جسد الإنسان موضوعا و محورا لهذا العلم. إنّ القرآن محور علم أو علوم تبيّن أبعاده المختلفة بشكل واف و نحو كاف، و من ثمّ يصطلح على نتيجة هذه البحوث اسم علوم القرآن. و هذا هو المراد بقولنا: «نصوص في علوم القرآن».

و قد ذكر العلّامة السّيوطيّ في كتابه الشّهير «الإتقان في علوم القرآن» ثمانين علما من علوم القرآن، و جعل لكلّ علم بابا، ثمّ تناوله شرحا و

تفصيلا، و بيّن أسماء الكتب الّتي ألّفت في كلّ علم من هذه العلوم، مثل نزول القرآن، و المكّي و المدنيّ، و جمع القرآن، و قراءات القرآن، و التّفسير و المفسّرين، و الأمثال و الأقسام، و الكنايات و المبهمات، و النّاسخ و المنسوخ، و المحكم و المتشابه، و إعجاز القرآن، و هلمّ جرّا.

و يعتبر كتاب «الإتقان» أساسا لعلوم القرآن على الدّوام قديما و حديثا، و جاءت على غراره كتب أخرى مثل «البرهان في علوم القرآن» للزّركشيّ (745- 794 ه) و قد ألّف قبل

______________________________

(1)- النّحل/ 89.

نصوص في علوم القرآن، ص: 16

«الإتقان» و الإتقان تحرير له، و «مناهل العرفان» للزّرقانيّ، و «مباحث في علوم القرآن» للدّكتور صبحي الصّالح، و «التّمهيد في علوم القرآن» للعلّامة المعاصر الشّيخ هادي معرفت، و كثير غيرها ممّا ألّف قبل البرهان و بعده، و نحن قد استقينا النّصوص من جميع هذه المصادر و غيرها.

و ممّا يجدر ذكره هنا هو أنّ أحد العلماء المتأخّرين في مصر قد عدّ (250) علما من هذه العلوم في كتابه المسمّى «الزّيادة و الإحسان في علوم القرآن»، و لكنّه في الحقيقة عدّ كلّ بحث علما واحدا، و كذا فعل السّيوطيّ؛ حيث يمكن أن تردّ كلّ هذه العلوم إلى علم واحد، و تعدّ مباحثا لذلك العلم نفسه. و قد كان بعض هذه العلوم علما مستقلّا فيما سبق، كعلم القراءات، و علم النّاسخ و المنسوخ، و علم التّفسير، و علم غريب القرآن، و غيرها. و من المعلوم أنّ تاريخ التّفسير و أساليبه يعتبران من علوم القرآن، و أمّا التّفسير نفسه فهو علم مستقلّ بذاته.

و الملاحظة الأخرى هي أنّ جميع هذه العلوم كانت تذكر قبل قرن تقريبا تحت عنوان علوم القرآن، و

قد بحث عنها في الكتب الآنفة الذّكر أيضا، ثمّ ذكر بعض مباحثها فيما بعد بعنوان تاريخ القرآن، و يبدو أنّ أوّل من سلك هذا المسلك هم المستشرقون، و من ثمّ حذا حذوهم العلماء المسلمون خلال الكتب الّتي تحمل هذا العنوان. و قد تناولت كتب «تاريخ القرآن» الأبعاد التّاريخيّة للقرآن، كأسماء القرآن و سوره، و عدد السّور، و المكّيّ و المدنيّ، و كتابة القرآن، و المصاحف، و رسم القرآن، و ربّما تاريخ القراءات و القرّاء أيضا. و أصبح تاريخ القرآن مادّة دراسيّة تدرّس اليوم في الجامعات.

كما ظهر إلى الوجود علم آخر تفرّع من علوم القرآن أطلق عليه اسم أساليب التّفسير أو المدارس التّفسيريّة، و أضحى علما مستقلّا يدرّس كمادّة درسيّة. و لعلّ أوّل من لحظ استقلاليّته عن سائر العلوم هو المستشرق الألمانيّ غولدزيهر (1850- 1921 م)، و هو يهوديّ مجريّ الأصل، و له كتاب باسم «مذاهب التّفسير الإسلاميّ» أفرغ فيه سمومه النّاقعة، و هو ما كان يهدف إليه. و كتب بعده جماعة آخرون منهم العالم المصريّ المعاصر الدّكتور محمّد حسن الذّهبيّ- و قد شاهدته و التقيت به في القاهرة، ثم ارتقى إلى منصب وزارة الأوقاف في مصر و اغتيل حين ذاك رحمه اللّه- حيث ألّف كتاب «التّفسير و المفسّرون»، و هو أهمّ كتاب في هذا الحقل بالرّغم من بعض النّواقص الّتي تعتوره و الأخطاء الّتي صدرت عنه.

و بعد انفصال هذين العلمين عن علوم القرآن يبقى تحت هذا العنوان سائر المباحث الّتي

نصوص في علوم القرآن، ص: 17

تعرّضوا لها باسم علوم القرآن، فلا بدّ من أن يجتنب عن تكرارها في الدّراسات الجامعيّة تحت عنوانين.

و أمّا البحث حول هذا الكتاب فكما يلي

يضمّ هذا الكتاب بين دفّتيه- كما تقدّم- مجموعة نصوص في علوم القرآن، مدرجة

حسب التّرتيب الزّمنيّ، اعتبارا من القرن الثّالث الهجريّ حتّى العصر الحاضر. و نعني بالنّصوص هنا جميع الأقوال و الرّوايات الموجودة في كتب التّفسير و علوم القرآن و في كتب الحديث و تاريخ القرآن و غيرها من الكتب المؤلّفة في هذا المضمار، سواء كانت مدوّنة من قبل أهل السّنّة أم من قبل الشّيعة، و لا يمتاز بعضها عن بعض إلّا بميّزة الزّمان و القدم. و طبيعيّ أنّنا لا نوافق جميع ما نقل عنها، خاصّة في بدء الوحي.

و لعلّ قائلا يقول: إنّ تلك الآراء و الرّوايات قد وردت في بعض الكتب المشهورة في علوم القرآن ككتاب «الإتقان في علوم القرآن» للعلّامة السّيوطيّ المتوفّى عام (911 ه) فما الفائدة من جمعها و تصنيفها من جديد؟

نقول: إنّ من يتصفّح الكتاب يلمس سقم هذا الرّأي؛ لأنّ أغلب النّصوص الواردة في كتب الحديث و التّفسير تخصّ علوم القرآن، بيد أنّها لم تجمع في مصنّف إلى الآن. علاوة على أنّ أكثر المؤلّفين في هذا الميدان هم من السّنّة، و جلّ هؤلاء لم يطّلعوا على روايات الشّيعة و آرائهم، و خصوصا الشّيعة الإماميّة. و لذا عمدنا في هذا الكتاب إلى إرداف هذه الآراء بآراء علماء السّنّة جنبا إلى جنب، و هو نهج قويم في المقارنة بين آراء هذا المذهب و سائر المذاهب الأخرى في مضمار علوم القرآن، و في الحقيقة يعدّ هذا الكتاب دراسة مقارنة في هذا الميدان.

و نهدف من وراء تأليف الكتاب إلى جمع الآراء و مدّ يد العون إلى المحقّقين و الباحثين فحسب؛ لكي تكون في متناول أيديهم، دون أن يتجشّموا عناء البحث و يضيّعوا الوقت عبثا؛ لأنّ الحجر الأساس للتّحقيق في كلّ علم من العلوم و خصوصا في العلوم النّقليّة

هو آراء المتقدّمين و ما أثر عنهم، و لا بدّ أن يؤخذ هذا الأمر بنظر الاعتبار في كافّة العلوم النّقليّة.

و من البديهيّ أنّ أكثر الأقوال توجد في مقدّمات التّفاسير و في كتب علوم القرآن، إلّا أنّها لا تفي بالغرض؛ إذ ينبغي الرّجوع إلى كافّة كتب التّفسير و البلاغة و التّاريخ و الفهارس، و خصوصا الكتاب القيّم «فهرست ابن النّديم» الّذي ألّف عام (377 ه) و اقتباس كلّ نصّ يتعلّق بمبحث من

نصوص في علوم القرآن، ص: 18

المباحث القرآنيّة من طيّات هذه الكتب، و هذا ما عملنا به في هذا الكتاب.

و من المسلّم به أنّ عملا شاملا و متشعّبا كهذا لا جرم أن يؤلّف وفق نظم خاصّ، كتبويب مواضيعه و تنظيم موادّه، و هذا ما تمّ هنا بالفعل، فقسّمنا الكتاب إلى أقسام؛ فالقسم الأوّل يبحث حول نزول القرآن، و فيه أربعة أبواب؛ الأوّل: كيفيّة نزول القرآن، و الثّاني: كيفيّة نزول الوحي، و الثّالث: بدء الوحي، أوّل و آخر ما نزل، و الرّابع: السّور المكّيّة و المدنيّة و ترتيب نزولها. ثمّ يتلوه في القسم الثّاني و الأقسام الأخرى، بحث جمع القرآن و المصاحف و كيفيّة القراءات، و غيرها من المواضيع المذكورة في الفهرس العامّ للكتاب.

و كان لا بدّ بعد ذلك من ترتيب النّصوص المتعلّقة بالموضوع بحسب التّرتيب الزّمانيّ الّذي انتهجناه في كلّ مبحث، ابتداء من أقدم نصّ و انتهاء بأحدث نصّ حرّر في العصر الحاضر، و هذا ما حصل في كلّ فصل خاصّ بذكر رأي كلّ علم من الأعلام. إلّا أنّ ما ينقل عن عالم لا يعني أنّه يمثّل جميع آرائه الشّخصيّة، بل يتضمّن أقوال الآخرين إضافة إلى قوله. و لذا وضعنا لكلّ فصل عنوانا جامعا يشمل

جميع الآراء و الأقوال، فمثلا ذكرنا في باب كيفيّة النّزول: فصل ما نصّ البخاريّ، فصل ما نصّ الطّبريّ، و هكذا في سائر الفصول.

و يحدث أحيانا أن يلفّق بين آراء عالمين أحدهما مؤلّف كتاب و الثّاني معلّق عليه و كانا يعيشان في زمانين، كما فعلنا ذلك في تفسير الكشّاف للزّمخشريّ المتوفّى عام (538 ه) و شارحه السّيّد الشّريف المتوفّى عام (816 ه)؛ إذ لم يراع هنا عامل الزّمان. لأنّه كان يستلزم التّفريق بين النّصّين.

و قد ذكرنا مصادر الكتاب و أشفعناها بترجمة إجماليّة لأصحاب الكتب الّتي استقينا منها عند الابتداء بكلّ نصّ، إضافة إلى ما ذكرناه في فهرس الأعلام و المصادر بتفصيل أكثر.

إنّ إحدى المشاكل الّتي يعانيها من أراد جمع النّصوص بأسرها في مواضيعها هو تكرار المطالب الواردة في الكتب المختلفة بلفظ واحد أو بألفاظ متفاوتة. و قد تجاوزنا بعون اللّه هذه المشكلة بحذف المكرّرات إلى حدّ لا يخلّ بمحتواها، ثمّ التّنبيه على ورود النّصّ في ما تقدّم في الكتاب من أقوال المتقدّمين مع تعيين الجزء و الصّفحة؛ لكي يسهل الرّجوع إليه بيسر و سهولة.

و يستثنى من ذلك بعض النّصوص الّتي يؤدّي حذفها اعتمادا على ما تقدّم إلى إحداث خلل في الموضوع، فنحجم عندئذ عن ذلك اضطرارا، و نأتي بالنّصوص عينا من أجل تفاوت بيّن بينها و بين ما سبقها من النّصوص و لو كانت تبدو مكرّرة.

نصوص في علوم القرآن، ص: 19

و على الرّغم من الجهود المبذولة حين البحث عن الكتب المؤلّفة في هذا الميدان إلّا أنّنا لم نعثر على بعضها، ممّا حدا بنا أن نضع مستدركا لنصوصها في المستقبل، و لكنّنا قد نهلنا قدر المستطاع من المصادر الأصليّة المهمّة.

لقد أوعزت أوّل الأمر في تأليف هذا

الكتاب إلى قسم القرآن، و بعد الموافقة عليه تحمّل عب ء هذه المهمّة آخر المطاف سماحة حجّة الإسلام السّيّد عليّ الموسويّ الدّارابيّ (سدّده اللّه)، و بقيت طيلة هذه المدّة معه أرشده إلى الرّأي الأصيل، و أسدّده نحو السّبيل. كما هديته إلى المصادر، و أشرت عليه بوضع عناوين الكتاب و ترتيب أبوابه و فصوله و كيفيّة نقل النّصوص و ترجمتها من الفارسيّة و غير ذلك. و قد لبّى سماحته طلبي و عمل بكلّ ما أشرت عليه.

و إنّي أحمد اللّه تعالى لما وفّقني لإنجاز هذا المشروع الكبير، و أشكر السّيّد الموسويّ الّذي تلقّى ما أشرت إليه بصدر رحب، و صبر طويل حتّى نهاية المطاف.

و أشكر أيضا مسئولي مجمع البحوث الإسلاميّة الموقّرين، و الهيئة المشرفة على سير أعماله الّذين صوّتوا لطبع الكتاب، و على رأسهم حجّة الإسلام و المسلمين سماحة الشّيخ الإلهيّ الخراسانيّ المحترم رئيس المجمع الّذي مهّد الطّريق لإخراجه، و أرفدنا بإرشاداته القيّمة.

و أملنا أن يدرك العلماء و المحقّقون في مجال القرآن مدى أهميّة هذا المشروع، و يثمّنوا الجهود الّتي أخرجته إلى حيّز الوجود. كما نأمل منهم أن يوافوا قسم القرآن بآرائهم حول مادّة الكتاب و محتواه؛ لكي نراعي ذلك في الطّبعات و المجلّدات القادمة. و الحمد للّه أوّلا و آخرا و ظاهرا و باطنا.

محمّد واعظزاده الخراسانيّ مدير قسم القرآن بمجمع البحوث الإسلاميّة

نصوص في علوم القرآن، ص: 21

المدخل في «أقسام الكتاب»

اشارة

الحمد للّه ربّ العالمين، و الصّلاة و السّلام على نبيّنا محمّد و آله الطّاهرين و صحبه الميامين، و من اهتدى بهداهم إلى يوم الدّين.

أمّا بعد؛ فهذا كتاب «نصوص في علوم القرآن» حاو لشتات ما يرتبط بعلوم القرآن من النّصوص المتفرّقة في كتب الحديث و التّفسير و علوم القرآن و

غيرها، ممّا اطّلعنا عليها من الآثار عامّة من المتقدّمين و المتأخّرين و المعاصرين تقدّمه إلى الباحثين و المحقّقين في حقل القرآن الكريم، تسهيلا عليهم الرّجوع إلى المصادر و توفيرا لهم الأسباب و الوسائل؛ لتكون لهم قريبة المتناول، سهلة المرام.

و يشتمل الكتاب على أقسام و تتفرّع إلى أبواب؛

القسم الأوّل: «نزول القرآن» و فيه أربعة أبواب:

الباب الأول كيفيّة نزول القرآن

الباب الثّاني كيفيّة نزول الوحي و أقسامه.

الباب الثّالث بدء الوحي، و أوّل و آخر ما نزل.

الباب الرّابع السّور المكّيّة و المدنيّة و ترتيب نزولها.

نصوص في علوم القرآن، ص: 22

القسم الثّاني: «جمع القرآن» و فيه عشرة أبواب:

الباب الأوّل كتّاب الوحي و حفّاظه.

الباب الثّاني كيفيّة جمع القرآن.

الباب الثّالث صيانة القرآن عن التّحريف.

الباب الرّابع مصاحف الصّحابة.

الباب الخامس رسم القرآن و شكله و نقطه.

الباب السّادس أسامي القرآن و السّور.

الباب السّابع تناسب السّور و الآيات.

الباب الثّامن أقسام السّور.

الباب التّاسع عدد السّور و الآيات و الكلمات و الحروف.

الباب العاشر الأجزاء و الأحزاب و الأعشار.

القسم الثّالث: «القراءات» و فيه ستّة أبواب:

الباب الأوّل علم اختلاف القراءات.

الباب الثّاني القرّاء السّبعة و رواتهم.

الباب الثّالث اختلاف القراءات السّبعة و نموذج منها.

الباب الرّابع القرّاء غير السّبعة و قراءاتهم.

الباب الخامس علم الحجّة على القراءات.

الباب السّادس نزول القرآن على سبعة أحرف.

القسم الرّابع «1»: «أسباب النّزول».

القسم الخامس: «إعجاز القرآن».

القسم السّادس: «الحروف المقطّعة».

القسم السّابع: «بلاغة القرآن».

القسم الثّامن: «غريب القرآن و مفرداته».

القسم التّاسع: «الوجوه و النّظائر».

______________________________

(1)- و جدير بالذّكر أنّ القسم الرّابع و ما بعده من الأقسام، لم تجمع نصوصها و متونها كاملة، حتّى نجعلها مبوّبة كما فعلنا في قسم النّزول و الجمع و القراءة.

نصوص في علوم القرآن، ص: 23

القسم العاشر: «المحكم و المتشابه».

القسم الحادي عشر: «التّنزيل و التّأويل».

القسم الثّاني عشر: «النّاسخ و

المنسوخ».

القسم الثّالث عشر: «التّفسير و المفسّرون».

القسم الرّابع عشر: «الاستعاذة و البسملة».

القسم الخامس عشر: «أمثال القرآن».

القسم السّادس عشر: «أعلام القرآن».

القسم السّابع عشر: «أقسام القرآن».

القسم الثّامن عشر: «التّكرار في القرآن».

القسم التّاسع عشر: «الأدعية في القرآن».

القسم العشرون: «فضائل القرآن».

القسم الحادي و العشرون: «ما ألّف في علوم القرآن».

طريقة العمل

أ- مراجعة مصادر و كتب الفريقين، ككتب علوم القرآن و التّفسير و التّاريخ، و الاقتباس منها.

ب- إعداد و جمع النّصوص الأوّليّة من هذه المصادر و الكتب، ثمّ تنظيم كلّ نصّ بشكل ملفّ مستقلّ، و ترتيبها حسب تاريخ وفيات المؤلّفين.

ج- عرض كلّ نصّ على النّصوص المتقدّمة، لحذف الزّوائد و المكرّرات، إلّا إذا كان يختلف عنها اختلافا يسيرا لفظا و معنى، أو كان مختصرا، كي لا يتخلّل النّصوص فاصل، أو يعتورها نقص. و إن لوحظ تكرار يسير في بعض النّصوص، و لكن قد يكون ذلك- مع كون ألفاظه المختلفة و نكاته اللّطيفة- مفيدا للمحقّقين في استنتاج المواضيع و جمعها و اختلاف الآراء و تعدّدها.

د- ضبط الآيات و ترقيمها حسب السّور و تطبيقها على رسم الخطّ القرآنيّ المقرّر لدينا.

ه- ضبط أسماء الأعلام و المفردات الغريبة.

و- مقابلة النّصوص المقتبسة بمصادرها الأصليّة، و تصحيح أخطائها الّتي تتعلّق غالبا بتلك

نصوص في علوم القرآن، ص: 24

المصادر.

ز- كتابة الألفاظ طبق قواعد الإملاء الحديث، و وضع علامات التّرقيم خلال العبارات.

و ممّا يجدر ذكره هنا أنّ جميع المراحل المتقدّمة قد قطعت بإرشاد و إشراف الاستاذ سماحة آية اللّه الشّيخ محمّد واعظزاده الخراسانيّ، واضع هذا المشروع و مبتكره، و قد راجعه عدّة مرّات، رغم ضيق وقته، و أبدى خلالها ملاحظات سديدة و قيّمة.

رعاية الأمانة العلميّة

لقد اقتبست نصوص هذه الموسوعة القرآنيّة من أصلها دون أيّ تغيير أو تصرّف. و لا شكّ أنّ فيها آراء سقيمة و روايات ضعيفة تعارض القرآن و السّنّة، و لا سيّما نصوص المتقدّمين، بيد أنّنا نقلناها بعين ألفاظها كما حكينا النّقود عليها كذلك، و أنطنا صحّتها و سقمها بالباحث الأريب، و القارئ اللّبيب.

الزّوائد و الإضافات في النّصّ

ألجأتنا الضّرورة إلى وضع عبارات في المتن عند حذف قسم من النّصّ لتكراره، و إحالته إلى النّصوص المتقدّمة، أو وضع عناوين عامّة لبعض النّصوص الّتي لا تحمل عنوانا، أو إضافة بعض التّوضيحات و غير ذلك. و قد وضعنا تلك العبارات بين معقوفتين، تمييزا لها عن عبارات النّصّ.

الهدف إلى تأليف هذه الموسوعة

إنّ الهدف الأساسيّ و الأسمى الّذي دعا إلى إعداد و جمع هذه النّصوص هو عرض آراء المحقّقين الماضين و المعاصرين، الملفّقة مع أحاديث النّبي صلّى اللّه عليه و آله و أئمّة أهل البيت عليهم السّلام، و أقوال الصّحابة و التّابعين في ميدان القرآن و علومه، و الّتي لا زالت إلى الآن متفرّقة في بطون الكتب.

و لهذا أقدمنا على تأليف و تنظيم هذه الموسوعة، ليكون هذا الأمر قريب المتناول بالنّسبة إلى محقّقي هذا العصر و العصور اللّاحقة. و قد صرفنا في إخراج هذه الموسوعة غاية جهدنا، و نقلنا قدر الاستطاعة عن كافّة العلماء و المحقّقين الكبار، سواء كانوا متقدّمين أم متأخّرين أو معاصرين، و ما استثنينا النّاقدين أو ناقلي أقوال الآخرين، و لم يبدوا أيّ رأي لهم أيضا، فأوردنا نصوصهم مستقلّة، لكي تكون هذه الموسوعة جامعة و كاملة، و لا تدع شيئا إلّا أتت به و استدركته.

و لكن هناك نصوص و آراء أهملنا ذكرها لأمرين:

نصوص في علوم القرآن، ص: 25

أ- عدم ذكرها المواضيع المتعلّقة بأبحاثنا، أو ذكرها بصورة مختصرة أو مشابهة لما ذكرناه.

ب- تعذّر العثور على بعض المصادر، و هذه إحدى مشاكل عملنا، إذ مهما حاولنا تذليلها، عسر علينا أمرها. إلّا أنّ أغلب ما في هذه المصادر ملفّق بين بعض نصوص المتأخّرين و المعاصرين.

حوز قصب السّبق

إنّ هذه الموسوعة لا نظير لها في حجمها و استيعابها لما جمع من آراء العلماء و المحقّقين لكلا الفريقين، السّابقين منهم و اللّاحقين، و في تلفيقها بين أحاديث النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أحاديث أهل البيت الطّاهرين عليهم السّلام و الصّحابة. و لا ينكر أنّ هناك مصادر كثيرة في ميدان علوم القرآن، تحمل عناوين مختلفة، إلّا أنّ هذه الموسوعة-

بعد مقارنتها بها- تبذّها جميعا، لما تتّصف به من المزايا المذكورة.

شكر و تقدير

أوجّه شكري و امتناني إلى أعضاء قسم القرآن لتعاونهم معنا، و أخصّ بالذّكر منهم الأستاذ ناصر النّجفيّ الّذي راجع النّصوص، و سعى إلى ترجمة بعضها من الفارسيّة إلى العربيّة، و سماحة حجّة الإسلام و المسلمين الشّيخ محمّد حسن مؤمن زاده الّذي راجع الكتاب و سعى إلى إعداد طبعه، و إلى الزّميل المحترم السّيّد خضر فيض اللّه لمقابلة الكتاب، و كذلك السّيّد حسين الطّائي (عضو قسم الحاسوب) لقيامه بتنضيد الحروف.

و في الختام؛ نسأل اللّه تعالى أن يوفّقنا لإتمام هذا المشروع الكبير، لكي ينتفع به العلماء و الباحثون، آملين من ذوي النّظر و البصيرة أن يتحفونا بآرائهم القيّمة البنّاءة.

السّيّد عليّ الموسويّ الدّارابيّ 13 رجب 1421 ه 20/ 7/ 1379 ش

نصوص في علوم القرآن، ص: 27

القسم الأوّل في نزول القرآن و فيه أربعة أبواب:

اشارة

الباب الأوّل: في كيفيّة نزول القرآن

الباب الثّاني: في كيفيّة نزول الوحي و أقسامه

الباب الثّالث: في بدء الوحي و أوّل و آخر ما نزل

الباب الرّابع: في السّور المكّيّة و المدنيّة و ترتيب نزولها

نصوص في علوم القرآن، ص: 29

الباب الأوّل في كيفيّة نزول القرآن و فيه فصول

اشارة

نصوص في علوم القرآن، ص: 31

الفصل الأوّل نصّ البخاريّ (م: 256 ه) في «الجامع الصّحيح»

[كيفيّة نزول القرآن]

قال ابن عبّاس: المهيمن الأمين؛ القرآن أمين على كلّ كتاب قبله. حدّثنا عبيد اللّه بن موسى عن شيبان عن يحيى عن أبي سلمة، قال: أخبرتني عائشة و ابن عبّاس رضي اللّه عنهم، قالا: لبث النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بمكّة عشر سنين، ينزل عليه القرآن، و بالمدينة عشرا. (6: 223)

حدّثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدّثنا أبو عوانة، قال حدّثنا موسى بن أبي عائشة، قال حدّثنا سعيد بن جبير عن ابن عبّاس في قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يعالج من التّنزيل شدّة، و كان ممّا يحرّك شفتيه. فقال ابن عبّاس:

فأنا أحرّكهما لكم كما كان رسول اللّه يحرّكهما. و قال سعيد: أنا أحرّكهما كما رأيت ابن عبّاس يحرّكهما. فحرّك شفتيه. فأنزل اللّه تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ «1» قال: جمعه له في صدرك و تقرأه فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ «2» قال:

فأستمع له و أنصت. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ: ثمّ إنّ علينا أن تقرأه فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل أستمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم كما قرأه.

______________________________

(1)- القيامة/ 16 و 17.

(2) القيامة/ 18.

نصوص في علوم القرآن، ص: 32

حدّثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد اللّه، قال: أخبرنا يونس عن الزّهريّ، حدّثنا بشر بن محمّد، قال: أخبرنا عبد اللّه، قال: أخبرنا يونس و معمّر عن الزّهريّ نحوه، قال: أخبرني عبيد اللّه بن عبد اللّه عن ابن عبّاس، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أجود النّاس، و كان

صلّى اللّه عليه و سلم أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، و كان يلقاه في كلّ ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أجود بالخير من الرّيح المرسلة. (1: 4- 5)

و قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ: و قال ابن عبّاس: سدى هملا، لِيَفْجُرَ أَمامَهُ سوف أتوب سوف أعمل، لا وَزَرَ لا حصن.

حدّثنا الحميديّ، حدّثنا سفيان، حدّثنا موسى بن أبي عائشة، و كان ثقة عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم إذا نزل عليه الوحي حرّك به لسانه، و وصف سفيان يريد أن يحفظه، فأنزل اللّه: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ.

حدّثنا عبيد اللّه بن موسى عن إسرائيل عن موسى بن أبي عائشة، أنّه سأل سعيد بن جبير عن قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ قال: و قال ابن عبّاس: كان يحرّك شفتيه إذا أنزل عليه، فقيل له: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ يخشى أن ينفلت منه. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ: أن نجمعه في صدرك، وَ قُرْآنَهُ: أن تقرأه فَإِذا قَرَأْناهُ يقول: أنزل عليه فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أن نبيّنه على لسانك. قوله: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ: قال ابن عبّاس: قَرَأْناهُ: بيّنّاه، فَاتَّبِعْ اعمل به.

حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا جرير عن موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس في قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ: قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إذا نزل جبريل بالوحي و كان ممّا يحرّك به لسانه و شفتيه فيشتدّ عليه، و كان يعرف منه، فأنزل اللّه

الآية الّتي في (لا اقسم بيوم القيامة): لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ قال: علينا أن نجمعه في صدرك و قرآنه. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ: فإذا أنزلناه فاستمع ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ: علينا أن نبيّنه بلسانك قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا

نصوص في علوم القرآن، ص: 33

ذهب قرأه كما وعده اللّه: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى «1» توعّد. (6: 202)

باب كان جبريل يعرض القرآن على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم

و قال مسروق عن عائشة عن فاطمة عليها السّلام: «أسرّ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم أنّ جبريل يعارضني بالقرآن كلّ سنة، و إنّه عارضني العام مرّتين، و لا أراه إلّا حضر أجلي».

حدّثنا يحيى بن قزعة، حدّثنا إبراهيم بن سعد عن الزّهريّ عن عبيد اللّه بن عبد اللّه عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم أجود النّاس بالخير، و أجود ما يكون في شهر رمضان؛ لأنّ جبريل كان يلقاه في كلّ ليلة في شهر رمضان، حتّى ينسلخ يعرض عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الرّيح المرسلة.

حدّثنا خالد بن يزيد، حدّثنا أبو بكر عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال: كان يعرض على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم القرآن كلّ عام مرّة، فعرض عليه مرّتين في العام الّذي قبض، و كان يعتكف كلّ عام عشرا، فاعتكف عشرين في العام الّذي قبض. (6: 229)

______________________________

(1)- القيامة/ 34.

نصوص في علوم القرآن، ص: 34

الفصل الثّاني نصّ الطّبريّ (م: 310 ه) في «جامع البيان» «1»

اشارة

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ البقرة/ 185.

فإنّه ذكر أنّه نزل في ليلة القدر من اللّوح المحفوظ إلى سماء الدّنيا في ليلة القدر من شهر رمضان، ثمّ أنزل إلى محمّد صلّى اللّه عليه و سلم على ما أراد اللّه إنزاله إليه.

كما حدّثنا أبو كريب، قال: حدّثنا أبو بكر بن عيّاش، عن الأعمش، عن حسّان بن أبي الأشرس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: أنزل القرآن جملة من الذّكر في ليلة أربع و عشرين من رمضان، فجعل في بيت العزّة.

قال أبو كريب: حدّثنا أبو بكر، و قال ذلك السّدّيّ، حدّثني عيسى بن

عثمان، قال: ثنا يحيى عن عيسى عن الأعمش، عن حسّان، عن سعيد بن جبير، قال: نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر في شهر رمضان، فجعل في سماء الدّنيا.

حدّثنا أحمد بن منصور، قال: ثنا عبد اللّه بن رجاء، قال: ثنا عمران القطّان، عن قتادة، عن ابن أبي المليح، عن واثلة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم قال: «نزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من شهر رمضان، و أنزلت التّوراة لستّ مضين من رمضان، و أنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت، و أنزل القرآن لأربع و عشرين من رمضان».

______________________________

(1)- و قد ذكر شطرا منه الحاكم النّيسابوريّ في المستدرك على الصحيحين.

نصوص في علوم القرآن، ص: 35

حدّثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السّدّيّ شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، أمّا أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فإنّ ابن عبّاس قال: شهر رمضان، و اللّيلة المباركة: ليلة القدر، فإنّ ليلة القدر هي اللّيلة المباركة، و هي في رمضان، نزل القرآن جملة واحدة من الزّبر إلى البيت المعمور، و هو مواقع النّجوم في السّماء الدّنيا حيث وقع القرآن، ثمّ نزل على محمّد صلّى اللّه عليه و سلم بعد ذلك في الأمر و النّهي، و في الحروب رسلا رسلا.

حدّثنا ابن المثنّى، قال: ثنا عبد الوهّاب، قال: ثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، قال: أنزل اللّه القرآن إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر، فكان اللّه إذا أراد أن يوحي منه شيئا أوحاه، فهو قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1».

حدّثنا ابن المثنّى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، فذكر نحوه، و زاد فيه: فكان بين أوّله و آخره عشرون سنة.

حدّثنا ابن المثنّى، قال: ثنا عبد

الأعلى، قال: ثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، قال: أنزل القرآن كلّه جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السّماء الدّنيا، فكان اللّه إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئا أنزله منه حتّى جمعه.

حدّثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال: أنزل القرآن في ليلة القدر من السّماء العليا إلى السّماء جملة واحدة، ثمّ فرّق في السّنين بعد. قال: و تلا ابن عبّاس هذه الآية فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ «2» قال: نزل مفرّقا.

حدّثنا يعقوب، قال: ثنا ابن عليّة، عن داود، عن الشّعبيّ، قال: بلغنا أنّ القرآن نزل جملة واحدة إلى السّماء الدّنيا.

حدّثني المثنّى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، قرأه ابن جريج في قوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ قال: قال ابن عبّاس: أنزل القرآن جملة واحدة على جبريل في ليلة القدر، فكان لا ينزل منه إلّا بأمر، قال ابن جريج: كان ينزل من

______________________________

(1)- القدر/ 1.

(2)- الواقعة/ 75

نصوص في علوم القرآن، ص: 36

القرآن في ليلة القدر كلّ شي ء ينزل من القرآن في تلك السّنة، فنزل ذلك من السّماء السّابعة على جبريل في السّماء الدّنيا، فلا ينزل جبريل من ذلك على محمّد إلّا ما أمره به ربّه، و مثل ذلك إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ و إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «1».

حدّثني المثنّى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبيد اللّه بن موسى، عن إسرائيل، عن السّدّيّ، عن محمّد بن أبي المجالد، عن مقسم، عن ابن عبّاس، قال له رجل: إنّه قد وقع في قلبي الشّكّ من قوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، و قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ

فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، و قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، و قد أنزل اللّه في شوّال و ذي القعدة و غيره، قال: إنّما أنزل في رمضان في ليلة القدر و ليلة مباركة جملة واحدة، ثمّ أنزل على مواقع النّجوم رسلا في الشّهور و الأيّام. (2: 144- 146)

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا ... الإسراء/ 106

اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء الأمصار: (فرقناه) بتخفيف الرّاء من فرقناه، بمعنى أحكمناه و فصّلناه و بيّنّاه. و ذكر عن ابن عبّاس، أنّه كان يقرأه بتشديد الرّاء «فرّقناه»، بمعنى نزّلناه شيئا بعد شي ء، آية بعد آية، و قصّة بعد قصّة.

و أولى القراءتين بالصّواب عندنا القراءة الأولى؛ لأنّها القراءة الّتي عليها الحجّة مجمعة، و لا يجوز خلافها فيما كانت عليه مجمعة من أمر الدّين و القرآن. فإذا كان ذلك أولى القراءتين بالصّواب، فتأويل الكلام وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً و فصّلناه قرآنا، و بيّناه و أحكمناه لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ و بنحو الّذي قلنا في ذلك من التّأويل قال جماعة من أهل التّأويل.

حدّثني عليّ، قال: ثنا عبد اللّه، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عبّاس، قوله:

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ يقول: فصّلناه.

حدّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجّاج، عن أبي جعفر، عن الرّبيع، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعب: أنّه قرأ وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ مخفّفا، يعني بيّنّاه.

______________________________

(1)- الدّخان/ 2.

نصوص في علوم القرآن، ص: 37

حدّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجّاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبّاس وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ قال: فصّلناه.

حدّثنا ابن المثنّى، قال: ثنا بدل بن المخبر، قال: ثنا عبّاد، يعني ابن راشد، عن داود، عن الحسن أنّه قرأ وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ خفّفها، فرّق اللّه بين الحقّ و

الباطل. و أمّا الّذين قرءوا القراءة الأخرى، فإنّهم تأوّلوا ما قد ذكرت من التّأويل.

حدّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجّاج، عن أبي جعفر، عن الرّبيع، عن أبي العالية، قال: كان ابن عبّاس يقرأها و قرآنا فرّقناه مثقّلة، يقول: أنزل آية آية.

حدّثنا ابن المثنّى، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا داود، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، قال: قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر، ثمّ أنزل بعد ذلك في عشرين سنة، قال: وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً «1» وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «2».

حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ: لم ينزل جميعا، و كان بين أوّله و آخره نحو من عشرين سنة.

حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ قال: فرّقه، لم ينزله جميعه. و قرأ وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «3» ... حتّى بلغ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً ينقض عليهم ما يأتون به.

و كان بعض أهل العربيّة من أهل الكوفة يقول: نصب قوله وَ قُرْآناً بمعنى و رحمة، و يتأوّل ذلك وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً «4»: و رحمة، و يقول: جاز ذلك؛ لأنّ القرآن رحمة، و نصبه على الوجه الّذي قلناه أولى، و ذلك كما قال جلّ ثناؤه: وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ

______________________________

(1)- الفرقان/ 33.

(2)- الإسراء/ 106.

(3)- الفرقان/ 32.

(4)- الفرقان/ 56.

نصوص في علوم القرآن، ص: 38

مَنازِلَ. «1» و قوله: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ يقول: لتقرأه على النّاس على

تؤدة، فترتّله و تبيّنه، و لا تعجل في تلاوته، فلا يفهم عنك، و بنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.

حدّثنا محمّد بن بشّار، قال: ثنا عبد الرّحمن، قال: ثنا سفيان، عن عبيد المكتب «2»، قال: قلت لمجاهد: رجل قرأ البقرة و آل عمران، و آخر قرأ البقرة، و ركوعهما و سجودهما واحد، أيّهما أفضل؟ قال: الّذي قرأ البقرة، و قرأ وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ.

حدّثني عليّ، قال: ثنا عبد اللّه، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عبّاس، قوله:

لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ يقول: على تأييد.

حدّثني محمّد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ و حدّثني الحارث، قال:

ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: عَلى مُكْثٍ قال: على ترتيل.

حدّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجّاج، عن ابن جريج، قوله: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ قال: في ترتيل.

حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ، قال: التّفسير الّذي قال اللّه وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا: تفسيره.

حدّثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا الثّوريّ، عن عبيد، عن مجاهد، قوله: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ على تؤدة. و في المكث للعرب لغات: مكث، و مكث، و مكث و مكّيثى مقصور، و مكثانا، و القراءة بضمّ الميم.

و قوله: وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا يقول تعالى ذكره: فرّقنا تنزيله، و أنزلناه شيئا بعد شي ء.

كما حدّثني يعقوب، قال: ثنا ابن عليّة، قال: حدّثنا عن أبي رجاء، قال: تلا الحسن وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا قال: كان اللّه تبارك و تعالى

______________________________

(1)- يس/ 39.

(2)- المكتب اسم فاعل،

من أكتب أو من كتّب بالتّشديد و هو المعلّم، يعلّم الصّبيان كتابة القرآن في ألواحهم.

نصوص في علوم القرآن، ص: 39

ينزّل هذا القرآن بعضه قبل بعض؛ لما علم أنّه سيكون و يحدث في النّاس، لقد ذكر لنا أنّه كان بين أوّله و آخره ثماني عشرة سنة، قال: فسألته يوما على سخطة، فقلت: يا أبا سعيد وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ فثقّلها أبو رجاء، فقال الحسن: ليس «فرّقناه»، و لكن (فرقناه)، فقرأ الحسن مخفّفة. قلت: من يحدّثك هذا يا أبا سعيد؟ أصحاب محمّد؟ قال: فمن يحدّثنيه؟

قال: أنزل عليه بمكّة قبل أن يهاجر إلى المدينة ثماني سنين، و بالمدينة عشر سنين.

حدّثنا بشر، قال ثنا يزيد، قال ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا لم ينزل في ليلة و لا ليلتين، و لا شهر و لا شهرين، و لا سنة و لا سنتين، و لكن كان بين أوّله و آخره عشرون سنة و ما شاء اللّه من ذلك.

حدّثنا بشر، قال ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، قال: كان يقول:

أنزل على نبيّ اللّه القرآن ثماني سنين و عشرا بعد ما هاجر، و كان قتادة يقول: عشرا بمكّة، و عشرا بالمدينة. (15: 178- 180)

وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ طه/ 114.

يقول تعالى ذكره: فارتفع الّذي له العبادة من جميع خلقه، الملك الّذي قهر سلطانه كلّ ملك و جبّار، الحقّ عمّا يصفه به المشركون من خلقه. وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، يقول جلّ ثناؤه لنبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و سلم و لا تعجل يا محمّد بالقرآن، فتقرئه أصحابك أو تقرأه عليهم من قبل أن يوحى إليك بيان معانيه، فعوتب على إكتابه

و إملائه ما كان اللّه ينزله عليه من كتابه من كان يكتبه ذلك، من قبل أن يبيّن له معانيه. و قيل: لا تتله على أحد، و لا تمله عليه، حتّى نبيّنه لك. و بنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.

حدّثني محمّد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم. قال: ثنا عيسى، و حدّثني الحارث، قال:

ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ قال: لا تتله على أحد حتّى نبيّنه لك.

حدّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجّاج. عن ابن جريج، قال: يقول: لا تتله على أحد حتّى نتمّه لك، هكذا قال القاسم: حتّى نتمّه.

نصوص في علوم القرآن، ص: 40

حدّثني محمّد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمّي، قال: ثني أبي، عن أبيه عن ابن عبّاس، عن أبيه، قوله: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ يعني لا تعجل حتّى نبيّنه لك.

حدّثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، أي بيانه.

حدّثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق. قال: أخبرنا معمر. عن قتادة وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ قال: تبيانه.

حدّثنا ابن المثنّى و ابن بشّار، قالا: ثنا محمّد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ من قبل أن يبيّن لك بيانه. (16: 219- 220)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ ... الفرقان/ 32.

يقول تعالى ذكره: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، يقول: هلّا نزّل على محمّد صلّى اللّه عليه و سلم القرآن جُمْلَةً واحِدَةً. كما أنزلت التّوراة على موسى

جملة واحدة؟ قال اللّه: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ تنزيله عليك الآية بعد الآية، و الشّي ء بعد الشّي ء لنثبّت به فؤادك نزّلناه.

حدّثني محمّد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمّي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاس: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ، وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا قال: كان اللّه ينزّل عليه الآية، فإذا علمها نبيّ اللّه نزلت آية أخرى ليعلّمه الكتاب عن ظهر قلب، و يثبّت به فؤاده.

حدّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجّاج، عن ابن جريج، قوله: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كما أنزلت التّوراة على موسى؟ قال:

كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ. قال: كان القرآن ينزّل عليه جوابا لقولهم: ليعلم محمّد أنّ اللّه يجيب القوم بما يقولون بالحقّ. و يعني بقوله: لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ لنصحّح به عزيمة قلبك، و يقين نفسك، و نشجّعك به.

نصوص في علوم القرآن، ص: 41

و قوله: وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا يقول: و شيئا بعد شي ء علّمناكه، حتّى تحفّظته، و التّرتيل في القراءة: التّرسّل و التّثبّت. و بنحو الّذي قلنا في ذلك، قال أهل التّأويل.

حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، في قوله:

وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا قال: نزل متفرّقا.

حدّثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله:

وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا قال: كان ينزل آية و آيتين و آيات، جوابا لهم إذا سألوا عن شي ء أنزله اللّه جوابا لهم، و ردّا عن النّبيّ فيما يتكلّمون به، و كان بين أوّله و آخره نحو من عشرين سنة.

حدّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجّاج، عن ابن جريج، قوله: وَ رَتَّلْناهُ

تَرْتِيلًا قال: كان بين ما أنزل القرآن إلى آخره أنزل عليه لأربعين، و مات النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم لثنتين أو لثلاث و ستّين. و قال آخرون: معنى التّرتيل التّبيين و التّفسير.

حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن يزيد، في قوله: وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا قال: فسّرناه تفسيرا، و قرأ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. (19: 10- 11)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ... الدّخان/ 3

أقسم جلّ ثناؤه بهذا الكتاب أنّه أنزله في ليلة مباركة. و اختلف أهل التّأويل في تلك اللّيلة، أيّ ليلة من ليالي السّنة هي؟ فقال بعضهم: هي ليلة القدر.

حدّثنا بشر، قال ثنا يزيد، ثنا سعيد عن قتادة إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ: ليلة القدر. و نزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من رمضان، و نزلت التّوراة لستّ ليال من رمضان، و نزل الزّبور لستّ عشرة مضت من رمضان، و نزل الإنجيل لثمان عشرة مضت من رمضان، و نزل الفرقان لأربع و عشرين مضت من رمضان ...

حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله عزّ و جلّ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ قال: تلك اللّيلة ليلة القدر، أنزل اللّه هذا القرآن من

نصوص في علوم القرآن، ص: 42

أمّ الكتاب، في ليلة القدر، ثمّ أنزله على الأنبياء «1» في اللّيالي و الأيّام، و في غير ليلة القدر.

و قال آخرون: بل هي ليلة النّصف من شعبان. (25: 107)

فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ... الواقعة/ 75.

قوله: بِمَواقِعِ النُّجُومِ اختلف أهل التّأويل في معنى ذلك. فقال بعضهم: معناه فلا أقسم بمنازل القرآن، و قالوا: أنزل القرآن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم نجوما متفرّقة.

حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم ... [و ذكر كما تقدّم آنفا، ثمّ قال:]

حدّثنا ابن حميد، قال ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة، في قوله: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ قال: أنزل اللّه القرآن نجوما ثلاث آيات و أربع آيات و خمس آيات.

حدّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، عن عكرمة: أنّ القرآن نزل جميعا، فوضع بمواقع النّجوم فجعل جبريل يأتي بالسّورة، و إنّما نزل جميعا في ليلة

القدر.

حدّثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جدّه، عن الأعمش، عن مجاهد فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ قال: هو محكم القرآن.

حدّثني محمّد بن سعد، قال: ثني عمّي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاس، قوله:

فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ... قال: مستقرّ الكتاب أوّله و آخره. و قال آخرون: بل معنى ذلك فلا أقسم بمساقط النّجوم.

حدّثني محمّد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ و حدّثني الحارث، قال:

ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله بِمَواقِعِ النُّجُومِ قال في السّماء، و يقال مطالعها و مساقطها. حدّثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ أي مساقطها. و قال آخرون: بل معنى ذلك بمنازل النّجوم.

______________________________

(1)- في فتح القدير للشّوكانيّ 4: 554، و قال قتادة: أنزل القرآن كلّه في ليلة القدر من أمّ الكتاب، و هو اللّوح المحفوظ، إلى بيت العزّة في سماء الدّنيا، ثمّ أنزله اللّه على نبيّه صلّى اللّه عليه و سلم في اللّيالي و الأيّام، في ثلاث و عشرين سنة.

نصوص في علوم القرآن، ص: 43

حدّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ قال: قال بمنازل النّجوم. و قال آخرون: بل معنى ذلك بانتثار النّجوم عند قيام السّاعة.

حدّثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ قال الحسن: انكدارها و انتثارها يوم القيامة.

و أولى الأقوال في ذلك بالصّواب قول من قال: معنى ذلك فلا أقسم بمساقط النّجوم و مغايبها في السّماء، و ذلك أنّ المواقع جمع موقع، و الموقع: المفعل، من وقع يقع

موقعا، فالأغلب من معانيه، و الأظهر من تأويله، ما قلنا في ذلك، و لذلك قلنا: هو أولى معانيه به.

(27: 203)

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ القيامة/ 16- 17.

يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و سلم لا تحرّك يا محمّد بالقرآن لسانك، لتعجل به.

و اختلف أهل التّأويل في السّبب الّذي من أجله قيل له: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ فقال بعضهم: قيل له ذلك، لأنّه كان إذا نزل عليه منه شي ء عجل به، يريد حفظه، من حبّه إيّاه، فقيل له: لا تعجل به، فإنّا سنحفظه عليك.

حدّثنا أبو كريب، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم كان إذا نزل عليه القرآن تعجّل يريد حفظه، فقال اللّه تعالى ذكره: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ و قال ابن عبّاس: هكذا، و حرّك شفتيه.

حدّثني عبيد بن إسماعيل الهبّاريّ و يونس قالا: ثنا سفيان، عن عمرو، عن سعيد بن جبير: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم كان إذا نزل عليه القرآن تعجّل به، يريد حفظه؛ و قال يونس: يحرّك شفتيه ليحفظه، فأنزل اللّه: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ

حدّثني عبيد بن إسماعيل الهبّاريّ، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي عائشة، سمع سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس مثله، و قال: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ قال: هكذا، و حرّك سفيان فاه.

نصوص في علوم القرآن، ص: 44

حدّثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، في قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ قال: كان النّبيّ صلّى اللّه

عليه و سلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي، كان يحرّك به لسانه و شفتيه، فيشتدّ عليه، فكان يعرف ذلك فيه، فأنزل اللّه هذه الآية في (لا اقسم بيوم القيمة): لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ.

حدّثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم إذا نزل عليه القرآن، حرّك شفتيه، فيعرف بذلك، فحاكاه سعيد، فقال: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ قال: لتعجل بأخذه.

حدّثنا محمّد بن بشّار، قال: ثنا عبد الرّحمن، قال: ثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. قال: كان جبريل عليه السّلام ينزل بالقرآن، فيحرّك به لسانه، يستعجل به، فقال: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ.

حدّثنا ابن المثنّى، قال: ثنا ربعيّ بن عليّة، قال: ثنا داود بن أبي هند، عن الشّعبيّ في هذه الآية لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ قال: كان إذا نزل عليه الوحي عجل يتكلّم به، من حبّه إيّاه، فنزل لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ.

حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ قال: لا تكلّم بالّذي أوحينا إليك، حتّى يقضى إليك وحيه، فإذا قضينا إليك وحيه، فتكلّم به.

حدّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضّحّاك يقول في قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ قال: كان نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إذا نزل عليه الوحي من القرآن حرّك به لسانه؛ مخافة أن ينساه.

و قال

آخرون: بل السّبب الّذي من أجله قيل له ذلك، أنّه كان يكثر تلاوة القرآن؛ مخافة نسيانه، فقيل له: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إنّ علينا أن نجمعه لك. و نقرئكه، فلا تنس.

نصوص في علوم القرآن، ص: 45

حدّثني محمّد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمّي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاس في قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ قال: كان لا يفتر من القرآن مخافة أن ينساه. فقال اللّه: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إنّ علينا أن نجمعه لك، وَ قُرْآنَهُ: أن نقرئك فلا تنسى.

حدّثني محمّد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ و حدّثني الحارث، قال:

ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ قال: كان يستذكر القرآن، مخافة النّسيان، فقال له: كفيناكه يا محمّد.

حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عليّة، قال: ثنا أبو رجاء، عن الحسن، في قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يحرّك به لسانه ليستذكره، فقال اللّه: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ: إنّا سنحفظه عليك.

حدّثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ كان نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يحرّك به لسانه، مخافة النّسيان، فأنزل اللّه ما تسمع.

حدّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقرأ القرآن، فيكثر مخافة أن ينسى.

و أشبه القولين بما دلّ عليه ظاهر التّنزيل، القول الّذي ذكر عن سعيد بن جبير،

عن ابن عبّاس، و ذلك أنّ قوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ ينبئ أنّه إنّما نهى عن تحريك اللّسان به، مستعجلا فيه قبل جمعه، و معلوم أنّ دراسته للتّذكّر إنّما كانت تكون من النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم من بعد جمع اللّه له ما يدرّس من ذلك.

و قوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ يقول تعالى ذكره: إنّ علينا جمع هذا القرآن في صدرك يا محمّد، حتّى نثبّته فيه وَ قُرْآنَهُ يقول: و قرآنه حتّى تقرأه بعد أن جمعناه في صدرك. و بنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.

حدّثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ قال: في صدرك، وَ قُرْآنَهُ قال: تقرأه بعد.

حدّثني محمّد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمّي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن

نصوص في علوم القرآن، ص: 46

عبّاس: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ أن نجمعه لك، وَ قُرْآنَهُ: أن نقرئك فلا تنسى.

حدّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضّحّاك يقول في قوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ يقول: إنّ علينا أن نجمعه لك حتّى نثبّته في قلبك و كان آخرون يتأوّلون قوله: وَ قُرْآنَهُ و تأليفه. و كان معنى الكلام عندهم إنّ علينا جمعه في قلبك حتّى تحفظه، و تأليفه.

حدّثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ يقول: حفظه و تأليفه.

حدّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ قال:

حفظه و تأليفه. و كأنّ قتادة وجّه معنى القرآن إلى أنّه مصدر من

قول القائل: قد قرأت هذه النّاقة في بطنها جنينا، إذا ضمّت رحمها على ولد، كما قال عمرو بن كلثوم.

ذراعي عيطل أدماء بكرهجان اللّون لم تقرأ جنينا «1» .

يعني بقوله: «لم تقرأ» لم تضمّ رحما على ولد. و أمّا ابن عبّاس و الضّحّاك فإنّما وجّها ذلك إلى أنّه مصدر من قول القائل: قرأت أقرأ قرآنا و قراءة.

و قوله: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ «2» اختلف أهل التّأويل في تأويله، فقال بعضهم:

تأويله: فإذا أنزلناه إليك فاستمع قرآنه.

حدّثنا ابن حميد قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور و ابن أبي عائشة، عن سعيد

______________________________

(1)- البيت من معلّقة عمرو بن كلثوم المشهورة (انظره في شرحي الزّوزنيّ و التّبريزيّ على المعلّقات) و قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة: 182) (فإذا قرأناه): جمعناه، و هو من قول العرب: ما قرأت هذه المرأة نسلا قط: قال عمرو بن كلثوم:

«لم تقرأ جنينا». 1 ه و قال الفرّاء في معاني القرآن: (350) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ: جمعه في قلب، وَ قُرْآنَهُ: قراءته.

أي أنّ جبريل سيعيد عليك. و قوله: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ إذا قرأه عليك جبريل. و القراءة و القرآن: مصدران. كما تقول:

راجح بين الرّجحان و الرّجوح، و المعرفة و العرفان، و الطّواف و الطّوفان (بتحريك الطّاء و الواو). ا ه و في شرح الزّوزني:

العيطل: الطّويلة العنق من النّوق. و الأدماء: البيضاء منها، و الأدمة: البياض في الإبل. و البكر: النّاقة الّتي حملت بطنا واحدا، و يروى بفتح الباء، و هو الفتى من الإبل، و كسر الباء أعلى الرّوايتين. و الهجان الأبيض الخالص البياض. يستوي فيه الواحد و التّثنية و الجمع، و ينعت به الإبل و الرّجال و غيرهما. و لم تقرأ جنينا، أي

لم تضمّ في رحمها ولدا. ا ه

(2)- القيامة/ 18.

نصوص في علوم القرآن، ص: 47

بن جبير، عن ابن عبّاس فَإِذا قَرَأْناهُ: فإذا أنزلناه إليك فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ قال: فاستمع قرآنه.

حدّثنا سفيان عن وكيع، قال: ثنا جرير، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ: فإذا أنزلناه إليك فاستمع له.

و قال آخرون: بل معنى ذلك: إذا تلا عليك فاتّبع ما فيه من الشّرائع و الأحكام.

حدّثني محمّد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمّي، قال: ثني أبيه، عن ابن عبّاس فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ يقول: إذا تلا عليك فاتّبع ما فيه.

حدّثنا بشر: قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ يقول: اتّبع حلاله، و اجتنب حرامه.

حدّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ يقول: فاتّبع حلاله، و اجتنب حرامه.

حدّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضّحّاك يقول في قوله: فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ يقول: اتّبع ما فيه. و قال آخرون: بل معناه فإذا بيّنّاه فاعمل به.

حدّثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عبّاس، قوله:

فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ يقول: اعمل به.

و أولى هذه الأقوال بالصّواب في ذلك: قول من قال: فإذا تلي عليك فاعمل به، من الأمر و النّهي، و اتّبع ما أمرت به فيه؛ لأنّه قيل له: إنّ علينا جمعه في صدرك و قرآنه، و دلّلنا على أنّه معنى قوله: وَ قُرْآنَهُ و قراءته، فقد بيّن ذلك عن معنى قوله: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ «1» يقول تعالى ذكره: ثمّ إنّ علينا بيان ما فيه

من حلاله و حرامه، و أحكامه لك مفصّلة. و اختلف أهل التّأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: نحو الّذي قلنا فيه.

حدّثني محمّد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمّي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن

______________________________

(1)- القيامة/ 19.

نصوص في علوم القرآن، ص: 48

عبّاس ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ يقول: حلاله و حرامه، فذلك بيانه.

حدّثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ: بيان حلاله و اجتناب حرامه، و معصيته و طاعته.

و قال آخرون: بل معنى ذلك: ثمّ إنّ علينا تبيانه بلسانك.

حدّثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ قال: تبيانه بلسانك. (29: 187- 190)

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ الأعلى/ 6

يقول تعالى ذكره: سنقرئك يا محمّد هذا القرآن فلا تنساه، إلّا ما شاء اللّه.

ثمّ اختلف أهل التّأويل في معنى قوله: فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ فقال بعضهم: هذا إخبار من اللّه نبيّه عليه الصّلاة و السّلام أنّه يعلّمه هذا القرآن، و يحفظه عليه، و نهى منه أن يعجل بقراءته، كما قال جلّ ثناؤه: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ.

حدّثني محمّد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ و حدّثني الحارث، قال:

ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى قال: كان يتذكّر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى، فقال قائلو هذه المقالة: معنى الاستثناء في هذا الموضع على النّسيان، و معنى الكلام فلا تنسى، إلّا ما شاء اللّه أن تنساه، و لا تذكره، قالوا: ذلك هو ما

نسخه اللّه من القرآن، فرفع حكمه و تلاوته.

حدّثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى: كان صلّى اللّه عليه و سلم لا ينسى شيئا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ.

و قال آخرون: معنى النّسيان في هذا الموضع التّرك، و قالوا: معنى الكلام سنقرئك يا محمّد فلا تترك العمل بشي ء منه، إلّا ما شاء اللّه أن تترك العمل به، ممّا ننسخه.

و كان بعض أهل العربيّة يقول في ذلك: لم يشأ اللّه أن تنسى شيئا، و هو كقوله:

نصوص في علوم القرآن، ص: 49

خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ «1» و لا يشاء. قال: و أنت قائل في الكلام: لأعطينّك كلّ ما سألت إلّا ما شئت، و إلّا أن أشاء أن أمنعك، و النّيّة أن لا تمنعه، و لا تشاء شيئا. قال: و على هذا مجاري الإيمان، يستثنى فيها، و نيّة الحالف اللّمام.

و القول الّذي هو أولى بالصّواب عندي قول من قال: معنى ذلك فلا تنسى إلّا أن نشاء نحن أن ننسيكه بنسخه و رفعه. و إنّما قلنا ذلك أولى بالصّواب، لأنّ ذلك أظهر معانيه.

(30: 154)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ القدر/ 1

يقول تعالى ذكره: إنّا أنزلنا هذا القرآن جملة واحدة إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر، و هي ليلة الحكم الّتي يقضي اللّه فيها قضاء السّنة، و هو مصدر من قولهم: قدر اللّه عليّ هذا الأمر، فهو يقدر قدرا. و بنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل ...

حدّثنا ابن المثنّى، قال: ثني عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، قال: نزل القرآن كلّه جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السّماء الدّنيا، فكان اللّه إذا أراد أن يحدث في

الأرض شيئا أنزله منه حتّى جمعه.

حدّثنا ابن المثنّى قال: ثنا عبد الوهّاب، قال: ثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، قال: أنزل اللّه القرآن إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر، و كان اللّه إذا أراد أن يوحى منه شيئا أوحاه، فهو قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.

قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، فذكر نحوه، و زاد فيه، و كان بين أوّله و آخره عشرون سنة.

قال: ثنا عمرو بن عاصم الكلابيّ، قال: ثنا المعتمر بن سليمان التّيميّ، قال: ثنا عمران أبو العوّام، قال: ثنا داود بن أبي هند، عن الشّعبيّ، أنّه قال في قول اللّه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قال: نزل أوّل القرآن في ليلة القدر ...

حدّثني يعقوب، قال: ثنا ابن عليّة، عن داود، عن الشّعبيّ، في قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ

______________________________

(1)- هود/ 107.

نصوص في علوم القرآن، ص: 50

قال: بلغنا أنّ القرآن نزل جملة واحدة إلى السّماء الدّنيا.

حدّثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم، عن سعيد بن جبير: أنزل القرآن جملة واحدة، ثمّ أنزل ربّنا في ليلة القدر فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. «1»

قال: ثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، في قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قال: أنزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر، إلى السّماء الدّنيا، فكان بموقع النّجوم، فكان اللّه ينزّله على رسوله، بعضه في إثر بعض، ثمّ قرأ وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «2». (30: 258- 259)

______________________________

(1)- الدّخان/ 4

(2)- الفرقان/ 31.

نصوص في علوم القرآن، ص: 51

الفصل الثّالث نصّ ثقة الإسلام الكلينيّ (م: 329 ه) في «الأصول من الكافيّ»

اشارة

عدّة

من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد؛ و سهل بن زياد، عن منصور بن العبّاس، عن محمّد بن الحسن السّريّ، عن عمّه عليّ بن السّريّ، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «أوّل ما نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ و آخره إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ» «1».

عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، و محمّد بن القاسم، عن محمّد بن سليمان، عن داود، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته، عن قول اللّه عزّ و جلّ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ و إنّما أنزل في عشرين سنة بين أوّله و آخره؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثمّ نزل في طول عشرين سنة»: ثمّ قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «نزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من شهر رمضان، و أنزلت التّوراة لستّ مضين من شهر رمضان، و أنزل الإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، و أنزل الزّبور لثمان عشر خلون من شهر رمضان، و أنزل القرآن في ثلاث و عشرين من شهر رمضان».

______________________________

(1)- لعلّ المراد أنّه لم ينزل بعدها سورة كاملة فلا ينافي نزول بعض الآيات بعدها كما هو مشهور (مرآة العقول ج/ 12:

518).

نصوص في علوم القرآن، ص: 52

عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن صفوان، عن ابن مسكان، عن محمّد بن الورّاق قال:

عرضت على أبي عبد اللّه عليه السّلام كتابا فيه القرآن مختّم معشّر بالذّهب «1»، و كتب في آخره سورة بالذّهب، فأريته إيّاه فلم يعب فيه شيئا إلّا كتابة القرآن بالذّهب، و قال: «لا يعجبني أن

يكتب القرآن إلّا بالسّواد كما كتب أوّل مرّة».

محمّد بن يحيى، عن عبد اللّه بن محمّد، عن عليّ بن الحكم، عن عبد اللّه بن بكير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «نزل القرآن بإيّاك أعني و اسمعي يا جارة» «2».

و في رواية اخرى، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «معناه ما عاتب اللّه عزّ و جلّ به على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله. فهو يعني به ما قد مضى في القرآن مثل قوله: وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا «3»، عنى بذلك غيره».

عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن عليّ بن الحكم، عن عبد اللّه ابن جندب، عن سفيان بن السّمط قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام: عن تنزيل القرآن قال: «اقرءوا كما علّمتم». (2: 628- 631)

و نصّه أيضا في «الفروع من الكافي» باب «فضل شهر رمضان»

عليّ بن إبراهيم عن أبيه، عن عبد اللّه بن المغيرة، عن عمرو الشّامي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ «4» «فغرّة الشّهور شهر اللّه عزّ ذكره، و هو شهر رمضان، و قلب شهر رمضان ليلة

______________________________

(1)- قيل: المختّم ما كان من علامة ختم الآيات فيه بالذّهب، و يمكن أن يراد به النّقش الّذي يكون في وسط الجلد أو في الافتتاح و الاختتام، أو في الحواشي للزّينة.

(2)- هذا مثل يضرب لمن يتكلّم بكلام يريد به غير المخاطب.

(3)- الإسراء/ 74.

(4)- التّوبة/ 36.

نصوص في علوم القرآن، ص: 53

القدر، و نزل القرآن في أوّل ليلة من شهر رمضان، فاستقبل الشّهر بالقرآن». (4: 65- 66)

باب في «ليلة القدر»

عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن حسّان بن مهران، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن ليلة القدر، فقال: «التمسها [في] ليلة إحدى و عشرين أو ليلة ثلاث و عشرين».

أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيّوب، عن العلاء بن رزين، عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السّلام قال: سألته عن علامة ليلة القدر فقال: «علامتها أن تطيب ريحها، و إن كانت في برد دفئت «1»، و إن كانت في حرّ بردت فطابت». قال: و سئل عن ليلة القدر، فقال: «تنزّل فيها الملائكة و الكتبة إلى السّماء الدّنيا فيكتبون ما يكون في أمر السّنة و ما يصيب العباد، و أمره عنده موقوف له و فيه المشيئة، فيقدّم منه ما يشاء و يؤخّر منه ما يشاء، و يمحو و يثبت و عنده أمّ

الكتاب».

محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمّد، عن عليّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير؛ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «نزلت التّوراة في ستّ مضت من شهر رمضان، و نزل الإنجيل في اثني عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، و نزل الزّبور في ليلة ثماني عشرة مضت من شهر رمضان و نزل القرآن في ليلة القدر».

عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة، عن الفضيل؛ و زرارة، و محمّد بن مسلم، عن حمران، أنّه سأل أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «2» قال: «نعم ليلة القدر، و هي في كلّ سنة في شهر رمضان في العشر

الأواخر، فلم ينزل القرآن إلّا في ليلة القدر؛ قال اللّه عزّ و جلّ: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «3». (4: 156- 157)

______________________________

(1)- بالدّال المهملة مهموزة اللّام من باب فرج أي سخنت.

(2)- الدّخان/ 3.

(3)- الدّخان/ 4.

نصوص في علوم القرآن، ص: 54

الفصل الرّابع نصّ الشّيخ الصّدوق (م: 381 ه) و الشّيخ المفيد (م: 413 ه)

نزول القرآن في ليلة القدر

قال الشّيخ الصّدوق: إنّ القرآن نزل في شهر رمضان، في ليلة القدر جملة واحدة إلى البيت المعمور، ثمّ نزل من البيت المعمور في مدّة عشرين سنة، و إنّ اللّه عزّ و جلّ أعطى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله العلم جملة، ثمّ قال: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «1». و قال: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ «2». (الاعتقادات ضمن كتاب «شرح الباب الحادي عشر»: 92)

قال الشّيخ المفيد: الّذي ذهب إليه أبو

جعفر في هذا الباب أصله حديث واحد، لا يوجب علما و عملا. و نزول القرآن على الأسباب الحادثة حالا فحالا يدلّ على خلاف ما تضمّنه الحديث، و ذلك أنّه قد تضمّن حكم ما حدث و ذكر ما جرى على وجهه، و ذلك لا يكون على الحقيقة إلّا لحدوثه عند السّبب، أ لا ترى قوله تعالى: وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ «3»، و قوله وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ

______________________________

(1)- طه/ 114.

(2)- القيامة/ 16- 19.

(3)- النساء: 155.

نصوص في علوم القرآن، ص: 55

عِلْمٍ) «1»، و هذا خبر عن ماض، و لا يجوز أن يتقدّم مخبره، فيكون حينئذ خبرا عن ماض و هو لم يقع، بل هو في المستقبل، و أمثال ذلك في القرآن كثيرة.

و قد جاء بذكر الظّهار و سببه، و أنّها لمّا جادلت النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في محكم الظّهار أنزل اللّه تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) «2» و هذه قصّة كانت بالمدينة، فكيف ينزل اللّه تعالى الوحي بها بمكّة قبل الهجرة، فيخبر بها أنّها قد كانت و لم تكن؟ و لو تتبّعنا قصص القرآن لجاء ممّا ذكرناه كثيرا لا يتّسع به المقال، و فيما ذكرناه منه كفاية لذوي الألباب، و ما أشبهه ما جاء به الحديث بمذهب المشبّهة الّذين زعموا أنّ اللّه سبحانه و تعالى لم يزل متكلّما بالقرآن، و مخبرا عمّا يكون بلفظ «كان» و قد ردّ عليهم أهل التّوحيد بنحو ما ذكرناه.

و قد يجوز في الخبر الوارد بنزول القرآن جملة في ليلة القدر أنّه نزل جملة منه في ليلة القدر، ثمّ تلاه ما نزل منه إلى وفاة

النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فأمّا أن يكون نزل بأسره و جميعه في ليلة القدر فهو بعيد ممّا يقتضيه ظاهر القرآن، و المتواتر من الأخبار و إجماع العلماء على اختلافهم في الآراء.

فأمّا قوله تعالى: (وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) «3»، و فيه وجهان غير ما ذكره أبو جعفر و عوّل فيه على حديث شاذّ؛

أحدهما: أنّ اللّه تعالى نهاه عن التّسرّع إلى تأويل القرآن قبل الوحي إليه به، و إن كان في الإمكان من جهة اللّغة ما قالوه على مذهب أهل اللّسان. و الوجه الآخر: أنّ جبرائيل كان يوحي إليه بالقرآن، فيتلوه معه حرفا بحرف، فأمره اللّه تعالى أن لا يفعل ذلك، و يصغي إلى ما يأتيه به جبرائيل، أو ينزله اللّه تعالى عليه بغير واسطة حتّى يحصل الفراغ منه، فإذا أتمّ الوحي به تلاه و نطق به و قرأه.

فأمّا ما ذكره المعوّل على الحديث من التّأويل فبعيد؛ لأنّه لا وجه لنهي اللّه تعالى له

______________________________

(1)- الزّخرف/ 20.

(2)- المجادلة/ 1.

(3)- طه/ 114.

نصوص في علوم القرآن، ص: 56

عن العجلة بالقرآن الّذي هو في السّماء الرّابعة، حتّى يقضى إليه وحيه؛ لأنّه لم يكن محيطا علما بما في السّماء الرّابعة قبل الوحي به إليه، فلا معنى لنهيه عمّا ليس في إمكانه، اللّهم إلّا أن يقول قائل ذلك: إنّه كان محيطا علما بالقرآن المودع في السّماء الرّابعة، فينتقض كلامه و مذهبه إنّه كان في السّماء الرّابعة؛ لأنّ ما في صدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حفظه في الأرض، فلا معنى لاختصاصه بالسّماء، و لو كان ما في حفظ رسول اللّه يوصف بأنّه في السّماء الرّابعة (خاصّة) لكان ما في حفظ و

غيره موصوفا بذلك، و لا وجه يكون حينئذ؛ لإضافته إلى السّماء الرّابعة، و لا إلى السّماء الأولى، فضلا عن السّماء الرّابعة. و من تأمّل ما ذكرناه علم أنّ تأويل الآية على ما ذكره المتعلّق بالحديث بعيد عن الصّواب. «1»

(تصحيح الاعتقاد: 102)

______________________________

(1)- و قد أجاب العلّامة المجلسيّ عمّا أورده الشّيخ المفيد على الشّيخ الصّدوق رحمهما اللّه تعالى كما يأتي في الفصل الخامس و الثّلاثون.

نصوص في علوم القرآن، ص: 57

الفصل الخامس نصّ الشّريف المرتضى (م: 436 ه) في «الأمالي»

تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ «1».

فقال: كيف أخبر تعالى بأنّه أنزل فيه القرآن، و قد أنزله في غيره من الشّهور على ما جاءت به الرّواية؟ و الظّاهر يقتضي أنّه أنزل الجميع فيه، و ما المعنى في قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ؟ و هل أراد الإقامة و الحضور اللّذين هما ضدّا الغيبة، أو أراد المشاهدة و الإدراك؟

الجواب، قلنا: أمّا قوله تعالى: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فقد قال قوم: المراد به أنّه تعالى أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدّنيا في شهر رمضان، ثمّ فرّق إنزاله على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بحسب ما تدعو الحاجة إليه.

و قال آخرون: المراد بقوله: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أنّه أنزل- في فرضه و إيجاب صومه على الخلق- القرآن؛ فيكون فِيهِ بمعنى في فرضه، كما يقول القائل: أنزل اللّه في الزّكاة كذا و كذا، يريد في فرضها، و أنزل اللّه في الخمر كذا و كذا، يريد في تحريمها.

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

نصوص في علوم القرآن، ص: 58

و هذا الجواب إنّما هرب متكلّفه من شي ء، و ظنّ أنّه قد اعتصم بجوابه عنه، و هو

بعد ثابت على ما كان عليه؛ لأنّ قوله: الْقُرْآنُ إذا كان يقتضي ظاهره إنزال جميع القرآن فيجب على هذا الجواب أن يكون قد أنزل في فرض الصّيام جميع القرآن، و نحن نعلم أنّ قليلا من القرآن يتضمّن إيجاب صوم شهر رمضان، و أنّ أكثره خال من ذلك.

فإن قيل: المراد بذلك أنّه أنزل في فرضه شيئا من القرآن، و بعضا منه.

قيل: فألّا اقتصر على هذا، و حمل الكلام على أنّه تعالى أنزل شيئا من القرآن في شهر رمضان و لم يحتجّ إلى أن يجعل لفظة فِيهِ بمعنى في فرضه و إيجاب صومه.

و الجواب الصّحيح، أنّ قوله تعالى: الْقُرْآنُ في هذا الموضع لا يفيد العموم و الاستغراق، و إنّما يفيد الجنس من غير معنى الاستغراق، فكأنّه قال: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ هذا الجنس من الكلام، فأيّ شي ء نزل منه في الشّهر فقد طابق الظّاهر.

و ليس لأحد أن يقول: إنّ الألف و اللّام هاهنا لا يكونان إلّا للعموم و الاستغراق؛ لأنّا لو سلّمنا أنّ الألف و اللّام صيغة العموم و الصّورة المقتضية لاستغراق الجنس لم يجب أن يكون هاهنا بهذه الصّفة؛ لأنّ هذه اللّفظة قد تستعمل في مواضع كثيرة من الكلام و لا يراد بها أكثر من الإشارة إلى الجنس و الطّبقة من غير استغراق و عموم، حتّى يكون حمل كلام المتكلّم بها على خصوص أو عموم، كالنّاقض لغرضه و المنافي لمراده، أ لا ترى أنّ القائل إذا قال: فلان يأكل اللّحم، و يشرب الخمر، و ضرب الأمير اليوم اللّصوص، و خاطب الجند، لم يفهم من كلامه إلّا محض الجنس و الطّبقة من غير معنى خصوص و لا عموم، حتّى لو قيل له: فلان يأكل جميع اللّحم،

و يشرب جميع الخمر أو بعضها، لكان جوابه: إنّني لم أرد عموما و لا خصوصا، إنّما أريد أنّه يأكل هذا الجنس من الطّعام، و يشرب هذا الجنس من الشّراب، فمن فهم من كلامي العموم أو الخصوص فهو بعيد من فهم مرادي.

و أرى كثيرا من النّاس يغلطون في هذا الموضع، فيظنّون أنّ الإشارة إلى الجنس من غير إرادة العموم و الاستغراق ليست مفهومة، حتّى يحملوا قول من قال: أردت الجنس في كلّ موضع على العموم، و هذا بعيد ممّن يظنّه؛ لأنّه كما أنّ العموم و الخصوص مفهومان في بعض المواضع بهذه الألفاظ فكذلك الإشارة إلى الجنس و الطّبقة من غير إرادة عموم و لا

نصوص في علوم القرآن، ص: 59

خصوص مفهومة مميّزة، و قد ذكرنا أمثلة ذلك. (2: 252- 253).

تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «1». نصوص في علوم القرآن 59 تأويل آية ..... ص : 59

ال: ما معنى هذه الآية؟ فإنّ ظاهرها لا يدلّ على تأويلها.

الجواب، قلنا: قد ذكر المفسّرون في هذه الآية وجهين نحن نذكرهما، و نوضّح عنهما، ثمّ نتلوهما بما خطر لنا فيهما زائدا على المسطور.

و أحد ما قيل في هذه الآية: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان إذا نزل عليه القرآن و سمعه من جبرئيل قرأ عليه السّلام معه ما يوحى به إليه من القرآن أوّلا أوّلا قبل استتمامه و الانتهاء إلى المنزّل منه في الحال، و قطع الكلام عليها، و إنّما كان يفعل النّبيّ عليه السّلام ذلك حرصا على حفظه و ضبطه، و خوفا من نسيان بعضه، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية؛ ليثبت

النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في تلاوة ما يسمعه من القرآن، حتّى ينتهي إلى غايته لتعلّق بعض الكلام ببعض.

قالوا: و نظير هذه الآية قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ «2» فضمن اللّه تعالى أنّه يجمع له عليه السّلام حفظ القرآن، ثمّ يثبّته في صدره؛ ليؤدّيه إلى أمّته. و أسقط عنه كلفة الاستعجال بترداد تلاوته، و المسابقة إلى تلاوة كلّ ما يسمعه منه؛ تخفيفا عنه و ترفيها له. و أكّدوا ذلك بقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي إذا انتهينا إلى غاية ما تريد إنزاله في تلك الحال، فحينئذ اتّبع قراءة ذلك و تلاوته، فلم يبق منه ما ينتظر في الحال نزوله.

و الوجه الآخر أنّهم قالوا: إنّما نهى النّبيّ عليه السّلام عن تلاوة القرآن على أمّته و أداء ما يسمعه منه إليهم، قبل أن يوحى إليه عليه السّلام ببيانه، و الإيضاح عن معناه و تأويله؛ لأنّ تلاوته على من لا يفهم معناه، و لا يعرف مغزاه لا تحسن.

______________________________

(1)- طه/ 114.

(2)- القيامة/ 16- 19.

نصوص في علوم القرآن، ص: 60

قالوا: و معنى قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ المراد به قبل أن يقضى إليك وحي بيانه، و تفسير معناه؛ لأنّ لفظة «القضاء» و إن كانت على وجوه معروفة في اللّغة، فهي هاهنا بمعنى الفراغ و الانتهاء إلى الغاية، كما قال تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ «1». و كما قال الشّاعر:

و لمّا قضينا من منى كلّ حاجةو مسّح بالأركان من هو ماسح أي فرغنا من حاجاتنا، و انتهينا إلى غاية الوطر منها.

فأمّا الجواب الثّالث، الزّائد على ما ذكر: فهو أنّه

غير ممتنع أن يريد، لا تعجل بأن تستدعي من القرآن ما لم يوح إليك به، فإنّ اللّه تعالى إذا علم مصلحة في إنزال القرآن عليك أمر بإنزاله، و لم يدّخره عنك؛ لأنّه لا يدّخر عن عباده الاطّلاع لهم على مصالحهم.

فإن قيل على هذا الوجه: إنّه يخالف الظّاهر؛ لأنّه تعالى قال: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ و لم يقل بطلبه و استدعائه، و الظّاهر يقتضي أنّ الاستعجال بنفس القرآن لا بغيره.

قلنا: الأمر على ما ظنّه السّائل. و على الوجوه الثّلاثة في تأويل الآية لا بدّ من تقدير ما ليس في الظّاهر؛ لأنّ على الوجهين الأوّلين المذكورين لا بدّ من أن يقدّر: لا تعجل بتلاوة القرآن، إمّا على سبيل الدّرس و التّحفّظ على ما ذكر في الوجه الأوّل، و أن يتلوه على أمّته قبل إنزال البيان. و أيّ فرق في مخالفة الظّاهر، بين أن يقدّر: و لا تعجل بتلاوة القرآن، أو يقدّر: لا تعجل بطلب القرآن و استدعاء نزوله؟.

فإن قيل: هذا يدلّ على وقوع معصية من النّبيّ عليه السّلام في استدعائه ما لم يكن له أن يستدعيه من القرآن؛ لأنّ النّهي لا يكون إلّا عن قبيح.

قلنا: النّهي لا يكون إلّا عن قبيح لا محالة؛ لكنّ النّهي لا يدلّ على وقوع الفعل المنهيّ عنه؛ لأنّه قد ينهى عن الفعل من لم يواقعه قطّ و لا يواقعه، أ لا ترى أنّ النّبيّ عليه السّلام نهي عن الشّرك و سائر القبائح، كما نهينا، و لم يدلّ ذلك على وقوع شي ء ممّا نهي عنه منه!

و هذا أيضا يمكن أن يكون جوابا لمن اعتمد على الوجهين الأوّلين إذا قيل له: أ فوقع منه عليه السّلام تلاوة القرآن على أمّته قبل نزول بيانه، أو

عجل بتكريره على سبيل الدّرس كما

______________________________

(1)- فصّلت/ 12.

نصوص في علوم القرآن، ص: 61

نهي عنه؟.

و يمكن من اعتمد على الوجه الأوّل في تأويل الآية أن يقول في قوله تعالى: لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ و إن كان ظاهره النّهي ليس بنهي على الحقيقة؛ و قد يرد ما هو بلفظ النّهي و هو غير نهي على التّحقيق، كما يرد ما هو بصفة الأمر و ليس بأمر، و إنّما ذلك تخفيف عنه عليه السّلام و ترفيه، و رفع كلفة المشقّة، فقيل له عليه السّلام: لا تتكلّف المسابقة إلى تكرير ما ينزل عليك خوفا من أن تنساه؛ فإنّ اللّه تعالى يكفيك هذه المئونة، و يعينك عن حفظه و ضبطه، كما قال تعالى في الآية الأخرى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ، أي جمعه في حفظك و تامورك «1».

و بعد؛ فإنّ الأولى التّوقّف عن معرفة غاية الكلام الّتي ينتهي إليها، و يقطع عليها.

و التّلاوة لما يرد منه الأوّل فالأوّل؛ تلاوة لما لا يعرف معناه؛ لتعلّق الكلام بعضه ببعض؛ فندب عليه السّلام إلى الأولى من التّوقّف على غايته.

و أمّا الوجه الثّاني: الّذي اعتمد فيه على أنّ النّهي إنّما هو عن تلاوته على الأمّة قبل نزول بيانه، فإن كان المعتمد على ذلك يقول: ليس يمتنع أن تكون المصلحة في التّوقّف عن الأداء قبيل البيان، فنهي عليه السّلام عن ذلك؛ لأنّ المصلحة في خلافه، فهذا جائز لا مطعن فيه. و إن كان القصد إلى أنّ الخطاب لا يحسن إلّا مع البيان- على مذهب من يرى أنّ البيان لا يتأخّر عن الخطاب- فذلك فاسد؛ لأنّ الصّحيح أنّ البيان يجوز أن يتأخّر عن وقت الخطاب، و إنّما لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة.

و قد بيّنّا الكلام في

هذه المسألة، و الأدلّة على صحّة ما ذهبنا إليه منها في مواضع من كتبنا، و تكلّمنا على فساد قول من أوجب اقتران البيان بالخطاب.

على أنّ من اعتمد على هذه الطّريقة في هذا الموضع فقد غلط؛ لأنّ الآية تدلّ على أنّ اللّه تعالى قد خاطب نبيّه عليه السّلام بما يحتاج إلى بيان من غير انضمام البيان إليه. و إذا جاز ذلك في خطابه تعالى لنبيّه عليه السّلام جاز مثله في خطاب النّبيّ عليه السّلام لأمّته؛ لأنّ من أبطل تأخير البيان عن زمان الخطاب يوجب ذلك في كلّ خطاب.

______________________________

(1)- التّأمور: القلب.

نصوص في علوم القرآن، ص: 62

و ليس يمكن أن يدّعى أنّه تعالى قد بيّن له؛ لأنّ تأويلهم يمنع من ذلك، لأنّه قيل له على هذا الوجه: لا تعجل بتلاوة القرآن على أمّتك قبل أن يقضى إليك وحيه، يعني قبل أن ينزل إليك بيانه، فالبيان متأخّر عنه على ذلك الوجه، و ذلك قبيح على مذهب من منع من تأخير البيان من وقت الخطاب.

و التّأويل الّذي ذكرناه زائدا على الوجهين المذكورين يمكن أن تفسّر به الآية الأخرى الّتي هي قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ، بطلب ما لم ينزل عليك من القرآن، فإنّ علينا إنزال ما تقتضي المصلحة إنزاله عليك و جمعه لك، و قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ، يدلّ ظاهره على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب؛ لأنّه تعالى أمره. إذا قرأ عليه الملك و أوحى به إليه أن يقرأه، ثمّ صرّح بأنّ البيان يأتي بعده؛ فإنّ ثُمَ لا يكون إلّا للتّراخي، و ما هو مقترن بالشّي ء لا تستعمل فيه لفظة ثُمَ أ لا ترى أنّه لا يقال: أتاني زيد ثمّ عمرو،

و إنّما حضرا في وقت واحد!. (2: 358- 361)

و نصّه أيضا في «رسائله»
كيفيّة نزول القرآن

ما القول عنده فيما ذهب إليه أبو جعفر ابن بابويه رضى اللّه عنه، من أنّ القرآن نزل جملة واحدة على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى أن يعلم به جملة واحدة، و انصرف على قوله سبحانه: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «1» الآية، إلى أنّ العلم به جملة واحدة، انتفى على الّذين حكى اللّه سبحانه عنهم هذا لا عنه عليه السّلام بقول اللّه تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2».

و ذلك على مقتضى ثبوت هذه الصّفة للعموم المستغرق يدلّ على ما ذهب إليه، إذ

______________________________

(1)- الفرقان/ 31.

(2)- البقرة/ 185.

نصوص في علوم القرآن، ص: 63

ظاهره أقوى من الظّاهر المتقدّم. و لو تكافئا في الظّاهر، لوجب تجويز ما ذهب إليه، إلّا أن يصرف عنه دليل قاطع يحكم على الآيتين جميعا، و ليس للعقل في ذلك مجال، فلا بدّ من سمع لا يدخله الاحتمال.

و يلزم تجويز ما ذهب إليه أيضا على مقتضى ثبوت هذه الصّورة مشتركة بين العموم و الخصوص على سواء.

و قد جاءت روايات إن لم يوجب القطع بهذا الجائز أوجبت ترجيحه و نحوها، يقتضي أنّ اللّه سبحانه أنزل القرآن على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله جملة واحدة، ثمّ كان جبرئيل عليه السّلام يأتيه عن اللّه سبحانه، بأن يظهر في كلّ زمان ما يقتضيه الحوادث و العبادات المشروعة فيه، و أشهد على ذلك بقوله تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «1».

فإن يكن القطع بذلك صحيحا على ما ذهب إليه أبو جعفر رضى اللّه عنه أنعم بذكره و تصرّفه، و

إن يكن عنده باطلا تطول بالإبانة عن بطلانه و كذب روايته، و إن كان التّرجيح له، أولى ذكره، و إن كان الصّحيح عنده، تكافؤ الجائزين نظره إنشاء اللّه تعالى.

الجواب:

أمّا إنزال القرآن على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في وقت واحد أو في أوقات مختلفة، فلا طريق إلى العلم به إلّا السّمع؛ لأنّ البيانات العقليّة لا تدلّ عليه و لا تقتضيه. و إذا كان الغرض بإنزال القرآن أن يكون علما للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و معجزا لنبوّته و حجّة في صدقه، فلا حجّة في هذا الغرض بين أن ينزّل مجتمعا أو متفرّقا.

و ما تضمّنه من الأحكام الشّرعية فقد يجوز أن يكون مترتّبة في أزمان مختلفة، فيكون الاطّلاع عليها و الإشعار بها مترتّبين في الأوقات بترتيب العبادات.

و كما أنّ ذلك جائز، فجائز أيضا أن ينزّل اللّه تعالى جملة واحدة على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و إن كانت العبادات الّتي فيه تترتّب و تختصّ بأوقات مستقبلة و حاضرة.

و الّذي ذهب إليه أبو جعفر ابن بابويه رحمه اللّه من القطع على أنّه أنزل جملة واحدة،

______________________________

(1)- طه/ 114.

نصوص في علوم القرآن، ص: 64

و إن كان عليه السّلام متعبّدا بإظهاره و أدائه متفرّقا في الأوقات. إن كان معتمدا في ذلك على الأخبار المرويّة الّتي رواها فتلك أخبار آحاد لا توجب علما و لا تقتضي قطعا، و بإزائها أخبار كثيرة أشهر منها و أكثر، تقتضي أنّه أنزل متفرّقا، و أنّ بعضه نزل بمكّة و بعضه بالمدينة، و لهذا نسب بعض القرآن إلى أنّه مكّي و بعضه مدنيّ.

و أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يتوقّف عند حدوث حوادث، كالظّهار و غيره، على نزول ما ينزل إليه

من القرآن، و يقول صلّى اللّه عليه و آله: «ما أنزل إليّ في هذا شي ء».

و لو كان القرآن أنزل جملة واحدة لما جرى ذلك، و لكان حكم الظّهار و غيره ممّا يتوقّف فيه معلوما له، و مثل هذه الأمور الظّاهرة المنتشرة لا يرجع عنها بأخبار الآحاد خاصّة.

فأمّا القرآن نفسه فدالّ على ذلك، و هو قوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «1» و لو كان أنزل جملة واحدة لقيل في جوابهم: قد أنزل على ما اقترحتم، و لا يكون الجواب كذلك لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «2».

و فسّر المفسّرون كلّهم ذلك بأن قالوا: المعنى إنّا أنزلناه كذلك، أي متفرّقا يتمهّل على أسماعه، و يتدرّج إلى تلقّيه.

و التّرتيل أيضا إنّما هو ورود الشّي ء في أثر الشّي ء، و صرف ذلك إلى العلم به غير صحيح، لأنّ الظّاهر خلافه.

و لم يقل القوم: لو لا أعلمنا بنزوله جملة واحدة، بل قالوا: لو لا أنزل إليك جملة واحدة، و جوابهم إذا كان أنزل كذلك أن يقال: قد كان الّذي طلبتموه، و لا يحتجّ لإنزاله متفرّقا بما ورد بنزوله في تمام الآية.

فأمّا قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «3» فإنّما يدلّ على أنّ جنس القرآن نزل في هذا الشّهر، و لا يدلّ على نزول الجميع فيه.

______________________________

(1)- الفرقان/ 32.

(2)- نفس الآية.

(3)- البقرة/ 185.

نصوص في علوم القرآن، ص: 65

أ لا ترى أنّ القائل يقول: كنت أقرأ اليوم القرآن، و سمعت فلانا يقرأ القرآن، فلا يريد جميع القرآن على العموم، و إنّما يريد الجنس.

و نظائره في اللّغة لا تحصى، أ لا ترى أنّ العرب تقول: هذه أيّام أكل فيها اللّحم، و هذه أيّام أكل

فيها الثّريد. و هو لا يعني جميع اللّحم و أكل الثّريد على العموم، بل يريد الجنس و النّوع. و قد استقصيت هذه النّكتة في مواضع كثيرة من كلامي.

فأمّا قوله تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ «1»، فلا: ندري من أيّ وجه دلّ على أنّه أنزل جملة واحدة، و قد كان أنّه رحمه اللّه يبيّن وجه دلالته على ذلك. و هذه الآية بأن تدلّ على أنّه ما أنزل جملة واحدة أولى، لأنّه تعالى قال: قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ و هذا يقتضي أنّ في القرآن منتظرا ما قضى الوحي به وقوع منه، فإنّ نزول ذلك على أنّ المراد به قبل أن يوحى إليك بأدائه، فهو خلاف الظّاهر.

و قد كنّا سئلنا إملاء تأويل هذه الآية قديما، فأملينا فيها مسألة مستوفاة، و ذكرنا عن أهل التّفسير فيها وجهين، و ضممنا إليهما وجها ثالثا تفرّدنا به.

و أحد الوجهين المذكورين فيها: أنّه كان عليه السّلام إذا نزل عليه الملك بشي ء من القرآن قرأه مع الملك المؤدّي له إليه قبل أن يستتمّ الأداء؛ حرصا منه عليه السّلام على حفظه و ضبطه، فأمر عليه السّلام بالتّثبّت حتّى ينتهي غاية الأداء؛ لتعلّق الكلام بعضه ببعض.

و الوجه الثّاني: أنّه صلّى اللّه عليه و آله نهى أن يبلغ شيئا من القرآن قبل أن يوحى إليه بمعناه و تأويله و تفسيره.

و الوجه الّذي انفردنا به: أنّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن أن يستدعي من القرآن ما لم يوح إليه به؛ لأنّ ما فيه مصلحة منه لا بدّ من إنزاله و إن لم يستدع، لأنّه تعالى لا يدّخر المصالح عنهم و ما لا مصلحة فيه لا ينزله على كلّ حال،

فلا معنى للاستدعاء و لا تعلّق للآية بالموضع الّذي وقع فيه. (1: 401- 405)

______________________________

(1)- طه/ 114.

نصوص في علوم القرآن، ص: 66

الفصل السّادس نصّ البيهقيّ (م: 458 ه) في «الأسماء و الصّفات».

لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ الرّوم/ 4

إنّ اللّه تعالى نفى عن كلامه الحدث بقوله: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ «1» فأخبر أنّه كان موجودا مكتوبا قبل الحاجة إليه في أمّ الكتاب و قوله عزّ و جلّ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «2» فأخبر أنّ القرآن كان في اللّوح المحفوظ، يريد مكتوبا فيه، و ذلك قبل الحاجة إليه، و فيه ما فيه من الأمر و النّهي و الوعد و الوعيد، و الخبر و الاستخبار، و إذا ثبت أنّه كان موجودا قبل الحاجة إليه ثبت أنّه لم يزل كان. و قوله تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ «3» يريد به ذكر القرآن لهم و تلاوته عليهم، و علمهم به، فكلّ ذلك محدث، و المذكور المتلوّ المعلوم «4» غير محدث، كما أنّ ذكر العبد للّه عزّ و جلّ محدث و المذكور غير محدث و قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ

______________________________

(1)- الزّخرف/ 4.

(2)- البروج/ 22.

(3)- الأنبياء/ 2.

(4)- بمعنى أنّ ما قام باللّه سبحانه غير محدث و إطلاق المذكور و المتلوّ و المقروء و المكتوب و نحو ذلك عليه، من إطلاق وصف الدّالّ على المدلول، و إلّا فلا شكّ أنّ ما يصدر من فم العبد من الحروف و الأصوات حادث قطعا و كذلك الكتابة و نحوها: و لنا عودة إلى هذا البحث.

نصوص في علوم القرآن، ص: 67

يريد به- و اللّه أعلم- انّا أسمعناه الملك و أفهمناه ايّاه، و أنزلناه بما سمع، فيكون الملك منتقلا به من علوّ إلى سفل. و

قوله تبارك و تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «1» يريد به حفظ رسومه و تلاوته. و قوله: وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ «2» و الحديد جسم لا يستحيل عليه الإنزال بمعنى الخلق فغير معقول، و أمّا النّسخ و الإنساء و النّسيان و الإذهاب و التّرك و التّبعيض فكلّ ذلك راجع إلى التّلاوة أو الحكم المأمور به، و باللّه التّوفيق.

أخبرنا أبو زكريّا بن أبي إسحاق المزكّى، أنا أبو الحسن الطّرائفيّ، ثنا عثمان بن سعيد، ثنا عبد اللّه بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها «3» يقول: ما نبدّل من آية أو نتركها، أي لا نبدّلها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها يقول: خير لكم في المنفعة و أرفق بكم.

أخبرنا أبو عبد اللّه الحافظ، أنا عبد الرّحمن بن الحسين القاضي، ثنا إبراهيم بن الحسين، ثنا آدم بن أبي إياس ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن عبيد بن عمير اللّيثيّ في قوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها يقول: أو نتركها، نرفعها من عندهم فنأتي بمثلها أو بخير منها. و عن ابن أبي نجيح، عن أصحاب ابن مسعود رضى اللّه عنه في قوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ، أي نثبّت خطّها و نبدّل حكمها، أو ننسها، أي نرجئها عندنا. نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها قلت:

و في هذا بيان لما قلنا، و المخايرة لا تقع في عين الكلام، و إنّما هي في الرّفق و المنفعة، كما أشار إليه ابن عبّاس رضى اللّه عنه و كذلك المفاضلة إنّما تقع في القراءة على ما جاء من وعد الثّواب و الأجر في قراءة السّورة

و الآيات و اللّه أعلم.

أخبرنا أبو الحسن عليّ بن محمّد بن عليّ الأسفراينيّ بن السّقّاء، أنا أبو يحيى عثمان بن محمّد بن مسعود، أخبرني إسحاق بن إبراهيم الجلّاب، ثنا محمّد بن هاني، ثنا الحسين بن ميمون، ثنا الهذيل، عن مقاتل، قال: تفسير جعلوا على وجهين؛

فوجه منهما: جعلوا للّه، يعني وصفوا اللّه، فذلك قوله عزّ و جلّ في سورة الأنعام:

______________________________

(1)- الحجر/ 9.

(2)- الحديد/ 25.

(3)- البقرة/ 106.

نصوص في علوم القرآن، ص: 68

وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ «1»، يعني وصفوا اللّه شركاء و كقوله في الزّخرف: وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً «2»، يعني وصفوا له. و كقوله في سورة النّحل: وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ «3»، يعني و يصفون للّه البنات. و كقوله في الزّخرف: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «4»، يعني وصفوا الملائكة إناثا، فزعموا أنّهم بنات الرّحمن تبارك و تعالى.

و الوجه الثّاني: و جعلوا، يعني قد فعلوا بالفعل، فذلك قوله عزّ و جلّ في الأنعام:

وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَ الْأَنْعامِ نَصِيباً «5»، يعني قد فعلوا ذلك. و قوله في سورة يونس: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ، يعني الحرث و الأنعام فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالًا. «6» و قوله: ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها «7»، يعني خلق. قلت: و أمّا قوله عزّ و جلّ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ «8»، و قوله: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ «9»، فقد قال في آية أخرى:

فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ «10»، فأثبت أنّ القرآن كلامه، و لا يجوز أن يكون كلامه و كلام جبريل عليه السّلام.

فثبت أنّ معنى قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ أي تلقّاه عن رسول كريم أو قول سمعه من رسول كريم، أو نزل به عليه رسول كريم.

أخبرنا أبو عمرو محمّد بن عبد اللّه الأديب، أنا أبو بكر الإسماعيليّ، ثنا القاسم- يعني ابن زكريّا- ثنا أبو كريب و يعقوب و المخزوميّ، قالوا: ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن جامع بن شدّاد عن صفوان بن محرز، عن عمران بن حصين رضى اللّه عنه قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم

______________________________

(1)- الأنعام/ 100.

(2)- الزّخرف/ 15.

(3)- النّحل/ 57.

(4)- الزّخرف/ 19.

(5)- الأنعام/ 136.

(6)- يونس/ 59.

(7)- الزّمر/ 2.

(8)- الحاقّة/ 40- 42.

(9)- التّكوير/ 20.

(10)- التّوبة/ 6.

نصوص في علوم القرآن، ص: 69

قال: «أقبلوا، البشرى يا بني تميم، قالوا: قد بشّرتنا، فأعطنا. فقال: أقبلوا، البشرى يا أهل اليمن. قالوا: قد بشّرتنا، فأخبرنا عن أوّل هذا الأمر كيف كان؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: كان اللّه قبل كلّ شي ء، و كان عرشه على الماء و كتب في الذّكر كلّ شي ء». و أتاني آت، فقال: يا عمران! انحلّت ناقتك من عقالها، فقمت فإذا السّراب منقطع بيني و بينها فلا أدري ما كان بعد ذلك.

أخرجه البخاريّ في الصّحيح من وجه آخر عن الأعمش، و زاد فيه ثمّ خلق السّماوات و الأرض و لعلّه سقط من كتابي، و القرآن ممّا كتب في الذّكر؛ لقوله: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «1».

و أخبرنا أبو عبد اللّه الحافظ، ثنا أبو العبّاس محمّد بن يعقوب، ثنا محمّد بن إسحاق الصّاغانيّ، ثنا عفّان بن مسلم ثنا حمّاد بن سلمة أنا الأشعث بن «2» عبد الرّحمن، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن النّعمان بن بشير رضى اللّه

عنه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق السّماوات و الأرض بألفي عام، و أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، و لا تقرءان في دار فيقربها شيطان ثلاث ليال».

أخبرنا أبو سهل أحمد بن إبراهيم المهرانيّ و أبو النّصر بن قتادة، قالا: أنا محمّد بن إسحاق بن أيّوب الصّبغيّ، ثنا الحسن بن عليّ بن زياد السّريّ، ثنا إبراهيم بن المنذر الحزاميّ، ثنا إبراهيم «3» بن مهاجر بن مسمار، حدّثني عمر بن حفص بن ذكوان، عن مولى الحرقة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «إنّ اللّه تعالى قرأ: طه و يس قبل أن يخلق آدم عليه السّلام بألف عام، فلمّا سمع الملائكة القرآن قالوا: طوبى لأمّة ينزل هذا عليها، و طوبى لجوف يحمل هذا، و طوبى لألسن تكلّم بهذا».

و أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنا أبو الحسن السّرّاج، ثنا مطيّن، ثنا إبراهيم بن المنذر، فذكره بإسناده نحوه، إلّا أنّه قال: عن مولى الحرقة، يعني عبد الرّحمن بن يعقوب، و قال:

______________________________

(1)- البروج/ 22.

(2)- تكلّم فيه النّسائيّ. و أبو قلابة مدلس. ز.

(3)- قال البخاريّ منكر الحديث.

نصوص في علوم القرآن، ص: 70

في متنه «بألف عام»، و لم يذكر قوله: «طوبى لجوف يحمل هذا». تفرّد به إبراهيم بن مهاجر. قوله: «قرأ طه و يس» يريد به تكلّم و أفهمهما ملائكته، و في ذلك إن ثبت «1» دليل على وجود كلامه قبل وقوع الحاجة إليه.

أخبرنا أبو عبد اللّه الحافظ، أنا أبو عبد اللّه بن يعقوب و أبو الفضل بن إبراهيم، قالا: ثنا أحمد بن سلمة، ثنا إسحاق بن موسى الأنصاريّ، ثنا أنس بن

عيّاض، قال: حدّثني الحارث بن أبي ذباب، عن يزيد بن هرمز، و عن عبد الرّحمن الأعرج، قالا: سمعنا أبا هريرة يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «احتجّ آدم و موسى عليهما السلام عند ربّهما، فحجّ آدم موسى، فقال موسى: أنت الّذي خلق اللّه بيده، «2» و نفخ فيك من روحه «3»، و أسجد لك ملائكته و أسكنك، جنّته ثمّ أهبطت النّاس بخطيئتك إلى الأرض. قال آدم: أنت موسى الّذي اصطفاك اللّه تعالى برسالاته و كلامه، و أعطاك الألواح فيها تبيان كلّ شي ء، و قرّبك اللّه نجيّا، فبكم، وجدت اللّه في كتب التّوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاما، قال آدم: فهل وجدت فيها وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «4»، قال: نعم، قال: أ فتلومني أن أعمل عملا كتب اللّه عليّ عمله أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: فحجّ آدم «5» موسى» رواه مسلم في الصّحيح عن إسحاق بن موسى الأنصاريّ. و الاختلاف في هذه التّواريخ غير راجع إلى شي ء واحد، و إنّما هو على حسب ما كان يظهر لملائكته و رسله، و في كلّ ذلك دلالة على قدم الكلام.

______________________________

(1)- أبيّ يثبت و قد قال ابن حيّان هذا متن موضوع.

(2)- أي بنفسه من غير توسيط أب.

(3)- من زائدة على مذهب الكوفيّين و الإضافة للتّشريف.

(4)- طه/ 121.

(5)- حيث لم يضع السّؤال في محلّه لأنّه وجّه اللّوم إلى ما هو ليس من فعله، قاله الخطيب في الفقيه و المتفقّه. و مثله في أحكام ابن حزم، و نصّ قولهما في ما علّقناه على الاختلاف في اللّفظ و السّبب الحامل لهما على هذا التّفسير النّجاشيّ عن عدّ أحد النّبيين عليهم

السّلام ينكر القدر و آخر يعتلّ في الأفعال الاختياريّة بالقدر، و هو مذهب أهل الجبر. و إنّما لا يصحّ ذكر القدر و الاعتلال به عند أهل الحقّ في صدد التّسلّي عند ما تحلّ مصيبة. و أصل الحديث لا يجافي هذا التّفسير، و باقي الألفاظ من قبيل الرّواية بالمعنى. و لإثبات القدر أدلّة لا تحصى، فلا يحتاج إثباته على إبعاد هذا الحديث عن هذا التّفسير، فلا نستعجل في استنكار قولهما.

نصوص في علوم القرآن، ص: 71

أخبرنا أبو عبد اللّه الحافظ و أبو سعيد بن أبي عمر، قالا: أنا أبو العبّاس محمّد بن يعقوب، ثنا محمّد بن عليّ الورّاق، ثنا عبد اللّه بن رجاء، أنا عمران- هو ابن داور القطّان- عن قتادة عن أبي المليح، عن واثلة ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:].

خالفه عبيد اللّه بن أبي حميد، و ليس بالقويّ فرواه عن جابر بن عبد اللّه رضى اللّه عنه من قوله، و رواه إبراهيم بن طهمان عن قتادة من قوله لم يجاوز به، إلّا أنّه قال: «لاثنتي عشرة».

و كذلك وجده جرير بن حازم في كتابة أبي قلابة دون ذكر «صحف إبراهيم».

قلت: و إنّما أراد- و اللّه أعلم- نزول الملك بالقرآن من اللّوح المحفوظ إلى سماء الدّنيا.

أخبرنا أبو عبد اللّه الحافظ، ثنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه، أنا موسى بن إسحاق القاضي، ثنا أبو بكر و عثمان ابنا أبي شيبة، ثنا جرير عن منصور، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ ثمّ قال:].

و أخبرنا أبو عبد اللّه الحافظ، أنا عبد اللّه محمّد بن عبد اللّه الصّفّار، ثنا أبو طاهر محمّد بن عبد اللّه بن الزّبير الأصفهانيّ، ثنا

الحسين بن حفص، ثنا سفيان عن الأعمش، عن حسّان بن حريث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: فصل القرآن من الذّكر، فوضع في بيت العزّة في سماء الدّنيا، فجعل جبريل عليه السّلام ينزله على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم يرتّله ترتيلا.

أخبرنا أبو الحسين بن بشران ببغداد، أنا أبو جعفر الرّزّاز، ثنا عليّ بن إبراهيم الواسطيّ، أنا يزيد بن هارون، أنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر، ثمّ نزل بعد ذلك في عشرين سنة وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً «1»؛ وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «2».

و أخبرنا محمّد بن عبد اللّه الحافظ، ثنا عليّ بن عيسى الحيريّ، ثنا إبراهيم بن أبي طالب، ثنا محمّد بن المثنّى، حدّثني عبد الأعلى بن عبد الأعلى، ثنا داود بن أبي هند، عن

______________________________

(1)- الفرقان/ 32.

(2)- الإسراء/ 106.

نصوص في علوم القرآن، ص: 72

عكرمة، عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: أنزل اللّه تعالى القرآن إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر، و كان اللّه تبارك و تعالى إذا أراد أن يوحي في الأرض منه شيئا أوحاه، أو يحدث منه شيئا أحدثه.

قلت: هذا يدلّ على أنّ الإحداث المذكور في قوله عزّ و جلّ: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ «1» إنّما هو في إعلامهم إيّاه بإنزال الملك المؤدّي له على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ليقرأه عليه.

و أخبرنا أبو الحسن المقرئ، أنا أبو عمرو الصّفّار، ثنا أبو عوانة، ثنا أبو الحسن الميمونيّ، قال: خرج إليّ يوما

أبو عبد اللّه أحمد بن محمّد بن حنبل، فقال: ادخل، فدخلت منزله، فقلت: أخبرني عمّا كنت فيه مع القوم، و بأيّ شي ء كانوا يحتجّون عليك؟ قال:

بأشياء من القرآن يتأوّلونها و يفسّرونها، هم احتجّوا بقوله: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ قال: قلت: قد يحتمل أن يكون تنزيله إلينا هو المحدث لا الذّكر نفسه هو المحدث.

قلت: و الّذي يدلّ على صحّة تأويل أحمد بن حنبل ما حدّثنا أبو بكر محمّد بن الحسن بن فورك، أنا عبد اللّه بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا شعبة، عن عاصم عن أبي وائل، عن عبد اللّه- هو ابن مسعود- قال: أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فسلّمت عليه، فلم يردّ عليّ، فأخذني ما قدم و ما حدث. فقلت: يا رسول اللّه أحدث فيّ شي ء؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «إنّ اللّه عزّ و جلّ يحدث لنبيّه من أمره ما شاء، و إنّ ممّا أحدث ألّا تكلّموا في الصّلاة». في هذا بيان واضح لما قدّمنا ذكره، حيث قال: «يحدث لنبيّه» و باللّه التّوفيق.

أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنا أبو بكر القطّان، ثنا أحمد بن يوسف السّلميّ، ثنا عبيد اللّه بن موسى، عن إسرائيل، عن السّدّي، عن محمّد بن أبي المجالد، عن مقسم عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: سأله عطيّة بن الأسود، فقال: إنّه قد وقع في قلبي الشّكّ ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ] (193- 229)

______________________________

(1)- الأنبياء/ 2.

نصوص في علوم القرآن، ص: 73

الفصل السّابع نصّ الشّيخ الطّوسيّ (م: 460 ه) في تفسيره: «التّبيان»

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ البقرة/ 185.

أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ: قيل في معناه قولان؛

أحدهما: قال ابن عبّاس و سعيد بن جبير و الحسن: إنّ اللّه تعالى أنزل جميع القرآن في ليلة القدر

إلى السّماء الدّنيا، ثمّ أنزل على النّبيّ بعد ذلك نجوما، و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و الثّاني: أنّه ابتدأ إنزاله في ليلة القدر من شهر رمضان.

فإن قيل: كيف يجوز إنزاله كلّه في ليلة و فيه الإخبار عمّا كان، و لا يصلح ذلك قبل أن يكون؟

قلنا: يجوز ذلك في مثل قوله: وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ «1»، و قوله: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ «2»، على إذا كان وقت كذا أنزل لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ، كما قال تعالى: وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ، أي إذا كان يوم القيامة

______________________________

(1)- آل عمران/ 123.

(2)- التّوبة/ 25.

نصوص في علوم القرآن، ص: 74

نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ «1». (2: 121- 122).

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا الإسراء/ 105

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ: قرأه أهل الأمصار بالتّخفيف. و حكى عن ابن عبّاس: بتشديد الرّاء، بمعنى نزّلناه شيئا بعد شي ء، آية بعد آية، و قصّة بعد قصّة. و معنى «فرّقناه» فصّلنا فيه الحلال و الحرام و ميّزنا بينهما، و هو قول ابن عبّاس.

و قال أبيّ بن كعب: معناه بيّنّاه. و قال الحسن و قتادة: فرّق اللّه فيه بين الحقّ و الباطل.

و من قرأ بالتّشديد؛ قال ابن عبّاس و قتادة و ابن زيد: إنّ معناه أنزل متفرّقا لم ينزّل جميعا، و كان بين أوّله و آخره نحو من عشرين سنة.

و نصب قُرْآناً على معنى و أحكمنا قرآنا فَرَقْناهُ، أو آتيناك قرآنا.

و قال بعضهم: نصب بمعنى و رحمة، كأنّه قال: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً و رحمة؛ قال: لأنّ القرآن رحمة.

و قوله: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى

مُكْثٍ معناه على تؤدة، فترتّله و تبيّنه و لا تعجل في تلاوته، فلا يفهم عنك، و هو قول ابن عبّاس و مجاهد و ابن زيد ...

و قوله: نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا أي أنزلناه شيئا بعد شي ء، و هو قول الحسن و قتادة. و قوله:

نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا يدلّ على أنّ القرآن محدث، لأنّ القديم لا يجوز وصفه بالمنزّل و التّنزيل، لأنّ ذلك من صفات المحدثين.

و قيل: في معنى عَلى مُكْثٍ أنّه كان ينزل منه شي ء ثمّ يمكثون ما شاء اللّه، و ينزّل شي ء آخر. (6: 530- 531)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً الفرقان/ 32

ثمّ حكى أنّ الكفّار قالوا: ف لَوْ لا أي هلّا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ: على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله جُمْلَةً واحِدَةً. فقيل: لهم: إنّ التّوراة أنزلت جملة؛ لأنّها أنزلت مكتوبة على نبيّ يكتب

______________________________

(1)- الأعراف/ 44.

نصوص في علوم القرآن، ص: 75

و يقرأ و هو موسى، و أمّا القرآن، فإنّما أنزل متفرّقا؛ لأنّه أنزل غير مكتوب على نبيّ أمّيّ، و هو محمّد صلّى اللّه عليه و سلم.

و قيل: إنّما لم ينزل جملة واحدة، لأنّ فيه النّاسخ و المنسوخ، و فيه ما هو جواب لمن سأل عن أمور، و فيه ما هو إنكار لما كان. و في الجملة المصلحة معتبرة في إنزال القرآن فإذا كانت المصلحة تقتضي إنزاله متفرّقا كيف ينزل جملة واحدة!؟ فقال اللّه تعالى لنبيّه صلّى اللّه عليه و سلم إنّا أنزلناه متفرّقا لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ. و قال أبو عبيدة: معناه لنطيّب به نفسك و نشجّعك.

و قوله: وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا فالتّرتيل: التّبيين في تثبّت و ترسّل. و قوله: وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ، أي لم ننزّل القرآن جملة واحدة؛ لأنّهم لا يأتونك بشي ء يريدون به إبطال أمرك ... (7:

488- 489)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ الدّخان/ 3

إخبار منه تعالى أنّه أنزل القرآن في اللّيلة المباركة، و هي ليلة القدر في قول قتادة و ابن زيد. و قال قوم: هي ليلة النّصف من شعبان. و الأوّل أصحّ؛ لقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «1».

و قيل: هي في كلّ شهر رمضان، فيها تقسّم الآجال و الأرزاق و غيرهما من الألطاف، في قول الحسن.

و قيل: أنزل إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر، ثمّ أنزل نجوما على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و قيل: ينزل في ليلة القدر قدر ما يحتاج إليه في تلك السّنة.

و قيل: المعنى إنّ ابتداء إنزاله في ليلة مباركة، و وصفها بأنّها مباركة؛ لأنّ فيها يقسّم اللّه تعالى نعمه على عباده من السّنة إلى السّنة ... (9: 224)

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... القيامة/ 16- 19

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

نصوص في علوم القرآن، ص: 76

قال ابن عبّاس و سعيد بن جبير و الضّحّاك: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا نزل عليه القرآن عجّل بتحريك لسانه لحبّه إيّاه، فنهاه اللّه عن ذلك. و التّحريك: تغيير الشّي ء من مكان، أو من جهة إلى جهة بفعل الحركة فيه، و الحركة: ما به يتحرّك المتحرّك. و المتحرّك هو المنتقل من جهة إلى غيرها. و اللّسان: آلة الكلام. و العجلة: طلب عمل الشّي ء قبل وقته الّذي ينبغي أن يعمل فيه، و نقيضه الإبطاء، و السّرعة: عمل الشّي ء في أوّل وقته الّذي هو له، و ضدّه الأناة.

و قوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ، قال ابن عبّاس و الضّحّاك: معناه إنّ علينا جمعه في صدرك، و قراءته عليك حتّى يمكنك تلاوته. و قال قتادة: معناه إنّ علينا جمعه في صدرك و تأليفه على ما نزل عليك. و قال ابن عبّاس في رواية

أخرى: إنّ معناه إنّ علينا بيانه من حلاله و حرامه بذكره لك.

و قال قتادة: معناه نذكر أحكامه و نبيّن لك معناه إذا حفظته.

و قال البلخيّ: الّذي أختاره أنّه لم يرد القرآن، و إنّما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة؛ لأنّ ما قبله و بعده يدلّ على ذلك، و ليس فيه شي ء يدلّ على أنّه القرآن، و لا على شي ء من أحكام الدّنيا، و في ذلك تقريع للعبد و توبيخ له حين لا تنفعه العجلة. و القرآن من الضّمّ و التّأليف؛ قال عمرو بن كلثوم:

ذراعي عيطل أدماء بكرهجان اللّون لم تقرأ جنينا أي لم تضمّ رحما على ولد.

و قوله: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ قال ابن عبّاس: معناه إذا قرأناه- أي تلوناه- فاتّبع قراءته بقراءتك، و قال قتادة و الضّحّاك: معناه بأن يعمل بما فيه من الأحكام و الحلال و الحرام.

و قيل: معناه فإذا قرأه جبرائيل عليك فاتّبع قراءته. و الاتّباع: مراجعة الثّاني للأوّل في ما يقتضيه، و مثله الاقتداء و الاحتذاء و الائتمام، و نقيضه الخلاف. و البيان: إظهار المعنى للنّفس بما يتميّز به من غيره، بأنّ الشّي ء يبيّن إذا ظهر و أبانه غيره، أي أظهره بيانا و إبانة، و نقيض البيان الإخفاء و الإغماض.

و قال قتادة: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ معناه إنّا نبيّن لك معناه إذا حفظته. (10: 195- 197)

نصوص في علوم القرآن، ص: 77

الفصل الثّامن نصّ الواحديّ (م: 468 ه) في «أسباب النّزول»

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ... الإسراء/ 105

أنزله مفرّقا نجوما و أودعه أحكاما و علوما، قال عزّ من قائل: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ

أخبرنا الشّيخ أبو بكر أحمد بن محمّد الأصفهانيّ قال: أخبرنا عبد اللّه بن حيّان قال:

حدّثنا أبو يحيى الرّازيّ قال: حدّثنا سهل بن عثمان العسكريّ قال: حدّثنا يزيد بن زريع قال:

حدّثنا أبو رجاء قال: سمعت الحسن يقول في قوله تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ذكر لنا أنّه كان بين أوّله و آخره ثماني عشرة سنة، أنزل عليه بمكّة ثماني سنين قبل أن يهاجر، و بالمدينة عشر سنين.

أخبرنا أحمد، قال: أخبرنا عبد اللّه، قال: أخبرنا أبو يحيى الرّازيّ، قال: حدّثنا سهل، قال: حدّثنا يحيى بن أبي كثير عن هشيم عن داود عن الشّعبيّ قال: «فرّق اللّه تنزيله فكان بين أوّله و آخره عشرون أو نحو من عشرين سنة، أنزله قرآنا عظيما، و ذكرا حكيما و حبلا ممدودا، و عهدا معهودا، و صراطا مستقيما فيه معجزات باهرة، و آيات ظاهرة، و حجج صادقة و دلالات ناطقة ...» (ص: 3)

أخبرنا أبو إسحاق الثّعالبيّ، قال: أخبرنا محمّد بن عبد اللّه بن زكريّا الشّيبانيّ، قال:

نصوص في علوم القرآن، ص: 78

أخبرنا محمّد بن عبد الرّحمن الدّغوليّ، قال: حدّثنا ابن أبي خثيم قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدّثنا مهديّ بن ميمون، قال: حدّثنا غيلان بن جرير عن عبد اللّه بن معبد الزّمانيّ عن أبي قتادة: «أنّ رجلا قال: يا رسول اللّه أ رأيت صوم يوم الاثنين؟ قال: فيه أنزل عليّ القرآن، و أوّل شهر أنزل فيه القرآن شهر رمضان، قال اللّه تعالى ذكره: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ».

أخبرنا عبد الرّحمن بن حمدان النّضروي، قال: أخبرنا أبو محمّد عبد اللّه بن إبراهيم ابن مياسر، قال: حدّثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد اللّه قال: حدّثنا عبد اللّه بن جابر بن الهيثم الغدانيّ قال: حدّثنا عمران عن قتادة عن أبي المليح عن واثلة ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ]. (ص: 9)

نصوص في علوم القرآن، ص: 79

الفصل التّاسع نصّ الميبديّ (م: 530 ه) في «كشف الأسرار» «1»

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ البقرة/ 185

في الآية قولان؛

أحدهما: أنّ نزول القرآن كان في اللّيلة السّابعة عشرة من شهر رمضان، و الّتي وقعت في نهارها غزوة بدر. نزل من ربّ العزّة إلى السّماء الدّنيا، و جعل في خزائنه في بيت العزّة، ثمّ نزل في ثلاث و عشرين سنة متفرّقة، سورة سورة، و آية آية إلى الأرض، و ذلك قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، و هي السّابعة عشرة من شهر رمضان.

و روي عن واثلة بن الأسقع، أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم قال: «أنزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة ...»

[و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:]

و الثّاني: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، أي أنزل القرآن بفرضه على المسلمين و فضله.

و قال داود بن أبي هند: قلت للشّعبيّ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أما كان ينزل عليه في سائر السّنة؟ قال: بلى، و لكنّ جبرئيل كان يعارض محمّدا صلّى اللّه عليه و سلم في رمضان ما نزّل اللّه، فيحكم اللّه ما يشاء، و يثبت ما يشاء و ينسئ. (1: 490)

______________________________

(1)- ترجمت فقرات من هذا النّصّ من الفارسيّة علما بأنّ اكثر هذا التّفسير بهذه اللّغة.

نصوص في علوم القرآن، ص: 80

وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ الأنفال/ 41

يقول اللّه تعالى في هذه الآية: أنزلنا القرآن في يوم الفرقان.

و في آية: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1».

و في آية أخرى: وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «2».

و بذلك أنزل القرآن في ليلة غزوة بدر و يومها إلى السّماء الدّنيا، ثمّ وضعه في بيت العزّة في موضع خزانة القرآن، و لذا قال اللّه تعالى في موضع: «اليوم» و في موضع آخر «اللّيل»، و هذا على التّوسعة في كلام العرب، و هم يخبرون عن اللّيل بحكاية اللّيل؛ لأنّ نزول القرآن لا يقع إلّا في

ليل أو في نهار، و ذلك اليوم هو اليوم الّذي وقعت فيه غزوة بدر، و قد صادف يوم الجمعة «في السّابع عشر» من شهر رمضان. فأنزل اللّه القرآن حينئذ من هذه اللّيلة إلى الأرض إلى نهاية عمر النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم على مكث. لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ، أي ثبّته اللّه على قلبه عند ما يكتنفه الهمّ و الغمّ، و كلّما أنزل حكم تلاه حكم آخر على مواقع النّجوم.

و قال بعض المفسّرين في قوله: وَ النَّجْمِ إِذا هَوى «3»، أي و الوحي إذا أنزل. (4: 53)

وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً طه/ 114

قال الشّافعي: هو القرآن، بغير همز و هو اسم لكتابنا كالتّوراة و الإنجيل و الزّبور، لكتب بني إسرائيل، و لو كان من القراءة لكان يسمّى كلّ مقروء قرآنا، و لا يسمّى باسم كتاب اللّه شي ء غيره. مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ. كان رسول اللّه يتعجّل بقراءة القرآن ساعة الوحي قبل أن يفرغ جبرئيل من إلقاء الوحي خشية النّسيان، فأمر بالإنصات و حسن الاستماع إلى أن يفرغ جبرئيل من البلاغ، و لهذا قال في مورد آخر: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ يعني من قبل أن يفرغ جبرئيل من تلاوته عليك. قرأ يعقوب «نقضي» بالنّون و فتحها و كسر الضّاد و نصب الياء «وحيه»

______________________________

(1)- القدر/ 1.

(2)- الإسراء/ 105.

(3)- النّجم/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 81

منصوبا. و الوجه أنّ الفعل للّه تعالى ذكره بلفظ التّعظيم، و هذا موافق لما قبله الّذي جاء بلفظ التّعظيم، و هو قوله: أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَ صَرَّفْنا «1»، و لما بعده و هو قوله: وَ لَقَدْ عَهِدْنا في أنّ كليهما على لفظ التّعظيم. و قرأ الباقون (يقضى)

بضمّ الياء و فتح الضّاد (وحيه) بالرّفع. و الوجه أنّه على إسناد الفعل إلى المفعول به، و هو الوحي، و معلوم أنّ اللّه تعالى هو الموحي، فلذلك وقع الاستغناء عن ذكر الفاعل.

و قال مجاهد و قتادة: لا تقرئه أصحابك، و لا تمله عليهم حتّى تبيّن لك معانيه.

و قال السّدّيّ: لا تسأل إنزاله قبل أن يأتيك و قيل: معناه لا تلتمس إنزال القرآن جملة فإنّا ننزّل عليك لوقت الحاجة.

وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي زدني حفظا حتّى لا أنسى ما أوحي إليّ. و قيل: معناه ربّ زدني علما بالقرآن و معانيه. قيل: عِلْماً إلى ما علمت. و كان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: اللّهم زدني إيمانا و يقينا. (6: 180- 181)

وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ... الشّعراء/ 192

(تنزيل): صيغة مبالغة و تكثير، أي نزل القرآن من السّماء لا بدفعة واحدة، بل في مدّة ثلاث و عشرين سنة نجما نجما، و سورة سورة، و آية آية بحسب ما يليق الحال و بما تقتضي الحاجة إليه. يا محمّد كان نزول القرآن عليك و على أمّتك رحمة من اللّه جلّ جلاله، فهو لم ينزله كما أنزل التّوراة على بني إسرائيل جملة واحدة. لا جرم أنّ صبرهم كان قليلا، فهم لا يتقبّلونه و لا يتحمّلونه تدريجيّا، و قليل الصّبر لا يقدر على الحمل الثّقيل، كالطّفل الرّضيع لا يستطيع أكل الطّعام، و لقلّة صبرهم فإنّهم لم يعلموا قدره، و لم يعرفوا حقيقته، فباعوه بثمن بخس إذ باعوه بصاع شعير. و حكى حالهم ربّ العالمين:

يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى «2»، لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا «3». و حينما وصلت نوبة هذه

______________________________

(1)- طه/ 113.

(2)- الأعراف/ 169.

(3)- البقرة/ 79.

نصوص في علوم القرآن، ص: 82

الأمّة و أعطاهم كتابا صغير الحجم،

عظيم الفضل و كثير الشّرف، و أنزل خلال مدّة طويلة سورة سورة و آية آية؛ ليكون أثبت في فؤاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أمّته، و أقرّ في قلوبهم، و أحكم في صدورهم.

قال اللّه تعالى: لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ، لم ينزله بنسق واحد؛ تعظيما له و تشريفا للأمّة، فبعض أحكامه عامّ، و بعضها خاصّ. و أنزل بعضها بنظم ظاهر، و بعضها بنصّ قاطع، و بعضها مجمل، و بعضها مفسّر، و بعضها مطلق، و بعضها مقيّد، و بعضها محكم، و بعضها متشابه.

و إن كانت الآيات متشابهة لم يقف أحد فهم تنزيلها، و إن كانت ظاهرة لم تكن لأحد مزيّة في تعليمها. و إن كانت كلّها متشابهة كان العالم و الجاهل سيّان في الجهل، و إن كانت كلّها ظاهرة فإنّهما سيّان في العلم، و لكان التّفاضل بين الخلق معدوما. و تأبى رحمة اللّه أن تساوي بين العالم و الجاهل، و ليس من الحكمة أن يتكافآن. بل تقتضي الرّحمة الرّبّانيّة و الحكمة الإلهيّة أن يكون كلّ في موضعه، و يشقّ طريقه وفق جهده.

قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، يعني جبرئيل، عَلى قَلْبِكَ «1»، يعني قلب المصطفى؛ لأنّه كان في المشاهدة و الوحي، إذ أنزل به نزل بقلبه أوّلا لشدّة تعطّشه إلى الوحي و لاستغراقه به، ثمّ انصرف من قلبه إلى فهمه و سمعه، و هذا تنزّل من العلوّ إلى السّفل و هو رتبة الخواصّ. فأمّا العوام فإنّهم يسمعون أوّلا فينزل الوحي على سمعهم أوّلا، ثمّ على فهمهم، ثمّ على قلبهم و هذا ترقّي من السّفل إلى العلوّ، و هو شأن المريدين و أهل السّلوك. فشتّان ما هما نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ. (7: 171)

حم* وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ الدّخان/ 1- 3

اختلفوا

في جواب القسم، قيل: جوابه مقدّم، أي و الكتاب المبين، حم ما هو كائن، و قيل: جوابه قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ، و هو الأصحّ. و المعنى إنّا أنزلنا القرآن فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، و هي ليلة القدر، أنزله جملة في ليلة القدر من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا،

______________________________

(1)- الشّعراء/ 194.

نصوص في علوم القرآن، ص: 83

ثمّ نزل به جبرئيل على النّبيّ نجوما في عشرين سنة.

و قيل: أنزل في ليلة القدر ما يحتاج إليه في طول السّنة إلى قابل. و قيل: كان بدو إنزاله في ليلة القدر. و قيل: إِنَّا أَنْزَلْناهُ يعني جبرئيل عليه السّلام ينزل في ليلة القدر. و قيل: إنّا أنزلناه إلى الأرض، و معه الملائكة جمّ غفير.

قال عكرمة: اللّيلة المباركة ليلة النّصف من شعبان، أنزل اللّه جبرئيل إلى السّماء الدّنيا في تلك اللّيلة، حتّى أملى القرآن على الكتبة، و سمّاها مباركة لأنّها كثيرة الخير و البركة، لما ينزل فيها من الرّحمة و يجاب فيها من الدّعوة. (9: 94)

فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ* مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ* بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ... عبس/ 13- 15

فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، يعني مصاحف القرآن المكرّمة المعظّمة. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ: قال وهب بن منبّه: هم المسلمون أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم. و قيل: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ يعني في اللّوح المحفوظ عنده، قد شرّفه و كرّمه، و أعجز الخلق عن الإتيان بمثله.

و الصّحف؛ جمع صحيفة، و كلّ مكتوب عند العرب صحيفة. و قيل: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ هي النّسخ من القرآن الّتي في السّماء الدّنيا و في اللّوح عند الملائكة.

مَرْفُوعَةٍ، يعني في القدر و الرّتبة، و تعظيم المنزلة و المحلّ. مُطَهَّرَةٍ: لا يمسّها إلّا طاهر. و قيل: مُطَهَّرَةٍ عن أن ينالها أيدي الكفّار. و قيل: مُطَهَّرَةٍ: لا يكون فيها ما ليس من كلام اللّه، مطهّرة

من التّناقض و الكذب و آفات الكلام.

بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، أي كتبة، و هم الملائكة الكرام الكاتبون، واحدهم سافر؛ يقال:

سفرت، أي كتبت، و منه قيل: للكتاب سفر، و جمعه أسفار. و قيل: هم الرّسل من الملائكة، واحدهم سفير، و هو الرّسول، و الرّسل: سفراء اللّه بينه و بين خلقه.

كِرامٍ بَرَرَةٍ، أي كرام عند اللّه مطيعين. و قيل: السّفرة من الملائكة هم الّذين يكتبون، و البررة الّذين لا يكتبون، و البررة جمع بارّ، كفاجر و فجرة. (10: 383- 384)

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ... الأعلى/ 6

نصوص في علوم القرآن، ص: 84

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى، أي سنجمع حفظ القرآن في قلبك و قراءته في لسانك، حتّى فَلا تَنْسى كقوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ. قيل: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم يتلقّف القرآن من جبرئيل بسرعة، فكان إذا قرأ آية كان أن يسبقه بالتّلقّف؛ مخافة أن ينسى، فأنزل اللّه سبحانه سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى، فلم ينس بعدها شيئا من القرآن البتّة ما عاش، و في هذا إعجاز عظيم.

إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، أي ممّا لم يقع به التّكليف في التّبليغ، و لا يجب عليه أداؤه فينسيه اللّه سبحانه إذا شاء. و قال الحسن و قتادة: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن ينسيه برفع حكمه و تلاوته، كما قال تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها، و الإنساء: نوع من النّسخ، و نسخ اللّه عزّ و جلّ من كتابه ثلاثة ألوان، منها ما أنسي رسوله و وضع عنه حكمه، و منها ما أنساه و أثبت حكمه كالرّجم، و الآيتان تشملان معا هذين اللّونين، و اللّون الثّالث ما أثبت ظاهره و وضع عنه حكمه. و قيل: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى، أي نعلّمك و نحفظ عليك ما نقرأه، فلا تترك العمل

بما أمرت به.

إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ: أن لا تعمل به بالنّسخ. حكي أنّ ابن كيسان النّحويّ حضر مجلس الجنيد يوما، فقال: يا أبا القاسم ما تقول في قوله عزّ و جلّ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى؟ فأجابه مسرعا كأنّه تقدّم السّؤال قبل ذلك بأوقات: لا تنسى العمل به، فأعجب ابن كيسان ذلك إعجابا شديدا، و قال: لا يفضّض اللّه فاك، مثلك تصدّر قوله: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى «1» من القول و الفعل. قيل: يعني إعلان الصّدقة و إخفاءها. وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى، أي للخلّة اليسرى. و اليسرى: الفعلى من اليسر، و هو سهولة عمل الخير، أي نسهّل لك العمل الّذي يوصلك إلى الجنّة.

و قيل: معناه نوفّقك للشّريعة اليسرى، و هي الحنيفيّة السّمحة السّهلة.

و قيل: هو متّصل بالكلام الأوّل، معناه إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ، أي ما تقرأه على جبرئيل إذا فرغ من التّلاوة: وَ ما يَخْفى: ما تقرأه في نفسك مخافة النّسيان. ثمّ وعده فقال:

______________________________

(1)- الأعلى/ 7

نصوص في علوم القرآن، ص: 85

وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى «1»، أي نهوّن عليك الوحي حتّى تحفظه و تعلمه. (10: 460- 461)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ... القدر/ 1

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ، الهاء ضمير القرآن و إن لم يتقدّم ذكره في السّورة و نظيره:

حم* وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «2»، أنزل اللّه القرآن جملة واحدة في ليلة القدر من اللّوح ... [سيأتي تمام الكلام عن الزّمخشريّ].

و قيل: معناه إِنَّا أَنْزَلْناهُ: جبرئيل بالقرآن ليلة القدر. و قيل: كان ابتداء إنزاله ليلة القدر.

و قيل: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، أي أنزلنا القرآن فى شأن ليلة القدر و منزلتها ...

و يحتمل أنّ الهاء تعود إلى القضاء و القدر النّازل فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.

فإن قيل: قال اللّه تعالى في هذه السّورة:

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، و قال في موضع آخر: أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ «3»، و قد أنزله في عشرين سنة كما قال: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «4»، فما وجه الجمع بين هذه الآيات؟

الجواب: أنّه أنزله ليلة القدر الّتي كانت صبيحتها يوم بدر، و هي كانت ليلة سبع عشرة من رمضان، لم ترد بعد إلى العشر الأواخر أنزل إلى السّماء الدّنيا، فوضع في بيت العزّة خزانة القرآن، ثمّ كان ينزل منه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم نجوما إلى أن قبض. (10: 557- 558)

______________________________

(1)- الأعلى/ 8

(2)- الدخان/ 1- 3.

(3)- الأنفال/ 41.

(4)- الإسراء/ 106

نصوص في علوم القرآن، ص: 86

الفصل العاشر نصّ الشّيخ أبي الفتوح الرّازيّ (م: 535 ه) في تفسيره: «روض الجنان» «1»

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... البقرة/ 185

قال عطيّة بن الأسود: سألت ابن عبّاس عن قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، إن كان نزول القرآن في شهر رمضان، فما ذا نزل في الشّهور الأخر؟ قال: إنّ اللّه تعالى أنزل القرآن من اللّوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان إلى السّماء الدّنيا، ثمّ أنزله في بيت العزّة، و من هنا كان جبرئيل يأتي به نجما نجما على حسب الحاجة و المصلحة، في مدّة ثلاث و عشرين سنة، و ذلك قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ.

قال داود بن الهند: سألت الشّعبيّ عن هذه المسألة؛ قال: نعم، نزل القرآن بأوقات متفرّقة، إلّا أنّ جبرئيل كان يأتي ببعض القرآن كلّ سنة في شهر رمضان إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و كان يعرضه عليه، فذلك قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ «2».

و الوجه الآخر في هذه الآية أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ: أنّه بدئ بإنزاله في

شهر رمضان.

______________________________

(1)- قد ترجمنا هذا النّص من الفارسيّة.

(2)- الرّعد/ 39 (سيأتي هذا الحديث كاملا في عن السّيوطيّ في الدرّ المنثور).

نصوص في علوم القرآن، ص: 87

و إذا قال أحدنا مثلا: سأحجّ غدا، كان معناه ابتدئ الحجّ غدا، و كذلك قال اللّه تعالى:

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، أي ابتدئ نزوله في شهر رمضان. (1: 291)

وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ... طه/ 114

قال بعض المفسّرين في سبب نزول هذه الآية: إنّ جبرئيل كان إذا قرأ القرآن على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قرأ النّبيّ معه؛ حرصا منه على حفظه، حتّى أنزل اللّه تعالى هذه الآية.

و قال بعضهم: المراد بها، لا تقرأ هذا القرآن على أصحابك و لا تعلّمهم، حتّى تعلّم أنت و تستمع بأحسن وجه. فلا يلزم أن يكون النّهي للنّبيّ من فعل فعله أو يفعله، بل نهاه تنزيها و إن لم و لن يفعل ذلك. و مثل هذا النّهي كثير في القرآن، منه قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ «1»، و قوله تعالى: وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً «2»، و قوله تعالى: وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ «3». (3: 526)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً الفرقان/ 32

ثمّ حكى القرآن عن الكافرين أنّهم من جهة أخرى- كانوا يطعنون بالقرآن، فقالوا: لم لم ينزل هذا القرآن على محمّد صلّى اللّه عليه و آله جملة واحدة؟ بل نزّل متفرّقا، آية آية و سورة سورة، و لما ذا لم ينزل مثل ما نزلت التّوراة و الإنجيل جملة واحدة؟

و أجاب عنه بعض العلماء بأنّ الكتب السّابقة نزّلت مكتوبة مرّة واحدة على رسل غير أمّيين، و لكن هذا الكتاب نزّل على النّبيّ الأميّ متفرّقا، أي آية آية و سورة سورة.

و قال بعضهم: إنّ اللّه تعالى أراد أن يكون في القرآن ناسخ و منسوخ، فلا يجوز أن ينزّل جملة واحدة، بل أنزله بحيث يرفع المنسوخ عند نزول النّاسخ.

و الصّحيح، أنّ المصلحة- و هي معتبرة في إنزال القرآن- تقتضي فيه التّفريق دون

______________________________

(1)- الأحزاب/ 1.

(2)- الإنسان/ 24.

(3)- القلم/ 48.

نصوص في علوم القرآن، ص: 88

نزوله جملة واحدة، و إليه أشار بقوله

تعالى: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ. و قالوا في معنى هذه الآية: حتّى يسهل عليك حفظه و تعلّمه.

قوله: وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا قال ابن عبّاس: أي بيّنّاه. و قال النّخعيّ و الحسن البصريّ:

أي فرّقناه و نزّلناه في ثلاث و عشرين سنة.

قال ابن زيد: رَتَّلْناهُ، أي فسّرناه، و التّرتيل هو بسط القراءة و إظهارها بجلاء، من قولهم: ثغر مرتّل، أي مفلّج. (4: 77)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ الدّخان/ 3

هذه اللّيلة هي ليلة القدر؛ لقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1»، و قوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2»، قاله قتادة و ابن زيد.

و قال جماعة آخرون: هي ليلة النّصف من شعبان. و القول الأوّل أصحّ؛ لوجود النّظائر و القرائن في القرآن.

و قال قتادة: ليلة القدر هي اللّيلة الّتي نزل فيها القرآن من اللّوح المحفوظ إلى سماء الدّنيا، ثمّ أنزل على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بأوقات و أيّام متفرّقة. (5: 27)

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... القيامة/ 16- 19

قال عبد اللّه بن عبّاس و سعيد بن جبير و الضّحّاك: كان إذا أوحي إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله يحرّك لسانه في فمه حرصا على قراءته و فهمه، فنهاه اللّه عن ذلك بهذه الآية لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ ....

و جاز هذا النّهي- و إن لم يفعل هذا الفعل بل نهاه- حتّى لا يفعله في المستقبل، كما قال اللّه تعالى: وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ «3». و معلوم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يطع

______________________________

(1)- القدر/ 1

(2)- البقرة/ 185.

(3)- الأحزاب/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 89

الكافرين و المنافقين أصلا، و الضّمير في (به) جاز رجوعه إلى القرآن أو إلى الوحي.

قوله: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، أي أحكامه، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ، أي نفصّل حلاله و حرامه.

و قال ابن عبّاس و الضّحاك: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ، أي في صدرك، و نقرأه عليك حتّى تعلمه.

و دلّت هذه الآية على أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جمع القرآن في آخر عمره؛ لقوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ، لأنّه لا يمكن القراءة إلّا بمجموع و مؤلّف قريب. و كذلك دلّت هذه الآية على أنّ

تفسير القرآن لا يجوز إلّا بنصّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؛ لقوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ. (5: 436)

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا الإنسان: 23

أنزلت هذه الآية على سبيل المنّة و تذكيرا بالنّعمة.

و قال ابن عبّاس: لقد منّ اللّه على عباده أنّه أنزل القرآن متفرّقا، آية من بعد آية و سورة من بعد سورة، و لم ينزّله جملة واحدة، حتّى لا يصعب فهمه و تعلّمه، كقوله:

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ ... «1». (5: 452)

______________________________

(1)- الإسراء/ 106.

نصوص في علوم القرآن، ص: 90

الفصل الحادي عشر نصّ الزّمخشريّ (م: 538 ه) في «الكشّاف» و نصّ السيّد الشّريف (م: 816) في «حاشيته على الكشّاف»

اشارة

الحمد للّه الّذي أنزل القرآن كلاما مؤلّفا منظّما، و نزّله بحسب المصالح منجّما «1». (1: 3)

______________________________

(1)- [قال السّيّد الشّريف الجرجانيّ:]

قوله: «أنزل»، يروى أنّه وقع في أمّ النّسخ «خلق» مكان «أنزل» ثمّ غيّره المصنّف، فإن صحّ ذلك فالتّغيير لفوائد:

الأولى: أنّ «الخلق» إذا نسب إلى ما هو جنس القول فقد يراد به معنى الاختلاق؛ يقال: خلق هذا الكلام و اختلقه، أي افتراه، فلا يحسن استعماله في هذا المقام، و إن أريد به معنى آخر.

الثّانية: أنّ كون القرآن حادثا أمر شنيع عند الخصم، فأراد أن يكتمه أوّلا، ثمّ أن يظهره بعد سوق مقدّمات مسلّمة عنده، و مستلزمة للحدوث في نفس الأمر، فإنّ ذلك أقوى في استدراجه إلى التّسليم من حيث لا يشعر به.

الثّالثة: الاحتراز عن التّكرار؛ إذ قد حكم فيما بعد بحدوثه.

الرّابعة: أنّ الإنزال أدخل في كون القرآن نعمة علينا و أقرب إلينا؛ لتأخّره عن الخلق.

الخامسة: أنّ الحمد على إنزاله وارد فيه دون الحمد على خلقه.

السّادسة: أنّ «أنزل» أحسن التئاما مع «نزل» لما بينهما من الصّنعة الاشتقاقيّة.

السّابعة: أنّ في الجمع بين الإنزال و التّنزيل إشارة إلى كيفيّة النّزول، على ما روي من أنّ القرآن أنزل جملة من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، و أمر السّفرة الكرام بانتساخه، ثمّ نزل إلى الأرض نجوما في ثلاث و عشرين سنة، و ذلك

أنّ الإنزال و إن كان مطلقا لكنّه إذا قوبل بالتّنزيل الدّال هاهنا على التّدريج فيما بين أجزاء القرآن، إمّا لدلالته على التّكثير، و إمّا لما قيّد به من التّنجيم، تبادر منه الإنزال دفعة.-

نصوص في علوم القرآن، ص: 91

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ ... البقرة/ 23

فإن قلت: لم قيل (ممّا نزّلنا) على لفظ التّنزيل دون الإنزال؟

قلت: لأنّ المراد النّزول على سبيل التّدريج و التّنجيم، و هو من محازّه «1» لمكان التّحدّي، و ذلك أنّهم كانوا يقولون: لو كان هذا من عند اللّه مخالفا؛ لما يكون من عند النّاس لم ينزّل هكذا نجوما، سورة بعد سورة و آيات غبّ آيات على حسب النّوازل، و كفاء الحوادث، و على سنن ما نرى عليه أهل الخطابة و الشّعر من وجود ما يوجد منهم مفرّقا، حينا فحينا، شيئا فشيئا، حسب ما يعنّ لهم من الأحوال المتجدّدة و الحاجات السّانحة، لا يلقى النّاظم ديوان شعره دفعة و لا يرمي النّاثر بمجموع خطبة أو رسالة ضربة، فلو أنزله اللّه لأنزله خلاف هذه العادة جملة واحدة؛ قال اللّه تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «2».

فقيل: إن ارتبتم في هذا الّذي وقع إنزاله هكذا على مهل و تدريج، فهاتوا أنتم نوبة

______________________________

- فإن قلت: الموصوف بالحركة حقيقة هو المتحيّز بالذّات من الجواهر الأفراد و ما يتركّب منها دون الأعراض، فإنّه يمتنع فيها ذلك سواء كانت أجزاؤها مجتمعة كاللّون، أو سيّالة كالصّوت الّذي هو جنس الكلام، فكيف يتصوّر إنزال القرآن و تنزيله مع أنّهما تحريك من علوّ إلى أسفل؟

قلت: ذلك مبنيّ على متعارف أهل اللّغة؛ حيث يصفون الكلام بما يوصف به مبلغه، فيقولون: نزل إلينا من القصر حكم الأمير، و كلامه على سبيل الإسناد المجازيّ،

و صاحب «الكشف» جعل وصفه بالتّنزيل من هذا القبيل، و حمل الإنزال على إظهاره في اللّوح المحفوظ، زاعما أنّ للقرآن حركة معنويّة و هي الظّهور بعد الكمون لا زمانا بل ذاتا، و أنّ تلك الحركة من الأعلى رتبة و شرفا؛ لأنّ علوّ مرتبة واجب الوجود تعالى و القلم الأعلى على اللّوح لا يخفى، و تفسير كلامه على ما نقل عنه، أنّ القرآن كان كامنا في العلم الإلهيّ، ثمّ أظهره اللّه تعالى بواسطة القلم الّذي هو العقل الأوّل في اللّوح المحفوظ الّذي هو نفس الكلّ، و هذا الظّهور ليس بزمانيّ؛ لأنّ الزّمان مقدار حركة الفلك الأعظم، و هو متأخّر عمّا ذكر بمراتب.

و يرد عليه أنّه مبنيّ على قواعد الفلسفة، و أنّ كونه في علم اللّه لا بدّ أن يكون أزليّا، فإذا لم يتأخّر الظّهور في اللّوح عن الكمون زمانا بل ذاتا كان أزليّا؛ إذ لو كان حادثا لكان متأخّرا زمانا اتّفاقا، فيلزم قدم اللّوح و القلم، و ذلك باطل قطعا. (هامش الكشاف 1: 3- 4)

(1)- المحازّ: جمع محزّ من الحزّ بمعنى القطع، أي هذا المقام من المواضع الّتي تناسب اعتبار التّدريج في النّزول، و استعمال لفظ التّنزيل لمكان التّحدّي.

(2)- الفرقان/ 31.

نصوص في علوم القرآن، ص: 92

واحدة من نوبة، و هلمّوا نجما فردا من نجومه سورة من أصغر السّور، أو آيات شتّى مفتريات، و هذه غاية التّبكيت، و منتهى إزاحة العلل. (1: 238- 239).

وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ ... النّحل/ 101

فإن قلت: هل في ذكر تبديل الآية بالآية دليل على أنّ القرآن إنّما ينسخ بمثله، و لا يصحّ بغيره من السّنّة و الإجماع و القياس؟

قلت فيه: أنّ قرآنا ينسخ بمثله، و ليس فيه نفي نسخه بغيره، على أنّ السّنّة المكشوفة المتواترة مثل

القرآن في إيجاب العلم، فنسخه بها كنسخه بمثله.

و أمّا الإجماع و القياس و السّنّة غير المقطوع بها فلا يصحّ نسخ القرآن بها، في «ينزّل» و «نزّله». و ما فيهما من التّنزيل شيئا فشيئا على حسب الحوادث و المصالح، إشارة إلى أنّ التّبديل من باب المصالح كالتّنزيل، و أنّ ترك النّسخ بمنزلة إنزاله دفعة واحدة في خروجه عن الحكمة. (2: 428)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ ... الفرقان/ 31

(نزّل) هاهنا بمعنى «أنزل» لا غير، كخبّر بمعنى أخبر، و إلّا كان متدافعا. و هذا أيضا من اعتراضاتهم و اقتراحاتهم الدّالّة على شرادهم «1» عن الحقّ، و تجافيهم عن أتباعه؛ قالوا:

هلّا أنزل عليه دفعة واحدة، في وقت واحد كما أنزلت الكتب الثّلاثة، و ماله أنزل على التّفاريق؟ و القائلون قريش، و قيل: اليهود، و هذا فضول من القول و مماراة بما لا طائل تحته؛ لأنّ أمر الإعجاز و الاحتجاج به لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو مفرّقا.

و قوله: كَذلِكَ جواب لهم، أي كذلك أنزل مفرّقا، و الحكمة فيه أن نقوّي بتفريقه فؤادك حتّى تعيه و تحفظه؛ لأنّ المتلقّن إنّما يقوي قلبه على حفظ العلم شيئا بعد شي ء و جزءا عقيب جزء، و لو ألقي عليه جملة واحدة لبعل «2» به و تعيّا بحفظه. و الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم

______________________________

(1)- شرادهم (بضمّ الشّين و كسرها)، أي خروجهم.

(2)- أي تحيّر.

نصوص في علوم القرآن، ص: 93

فارقت حاله حال موسى و داود و عيسى عليهم السّلام؛ حيث كان أمّيا لا يقرأ و لا يكتب، و هم كانوا قارئين كاتبين، فلم يكن له بدّ من التّلقّن و التّحفّظ، فأنزل عليه منجّما في عشرين سنة، و قيل: في ثلاث و عشرين. و أيضا فكان ينزل على حسب الحوادث و

جوابات السّائلين، و لأنّ بعضه منسوخ و بعضه ناسخ و لا يتأتّى ذلك إلّا فيما أنزل مفرّقا.

فإن قلت: ذلك في كَذلِكَ يجب أن يكون إشارة إلى شي ء تقدّمه، و الّذي تقدّم هو إنزاله جملة واحدة، فكيف فسّرته ب (كذلك) أنزلناه مفرّقا؟

قلت: لأنّ قولهم: لو لا أنزل عليه جملة، معناه لم أنزل مفرّقا، و الدّليل على فساد هذا الاعتراض أنّهم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه، و تحدّوا بسورة واحدة من أصغر السّور، فأبرزوا صفحة عجزهم، و سجّلوا به على أنفسهم حين لاذوا بالمناصبة، و فزعوا إلى المحاربة، ثمّ قالوا: هلّا نزل جملة واحدة؟ كأنّهم قدروا على تفاريقه حتّى يقدروا على جملته.

وَ رَتَّلْناهُ: معطوف على الفعل الّذي تعلّق به «كذلك» كأنّه قال: كذلك فرّقناه و رتّلناه، و معنى ترتيله أن قدّره آية بعد آية، و وقفة عقيب وقفة ... [إلى أن قال:].

و قيل: هو أن نزّله- مع كونه متفرّقا- على تمكّث و تمهّل في مدّة متباعدة، و هي عشرون سنة، و لم يفرّقه في مدّة متقاربة. (3: 90- 91)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ الدّخان/ 3

فإن قلت: ما معنى إنزال القرآن في هذه اللّيلة؟

قلت: قالوا: أنزل جملة واحدة من السّماء السّابعة إلى السّماء الدّنيا، و أمر السّفرة الكرام بانتساخه في ليلة القدر، و كان جبريل عليه السّلام، ينزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم نجوما نجوما.

فإن قلت: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ما موقع هاتين الجملتين؟

قلت: هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان، فسّر بهما جواب القسم الّذي هو قوله تعالى:

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ. كأنّه قيل: أنزلناه؛ لأنّ من شأننا الإنذار و التّحذير من العقاب، و كان إنزالنا إيّاه في هذه اللّيلة خصوصا؛ لأنّ إنزال القرآن من

الأمور الحكيمة،

نصوص في علوم القرآن، ص: 94

و هذه اللّيلة مفرّق كلّ أمر حكيم. و المباركة: الكثيرة الخير؛ لما يتيح اللّه فيها من الأمور الّتي يتعلّق بها منافع العباد في دينهم و دنياهم، و لو لم يوجد فيها إلّا إنزال القرآن وحده لكفى به بركة. و معنى يفرق يفصل و يكتب كلّ أمر حكيم من أرزاق العباد و آجالهم و جميع أمورهم منها إلى الأخرى القابلة.

و قيل: يبدأ في استنساخ ذلك من اللّوح المحفوظ في ليلة البراءة، و يقع الفراغ في ليلة القدر، فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، و نسخة الحروب إلى جبريل، و كذلك الزّلازل و الصّواعق و الخسف، و نسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدّنيا، و هو ملك عظيم، و نسخة المصائب إلى ملك الموت. (3: 500)

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ... الأعلى/ 6

بشّره اللّه بإعطاء آية بيّنة، و هي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي- و هو أمّيّ لا يكتب و لا يقرأ- فيحفظه و لا ينساه.

إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ: فذهب به عن حفظه برفع حكمه و تلاوته، كقوله: أَوْ نُنْسِها: و قيل: كان يعجّل بالقراءة إذا لقّنه جبريل، فقيل: فَلا تَعْجَلْ، فإنّ جبريل مأمور بأن يقرأه عليك قراءة مكرّرة إلى أن تحفظه، ثمّ لا تنساه إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ثمّ تذكّره بعد النّسيان. أو قال: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، يعني القلّة و النّدرة كما روي أنّه أسقط آية في قراءته في الصّلاة فحسب أبيّ أنّها نسخت فسأله فقال: نسيتها، أو قال: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ و الغرض نفي النّسيان رأسا، كما يقول الرّجل لصاحبه: أنت سهيمي فيما أملك إلّا فيما شاء اللّه، و لا يقصد استثناء شي ء، و هو من استعمال القلّة في

معنى النّفي. و قيل: قوله:

فَلا تَنْسى على النّهي، و الألف مزيدة للفاصلة كقوله: السَّبِيلَا يعنى فلا تغفل قراءته و تكريره فتنساه إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة.

إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ يعني إنّك تجهر بالقراءة مع قراءة جبريل عليه السّلام مخافة التّفلّت، و اللّه يعلم جهرك معه و ما في نفسك ممّا يدعوك إلى الجهر، فلا تفعل، فأنا أكفيك ما تخافه أو يعلم ما أسررتم و ما أعلنتم من أقوالكم و أفعالكم، و ما ظهر و بطن من أحوالكم، و ما هو

نصوص في علوم القرآن، ص: 95

مصلحة لكم في دينكم و مفسدة فيه، فينسى من الوحي ما يشاء و يترك محفوظا ما يشاء.

وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى معطوف على سَنُقْرِئُكَ، و قوله: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى اعتراض، و معناه و نوفّقك للطّريقة الّتي هي أيسر و أسهل، يعني حفظ الوحي.

و قيل: للشّريعة السّمحة الّتي هي أيسر الشّرائع و أسهلها مأخذا. (4: 243)

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ ... القيامة/ 16- 20

الضّمير في بِهِ للقرآن، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إذا لقّن الوحي نازع جبريل القراءة، و لم يصبر إلى أن يتمّها؛ مسارعة إلى الحفظ، و خوفا أن يتفلّت منه. فأمر بأن يستنصت له ملقيا إليه بقلبه و سمعه، حتّى يقضى إليه وحيه، ثمّ يقفّيه بالدّراسة إلى أن يرسخ فيه.

و المعنى لا تحرّك لسانك بقراءة الوحي ما دام جبريل صلوات اللّه عليه يقرأ، لِتَعْجَلَ بِهِ: لتأخذه على عجلة، و لئلّا يتفلّت منك، ثمّ علّل النّهي عن العجلة بقوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ في صدرك، و إثبات قراءته في لسانك. فَإِذا قَرَأْناهُ: جعل قراءة جبريل قراءته، و القرآن: القراءة. فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ: فكن مقفّيا له فيه، و لا تراسله، وطأ من

نفسك أنّه لا يبقى غير محفوظ، فنحن في ضمان تحفيظه. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ إذا أشكل عليك شيئا من معانيه، كأنّه كان يعجل في الحفظ و السّؤال عن المعنى جميعا، كما ترى بعض الحرّاص على العلم، و نحوه: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ «1». كلّا:

ردع لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عن عادة العجلة، و إنكار لها عليه، و حثّ على الأناة و التّؤدة. و قد بالغ في ذلك باتباعه قوله: بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ، كأنّه قال: بل أنتم يا بني آدم! لأنّكم خلقتم من عجل، و طبعتم عليه، تعجلون في كلّ شي ء، و من ثمّ تحبّون العاجلة. (4: 191- 192)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ... القدر: 1

عظّم القرآن من ثلاثة أوجه: أحدها: أن أسند إنزاله إليه و جعله مختصّا به دون غيره.

و الثّاني: أنّه جاء بضميره دون اسمه الظّاهر شهادة له بالنّباهة و الاستغناء عن التّنبيه عليه.

______________________________

(1)- طه/ 114.

نصوص في علوم القرآن، ص: 96

و الثّالث: الرّفع من مقدار الوقت الّذي أنزل فيه. روي أنّه نزل جملة واحدة في ليلة القدر من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، و أملأه جبريل على السّفرة، ثمّ كان ينزّله على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم نجوما في ثلاث و عشرين سنة. و عن الشّعبيّ، المعنى إنّا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر.

و اختلفوا في وقتها فأكثرهم على أنّها في شهر رمضان في العشر الأواخر في أوتارها. و أكثر القول أنّها السّابعة منها ... (4: 273)

نصوص في علوم القرآن، ص: 97

الفصل الثّاني عشر نصّ الطّبرسيّ (م: 548 ه) في تفسيره «مجمع البيان»

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ البقرة/ 185

اختلف في قوله: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ؛

فقيل: إنّ اللّه أنزل جميع القرآن في ليلة القدر إلى السّماء الدّنيا، ثمّ أنزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد ذلك نجوما في طول عشرين سنة، عن ابن عبّاس و سعيد بن جبير و الحسن و قتادة، و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و قيل: إنّ اللّه تعالى ابتدأ إنزاله في ليلة القدر من شهر رمضان، عن ابن إسحاق.

و قيل: إنّه كان ينزّل إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر، ما يحتاج إليه في تلك السّنة، جملة واحدة، ثمّ ينزّل إلى مواقع النّجوم إرسالا في الشّهور و الأيّام.

عن السّدّيّ بسنده إلى ابن عبّاس، و رواه الثّعلبيّ بإسناده عن أبي ذر الغفّاريّ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أنزلت صحف إبراهيم ...» [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:].

و هذا بعينه رواه

العيّاشيّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن آبائه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و قيل: المراد بقوله: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أنّه نزل في فرضه و إيجاب صومه على الخلق القرآن، فيكون فيه بمعنى في فرضه، كما يقول القائل: أنزل اللّه تعالى في الزّكاة كذا، يريد في فرضها. (1: 276)

نصوص في علوم القرآن، ص: 98

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ... الإسراء/ 106

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ، أي و أنزلنا عليك يا محمّد قرآنا فصّلناه سورا و آيات، عن أبي مسلم. و قيل: معناه فرقنا به الحقّ عن الباطل، عن الحسن. و قيل: معناه جعلنا بعضه خبرا و بعضه أمرا، و بعضه نهيا، و بعضه وعدا، و بعضه وعيدا، و أنزلناه متفرّقا، لم ننزّله جميعا؛ إذ كان بين أوّله و آخره نيف و عشرون سنة.

لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ، أي تثبّت و تؤدة، فترتّله ليكون أمكن في قلوبهم، و يكون أقدر على التّأمّل و التّفكّر فيه، و لا تعجل في تلاوته فلا يفهم عنك، عن ابن عبّاس و مجاهد. و قيل: معناه لتقرأه عليهم مفرّقا شيئا بعد شي ء.

وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا: على حسب الحاجة و وقوع الحوادث. (3: 445)

وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ... طه/ 114

فيه وجوه؛

أحدها: أنّ معناه لا تعجل بتلاوته قبل أن يفرغ جبرائيل عليه السّلام من إبلاغه، فإنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقرأ معه، و يعجل بتلاوته مخافة نسيانه. أي تفهم ما يوحى إليك إلى أن يفرغ الملك من قراءته، و لا تقرأ معه، ثمّ اقرأ بعد فراغه منه. و هذا كقوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ «1»، عن ابن عبّاس و الحسن و الجبّائيّ.

و ثانيها: إنّ معناه و لا تقرأ لأصحابك و لا تمله عليهم حتّى تبيّن لك معانيه، عن مجاهد و قتادة و عطيّة و أبي مسلم.

و ثالثها: أنّ معناه و لا تسأل إنزال القرآن قبل أن يأتيك وحيه؛ لأنّه تعالى إنّما ينزّله بحسب المصلحة وقت الحاجة. (4: 32)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ... الفرقان: 32

______________________________

(1)- القيامة/ 16.

نصوص في علوم القرآن، ص: 99

معناه و قال الكفّار لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: هل أتيتنا بالقرآن جملة واحدة كما أنزلت التّوراة و الإنجيل و الزّبور جملة واحدة؟ قال اللّه تعالى: كَذلِكَ، أي نزّلناه كذلك متفرّقا.

لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ، أي لنقوّي به قلبك فتزداد بصيرة، و ذلك أنّه إذا كان يأتيه الوحي متجدّدا في كلّ حادثة و كلّ أمر كان ذلك أقوى لقلبه و أزيد في بصيرته.

و قيل: إنّما أنزلت الكتب جملة واحدة؛ لأنّها نزلت على الأنبياء ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّوسيّ]. وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا، أي بيّنّاه تبيينا و رسّلناه ترسيلا بعضه في أثر بعض، عن ابن عبّاس و مجاهد و قتادة.

و قيل: فصّلناه تفصيلا، عن السّدّيّ. و قيل: فرّقناه تفريقا، عن النّخعيّ. و روي أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «يا ابن عبّاس! إذا قرأت القرآن فرتّله ترتيلا قال: و ما التّرتيل؟ قال: بيّنه

تبيينا، و لا تنثّره نثر الدّقل، و لا تهذّه هذّا الشّعر، قفوا عند عجائبه، و حرّكوا به القلوب و لا يكوننّ همّ أحدكم آخر السّورة». (4: 169- 170)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ... الدّخان/ 3

إِنَّا أَنْزَلْناهُ، أي إنّا أنزلنا القرآن، و اللّيلة المباركة هي ليلة القدر، عن ابن عبّاس و قتادة و ابن زيد؛ و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و قيل: هي ليلة النّصف من شعبان، عن عكرمة. و الأصحّ الأوّل، و يدلّ عليه قوله:

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1»، و قوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2».

و اختلف في كيفيّة إنزاله؛ فقيل: أنزل إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر، ثمّ أنزل نجوما إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و قيل: إنّه كان ينزّل جميع ما يحتاج في كلّ سنة في تلك اللّيلة، ثمّ كان ينزلها جبرائيل شيئا فشيئا وقت وقوع الحاجة إليه.

و قيل: كان بدء إنزاله في ليلة القدر. و روي عن ابن عبّاس أنّه قال: قد كلّم اللّه

______________________________

(1)- القدر/ 1.

(2)- البقرة/ 185.

نصوص في علوم القرآن، ص: 100

جبرائيل في ليلة واحدة و هي ليلة القدر، فسمعه جبرائيل و حفظه بقلبه، و جاء به إلى السّماء الدّنيا إلى الكتبة و كتبوه، ثمّ نزّل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالنّجوم في ثلاث و عشرين سنة، و قيل: في عشرين سنة. (5: 61)

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... القيامة/ 16- 19

... خاطب سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ؛ قال ابن عبّاس:

كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا نزل عليه القرآن عجّل بتحريك لسانه؛ لحبّه إيّاه و حرصه على أخذه و ضبطه مخافة أن ينساه، فنهاه اللّه عن ذلك.

و في رواية سعيد بن جبير عنه أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يعاجل من التّنزيل شدّة، و كان يشتدّ عليه حفظه، فكان يحرّك لسانه و شفتيه قبل فراغ جبريل من

قراءة الوحي، فقال سبحانه:

لا تُحَرِّكْ بِهِ أي بالوحي، أو بالقرآن لِسانَكَ، يعني بالقراءة، لِتَعْجَلَ بِهِ أي لتأخذه. كما قال: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ «1» إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ في صدرك حتّى تحفظه، وَ قُرْآنَهُ أي و تأليفه على ما نزل عليك، عن قتادة.

و قيل: معناه إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ عليك حتّى تحفظه و يمكنك تلاوته، فلا تخف فوت شي ء منه، عن ابن عبّاس و الضّحّاك!.

فَإِذا قَرَأْناهُ، أي قرأه جبريل عليك بأمرنا فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، أي قراءته، عن ابن عبّاس. و المعنى أقرأه إذا فرغ جبريل عن قراءته. قال: فكان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد هذا إذا نزل عليه جبريل عليه السّلام أطرق، فإذا ذهب قرأ.

و قيل: فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، أي فاعمل بما فيه من الأحكام و الحلال و الحرام، عن قتادة و الضّحّاك.

و قال البلخيّ: الّذي اختاره أنّه لم يرد القرآن، و إنّما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة. يدلّ على ذلك ما قبله و ما بعده، و ليس فيه شي ء يدلّ على أنّه القرآن، و لا شي ء من أحكام الدّنيا، و في ذلك تقريع للعبد و توبيخ له حين لا تنفعه العجلة. يقول: لا تحرّك

______________________________

(1)- طه/ 114.

نصوص في علوم القرآن، ص: 101

لسانك بما تقرأه من صحيفتك الّتي فيها أعمالك، يعني اقرأ كتابك و لا تعجل، فإنّ هذا الّذي هو على نفسه بصيرة إذا رأى سيّئاته ضجر و استعجل، فيقال له توبيخا: لا تعجل و تثبّت؛ لتعلم الحجّة عليك فإنّا نجمعها لك، فإذا جمعناه فاتّبع ما جمع عليك بالانقياد لحكمه و الاستسلام للتّبعة فيه، فإنّه لا يمكنك إنكاره. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ لو أنكرت.

و قال الحسن: معناه ثمّ

إنّ علينا بيان ما أنبأناك أنّا فاعلون في الآخرة و تحقيقه.

و قيل: يريد إنّا نبيّن لك معناه إذا حفظته، عن قتادة.

و قيل: معناه ثمّ إنّ علينا أن نحفظه عليك، حتّى تبيّن للنّاس بتلاوتك إيّاه عليهم.

و قيل: معناه علينا أن ننزّله قرآنا عربيّا فيه بيان للنّاس، عن الزّجّاج.

و في هذا دلالة على أنّه لا تعمية في القرآن و لا ألغاز و لا دلالة فيه على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، و إنّما يدلّ على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب. (5: 397)

فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ... الواقعة/ 75- 78

و اختلف في معنى مواقع النّجوم، فقيل: هي مطالع النّجوم و مساقطها، عن مجاهد و قتادة. و قيل: انكدارها، و هو انتشارها يوم القيامة، عن الحسن. و قيل: هي الأنواء الّتي كان أهل الجاهليّة إذا مطروا قالوا: مطرنا بنوء كذا، فيكون المعنى فلا أقسم بها.

و روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام: «إنّ مواقع النّجوم رجومها للشّياطين، و كان المشركون يقسمون بها، فقال سبحانه: فلا أقسم بها» و قيل: معناه أقسم بنزول القرآن، فإنّه نزل متفرّقا قطعا نجوما، عن ابن عبّاس.

وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ: قال الزّجّاج و الفرّاء: و هذا يدلّ على أنّ المراد بمواقع النّجوم نزول القرآن، و الضّمير في إِنَّهُ يعود إلى القسم، و دلّ عليه قوله:

أُقْسِمُ، و المعنى أنّ القسم بمواقع النّجوم لقسم عظيم لو تعلمون، ففصل بين الصّفة و الموصوف بالجملة.

ثمّ ذكر المقسم به فقال: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، معناه إنّ الّذي تلوناه عليك لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، أي عامّ المنافع كثير الخير، ينال الأجر العظيم بتلاوته و العمل بما فيه.

نصوص في علوم القرآن، ص: 102

و قيل: كَرِيمٌ عند اللّه تعالى، أكرمه اللّه تعالى و أعزّه

لأنّه كلامه، عن مقاتل.

و قيل: كَرِيمٌ لأنّه كلام ربّ العزّة، و لأنّه محفوظ عن التّغيير و التّبديل، و لأنّه معجز، و لأنّه يشتمل على الأحكام و المواعظ و كلّ جليل خطير و عزيز فهو كريم. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ، أي مستور من خلقه عند اللّه، و هو اللّوح المحفوظ أثبت اللّه فيه القرآن، عن ابن عبّاس. و قيل: هو المصحف الّذي في أيدينا، عن مجاهد. (5: 226)

فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ* مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ* بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ... عبس/ 13- 17

أخبر سبحانه بجلالة قدر القرآن عنده فقال: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، أي هذا القرآن أو هذه التّذكرة في كتب معظّمة عند اللّه، و هي اللّوح المحفوظ، عن ابن عبّاس.

و قيل: يعني كتب الأنبياء المنزّلة عليهم، كقوله: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى «1».

مَرْفُوعَةٍ في السّماء السّابعة، و قيل: مرفوعة قد رفعها اللّه عن دنس الأنجاس.

مُطَهَّرَةٍ: لا يمسّها إلّا المطهّرون.

و قيل: مصونة عن أن تنالها أيدي الكفرة؛ لأنّها في أيدي الملائكة في أعزّ مكان، عن الجبّائيّ.

و قيل: مطهّرة من كلّ دنس، عن الحسن.

و قيل: مطهّرة من الشّكّ و الشّبهة و التّناقض. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ يعني الكتبة من الملائكة، عن ابن عبّاس و مجاهد.

و قيل: يعني السّفراء بالوحي بين اللّه تعالى و بين رسله، من السّفارة. و قال قتادة: هم القرّاء يكتبونها و يقرءونها.

و روى فضيل بن يسار عن الصّادق عليه السّلام، قال: «الحافظ للقرآن، العامل به مع السّفرة الكرام البررة» ثمّ أثنى عليهم، فقال: كرام على ربّهم بَرَرَةٍ مطيعين.

و قيل: كرام عن المعاصي يرفعون أنفسهم عنها بَرَرَةٍ أي صالحين متّقين.

و قال مقاتل: كان القرآن ينزل من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا ليلة القدر إلى

______________________________

(1)- الأعلى/ 18.

نصوص في علوم القرآن، ص: 103

الكتبة من الملائكة، ثمّ ينزل به جبريل عليه السّلام إلى النّبيّ صلّى

اللّه عليه و آله. ثمّ ذكر سبحانه المكذّبين بالقرآن فقال: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ. (5: 438)

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى* إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ... الأعلى/ 6- 7

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى، أي سنأخذ عليك قراءة القرآن فلا تنسى ذلك.

و قيل: معناه سيقرأ عليك جبريل القرآن بأمرنا فتحفظه و لا تنساه. و قال ابن عبّاس:

كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا نزل عليه جبرائيل عليه السّلام بالوحي يقرأه؛ مخافة أن ينساه، فكان لا يفرغ جبرائيل عليه السّلام من آخر الوحي حتّى يتكلّم هو بأوّله، فلمّا نزلت هذه الآية لم ينس بعد ذلك شيئا. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن ينسيكه بنسخه من رفع حكمه و تلاوته، عن الحسن و قتادة.

و على هذا فالإنشاء نوع من النّسخ، و قد مرّ بيانه في سورة البقرة عند قوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها الآية.

و قيل: معناه إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن يؤخّر إنزاله عليك فلا تقرأه.

و قيل: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ كالاستثناء في الإيمان، و إن لم يقع منه مشيئة النّسيان.

قال الفرّاء: لم يشأ اللّه أن ينسى عليه السّلام شيئا، فهو كقوله: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ «1» و لا يشاء، و كقول القائل: «لأعطينّك كلّ ما سألت إلّا ما شئت، و إلّا أن أشاء أن أمنعك» و النّيّة أن لا يمنعه، و مثله الاستثناء في الإيمان. ففي الآية بيان لفضيلة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و إخبار أنّه مع كونه صلّى اللّه عليه و آله أمّيّا كان يحفظ القرآن، و أنّ جبرائيل عليه السّلام كان يقرأ عليه سورة طويلة فيحفظه بمرّة واحدة ثمّ لا ينساه، و هذه دلالة على الإعجاز الدّال على نبوّته.

إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى معناه إنّ اللّه سبحانه

يعلم العلانية و السّرّ و الجهر: رفع الصّوت، و نقيضه الهمس، و المعنى أنّه سبحانه يحفظ عليك ما جهرت به، و ما أخفيته ممّا تريد أن تعيه. وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى اليسرى هي الفعلى من اليسر، و هو سهولة عمل الخير.

و المعنى نوفّقك للشّريعة اليسرى، و هي الحنيفيّة، و نهوّن عليك الوحي و نسهّله، حتّى

______________________________

(1)- هود/ 108.

نصوص في علوم القرآن، ص: 104

تحفظه و لا تنساه، و تعمل به و لا تخالفه ... (5: 475)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ القدر/ 1

إِنَّا أَنْزَلْناهُ: الهاء كناية عن القرآن و إن لم يجر له ذكر؛ لأنّه لا يشتبه الحال فيه.

فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: قال ابن عبّاس: أنزل اللّه القرآن جملة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر، ثمّ كان ينزّله جبرئيل عليه السّلام على محمّد صلّى اللّه عليه و آله نجوما، و كان من أوّله إلى آخره ثلاث و عشرون سنة.

و قال الشّعبيّ: معناه إنّا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر.

و قال مقاتل: أنزله من اللّوح المحفوظ إلى السّفرة، و هم الكتبة من الملائكة في السّماء الدّنيا، و كان ينزل ليلة القدر من الوحي على قدر ما ينزل به جبرائيل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في السّنة كلّها إلى مثلها من القابل. (5: 518)

و نصّه أيضا في «تفسير جوامع الجامع»
وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ طه/ 114

لمّا ذكر القرآن و إنزاله قال على سبيل الاستطراد: و إذا لقّنك جبرئيل الوحي ف لا تَعْجَلْ بتلاوته قبل أن يفرغ من قراءته و لا تكن قراءتك مساوقة لقراءته، و نحوه لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. و قيل: معناه لا تقرئه أصحابك حتّى يبيّن لك ما كان مجملا.

و استزد من اللّه- سبحانه- علما إلى علمك وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً إلى علم. (2: 438)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً الفرقان/ 32

نُزِّلَ هنا بمعنى أنزل كخبّر و أخبر، أي هلّا أنزل عليه القرآن دفعة ... [و ذكر كما تقدّم عن الكشّاف]. (3: 136)

نصوص في علوم القرآن، ص: 105

وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ الشّعراء/ 191- 195

وَ إِنَّهُ: الضّمير للقرآن، و المراد بالتّنزيل: المنزّل. و قرئ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ و «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ»، و الباء في كلتا القراءتين للتّعدية، أي جعل اللّه الرّوح الأمين نازلا به عَلى قَلْبِكَ، أي حفّظك و فهّمك إيّاه، و أثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى، كقوله:

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى «1». بِلِسانٍ الباء يتعلّق ب الْمُنْذِرِينَ أي لتكون من الّذين أنذروا بهذا اللّسان، و هم خمسة: هود و صالح و شعيب و إسماعيل و محمّد (صلوات اللّه عليهم أجمعين) أو يتعلّق ب «نزّل» فيكون المعنى: نزّله باللّسان العربيّ لتنذر به، لأنّه لو نزّله باللّسان الأعجميّ لقالوا: ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذّر الإنذار به، و في هذا الوجه أنّ تنزيله بالعربيّة الّتي هي لسانك و لسان قومك تنزيل له على قلبك، لأنّك تفهمه و تفهّمه قومك، و لو كان أعجميّا لكان نازلا على سمعك دون قلبك، فكنت تسمع أجراس الحروف لا تفهم معانيها، و لا تعيها. وَ إِنَّهُ يعني: القرآن لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ يعني ذكره مثبت في سائر الكتب السّماويّة على وجه البشارة به و بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله. و قيل: إنّ معانيه من الدّعاء إلى التّوحيد و غيره فيها. (3: 170- 171)

______________________________

(1)- الأعلى/ 7.

نصوص في علوم القرآن، ص: 106

الفصل الثّالث عشر نصّ ابن الجوزيّ (م: 597 ه) في كتابه: «زاد المسير في علم التّفسير»

مدّة نزول القرآن

روى عكرمة عن ابن عبّاس، قال: أنزل القرآن جملة واحدة من اللّوح المحفوظ في ليلة القدر إلى «بيت العزّة»، ثمّ أنزل بعد ذلك في عشرين سنة.

و قال الشّعبيّ: فرّق اللّه تنزيل القرآن، فكان بين أوّله و آخره عشرون سنة. و قال الحسن: ذكر لنا أنّه كان بين أوّله و آخره ثماني عشرة سنة، أنزل عليه بمكّة ثماني سنين.

(1: 5)

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ البقرة/ 185

فيه ثلاثة أقوال؛

أحدها: أنّه أنزل القرآن فيه جملة واحدة، و ذلك في ليلة القدر إلى بيت العزّة من السّماء الدّنيا، قاله ابن عبّاس.

و الثّاني: أنّ معناه أنزل القرآن بفرض صيامه، روي عن مجاهد و الضّحّاك.

و الثّالث: أنّ معناه إنّ القرآن ابتدئ بنزوله فيه على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم قاله ابن إسحاق و أبو

نصوص في علوم القرآن، ص: 107

سليمان الدّمشقيّ. (1: 187)

وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ... طه/ 114

في سبب نزولها قولان؛

أحدهما: أنّ جبريل كان يأتي النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بالسّورة و الآي فيتلوها عليه، فلا يفرغ جبريل من آخرها حتّى يتكلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بأوّلها مخافة أن ينساها، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عبّاس.

و الثّاني: أنّ رجلا لطم امرأته، فجاءت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم تطلب القصاص، فجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بينهما القصاص، فنزلت هذه الآية، فوقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حتّى نزل قوله تعالى:

الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ «1» قاله الحسن البصريّ.

قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، و قرأ ابن مسعود و الحسن و يعقوب:

«نقضي» بالنّون و كسر الضّاد و فتح الياء «وحيه» بنصب الياء. و في معنى الكلام ثلاثة أقوال ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبرسيّ] (5: 325- 326)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ... الدّخان/ 3

إِنَّا أَنْزَلْناهُ: و الهاء كناية عن الكتاب و هو القرآن. فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، و فيها قولان؛

أحدهما: أنّها ليلة القدر، و هو قول الأكثرين.

و روى عكرمة عن ابن عبّاس، قال: أنزل القرآن من عند الرّحمن ليلة القدر جملة واحدة، فوضع في السّماء الدّنيا، ثمّ أنزل نجوما.

و قال مقاتل: نزل القرآن كلّه في ليلة القدر من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا.

و الثّاني: أنّها ليلة النّصف من شعبان، قاله عكرمة. (7: 336)

فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ الواقعة/ 75

______________________________

(1)- النّساء/ 34.

نصوص في علوم القرآن، ص: 108

و في «النّجوم» قولان؛

أحدهما: نجوم السّماء، قاله: الأكثرون، فعلى هذا في مواقعها ثلاثة أقوال. أحدها:

انكدارها و انتثارها يوم القيامة، قاله الحسن. و الثّاني: منازلها، قاله عطاء و قتادة. و الثّالث:

مغيبها في المغرب، قاله أبو عبيدة.

و الثّاني: أنّها نجوم القرآن، رواه ابن جبير عن ابن عبّاس. فعلى هذا سميّت نجوما لنزولها متفرّقة، و مواقعها: نزولها. (8: 151)

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... القيامة/ 16- 19

[بعد أن حكى رواية سعيد بن جبير حسب ما تقدّم عن الطّبرسيّ، قال:]

و معناه لا تحرّك بالقرآن لسانك لتعجل بأخذه. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ: قال ابن قتيبة: أي ضمّه و جمعه في صدرك. فَإِذا قَرَأْناهُ، أي جمعناه. فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، أي جمعه. قال المفسّرون: يعني اقرأ إذا فرغ جبريل من قراءته. قال ابن عبّاس: فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي اعمل به. و قال قتادة: فاتّبع حلاله و حرامه.

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ: فيه أربعة أقوال؛

أحدها: نبيّنه بلسانك، فتقرأه كما أقرأك جبريل. و كان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب، قرأه كما وعده اللّه، قاله ابن عبّاس.

و الثّاني: أنّ علينا أن نجزي به يوم القيامة بما فيه من وعد و وعيد، قاله الحسن.

و الثّالث: أنّ علينا بيان ما فيه من الأحكام و الحلال و الحرام، قاله قتادة.

و الرّابع: علينا أن ننزّله قرآنا عربيّا فيه بيان للنّاس، قاله الزّجّاج. (8: 421- 422)

نصوص في علوم القرآن، ص: 109

الفصل الرّابع عشر نصّ الفخر الرّازيّ (م: 606 ه) في «التّفسير الكبير»

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ البقرة/ 23

إنّما قال: نَزَّلْنا على لفظ التّنزيل دون الإنزال لأنّ المراد ... [و ذكر كما تقدّم مثله عن الزّمخشريّ، ثمّ قال:]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «1»، و اللّه سبحانه و تعالى ذكر هاهنا ما يدلّ على أنّ القرآن معجز مع ما يزيل هذه الشّبهة. و تقريره أنّ هذا القرآن النّازل على هذا التّدريج إمّا أن يكون من جنس مقدور البشر أو لا يكون، فإن كان الأوّل وجب إتيانهم بمثله أو بما يقرب منه على التّدريج، و إن كان الثّاني ثبت أنّه مع نزوله على التّدريج معجز. (2: 116)

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... البقرة/ 185

اعلم أنّه تعالى لمّا خصّ هذا الشّهر بهذه العبادة بيّن العلّة لهذا التّخصيص، و ذلك هو أنّ اللّه سبحانه خصّه بأعظم آيات الرّبوبيّة، و هو أنّه أنزل فيه القرآن، فلا يبعد أيضا تخصيصه بنوع عظيم من آيات العبوديّة و هو الصّوم. و ممّا يحقّق ذلك أنّ الأنوار الصّمديّة

______________________________

(1)- الفرقان/ 31.

نصوص في علوم القرآن، ص: 110

متجلّية أبدا يمتنع عليها الاختفاء و الاحتجاب، إلّا أنّ العلائق البشريّة مانعة من ظهورها في الأرواح البشريّة، و الصّوم أقوى الأسباب في إزالة العلائق البشريّة، و لذلك فإنّ أرباب المكاشفات لا سبيل لهم إلى التّوصّل إليها إلّا بالصّوم، و لهذا قال (عليه الصّلاة و السّلام):

«لو لا أنّ الشّياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السّماوات» فثبت أنّ بين الصّوم و بين نزول القرآن مناسبة عظيمة، فلمّا كان هذا الشّهر مختصّا بنزول القرآن وجب أن يكون مختصّا بالصّوم، و في هذا الموضع أسرار كثيرة، و القدر الّذي أشرنا إليه كاف هاهنا.

ثمّ هاهنا مسائل؛

المسألة الأولى: قوله تعالى: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ في تفسيره قولان؛ القول الأوّل:- و هو

اختيار الجمهور- أنّ اللّه تعالى أنزل القرآن في رمضان. عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم: «نزل صحف إبراهيم ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:]

و هاهنا سؤالات؛

السّؤال الأوّل: أنّ القرآن ما نزل على محمّد صلّى اللّه عليه و سلم دفعة، و إنّما نزل عليه في مدّة ثلاث و عشرين سنة منجّما مبعّضا، و كما نزل بعضه في رمضان نزل بعضه في سائر الشّهور، فما معنى تخصيص إنزاله برمضان؟

و الجواب عنه من وجهين؛ الأوّل: أنّ القرآن أنزل في ليلة القدر جملة إلى السّماء الدّنيا، ثمّ نزل إلى الأرض نجوما، و إنّما جرت الحال على هذا الوجه لما علمه تعالى من المصلحة على هذا الوجه، فإنّه لا يبعد أن يكون للملائكة الّذين هم سكّان سماء الدّنيا مصلحة في إنزال ذلك إليهم. أو كان في المعلوم أنّ في ذلك مصلحة للرّسول صلّى اللّه عليه و سلم في توقّع الوحي من أقرب الجهات. أو كان فيه مصلحة لجبريل عليه السّلام؛ لأنّه كان هو المأمور بإنزاله و تأديته، أمّا الحكمة في إنزال القرآن على الرّسول منجّما مفرّقا، فقد شرحناها في سورة الفرقان في تفسير قوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ «1».

______________________________

(1)- الفرقان/ 31. نصوص في علوم القرآن 111 شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن... البقرة/ 185 ..... ص : 109

نصوص في علوم القرآن، ص: 111

الجواب الثّاني: عن هذا السّؤال؛ أنّ المراد منه أنّه ابتدئ إنزاله ليلة القدر من شهر رمضان، و هو قول محمّد بن إسحاق، و ذلك لأنّ مبادئ الملل و الدّول هي الّتي يؤرّخ بها، لكونها أشرف الأوقات، و لأنّها أيضا أوقات مضبوطة

معلومة.

و اعلم أنّ الجواب الأوّل لا يحتاج فيه إلى تحمّل شي ء من المجاز، و هاهنا يحتاج، فإنّه لا بدّ على هذا الجواب من حمل القرآن على بعض أجزائه و أقسامه.

السّؤال الثّاني: كيف الجمع بين هذه الآية على هذا القول، و بين قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1»، و بين قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «2»؟

و الجواب: روي أنّ ابن عمر استدلّ بهذه الآية و بقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أنّ ليلة القدر لا بدّ و أن تكون في رمضان، و ذلك لأنّ ليلة القدر إذا كانت في رمضان كان إنزاله في ليلة القدر إنزالا له في رمضان، و هذا كمن يقول: لقيت فلانا في هذا الشّهر، فيقال له: في أيّ يوم منه، فيقول: يوم كذا. فيكون ذلك تفسيرا للكلام الأوّل، فكذا هاهنا.

السّؤال الثّالث: أنّ القرآن على هذا القول يحتمل أن يقال: إنّ اللّه تعالى أنزل كلّ القرآن من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر، ثمّ أنزله إلى محمّد صلّى اللّه عليه و سلم منجّما إلى آخر عمره، و يحتمل أيضا أن يقال: أنّه سبحانه كان ينزّل من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا من القرآن ما يعلم أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و سلم و أمّته يحتاجون إليه في تلك السّنة، ثمّ ينزّله على الرّسول على قدر الحاجة، ثمّ كذلك أبدا ما دام، فأيّهما أقرب إلى الصّواب؟

الجواب: كلاهما محتمل، و ذلك لأنّ قوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ يحتمل أن يكون المراد منه الشّخص، و هو رمضان معيّن، و أن يكون المراد منه النّوع، و إذا كان كلّ واحد منهما محتملا صالحا وجب التّوقّف.

القول الثّاني: في تفسير قوله تعالى:

أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، قال سفيان بن عيينة أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ معناه أنزل في فضله القرآن، و هذا اختيار الحسين بن الفضل.

قال ابن الأنباريّ: أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن، كما يقول: أنزل اللّه في

______________________________

(1)- القدر/ 1.

(2)- الدّخان/ 3.

نصوص في علوم القرآن، ص: 112

الزّكاة كذا و كذا، يريدون في إيجابها، و أنزل في الخمر كذا، يريد في تحريمها.

المسألة الثّانية: ... [ثمّ ذكر معنى القرآن و الاختلاف في اشتقاقه، بما لا حاجة إلى ذكره هنا].

المسألة الثّالثة: قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا أنّ التّنزيل مختصّ بالنّزول على سبيل التّدريج، و الإنزال مختصّ بما يكون النّزول فيه دفعة واحدة، و لهذا قال اللّه تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ «1». إذا ثبت هذا، فنقول: لمّا كان المراد هنا من قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ إنزاله من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، لا جرم ذكره بلفظ الإنزال دون التّنزيل، و هذا يدلّ على أنّ هذا القول راجح على سائر الأقوال.

(5: 92- 95)

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ... الإسراء/ 105

و فيه مباحث؛

البحث الأوّل: أنّ القوم قالوا: هب إنّ هذا القرآن معجز، إلّا أنّه بتقدير أن يكون الأمر كذلك، فكان من الواجب أن ينزّله اللّه عليك دفعة واحدة؛ ليظهر فيه وجه الإعجاز، فجعلوا إتيان الرّسول بهذا القرآن متفرّقا شبهة في أنّه يتفكّر في فصل فصل و يقرأه على النّاس، فأجاب اللّه عنه بأنّه إنّما فرّقه ليكون حفظه أسهل، و لتكون الإحاطة و الوقوف على دقائقه و حقائقه أسهل.

البحث الثّاني: قال سعيد بن جبير: نزل القرآن كلّه ليلة القدر من السّماء العليا إلى السّماء السّفلى، ثمّ

فصل في السّنين الّتي نزل فيها. قال قتادة: كان بين أوّله و آخره عشرون سنة. و المعنى قطعناه آية آية و سورة سورة و لم ننزّله جملة. لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ بالفتح و الضّمّ: على مهل و تؤدة، أي لا على فورة. قال الفرّاء: يقال: مكث

______________________________

(1)- آل عمران/ 3.

نصوص في علوم القرآن، ص: 113

و مكث يمكث، و الفتح قراءة عاصم في قوله: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ «1». (21: 68)

وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ... طه/ 114

فيه مسائل؛

المسألة الأولى: في تعلّقه بما قبله وجهان؛

الوجه الأوّل: قال أبو مسلم: إنّ من قوله: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ «2» إلى هاهنا يتمّ الكلام و ينقطع. ثمّ قوله: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ خطاب مستأنف، فكأنّه قال:

وَ يَسْئَلُونَكَ، وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ.

الوجه الثّاني: روي أنّه عليه السّلام كان يخاف من أن يفوته منه شي ء، فيقرأ مع الملك، فأمره بأن يسكت حال قراءة الملك، ثمّ يأخذ بعد فراغه في القراءة، فكأنّه تعالى شرح كيفيّة نفع القرآن للمكلّفين، و بيّن أنّه سبحانه متعال عن كلّ ما لا ينبغي، و أنّه موصوف بالإحسان و الرّحمة، و من كان كذلك وجب أن يصون رسوله عن السّهو و النّسيان في أمر الوحي، و إذ حصل الأمان عن السّهو و النّسيان قال: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ.

المسألة الثّانية: قوله: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ، و يحتمل أن يكون المراد لا تعجل بقراءته في نفسك، و يحتمل أن لا تعجل في تأديته إلى غيرك، و يحتمل في اعتقاد ظاهره، و يحتمل في تعريف الغير ما يقتضيه ظاهره.

و أمّا قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ فيحتمل أن يكون المراد من قبل أن يقضى إليك تمامه، و يحتمل أن يكون المراد من قبل أن يقضى إليك

بيانه؛ لأنّ هذين الأمرين، لا يمكن تحصيلهما إلّا بالوحي، و معلوم أنّه عليه السّلام لا ينهى عن قراءته؛ لكي يحفظه و يؤدّيه. فالمراد إذن أن لا يبعث نفسه و لا يبعث غيره عليه حتّى يتبيّن بالوحي تمامه أو بيانه أو هما جميعا؛ لأنّه يجب التّوقّف في معنى الكلام ما لم يأت عليه الفراغ لمّا يجوز أن يحصل عقيبه من استثناء أو شرط أو غيرهما من المخصّصات. فهذا هو التّحقيق

______________________________

(1)- النّمل/ 22.

(2)- طه/ 105.

نصوص في علوم القرآن، ص: 114

في تفسير الآية. و لنذكر أقوال المفسّرين؛

أحدها: أنّ هذا كقوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ «1»، و كان عليه السّلام يحرص على أخذ القرآن من جبريل عليه السّلام، فيعجل بقراءته قبل استتمام جبريل مخافة النّسيان، فقيل له: لا تعجل إلى أن يستتمّ وحيه، فيكون أخذك إيّاه عن تثبّت و سكون، و اللّه تعالى يزيدك فهما و علما، و هذا قول مقاتل و السّدّيّ، و رواه عطاء عن ابن عبّاس (رضي اللّه عنهما).

و ثانيها: و لا تعجل بالقرآن، فتقرأه على أصحابك قبل أن يوحى إليك بيان معانيه، و هذا قول مجاهد و قتادة.

و ثالثها: قال الضّحّاك: إنّ أهل مكّة و أسقف نجران قالوا: يا محمّد أخبرنا عن كذا و كذا، و قد ضربنا لك أجلا ثلاثة أيّام، فأبطأ الوحي عليه، و فشت المقالة بأنّ اليهود قد غلبوا محمّدا، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ، أي بنزوله مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ من اللّوح المحفوظ إلى إسرافيل، و منه إلى جبريل، و منه إليك، وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً.

و رابعها: روى الحسن أنّ امرأة أتت النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، فقالت زوجي

لطم وجهي، فقال بينكما القصاص، فنزل قوله: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ، فأمسك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عن القصاص حتّى نزل قوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ «2». و هذا بعيد، و الاعتماد على التّفصيل الأوّل.

أمّا قوله تعالى: وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً فالمعنى أنّه سبحانه و تعالى أمره بالفزع إلى اللّه سبحانه في زيادة العلم الّتي تظهر بتمام القرآن أو بيان ما نزل عليه.

المسألة الثّالثة: الاستعجال الّذي نهي عنه إن كان فعله بالوحي فكيف نهي عنه؟

الجواب: لعلّه فعله بالاجتهاد، و كان الأولى تركه، فلهذا نهي عنه. (22: 121)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ... الفرقان/ 31

______________________________

(1)- القيامة/ 16.

(2)- النّساء/ 34.

نصوص في علوم القرآن، ص: 115

اعلم أنّ هذا هو الشّبهة الخامسة لمنكري النّبوّة، و إنّ أهل مكّة قالوا: أ تزعم أنّك رسول من عند اللّه، أ فلا تأتينا بالقرآن جملة واحدة كما أنزلت التّوراة جملة على موسى و الإنجيل على عيسى و الزّبور على داود.

و عن ابن جريح: بين أوّله و آخره اثنتان أو ثلاث و عشرون سنة، و أجاب اللّه بقوله:

كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ. و بيان هذا الجواب من وجوه؛

أحدها: أنّه عليه السّلام لم يكن من أهل القراءة و الكتابة، فلو نزل عليه ذلك جملة واحدة كان لا يضبطه، و لجاز عليه الغلط و السّهو، و إنّما نزلت التّوراة جملة لأنّها مكتوبة يقرأها موسى.

ثانيها: أنّ من كان الكتاب عنده فربّما اعتمد على الكتاب و تساهل في الحفظ، فاللّه تعالى ما أعطاه الكتاب دفعة واحدة، بل كان ينزّل عليه وظيفة؛ ليكون حفظه له أكمل، فيكون أبعد له عن المساهلة و قلّة التّحصيل.

ثالثها: أنّه تعالى لو أنزل الكتاب جملة واحدة على الخلق لنزلت الشّرائع بأسرها دفعة واحدة على الخلق، فكان

يثقل عليهم ذلك، أمّا لمّا نزل مفرّقا منجّما لا جرم نزلت التّكاليف قليلا قليلا، فكان تحمّلها أسهل.

رابعها: أنّه إذا شاهد جبريل حالا بعد حال يقوى قلبه بمشاهدته، فكان أقوى على أداء ما حمّل، و على الصّبر على عوارض النّبوّة، و على احتماله أذيّة قومه، و على الجهاد.

خامسها: أنّه لمّا تمّ شرط الإعجاز فيه مع كونه منجّما ثبت كونه معجزا، فإنّه لو كان ذلك في مقدور البشر لوجب أن يأتوا بمثله منجّما مفرّقا.

سادسها: كان القرآن ينزل بحسب أسئلتهم و الوقائع الواقعة لهم، فكانوا يزدادون بصيرة؛ لأنّ بسبب ذلك كان ينضمّ إلى الفصاحة الإخبار عن الغيوب.

سابعها: أنّ القرآن لمّا نزل منجّما مفرّقا و هو عليه السّلام كان يتحدّاهم من أوّل الأمر. فكأنّه تحدّاهم بكلّ واحد من نجوم القرآن، فلمّا عجزوا عنه كان عجزهم عن معارضة الكلّ أولى، فبهذا الطّريق ثبت في فؤاده أنّ القوم عاجزون عن المعارضة لا محالة.

ثامنها: أنّ السّفارة بين اللّه تعالى و بين أنبيائه و تبليغ كلامه إلى الخلق منصب عظيم،

نصوص في علوم القرآن، ص: 116

فيحتمل أن يقال: إنّه تعالى لو أنزل القرآن على محمّد صلّى اللّه عليه و سلم دفعة واحدة لبطل ذلك المنصب على جبريل عليه السّلام، فلمّا أنزله مفرّقا منجّما بقى ذلك المنصب العالي عليه، فلأجل ذلك جعله اللّه سبحانه و تعالى مفرّقا منجّما.

أمّا قوله: كَذلِكَ ففيه وجهان: الأوّل: أنّه من تمام كلام المشركين، أي جملة واحدة، كَذلِكَ، أي كالتّوراة و الإنجيل. و على هذا لا يحتاج إلى إضمار في الآية، و هو أن يقول: أنزلناه مفرّقا لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ. الثّاني: أنّه كلام اللّه تعالى ذكره جوابا لهم، أي كَذلِكَ أنزلناه مفرّقا.

فإن قيل: ذلك في كَذلِكَ يجب أن يكون إشارة

إلى شي ء تقدّمه، و الّذي تقدّم فهو إنزاله جملة، فكيف فسّر به كذلك أنزلناه مفرّقا؟ قلنا: لأنّ قولهم: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً معناه لم نزّل مفرّقا؟.

فذلك إشارة إليه. (24: 78- 79)

حم* وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ... الدّخان/ 1- 6

[و بعد أن استعرض بعض المسائل حول هذه الآية، عقّب قائلا:]

المسألة الثّالثة: يجوز أن يكون المراد بالكتاب هاهنا الكتب المتقدّمة الّتي أنزلها اللّه على أنبيائه، كما قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ «1». و يجوز أن يكون المراد اللّوح المحفوظ، كما قال: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ «2». و قال: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا «3». و يجوز أن يكون المراد به القرآن، و بهذا التّقدير فقد أقسم بالقرآن على أنّه أنزل القرآن في ليلة مباركة، و هذا النّوع من الكلام يدلّ على غاية تعظيم القرآن، فقد يقول الرّجل إذا أراد تعظيم رجل له حاجة إليه: أستشفع بك إليك و أقسم بحقّك عليك. [إلى أن قال:].

______________________________

(1)- الحديد/ 25.

(2)- الرّعد/ 39.

(3)- الزّخرف/ 4.

نصوص في علوم القرآن، ص: 117

المسألة الخامسة: اختلفوا في هذه اللّيلة المباركة، فقال الأكثرون: إنّها ليلة القدر، و قال عكرمة و طائفة آخرون: إنّها ليلة البراءة، و هي ليلة النّصف من شعبان. أمّا الأوّلون فقد احتجّوا على صحّة قولهم بوجوه؛

أوّلها: أنّه تعالى قال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1»، و هاهنا قال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، فوجب أن تكون هذه اللّيلة المباركة هي تلك المسمّاة بليلة القدر؛ لئلّا يلزم التّناقض.

ثانيها: أنّه تعالى قال: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2»، فبيّن أنّ إنزال القرآن إنّما وقع في شهر رمضان، و قال هاهنا: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ

مُبارَكَةٍ فوجب أن تكون هذه اللّيلة المباركة واقعة في شهر رمضان، و كلّ من قال: إنّ هذه اللّيلة المباركة واقعة في شهر رمضان، قال: إنّها ليلة القدر، فثبت أنّها ليلة القدر.

ثالثها: أنّه تعالى قال في صفة ليلة القدر: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ، و قال أيضا هاهنا: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، و هذا مناسب لقوله:

تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها، و هاهنا قال: أَمْراً مِنْ عِنْدِنا، و قال في تلك الآية:

بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، و قال هاهنا: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، و قال في تلك الآية: سَلامٌ هِيَ. و إذا تقاربت الأوصاف وجب القول بأنّ إحدى اللّيلتين هي الأخرى.

رابعها: نقل محمّد بن جرير الطّبريّ في تفسيره عن قتادة أنّه قال: نزلت صحف إبراهيم ... [و ذكر كما تقدّم عنه].

خامسها: أنّ ليلة القدر إنّما سميّت بهذا الإسم، لأنّ قدرها و شرفها عند اللّه عظيم، و معلوم أنّه ليس قدرها و شرفها لسبب ذلك الزّمان؛ لأنّ الزّمان شي ء واحد في الذّات و الصّفات، فيمتنع كون بعضه أشرف من بعض لذاته. فثبت أنّ شرفه و قدره بسبب أنّه حصل فيه أمور شريفة عالية لها قدر عظيم و مرتبة رفيعة، و معلوم أنّ منصب الدّين أعلى و أعظم من منصب الدّنيا، و أعلى الأشياء و أشرفها منصبا في الدّين هو القرآن؛ لأجل أنّ به

______________________________

(1)- القدر/ 1.

(2)- البقرة/ 185.

نصوص في علوم القرآن، ص: 118

ثبتت نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلم، و به ظهر الفرق بين الحقّ و الباطل في سائر كتب اللّه المنزّلة، كما قال في صفته: وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ «1». و به ظهرت درجات أرباب السّعادات، و دركات أرباب الشّقاوات.

فعلى هذا لا شي ء إلّا و القرآن أعظم قدرا و أعلى ذكرا و أعظم منصبا منه، فلو كان نزوله إنّما وقع في ليلة أخرى سوى ليلة القدر، لكانت ليلة القدر هي هذه الثّانية لا الأولى، و حيث أطبقوا على أنّ ليلة القدر هي الّتي وقعت في رمضان، علمنا أنّ القرآن إنّما أنزل في تلك اللّيلة. و أمّا القائلون بأنّ المراد من اللّيلة المباركة المذكورة في هذه الآية، هي ليلة النّصف من شعبان، فما رأيت لهم فيه دليلا يعوّل عليه، و إنّما قنعوا فيه بأن نقلوه عن بعض النّاس، فإن صحّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فيه كلام فلا مزيد عليه. و إلّا فالحقّ هو الأوّل، ثمّ إنّ هؤلاء القائلين بهذا القول زعموا أنّ ليلة النّصف من شعبان لها أربعة أسماء:

اللّيلة المباركة، و ليلة البراءة، و ليلة الصّكّ، و ليلة الرّحمة. و قيل: إنّما سمّيت بليلة البراءة، و ليلة الصّكّ، لأنّ البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة، كذلك اللّه عزّ و جلّ يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه اللّيلة ... [إلى أن قال:]

المسألة السّادسة: روي أنّ عطيّة الحروريّ، سأل ابن عبّاس رضى اللّه عنه عن قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، و قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، كيف يصحّ ذلك مع أنّ اللّه تعالى أنزل القرآن في جميع الشّهور؟ فقال ابن عبّاس رضى اللّه عنه: يا ابن الأسود، لو هلكت أنا و وقع هذا في نفسك و لم تجد جوابه لهلكت، نزل القرآن جملة من اللّوح المحفوظ إلى البيت المعمور، و هو في السّماء الدّنيا، ثمّ نزل بعد ذلك في أنواع الوقائع حالا فحالا، و اللّه أعلم.

المسألة السّابعة: في

بيان نظم هذه الآيات، اعلم: أنّ المقصود منها تعظيم القرآن من ثلاثة أوجه؛ أحدها: بيان تعظيم القرآن بحسب ذاته، الثّاني: بيان تعظيمه بسبب شرف الوقت الّذي نزل فيه، و الثّالث: بيان تعظيمه بحسب شرف منزله.

أمّا بيان تعظيمه بحسب ذاته فمن ثلاثة أوجه؛

أحدها: أنّه تعالى أقسم به و ذلك يدلّ على شرفه.

______________________________

(1)- مائدة/ 48.

نصوص في علوم القرآن، ص: 119

و ثانيها: أنّه تعالى أقسم به على كونه نازلا في ليلة مباركة، و قد ذكرنا أنّ القسم بالشّي ء على حالة من أحوال نفسه يدلّ على كونه في غاية الشّرف.

و ثالثها: أنّه تعالى وصفه بكونه مبيّنا، و ذلك يدلّ أيضا على شرفه في ذاته.

و أمّا النّوع الثّاني «1»: و هو بيان شرفه لأجل شرف الوقت الّذي أنزل فيه، فهو قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، و هذا تنبيه على أنّ نزوله في ليلة مباركة يقتضي شرفه و جلالته، ثمّ نقول: إنّ قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ يقتضي أمرين؛ أحدهما: أنّه تعالى أنزله، و الثّاني: كون تلك اللّيلة مباركة، فذكر تعالى عقيب هذه الكلمة ما يجري مجرى البيان لكلّ واحد منهما. أمّا بيان أنّه تعالى لم أنزله فهو قوله: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ يعنى الحكمة في إنزال هذه السّورة أنّ إنذار الخلق لا يتمّ إلّا به، و أمّا بيان أنّ هذه اللّيلة، ليلة مباركة فهو أمران؛ أحدهما: أنّه تعالى فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، و الثّاني: أنّ ذلك الأمر الحكيم يكون مخصوصا بشرف أنّه إنّما يظهر من عنده، و إليه الإشارة بقوله: أَمْراً مِنْ عِنْدِنا.

و أمّا النّوع الثّالث «2»: فهو بيان شرف القرآن لشرف منزله، و ذلك هو قوله: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. فبيّن أنّ ذلك الإنذار و الإرسال إنّما

حصل من اللّه تعالى، ثمّ بيّن أنّ ذلك الإرسال إنّما كان لأجل تكميل الرّحمة، و هو قوله: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ. و كان الواجب أن يقال: رحمة منّا، إلّا أنّه وضع الظّاهر موضع المضمر إيذانا بأنّ الرّبوبيّة تقتضي الرّحمة على المربوبين، ثمّ بيّن أنّ تلك الرّحمة وقعت على وفق حاجات المحتاجين؛ لأنّه تعالى يسمع تضرّعاتهم، و يعلم أنواع حاجاتهم، فلهذا قال: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فهذا ما خطر بالبال في كيفيّة تعلّق بعض هذه الآيات ببعض.

المسألة الثّامنة: في تفسير مفردات هذه الألفاظ، أمّا قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ فقد قيل فيه: إنّه تعالى أنزل كلّيّة القرآن من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا في هذه اللّيلة، ثمّ أنزل في كلّ وقت ما يحتاج إليه المكلّف. و قيل: يبدأ في استنساخ ذلك من اللّوح ... [و ذكر كما تقدّم عن الزّمخشريّ]. (27: 237- 240)

______________________________

(1)- أي الوجه الثّاني و الثّالث من المسألة السّابعة.

(2)- أي الوجه الثّاني و الثّالث من المسألة السّابعة.

نصوص في علوم القرآن، ص: 120

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... القيامة/ 16- 20.

فيه مسائل؛

المسألة الأولى: زعم قوم من قدماء الرّوافض أنّ هذا القرآن قد غيّر و بدّل و زيد فيه و نقص عنه «1»، و احتجّوا عليه بأنّه لا مناسبة بين هذه الآية و بين ما قبلها، و لو كان هذا التّرتيب من اللّه تعالى لما كان الأمر كذلك. و اعلم أنّ في بيان المناسبة وجوها؛

أوّلها: يحتمل أن يكون الاستعجال المنهيّ عنه إنّما اتّفق للرّسول عليه السّلام عند إنزال هذه الآيات عليه، فلا جرم نهى عن ذلك الاستعجال في هذا الوقت، و قيل له: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. و هذا كما أنّ المدرّس إذا كان يلقى على تلميذه شيئا، فأخذ

التّلميذ يلتفت يمينا و شمالا، فيقول المدرّس في أثناء ذلك الدّرس: لا تلتفت يمينا و شمالا، ثمّ يعود إلى الدّرس، فإذا نقل ذلك الدّرس مع هذا الكلام في أثنائه، فمن لم يعرف السّبب يقول: إنّ وقوع تلك الكلمة في أثناء ذلك الدّرس غير مناسب، لكن من عرف الواقعة علم أنّه حسن التّرتيب.

ثانيها: أنّه تعالى نقل عن الكفّار أنّهم يحبّون السّعادة العاجلة، و ذلك هو قوله: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ «2». ثمّ بيّن أنّ التّعجيل مذموم مطلقا حتّى التّعجيل في أمور الدّين، فقال: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، و قال في آخر الآية: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ.

ثالثها: أنّه تعالى قال: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ «3»، فها هنا كان الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم يظهر التّعجيل في القراءة مع جبريل، و كان يجعل العذر فيه خوف النّسيان. فكأنّه قيل له: إنّك إذا أتيت بهذا العذر- لكنّك تعلم أنّ الحفظ لا يحصل إلّا بتوفيق اللّه و إعانته- فاترك هذا التّعجيل و اعتمد على هداية اللّه تعالى، و هذا هو المراد من

______________________________

(1)- إنّ القول في نقص القرآن و تبديله يرجع إلى بعض فرق الشّيعة المنقرضة من الغلاة و إلى بعض الأخباريّين منهم، و أمّا دعوى الزّيادة فإنّها باطلة؛ إذ لم يذهب إليها أحد من الشّيعة، كما يأتي في باب عدم تحريف القرآن. (م)

(2)- القيامة/ 5.

(3)- القيامة/ 14 و 15.

نصوص في علوم القرآن، ص: 121

قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ.

رابعها: كأنّه تعالى قال: يا محمّد إنّ غرضك من هذا التّعجيل أن تحفظه و تبلّغه إليهم، لكن لا حاجة إلى هذا، فإنّ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ،

و هم بقلوبهم يعلمون أنّ الّذي هم عليه من الكفر و عبادة الأوثان، و إنكار البعث منكر باطل. فإذا كان غرضك من هذا التّعجيل أن تعرّفهم قبح ما هم عليه، ثمّ إنّ هذه المعرفة حاصلة عندهم، فحينئذ لم يبق لهذا التّعجيل فائدة، فلا جرم قال: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ.

خامسها: أنّه تعالى حكى عن الكافر أنّه يقول: أَيْنَ الْمَفَرُّ، ثمّ قال تعالى: كَلَّا لا وَزَرَ* إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ «1»، فالكافر كأنّه كان يفرّ من اللّه تعالى إلى غيره، فقيل لمحمّد: إنّك في طلب حفظ القرآن، تستعين بالتّكرار، و هذا استعانة منك بغير اللّه، فاترك هذه الطّريقة، و استعن في هذا الأمر باللّه. فكأنّه قيل: إنّ الكافر يفرّ من اللّه إلى غيره، و أمّا أنت فكن كالمضادّ له، فيجب أن تفرّ من غير اللّه إلى اللّه، و أن تستعين في كلّ الأمور باللّه، حتّى يحصل لك المقصود على ما قال: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ، و قال في سورة اخرى:

وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «2»، أي لا تستعن في طلب الحفظ بالتّكرار بل أطلبه من اللّه تعالى.

سادسها: ما ذكره القفّال، و هو أنّ قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ ليس خطابا مع الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم بل هو خطاب مع الإنسان المذكور في قوله: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ «3»، فكان ذلك للإنسان حال ما ينبأ بقبائح أفعاله، و ذلك بأن يعرض عليه كتابه، فيقال له: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً «4» فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه من شدّة الخوف و سرعة القراءة، فيقال له: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ

بِهِ، فإنّه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك عليك، و أن نقرأها عليك، فإذا قرأناه

______________________________

(1)- القيامة/ 10- 12.

(2)- طه/ 144.

(3)- القيامة/ 13.

(4)- الإسراء/ 14.

نصوص في علوم القرآن، ص: 122

عليك فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ بالإقرار بأنّك فعلت تلك الأفعال، ثمّ إنّ علينا بيان أمره و شرح مراتب عقوبته. و حاصل الأمر من تفسير هذه الآية أنّ المراد منه أنّه تعالى يقرأ على الكافر جميع أعماله على سبيل التّفصيل، و فيه أشدّ الوعيد في الدّنيا و أشدّ التّهويل في الآخرة، ثمّ قال القفّال: فهذا وجه حسن ليس في العقل ما يدفعه و إن كانت الآثار غير واردة به.

المسألة الثّانية: احتجّ من جوّز الذّنب على الأنبياء: بهذه الآية، فقال: إنّ ذلك الاستعجال إن كان بإذن اللّه تعالى فكيف نهاه عنه، و إن كان لا بإذن اللّه تعالى فقد صدر الذّنب عنه.

الجواب: لعلّ ذلك الاستعجال كان مأذونا فيه إلى وقت النّهي عنه، و لا يبعد أن يكون الشّي ء مأذونا فيه في وقت ثمّ يصير منهيّا عنه في وقت آخر، و لهذا السّبب قلنا يجوز النّسخ.

المسألة الثّالثة: روى سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يشتدّ عليه حفظ التّنزيل، و كان إذا نزل عليه الوحي يحرّك لسانه و شفتيه قبل فراغ جبريل مخافة أن لا يحفظ، فأنزل تعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ، أي بالوحي و التّنزيل و القرآن.

و إنّما جاز هذا الإضمار و إن لم يجر له ذكر لدلالة الحال عليه، كما أضمر في قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1»، و نظيره قوله: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ «2»، و قوله: لِتَعْجَلَ بِهِ،

أي لتعجل بأخذه.

إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ القيامة/ 17

فيه مسألتان؛

المسألة الأولى: كلمة «على» للوجوب، فقوله: إِنَّ عَلَيْنا يدلّ على أنّ ذلك كالواجب على اللّه تعالى، أمّا على مذهبنا فذلك الوجوب بحكم الوعد، و أمّا على قول

______________________________

(1)- القدر/ 1.

(2)- طه/ 114.

نصوص في علوم القرآن، ص: 123

المعتزلة فلأنّ المقصود من البعثة لا يتمّ إلّا إذا كان الوحي محفوظا مبرأ عن النّسيان، فكان ذلك واجبا نظرا إلى الحكمة.

المسألة الثّانية: قوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ معناه علينا جمعه في صدرك و حفظك، و قوله: وَ قُرْآنَهُ فيه وجهان؛

أحدهما: أنّ المراد من القرآن بقراءة، و على هذا التّقدير ففيه احتمالان؛ أحدهما: أن يكون المراد جبريل عليه السّلام، سيعيده عليك حتّى تحفظه. و الثّاني: أن يكون المراد إنّا سنقرئك يا محمّد إلى أن تصير بحيث لا تنساه، و هو المراد من قوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى «1»، فعلى هذا الوجه الأوّل القارئ جبريل عليه السّلام، و على الوجه الثّاني القارئ محمّد صلّى اللّه عليه و سلم.

و الوجه الثّاني: أن يكون المراد من القرآن الجمع و التّأليف، من قولهم: ما قرأت النّاقة سلا قطّ، أي ما جمعت، و بنت عمرو بن كلثوم لم تقرأ جنينا، و قد ذكرنا ذلك عند تفسير «القرء».

فإن قيل: فعلى هذا الوجه يكون الجمع و القرآن واحدا فيلزم التّكرار.

قلنا: يحتمل أن يكون المراد من الجمع جمعه في نفسه و وجوده الخارجي، و من القرآن جمعه في ذهنه و حفظه، و حينئذ يندفع التّكرار.

قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ «2» فيه مسألتان؛

المسألة الأولى: جعل قراءة جبريل عليه السّلام قراءته، و هذا يدلّ على الشّرف العظيم لجبريل عليه السّلام، و نظيره في حقّ محمّد صلّى اللّه عليه و سلم مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «3».

المسألة

الثّانية: قال ابن عبّاس: معناه فإذا قرأه جبريل فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، و فيه وجهان؛ الأوّل: قال قتادة: فاتّبع حلاله و حرامه، و الثّاني: فاتّبع قراءته، أي لا ينبغي أن تكون قراءتك مقارنة لقراءة جبريل، لكن يحب أن تسكت حتّى يتمّ جبريل عليه السّلام القراءة، فإذا سكت جبريل فخذ أنت في القراءة. و هذا الوجه أولى؛ لأنّه صلّى اللّه عليه و سلم أمر أن يدع القراءة و يستمع

______________________________

(1)- الأعلى/ 6.

(2)- القيامة/ 18.

(3)- النّساء/ 80.

نصوص في علوم القرآن، ص: 124

من جبريل عليه السّلام، حتّى إذا فرغ جبريل قرأه، و ليس هذا موضع الأمر باتّباع ما فيه من الحلال و الحرام. قال ابن عبّاس: فكان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم إذا نزل عليه جبريل بعد هذه الآية أطرق و استمع، فإذا ذهب قرأه.

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ فيه مسألتان؛

المسألة الأولى: الآية تدلّ على أنّه صلّى اللّه عليه و سلم كان يقرأ مع قراءة جبريل عليه السّلام، و كان يسأل في أثناء قراءته عن مشكلاته و معانيه لغاية حرصه على العلم، فنهى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم عن الأمرين جميعا، أمّا عن القراءة مع قراءة جبريل فبقوله: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، و أمّا عن إلقاء الأسئلة في البيان فبقوله: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ.

المسألة الثّانية: احتجّ من جوّز تأخير البيان عن وقت الخطاب بهذه الآية. و أجاب أبو الحسين عنه من وجهين؛

الأوّل: أنّ ظاهر الآية يقتضي وجوب تأخير البيان عن وقت الخطاب، و أنتم لا تقولون به.

الثّاني: أنّ عندنا الواجب أن يقرن باللّفظ؛ إشعارا بأنّه ليس المراد من اللّفظ ما يقتضيه ظاهره، فأمّا البيان التّفصيليّ فيجوز تأخيره، فتحمل الآية على تأخير البيان التّفصيليّ. و ذكر القفّال وجها ثالثا، و

هو أنّ قوله ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أي ثمّ إنّا نخبرك بأنّ علينا بيانه، و نظيره قوله تعالى: فَكُّ رَقَبَةٍ إلى قوله ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا «1».

و الجواب عن الأوّل: أنّ اللّفظ لا يقتضي وجوب تأخير البيان بل يقتضي تأخير وجوب البيان، و عندنا الأمر كذلك؛ لأنّ وجوب البيان لا يتحقّق إلّا عند الحاجة. و عن الثّاني: أنّ كلمة (ثمّ) دخلت مطلق البيان، فيتناول البيان المجمل و المفصّل، و أمّا سؤال القفّال فضعيف أيضا؛ لأنّه ترك للظّاهر من غير دليل.

المسألة الثّالثة: قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ يدلّ على أنّ بيان المجمل واجب على اللّه تعالى، أمّا عندنا فبالوعد و التّفضّل، و أمّا عند المعتزلة فبالحكمة. (30: 222- 225)

______________________________

(1)- البلد/ 13- 17.

نصوص في علوم القرآن، ص: 125

فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ... عبس/ 12- 13

اعلم أنّه تعالى وصف تلك التّذكرة بأمرين؛

الأوّل: قوله: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ، أي هذه تذكرة بيّنة ظاهرة؛ بحيث لو أرادوا فهمها و الاتّعاظ بها و العمل بموجبها، لقدروا عليه.

و الثّاني: قوله: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، أي تلك التّذكرة معدّة في هذه الصّحف المكرّمة. و المراد من ذلك تعظيم حال القرآن و التّنويه بذكره، و المعنى أنّ هذه التّذكرة مثبتة في صحف، و في المراد من الصّحف قولان.

[القول] الأوّل: أنّها صحف منتسخة من اللّوح مكرّمة عند اللّه تعالى مرفوعة في السّماء السّابعة، أو مرفوعة المقدار مطهّرة عن أيدي الشّياطين، أو المراد مطهّرة بسبب أنّها لا يمسّها إلّا المطهّرون و هم الملائكة.

ثمّ قال تعالى: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ، و فيه مسألتان؛

المسألة الأولى: أنّ اللّه تعالى وصف الملائكة بثلاثة أنواع من الصّفات؛

أوّلها: أنّهم سَفَرَةٍ، و فيه قولان؛

الأوّل: قال ابن عبّاس و مجاهد و مقاتل و قتادة: هم الكتبة من الملائكة: قال

الزّجّاج:

السّفرة: الكتبة، واحدها سافر، مثل كتبة و كاتب، و إنّما قيل للكتبة سفرة و للكاتب سافر، لأنّ معناه أنّه الّذي يبيّن الشّي ء و يوضّحه، يقال: سفرت المرأة، إذا كشفت عن وجهها.

القول الثّاني: و هو اختيار الفرّاء؛ أنّ السّفرة هاهنا هم الملائكة الّذين يسفرون بالوحي بين اللّه و بين رسله، واحدها سافر، و العرب تقول: سفرت بين القوم، إذا أصلحت بينهم فجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي اللّه و تأديته، كالسّفير الّذي يصلح به بين القوم، و أنشدوا:

و ما أدع السّفارة بين قومي و ما أمشي بغشّ إن مشيت و اعلم أنّ أصل السّفارة من الكشف، و الكاتب إنّما يسمّى سافرا لأنّه يكشف، و السّفير إنّما سمّي سفيرا أيضا لأنّه يكشف، و هؤلاء الملائكة لمّا كانوا وسائط بين اللّه و بين البشر في البيان و الهداية و العلم، لا جرم سمّوا سفرة.

نصوص في علوم القرآن، ص: 126

الصّفة الثّانية: لهؤلاء الملائكة أنّهم كرام؛ قال مقاتل: كرام على ربّهم، و قال عطاء:

يريد أنّهم يتكرّمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا مع زوجته للجماع و عند قضاء الحاجة.

الصّفة الثّالثة أنّهم بَرَرَةٍ؛ قال مقاتل: مطيعين، و بَرَرَةٍ جمع بارّ، قال الفرّاء: لا يقولون: فعلة للجمع، إلّا و الواحد منه فاعل، مثل كافر و كفرة، و فاجر و فجرة.

القول الثّاني: في تفسير الصّحف، أنّها هي صحف الأنبياء؛ لقوله: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى «1» يعني أنّ هذه التّذكرة هذه مثبتة في صحف الأنبياء المتقدّمين، و السّفرة الكرام البررة هم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و قيل: هم القرّاء.

المسألة الثّانية: قوله تعالى: مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ* بِأَيْدِي سَفَرَةٍ يقتضي أنّ طهارة تلك الصّحف إنّما حصلت بأيدي هؤلاء السّفرة، فقال القفّال في

تقريره: لمّا كان لا يمسّها إلّا الملائكة المطهّرون، أضيف التّطهير إليها لطهارة من يمسّها. (31: 58- 59)

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى* إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ... الأعلى/ 6

اعلم أنّه تعالى لمّا أمر محمّدا بالتّسبيح، فقال: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «2»، و علّم محمّدا صلّى اللّه عليه و سلم أنّ ذلك التّسبيح لا يتمّ و لا يكمل إلّا بقراءة ما أنزله اللّه تعالى عليه من القرآن؛ لما بيّنّا أنّ التّسبيح الّذي يليق به هو الّذي يرتضيه لنفسه، فلا جرم كان يتذكّر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى، فأزال اللّه تعالى ذلك الخوف عن قلبه بقوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى.

و فيه مسائل؛

المسألة الأولى: قال الواحديّ: سَنُقْرِئُكَ، أي سنجعلك قارئا بأن نلهمك القراءة فلا تنسى ما تقرأه، و المعنى نجعلك قارئا للقرآن تقرأه فلا تنساه. قال مجاهد و مقاتل و الكلبيّ: كان عليه السّلام إذا نزل عليه القرآن أكثر تحريك لسانه مخافة أن ينسى، و كان جبريل لا يفرغ من آخر الوحي حتّى يتكلّم هو بأوّله مخافة النّسيان، فقال تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى، أي سنعلّمك هذا القرآن حتّى تحفظه، و نظيره قوله: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ

______________________________

(1)- الأعلى/ 18.

(2)- الأعلى/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 127

أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ «1»، و قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ «2»، ثمّ ذكروا في كيفيّة ذلك الاستقراء و التّعليم وجوها؛

أحدها: أنّ جبريل عليه السّلام سيقرأ عليك القرآن مرّات حتّى تحفظه حفظا لا تنساه.

و ثانيها: أنّا نشرح صدرك و نقوّي خاطرك حتّى تحفظ بالمرّة الواحدة حفظا لا تنساه.

و ثالثها: أنّه تعالى لمّا أمره في أوّل السّورة بالتّسبيح فكأنّه تعالى قال: واظب على ذلك و دم عليه، فإنّا سنقرئك القرآن الجامع لعلوم الأوّلين و الآخرين و يكون فيه ذكرك و ذكر

قومك و نجمعه في قلبك، و نيسّرك لليسرى و العمل به.

المسألة الثّانية: هذه الآية تدلّ على المعجزة من وجهين؛ الأوّل: أنّه كان رجلا أمّيّا، فحفظه لهذا الكتاب المطوّل من غير دراسة و لا تكرار و لا كتبة خارق للعادة، فيكون معجزا. الثّاني: أنّ هذه السّورة من أوائل ما نزل بمكّة، فهذا إخبار عن أمر عجيب غريب مخالف للعادة، سيقع في المستقبل، و قد وقع، فكان هذا إخبارا عن الغيب فيكون معجزا.

أمّا قوله: فَلا تَنْسى فقال بعضهم: فَلا تَنْسى معناه النّهي، و الألف مزيدة للفاصلة، كقوله: السَّبِيلَا «3» يعني فلا تغفل قراءته و تكريره فتنساه إلّا ما شاء اللّه أن ينسيكه.

و القول المشهور أنّ هذا خبر، و المعنى سنقرئك إلى أن تصير بحيث لا تنسى و تأمن النّسيان، كقولك: سأكسوك فلا تعرى، أي فتأمن العري. و احتجّ أصحاب هذا القول على ضعف القول الأوّل بأنّ ذلك القول لا يتمّ إلّا عند التزام مجازات في هذه الآية.

منها: أنّ النّسيان لا يقدر عليه إلّا اللّه تعالى، فلا يصحّ ورود الأمر و النّهي به، فلا بدّ و أن يحمل ذلك على المواظبة على الأشياء الّتي تنافي النّسيان مثل الدّراسة و كثرة التّذكر.

و كلّ ذلك عدول عن ظاهر اللّفظ.

و منها: أن تجعل الألف مزيدة للفاصلة، و هو أيضا خلاف الأصل.

______________________________

(1)- طه/ 114.

(2)- القيامة/ 16.

(3)- الأحزاب/ 67.

نصوص في علوم القرآن، ص: 128

و منها: أنّا إذا جعلناه خبرا كان معنى الآية بشارة اللّه إيّاه بأنّي أجعلك بحيث لا تنساه، و إذا جعلناه نهيا كان معناه أنّ اللّه أمره بأن يواظب على الأسباب المانعة من النّسيان، و هي الدّراسة و القراءة، و هذا ليس في البشارة و تعظيم حاله مثل الأوّل، و

لأنّه على خلاف قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ.

أمّا قوله: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ففيه احتمالان؛

أحدهما: أن يقال: هذا الاستثناء غير حاصل في الحقيقة و أنّه عليه السّلام لم ينس بعد ذلك شيئا، قال الكلبيّ: إنّه عليه السّلام لم ينس بعد نزول هذه الآية شيئا. و على هذا التّقدير يكون الغرض من قوله: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أحد أمور؛

أحدها: التّبرّك بذكر هذه الكلمة على ما قال تعالى: وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «1».

و كأنّه تعالى يقول: أنا مع أنّي عالم بجميع المعلومات و عالم بعواقب الأمور على التّفصيل لا أخبر عن وقوع شي ء في المستقبل إلّا مع هذه الكلمة، فأنت و أمّتك يا محمّد أولى بها.

و ثانيها: قال الفرّاء: إنّه تعالى ما شاء أن ينسى محمّد عليه السّلام شيئا، إلّا أنّ المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنّه تعالى لو أراد أن يصير ناسيا لذلك لقدر عليه، كما قال: وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ «2». ثمّ إنّا نقطع بأنّه تعالى ما شاء ذلك، و قال لمحمّد عليه السّلام:

لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «3»، مع أنّه عليه السّلام ما أشرك البتّة. و بالجملة ففائدة هذا الاستثناء أنّ اللّه تعالى يعرّفه قدرة ربّه حتّى يعلم أنّ عدم النّسيان من فضل اللّه و إحسانه لا من قوّته.

و ثالثها: أنّه تعالى لمّا ذكر هذا الاستثناء جوّز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في كلّ ما ينزّل عليه من الوحي قليلا كان أو كثيرا أن يكون ذلك هو المستثنى، فلا جرم كان يبالغ في التّثبّت و التّحفّظ و التّيقّظ في جميع المواضع، فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء بقاءه عليه

السّلام على

______________________________

(1)- الكهف/ 23.

(2)- الإسراء/ 86.

(3)- الزّمر/ 65.

نصوص في علوم القرآن، ص: 129

التّيقّظ في جميع الأحوال.

و رابعها: أن يكون الغرض من قوله: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ نفي النّسيان رأسا، كما يقول الرّجل لصاحبه: أنت سهيمي فيما أملك إلّا فيما شاء اللّه، و لا يقصد استثناء شي ء. ثانيهما:

أنّ قوله: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ استثناء في الحقيقة. و على هذا التّقدير تحتمل الآية وجوها؛

أحدها: قال الزّجّاج. إلّا ما شاء اللّه أن ينسى، فإنّه ينسى ثمّ يتذكّر بعد ذلك، فإذا قد ينسى، و لكنّه يتذكّر فلا ينسى نسيانا كلّيّا دائما. روي أنّه أسقط آية في قراءته في الصّلاة، فحسب أبيّ أنّها نسخت، فسأله، فقال: «نسيتها».

و ثانيها: قال مقاتل: إلّا ما شاء اللّه أن ينسيه، و يكون المراد من الإنساء هاهنا نسخه، كما قال: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها «1»، فيكون المعنى إلّا ما شاء اللّه أن تنساه على الأوقات كلّها، فيأمرك أن لا تقرأه و لا تصلّى به، فيصير ذلك سببا لنسيانه.

و زواله عن الصّدور.

و ثالثها: أن يكون معنى قوله: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ القلّة و النّدرة، و يشترط أن لا يكون ذلك القليل من واجبات الشّرع، بل من الآداب و السّنن، فإنّه لو نسي شيئا من الواجبات و لم يتذكّره أدّى ذلك إلى الخلل في الشّرع، و إنّه غير جائز.

أمّا قوله تعالى: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى «2» ففيه وجهان؛

أحدهما: أنّ المعنى أنّه سبحانه عالم بجهرك في القراءة مع قراءة جبريل عليه السّلام، و عالم بالسّر الّذي في قلبك، و هو أنّك تخاف النّسيان. فلا تخف فأنا أكفيك ما تخافه.

و الثّاني: أن يكون المعنى فلا تنسى إلّا ما شاء اللّه أن

ينسخ، فإنّه أعلم بمصالح العبيد، فينسخ؛ حيث يعلم أنّ المصلحة في النّسخ.

أمّا قوله تعالى: وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى «3» ففيه مسائل؛

المسألة الأولى: «اليسرى» هي أعمال الخير الّتي تؤدّي إلى اليسر، إذا عرفت هذا

______________________________

(1)- البقرة/ 106.

(2)- الأعلى/ 7.

(3)- الأعلى/ 8.

نصوص في علوم القرآن، ص: 130

المسألة الأولى: «اليسرى» هي أعمال الخير الّتي تؤدّي إلى اليسر، إذا عرفت هذا فنقول: للمفسّرين فيه وجوه؛

أحدها: أنّ قوله: وَ نُيَسِّرُكَ معطوف على سَنُقْرِئُكَ، و قوله: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى اعتراض، و التّقدير سنقرئك فلا تنسى، و نوّفقك للطّريقة الّتي هي أسهل و أيسر، يعني في حفظ القرآن.

و ثانيها: قال ابن مسعود: اليسرى: الجنّة، و المعنى نيسّرك للعمل المؤدّي إليها.

و ثالثها: نهوّن عليك الوحي حتّى تحفظه و تعلمه و تعمل به.

و رابعها: نوفّقك للشّريعة، و هي الحنيفيّة السّهلة السّمحة، و الوجه الأوّل أقرب.

المسألة الثّانية: لسائل أن يسأل فيقول: العبارة المعتادة أن يقال: جعل الفعل الفلانيّ ميسّر الفلان، و لا يقال: جعل فلان ميسّرا للفعل الفلانيّ، فما الفائدة فيه هاهنا؟

الجواب: أنّ هذه العبارة كما أنّها اختيار القرآن في هذا الموضع، و في سورة اللّيل أيضا، فكذا هي اختيار الرّسول في قوله عليه السّلام: «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له» و فيه لطيفة علميّة، و ذلك لأنّ ذلك الفعل في نفسه ماهيّة ممكنة قابلة للوجود و العدم على السّويّة، فما دام القادر يبقى بالنّسبة إلى فعلها و تركها على السّويّة امتنع صدور الفعل عنه، فإذا ترجّح جانب الفاعليّة على جانب التّاركيّة، فحينئذ يحصل الفعل، فثبت أنّ الفعل ما لم يجب لم يوجد، و ذلك الرّجحان هو المسمّى بالتّيسير، فثبت أنّ الأمر بالتّحقيق هو أنّ الفاعل يصير ميسّرا للفعل، لا أنّ الفعل يصير

ميسّرا للفاعل، فسبحان من له تحت كلّ كلمة حكمة خفيّة و سرّ عجيب يبهر العقول.

المسألة الثّالثة: إنّما قال: وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى بنون التّعظيم لتكون عظمة المعطي دالّة على عظمة العطاء نظيره قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ «1»، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ «2»، إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «3». دلّت هذه الآية على أنّه سبحانه فتح عليه من أبواب التّيسير و التّسهيل ما لم

______________________________

(1)- القدر/ 1.

(2)- الحجر/ 9.

(3)- الكوثر/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 131

تعالى جعله في أفعاله و أقواله قدوة للعالمين، و هاديا للخلق أجمعين. (31/ 141- 144)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ... القدر/ 1

و فيه مسائل؛

المسألة الأولى: أجمع المفسّرون على أنّ المراد إنّا أنزلنا القرآن في ليلة القدر، و لكنّه تعالى ترك التّصريح بالذّكر؛ لأنّ هذا التّركيب يدلّ على عظم القرآن من ثلاثة أوجه؛

أحدها: أنّه أسند إنزاله إليه و جعله مختصّا به دون غيره.

و الثّاني: أنّه جاء بضميره دون اسمه الظّاهر، شهادة له بالنّباهة و الاستغناء عن التّصريح، أ لا ترى أنّه في السّورة المتقدّمة لم يذكر اسم أبي جهل و لم يخف على أحد لاشتهاره، و قوله: فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ «1» لم يذكر الموت لشهرته، فكذا هاهنا.

و الثّالث: تعظيم الوقت الّذي أنزل فيه.

المسألة الثّانية: أنّه تعالى قال في بعض المواضع: (انّى)، كقوله: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «2»، و في بعض المواضع إِنَّا، كقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ «3»، إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً «4»، إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «5»، و اعلم أنّ قوله: إِنَّا تارة يراد به التّعظيم، و حمله على الجمع محال؛ لأنّ الدّلائل دلّت على وحدة الصّانع، و لأنّه لو كان كلّ في الآلهة كثرة لانحطّت رتبة كلّ واحد منهم عن الإلهيّة؛ لأنّه لو

كان كلّ واحد منهم قادرا على الكمال لاستغنى بكلّ واحد منهم عن كلّ واحد منهم، و كونه مستغنى عنه نقص في حقّه فيكون الكلّ ناقصا، و إن لم يكن كلّ واحد منهم قادرا على الكمال كان ناقصا، فعلمنا أنّ قوله: إِنَّا محمول على التّعظيم لا على الجمع.

المسألة الثّالثة: إن قيل: ما معنى أنّه أنزل في ليلة القدر، مع العلم بأنّه أنزل نجوما؟

______________________________

(1)- الواقعة/ 83.

(2)- البقرة/ 30.

(3)- الحجر/ 9.

(4)- نوح/ 1.

(5)- الكوثر/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 132

قلنا فيه وجوه؛

أحدها: قال الشّعبيّ: ابتدأ بإنزاله ليلة القدر؛ لأنّ البعث كان في رمضان.

و الثّاني: قال ابن عبّاس: أنزل إلى سماء الدّنيا جملة ليلة القدر، ثمّ إلى الأرض نجوما، كما قال فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ «1»، و قد ذكرنا هذه المسألة في قوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2». لا يقال: فعلى هذا القول لم لم يقل. أنزلناه إلى السّماء؟ لأنّ إطلاقه يوهم الإنزال إلى الأرض؛ لأنّا نقول: إنّ إنزاله إلى السّماء كإنزاله إلى الأرض، لأنّه لم يكن ليشرع في أمر ثمّ لا يتمّه، و هو كغائب جاء إلى نواحي البلد يقال: جاء فلان، أو يقال:

الغرض من تقريبه و إنزاله إلى سماء الدّنيا أن يشوّقهم إلى نزوله، كمن يسمع الخبر بمجي ء منشور لوالده أو أمّه، فإنّه يزداد شوقه إلى مطالعته كما قال:

و أبرح ما يكون الشّوق يوماإذا دنت الدّيار من الدّيار و هذا لأنّ السّماء كالمشترك بيننا و بين الملائكة، فهي لهم مسكن و لنا سقف و زينة، كما قال: وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً «3»، فإنزاله القرآن هناك كإنزاله هاهنا.

و الوجه الثّالث في الجواب: أنّ التّقدير أنزلنا هذا الذّكر فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، أي في فضيلة ليلة القدر

و بيان شرفها.

المسألة الرّابعة: القدر: مصدر قدرت أقدر قدرا، و المراد به ما يمضيه اللّه من الأمور؛ قال: إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ «4» و القدر، و القدر واحد، إلّا أنّه بالتّسكين مصدر و بالفتح اسم؛ قال الواحديّ: القدر في اللّغة بمعنى التّقدير، و هو جعل الشّي ء على مساواة غيره من غير زيادة و لا نقصان.

و اختلفوا في أنّه لم سمّيت هذه اللّيلة ليلة القدر، على وجوه؛

أحدها: أنّها ليلة تقدير الأمور و الأحكام، قال عطاء، عن ابن عبّاس: إنّ اللّه قدّر ما

______________________________

(1)- الواقعة/ 75.

(2)- البقرة/ 185.

(3)- الأنبياء/ 32.

(4)- القمر/ 49.

نصوص في علوم القرآن، ص: 133

يكون في تلك السّنة من مطر و رزق و إحياء و إماتة إلى مثل هذه اللّيلة من السّنة الآتية، و نظيره قوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «1». و اعلم أنّ تقدير اللّه لا يحدث في تلك اللّيلة، فإنّه تعالى قدّر المقادير قبل أن يخلق السّماوات و الأرض في الأزل، بل المراد إظهار تلك المقادير للملائكة في تلك اللّيلة بأن يكتبها في اللّوح المحفوظ، و هذا القول اختيار عامّة العلماء.

الثّاني: نقل عن الزّهريّ أنّه قال: لَيْلَةِ الْقَدْرِ: ليلة العظمة و الشّرف، من قولهم:

لفلان قدر عند فلان، أي منزلة و شرف، و يدلّ عليه قوله: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ «2».

ثمّ هذا يحتمل وجهين؛

أحدهما: أن يرجع ذلك إلى الفاعل، أي من أتى فيها بالطّاعات صار ذا قدر و شرف.

و ثانيهما: إلى الفعل، أي الطّاعات لها في تلك اللّيلة قدر زائد و شرف زائد، و عن أبي بكر الورّاق سمّيت (ليلة القدر) لأنّه نزل فيها كتاب ذو قدر، على لسان ملك ذي قدر، على أمّة لها قدر، و لعلّ اللّه

تعالى إنّما ذكر لفظة القدر في هذه السّورة ثلاث مرّات لهذا السّبب ... [إلى أن قال:]

المسألة السّابعة: هذه اللّيلة هل هي باقية؟ قال الخليل: من قال: إنّ فضلها لنزول القرآن فيها، يقول: انقطعت و كانت مرّة، و الجمهور على أنّها باقية. و على هذا هل هي مختصّة برمضان أم لا؟ روي عن ابن مسعود أنّه قال: من يقم الحول يصبها. و فسّرها عكرمة بليلة البراءة في قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «3»، و الجمهور على أنّها مختصّة برمضان، و احتجّوا عليه بقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «4»، و قاله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «5». فوجب أن تكون ليلة القدر في رمضان؛ لئلّا يلزم التّناقض، و على هذا القول اختلفوا في تعيينها على ثمانية أقوال؛ فقال ابن رزين: ليلة القدر هي اللّيلة

______________________________

(1)- الدّخان/ 3.

(2)- القدر/ 3.

(3)- الدّخان/ 3.

(4)- البقرة/ 185.

(5)- القدر/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 134

الأولى من رمضان، و قال الحسن البصريّ: السّابعة عشرة، و عن أنس مرفوعا: التّاسعة عشرة، و قال محمّد بن إسحاق: الحادية و العشرون، و عن ابن عبّاس: الثّالثة و العشرون، و قال ابن مسعود: الرّابعة و العشرون، و قال أبو ذر الغفاريّ: الخامسة و العشرون، و قال أبيّ بن كعب و جماعة من الصّحابة: السّابعة و العشرون، و قال بعضهم: التّاسعة و العشرون.

أمّا الّذين قالوا: إنّها اللّيلة الأولى فقد قالوا: روى وهب أنّ صحف إبراهيم أنزلت في اللّيلة الأولى من رمضان، و التّوراة لستّ ليال مضين من رمضان بعد صحف إبراهيم بسبعمائة سنة، و أنزل الزّبور على داود لثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان بعد التّوراة بخمسمائة عام، و أنزل الإنجيل على عيسى لثمان

عشرة ليلة خلت من رمضان بعد الزّبور بستّمائة عام و عشرين عاما، و كان القرآن ينزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم في كلّ ليلة قدر من السّنة إلى السّنة، كان جبريل عليه السّلام ينزل به من بيت العزّة من السّماء السّابعة إلى سماء الدّنيا، فأنزل اللّه تعالى القرآن في عشرين شهرا في عشرين سنة، فلمّا كان هذا الشّهر هو الشّهر الّذي حصلت فيه هذه الخيرات العظيمة. لا جرم كان في غاية الشّرف و القدر و الرّتبة، فكانت اللّيلة الأولى منه ليلة القدر. و أمّا الحسن البصريّ فإنّه قال: هي ليلة سبعة عشر؛ لأنّها ليلة كانت صبيحتها وقعة بدر، و أمّا التّاسعة عشرة فقد روى أنس فيها خبرا، و أمّا اللّيلة الحادية و العشرون فقد مال الشّافعيّ إليه لحديث الماء و الطّين، و الّذي عليه المعظم أنّها ليلة السّابع و العشرين.

و ذكروا فيه أمارات ضعيفة؛ أحدها: حديث ابن عبّاس: أنّ السّورة ثلاثون كلمة، و قوله: (هي) هي السّابعة و العشرون منها.

و ثانيها: روي أنّ عمر سأل الصّحابة، ثمّ قال لابن عبّاس: غص يا غوّاص، فقال زيد ابن ثابت: أحضرت أولاد المهاجرين و ما أحضرت أولادنا. فقال عمر: لعلّك تقول: إنّ هذا غلام، و لكن عنده ما ليس عندكم، فقال ابن عبّاس: أحبّ الأعداد إلى اللّه تعالى الوتر، و أحبّ الوتر إليه السّبعة، فذكر السّماوات السّبع و الأرضين السّبع و الأسبوع و دركات النّار و عدد الطّواف و الأعضاء السّبعة. فدلّ على أنّها السّابعة و العشرون.

و ثالثها: نقل أيضا عن ابن عبّاس، أنّه قال: لَيْلَةِ الْقَدْرِ تسعة أحرف، و هو مذكور

نصوص في علوم القرآن، ص: 135

ثلاث مرّات، فتكون السّابعة و العشرين.

و رابعها: أنّه كان

لعثمان بن أبي العاص غلام، فقال: يا مولاى إنّ البحر يعذب ماؤه ليلة من الشّهر، قال: إذا كانت تلك اللّيلة، فأعلمني فإذا هي السّابعة و العشرون من رمضان. و أمّا من قال: إنّها اللّيلة الأخيرة، قال: لأنّها هي اللّيلة الّتي تنمو فيها طاعات هذا الشّهر، بل أوّل رمضان كآدم و آخره كمحمّد، و لذلك روي في الحديث، يعتق في آخر رمضان بعدد ما عتق من أوّل الشّهر، بل اللّيلة الأولى كمن ولد له ذكر، فهي ليلة شكر، و الأخيرة ليلة الفراق. كمن مات له ولد، فهي ليلة صبر، و قد علمت فرق ما بين الصّبر و الشّكر.

ثمّ قال تعالى: وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ يعني و لم تبلغ درايتك غاية فضلها و منتهى علوّ قدرها ... (32: 27- 30)

نصوص في علوم القرآن، ص: 136

الفصل الخامس عشر نصّ أبي شامة (م: 665 ه) في تفسيره: «المرشد الوجيز»

في البيان عن كيفيّة نزول القرآن ...

قال اللّه تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «1»، و قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «2»، و قال جلّت قدرته: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «3»، فليلة القدر هي اللّيلة المباركة، و هي في شهر رمضان جمعا بين هؤلاء الآيات؛ إذ لا منافاة بينها، فقد دلّت الأحاديث الصّحيحة على أنّ ليلة القدر في شهر رمضان، و أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بالتماسها في العشرة الأخيرة «4» منه؛ و لا ليلة أبرك من ليلة، هي خير من ألف شهر. فتعيّن حمل قوله سبحانه: فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ على ليلة القدر. كيف و قد أرشد إلى ذلك قوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «5»، فهو موافق لمعنى تسميتها بليلة القدر؛ لأنّ معناه التّقدير، فإذا ثبت هذا، علمت أنّه قد أبعد من قال: اللّيلة المباركة هي ليلة

النّصف من شعبان، و أنّ قوله

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- الدّخان/ 3.

(3)- القدر/ 1.

(4)- صحيح البخاريّ 2: 254؛ و سنن أبي داود 2: 70- 72.

(5)- الدّخان/ 4.

نصوص في علوم القرآن، ص: 137

تعالى: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «1» معناه أنزل في شأنه و فضل صيامه و بيان أحكامه، و أنّ ليلة القدر توجد في جميع السّنة لا تختصّ بشهر رمضان، بل هي منتقلة في الشّهور على ممرّ السّنين، و اتّفق أن وافقت زمن إنزال القرآن ليلة النّصف من شعبان.

و إبطال هذا القول متحقّق بالأحاديث الصّحيحة الواردة في بيان ليلة القدر و صفاتها و أحكامها على ما سنقرّره إن شاء اللّه تعالى في المسائل الفقهيّة بين كتابي الصّيام و الاعتكاف.

و بما اخترناه من القول في الجمع بين الآيات الثّلاث، ورد الخبر عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، و هو ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، المشهود له بأنّه حبر الأمّة و ترجمان القرآن.

أخرج الحافظ أبو بكر البيهقيّ في «كتاب الأسماء و الصّفات»، من حديث السّدّيّ، عن محمّد بن أبي المجالد، عن مقسم، عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، قال: سأله عطيّة بن الأسود ...

[و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:]

قلت: رسلا، أي رفقا، و قوله: على مواقع النّجوم، أي على مثل مواقع النّجوم، و مواقعها: مساقطها. يريد أنزل مفرّقا يتلو بعضه بعضا على تؤدة و رفق، فقوله: على مواقع النّجوم في موضع نصب على الحال، و رسلا، أي ذا رسل، يريد مفرّقا رافقا.

و دلّ أيضا على أنّ إنزال القرآن كان في شهر رمضان رواية قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة بن الأسقع ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:]

هكذا أخرجه البيهقيّ في كتاب

«الأسماء و الصّفات» «2» و «شعب الإيمان» «3» له، و ذكره أيضا الثّعلبيّ في تفسيره «4» و غيره.

و وقع في «تفسير الماورديّ» «5» و غيره: و أنزل الزّبور لثنتي عشرة و الإنجيل لثماني

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- الأسماء و الصّفات: 234.

(3)- شعب الإيمان 1: 370.

(4)- انظر: تفسير الثّعلبيّ 1: 112.

(5)- تفسير الماورديّ 1: 85.

نصوص في علوم القرآن، ص: 138

عشرة «1»، و كذلك هو في كتاب أبي عبيد.

و في بعض التّفاسير عكس هذا؛ الإنجيل لثنتي عشرة و الزّبور لثماني عشرة، و اتّفقوا على أنّ صحف إبراهيم عليه السّلام لأوّل ليلة، و التّوراة لستّ مضين، و القرآن لأربع و عشرين خلت. قال أبو عبد اللّه الحليميّ: يريد ليلة خمس و عشرين «2».

و ذكر أبو بكر ابن أبي شيبة- و هو أحد شيوخ مسلم- في «كتاب ثواب القرآن» «3» عن أبي قلابة، قال: أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع و عشرين من رمضان. و عنه: أنزلت التّوراة لستّ، و الزّبور لثنتي عشرة، و في رواية أخرى: الزّبور في ستّ، يعني من رمضان «4».

قال البيهقيّ فى معنى قوله: أنزل القرآن لأربع و عشرين، إنّما أراد- و اللّه أعلم- نزول الملك بالقرآن من اللّوح المحفوظ إلى سماء الدّنيا «5». و قال في معنى قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «6»: يريد- و اللّه أعلم- إنّا أسمعناه الملك و أفهمناه إيّاه و أنزلناه بما سمع، فيكون الملك منتقلا به من علوّ إلى سفل «7».

قلت: هذا المعنى مطّرد في جميع ألفاظ الإنزال المضافة إلى القرآن أو إلى شي ء منه، يحتاج إلى نحو هذا التّأويل أهل السّنّة المعتقدون قدم القرآن، و أنّه صفة قائمة بذات اللّه تعالى. و في المقصود بالإنزال الخاصّ المضاف إلى

ليلة القدر أقوال؛

أحدها: أنّه ابتدئ إنزاله فيها.

و الثّاني: أنّه أنزل فيها جملة واحدة.

و الثّالث: أنّه أنزل في عشرين ليلة من عشرين سنة.

فنذكر ما حضرنا من الآثار في ذلك و من أقوال المفسّرين.

______________________________

(1)- الّذي في تفسير الماورديّ 1: 62 هو «و أنزل الإنجيل لثلاث عشرة» و اللّه أعلم.

(2)- في كتابه المنهاج 2: 103.

(3)- ثواب القرآن هو باب من أبواب مصنّف ابن أبي شيبة، و ليس كتابا مستقلّا كما يفهم من المتن.

(4)- المصنّف 2: 162.

(5)- الأسماء و الصّفات: 234.

(6)- القدر/ 1.

(7)- الأسماء و الصّفات: 229.

نصوص في علوم القرآن، ص: 139

قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلّام في كتاب «فضائل القرآن»: حدّثنا يزيد- يعني ابن هارون- عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عبّاس ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:]

أخرجه الحاكم أبو عبد اللّه في كتاب «المستدرك على الصّحيحين»، و قال في آخر:

هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه.

و رواه عبد الأعلى، عن داود، و قال: فكان اللّه إذا أراد أن يوحي منه شيئا أوحاه أو يحدث في الأرض منه شيئا أحدثه «1».

قال أبو عبيد: لا أدري كيف قرأه يزيد في حديثه، إلّا أنّه لا ينبغي أن يكون على هذا التّفسير إلّا «فرّقناه» بالتّشديد.

قال أبو نصر ابن القشيريّ في تفسيره: فَرَقْناهُ، أي فصّلناه «2».

قال ابن جبير: نزل القرآن كلّه من السّماء العليا إلى السّماء السّفلى، ثمّ فصّل في السّماء السّفلى في السّنين الّتي نزل فيها.

قال قتادة: كان بين أوّله و آخره عشرون سنة، و لهذا قال: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ «3».

و قيل: فَرَقْناهُ، أي جعلناه آية آية و سورة سورة، و قيل: فصّلناه أحكاما، كقوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ

«4»، أي يفصل. و قيل: فَرَقْناهُ بالتّشديد، أي أنزلناه مفرّقا؛ عَلى مُكْثٍ على تؤدة و ترسّل، وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا، أي نجما بعد نجم. و قيل:

جعلناه منازل و مراتب ينزل شيئا بعد شي ء، و لو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا.

و أسند الحاكم أبو عبد اللّه في كتابه: «المستدرك» من حديث ابن أبي شيبة، حدّثنا

______________________________

(1)- الأسماء و الصّفات: 235.

(2)- تفسير القشيريّ: 340.

(3)- الإسراء/ 106.

(4)- الدّخان/ 4.

نصوص في علوم القرآن، ص: 140

جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه في قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ ... «1». [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ]. و أسنده البيهقيّ في دلائله «2» و الواحديّ في تفسيره.

و أسند البيهقيّ في «كتاب الشّعب»، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:]

قلت: هو من قولهم: نجم عليه الدّية، أي قطّعها، و منه نجوم الكتابة، فلمّا قطّع اللّه سبحانه القرآن و أنزله مفرّقا قيل لتفاريقه: نجوم و مواقعها: مساقطها، و هي أوقات نزولها، و قد قيل: إنّ المراد بِمَواقِعِ النُّجُومِ مغارب نجوم السّماء، و اللّه أعلم.

و قوله في الرّواية الأولى: و كان بموقع النّجوم، أي بمنزلة ذلك في تفرّقه و عدم تتابعه على وجه الاتّصال، و إنّما هو على حسب الوقائع و النّوازل، و كذا مواقع النّجوم بحساب أزمنة معلومة تمضي. و قرئ بِمَواقِعِ بالجمع، و (بموقع) بالإفراد «3».

و قال أبو الحسن الواحديّ المفسّر، و قال مقاتل: أنزله اللّه من اللّوح المحفوظ إلى السّفرة، و هم الكتبة من الملائكة في السّماء الدّنيا، فكان ينزل ليلة القدر من الوحي على قدر ما ينزل به جبريل عليه السّلام على النّبيّ صلّى اللّه

عليه و سلم في السّنة كلّها إلى مثلها من العام القابل، حتّى نزل القرآن كلّه في ليلة القدر، و نزل به جبريل عليه السّلام على محمّد صلّى اللّه عليه و سلم في عشرين سنة «4».

و في «كتاب المنهاج» لأبي عبد اللّه الحليميّ: كان ينزل من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا في كلّ ليلة، قدر ما ينزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم إلى اللّيلة تليها «5»، فينزل جبريل عليه السّلام ذلك نجوما بأمر اللّه تعالى فيما بين اللّيلتين من السّنة إلى أن ينزل القرآن كلّه من اللّوح المحفوظ في عشرين ليلة من عشرين سنة «6».

______________________________

(1)- القدر/ 1.

(2)- يعني دلائل النّبوّة 4: 172 و ذكره أيضا في كتاب الأسماء و الصّفات: 234.

(3)- قرأ حمزة و الكسائي «بموقع» بإسكان الواو من غير ألف، و الباقون بفتح الواو و ألف بعدها (التّيسير: 207).

(4)- الوسيط 2: 953، البسيط 5: 493.

(5)- أي ليلة القدر الّتي تليها.

(6)- المنهاج 2/ 103.

نصوص في علوم القرآن، ص: 141

قلت: فهذان قولان في كيفيّة إنزاله في ليلة القدر؛ أحدهما: أنّه نزل جملة واحدة، و الثّاني: أنّه نزل في عشرين ليلة من عشرين سنة.

و ذكر أبو الحسن الماورديّ في تفسيره، قال: نزل القرآن في رمضان، و في ليلة القدر، و في ليلة مباركة جملة واحدة من عند اللّه تعالى من اللّوح المحفوظ إلى السّفرة الكرام الكاتبين في السّماء الدّنيا، فنجّمته السّفرة على جبريل عليه السّلام عشرين ليلة، و نجّمه جبريل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم عشرين سنة، فكان ينزل على مواقع النّجوم إرسالا في الشّهور و الأيّام «1».

ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2»، قال: فيه قولان؛ أحدهما:

ما روي عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، فذكر ذلك، و كأنّه قول ثالث غير القولين المقدّمين، أو أراد الجمع بينهما، فإنّ قوله: نزل جملة واحدة، هو القول الأوّل، و قوله: فنجّمته السّفرة على جبريل عشرين ليلة، هو القول الثّاني، كأنّه فسّر قول من قال: نزل في عشرين ليلة، بأنّ المراد بهذا الإنزال تنجيم السّفرة ذلك على جبريل؛ قال: و القول الثّاني: أنّ اللّه عزّ و جلّ ابتدأ بإنزاله في ليلة القدر، قال: و هذا قول الشّعبيّ «3».

قلت: هو إشارة إلى ابتداء إنزال القرآن على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، فإنّ ذلك كان و هو متحنّث بحراء في شهر رمضان، و قد بيّنت ذلك في «شرح حديث المبعث» «4» و غيره، و هذا و إن كان الأمر فيه كذلك إلّا أنّ تفسير الآية به بعيد مع ما قد صحّ من الآثار عن ابن عبّاس، أنّه نزل جملة إلى سماء الدّنيا، على ما تقدّم.

و في الكتاب «المستدرك» أيضا عن الأعمش، عن حسّان بن حريث عن سعيد بن جبير ... [و ذكر كما تقدّم عن الحاكم].

و خرّجه أبو بكر بن أبي شيبة في «كتاب ثواب القرآن» عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه في قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قال: رفع إلى جبريل في ليلة القدر جملة، فرفع في بيت

______________________________

(1)- تفسير الماورديّ 6: 311.

(2)- القدر/ 1.

(3)- انظر: المصدر السّابق و الصّفحة المذكورة.

(4)- سمّاه المؤلّف في كتابه «الذّيل على الرّوضتين»: 39: «شرح الحديث المقتفى في مبعث النّبيّ المصطفى».

نصوص في علوم القرآن، ص: 142

العزّة، ثمّ جعل ينزل تنزيلا «1».

و في «تفسير الثّعلبيّ» عن ابن عبّاس قال: أنزل القرآن جملة واحدة من اللّوح المحفوظ في ليلة القدر

من شهر رمضان، فوضع في بيت العزّة من السّماء الدّنيا، ثمّ نزل به جبريل على محمّد صلّى اللّه عليه و سلم نجوما عشرين سنة، فذلك قوله عزّ و جلّ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ «2».

و قال أبو عبيد: حدّثنا ابن أبي عديّ، عن داود بن أبي هند، قال: قلت للشّعبيّ: قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «3»، أما نزل عليه القرآن في سائر السّنة إلّا في شهر رمضان؟ قال: بلى، و لكن جبريل كان يعارض محمّدا عليهما السّلام بما ينزل عليه في سائر السّنة في شهر رمضان.

زاد الثّعلبيّ في تفسيره: فيحكم اللّه ما يشاء و يثبت ما يشاء و يمحو ما يشاء و ينسيه ما يشاء «4».

زاد غير الثّعلبيّ: فلمّا كان في العام الّذي قبض فيه عرضه عرضتين، فاستقرّ ما نسخ منه و بدّل.

و قال أبو القاسم البغويّ: حدّثنا الحسن بن سفيان، حدّثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، حدّثنا ابن أبي عديّ، عن داود بن أبي هند، عن الشّعبيّ: أنّ جبريل عليه السّلام كان يعارض النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بما أنزل عليه في سائر السّنة في شهر رمضان.

و عن أبي عبيد، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أيّوب السّختيانيّ، عن محمّد بن سيرين، قال: نبّئت أنّ القرآن كان يعرض على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم كلّ عام مرّة في شهر رمضان، فلمّا كان العام الّذي توفّي فيه عرض عليه مرّتين. قال ابن سيرين: فيرون أو يرجون أن تكون قراءتنا هذه أحدث القراءات عهدا بالعرضة الأخيرة.

______________________________

(1)- المصنف 2: 162.

(2)- الواقعة/ 75، انظر تفسير الثّعلبيّ 1: 111.

(3)- البقرة/ 185.

(4)- تفسير الثّعلبيّ 1: 112.

نصوص في علوم القرآن، ص: 143

قال ابن أبي شيبة: حدّثنا الحسين

بن عليّ، عن أبيه، عن ابن جدعان، عن ابن سيرين، عن عبيدة السّلمانيّ، قال: القراءة الّتي عرضت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في العام الّذي قبض فيه هي القراءة الّتي يقرأها النّاس اليوم «1».

و رأيت في بعض التّفاسير، قال: و قال جماعة من العلماء: نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر من اللّوح المحفوظ إلى بيت يقال له بيت العزّة، فحفظه جبريل عليه السّلام، و غشي على أهل السّماوات من هيبة كلام اللّه، فمرّ بهم جبريل و قد أفاقوا فقالوا: ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَ «2» يعني القرآن، و هو معنى قوله: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ «3»، فأتى به جبريل إلى بيت العزّة، فأملاه جبريل على السّفرة الكتبة، يعني الملائكة، و هو قوله تعالى:

بِأَيْدِي سَفَرَةٍ* كِرامٍ بَرَرَةٍ «4». نقلته من كتاب «شفاء القلوب»، و هو تفسير عليّ بن سهل النّيسابوريّ.

و ما رواه داود عن الشّعبيّ يعدّ قولا رابعا في معنى قوله تعالى: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «5»، و كأنّه نزل عرضه و إحكامه في رمضان من كلّ سنة منزلة إنزاله فيه، مع أنّه قد لا ينفكّ من إحداث إنزال ما لم ينزل أو تغيير بعض ما نزل بنسخ أو إباحة تغيير بعض ألفاظه على ما سيأتي، و إن ضمّ إلى ذلك كونه ابتدأ نزوله في شهر رمضان ظهرت قوّته.

و قد أوضحنا في كتاب «شرح حديث المبعث» أنّ أوّل ما نزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ «6»، و ذلك بحراء عند ابتداء نبوّته، و يجوز أن يكون قوله: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «7»، إشارة إلى كلّ ذلك، و هو كونه أنزل جملة إلى السّماء الدّنيا و

أوّل نزوله إلى الأرض و عرضه و إحكامه في شهر رمضان، فقويت ملابسة شهر رمضان للقرآن، إنزالا

______________________________

(1)- المصنّف 2: 164.

(2)- سبأ/ 23.

(3)- سبأ/ 23.

(4)- عبس/ 15 و 16.

(5)- البقرة/ 185.

(6)- العلق/ 1.

(7)- البقرة/ 185.

نصوص في علوم القرآن، ص: 144

جملة و تفصيلا و عرضا و إحكاما، فلم يكن شي ء من الأزمان تحقّق له من الظّرفيّة للقرآن ما تحقّق لشهر رمضان، فلمجموع هذه المعاني قيل: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ.

فإن قلت: ما السّر في إنزاله جملة إلى السّماء الدّنيا؟

قلت: فيه تفخيم لأمره و أمر من أنزل عليه، و ذلك بإعلام سكّان السّماوات السّبع أنّ هذا آخر الكتب، المنزل على خاتم الرّسل لأشرف الأمم، قد قرّبناه إليهم لننزّله عليهم، و لو لا أنّ الحكمة الإلهيّة اقتضت وصوله إليهم منجّما بحسب الوقائع لم نهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، و لكنّ اللّه تعالى باين بينه و بينها فجمع له الأمرين؛ إنزاله جملة ثمّ إنزاله مفرّقا. و هذا من جملة ما شرّف به نبيّنا صلّى اللّه عليه و سلم، كما شرّف بحيازة درجتي الغنيّ الشّاكر و الفقير الصّابر، فأوتي مفاتيح خزائن الأرض، فردّها و اختار الفقر و الإيثار بما فتح اللّه عليه من البلاد، فكان غنيّا شاكرا و فقيرا صابرا صلّى اللّه عليه و سلم.

فإن قلت: في أيّ زمان نزل جملة إلى السّماء الدّنيا، أبعد ظهور نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلم أم قبلها؟

قلت: الظّاهر أنّه قبلها، و كلاهما محتمل، فإن كان بعدها، فالأمر على ما ذكرناه من التّفخيم له و لمن أنزل عليه، و إن كان قبلها، ففائدته أظهر و أكثر، لأنّ فيه إعلام الملائكة بقرب ظهور أمّة أحمد المرحومة الموصوفة في الكتب السّالفة، و إرسال

نبيّهم خاتم الأنبياء، كما أعلم اللّه سبحانه و تعالى الملائكة قبل خلق آدم بأنّه جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «1»، و كما أعلمهم أيضا قبل إكمال خلق آدم عليه السّلام بأنّه يخرج من ذرّيته محمّد و هو سيّد ولده. و على ذلك حملنا قوله صلّى اللّه عليه و سلم: «كنت نبيّا و آدم بين الماء و الطّين» «2»، على ما أوضحناه في كتاب «شرح المدائح النّبويّة» «3»، و كان العلم بذلك حاصلا عند الملائكة. أ لا ترى أنّ في حديث الإسراء «4» «لمّا كان جبريل يستفتح له السّماوات سماء سماء كان يقال

______________________________

(1)- الإشارة إلى الآية رقم 30 من سورة البقرة.

(2)- شرح المواهب 1: 55.

(3)- هو شرح لأبي شامة على «القصائد النّبويّة» لعلم الدّين السّخاويّ المتوفّى سنة 643 ه/ 1245 م، و هذا الشّرح أوّل مؤلّفاته.

(4)- انظر حديث الإسراء في البخاريّ 4: 247، و مسلم 1: 99.

نصوص في علوم القرآن، ص: 145

له: من هذا؟ فيقول: جبريل، فيقال: من معك؟ فيقول: محمّد، فيقال: و قد بعث إليه؟ فيقول:

نعم». فهذا كلام من كان عنده علم بذلك قبل ذلك.

و قد تكلّم على فائدة إنزال القرآن جملة شيخنا أبو الحسن؛ ببعض ما ذكرناه «1».

و وقفت على كلام حسن للحكيم التّرمذيّ أبي عبد اللّه محمّد بن عليّ في تفسيره، فقال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السّماء الدّنيا تسليما منه للأمّة ما كان أبرز لهم من الحظّ بمبعث محمّد صلّى اللّه عليه و سلم، و ذلك أنّ بعثة محمّد صلّى اللّه عليه و سلم كانت رحمة، فلمّا خرجت الرّحمة بفتح الباب جاءت بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلم و بالقرآن، فوضع القرآن ببيت العزّة في السّماء الدّنيا ليدخل في حدّ الدّنيا، و

وضعت النّبوّة في قلب محمّد صلّى اللّه عليه و سلم، و جاء جبريل عليه السّلام بالرّسالة ثمّ الوحي. كأنّه أراد تبارك و تعالى أن يسلّم هذه الرّحمة الّتي كانت حظّ هذه الأمّة من اللّه تعالى إلى الأمّة، ثمّ أجرى من السّماء الدّنيا الآية بعد الآية عند نزول النّوائب؛ قال اللّه تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «2»، و قال عزّ و جلّ: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «3».

و قال الشّيخ أبو الحسن في كتابه «جمال القرّاء ...»: في ذلك تكريم بني آدم، و تعظيم شأنهم عند الملائكة، و تعريفهم عناية اللّه عزّ و جلّ بهم و رحمته لهم، و لهذا المعنى أمر سبعين ألفا من الملائكة لمّا أنزل سورة الأنعام أن تزفّها، و زاد سبحانه في هذا المعني بأنّ أمر جبريل عليه السّلام بإملائه على السّفرة الكرام البررة عليهم السّلام و إنساخهم إيّاه و تلاوتهم له ... ثمّ ساق الكلام إلى آخره «4».

فإن قلت: فقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «5» من جملة القرآن الّذي نزل جملة، أم لا؟ فإن لم يكن منه فما نزل جملة، و إن كان منه فما وجه صحّة هذه العبارة؟

قلت: له وجهان؛

______________________________

(1)- جمال القرّاء: 5.

(2)- الأنبياء/ 107.

(3)- يونس/ 57.

(4)- جمال القرّاء: 5.

(5)- القدر/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 146

أحدهما: أن يكون معنى الكلام إنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، و قضينا به، و قدّرناه في الأزل، و شئناه، و ما أشبه ذلك.

و الثّاني: أنّ لفظه لفظ الماضي، و معناه الاستقبال، و له نظائر في القرآن و غيره، أي ننزّله جملة في ليلة مباركة، هي

ليلة القدر. و اختير لفظ الماضي لأمرين؛ أحدهما: تحقّقه و كونه أمرا لا بدّ منه. و الثّاني: أنّه حال اتّصاله بالمنزل عليه، يكون الماضي في معناه محقّقا؛ لأنّ نزوله منجّما كان بعد نزوله جملة واحدة، و كلّ ذلك حسن واضح، و اللّه أعلم.

فإن قلت: ما السّرّ في نزوله إلى الأرض منجّما، و هلّا أنزل جملة كسائر الكتب؟

قلت: هذا سؤال قد تولّى اللّه سبحانه الجواب عنه، فقال في كتابه العزيز: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «1»، يعنون كما أنزل على من كان قبله من الرّسل، فأجابهم اللّه تعالى بقوله: كَذلِكَ، أي أنزلناه كذلك مفرّقا لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ، أي لنقوّي به قلبك، فإنّ الوحي إذا كان يتجدّد في كلّ حادثة كان أقوى للقلب و أشدّ عناية بالمرسل إليه، و يستلزم ذلك كثرة نزول الملك عليه و تجديد العهد له و بما معه من الرّسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السّرور ما تقصر عنه العبارة، و لهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة نزول جبريل عليه السّلام عليه فيه على ما سنذكره.

و قيل: معنى لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ «2»، أي لتحفظه، فيكون فؤادك ثابتا به غير مضطرب.

و كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم أمّيّا لا يكتب و لا يقرأ، ففرّق عليه القرآن ليتيسّر عليه حفظه، و لو نزل جملة لتعذّر عليه حفظه في وقت واحد على ما أجرى اللّه تعالى به عوائد خلقه، و التّوراة نزلت على موسى عليه السّلام مكتوبة و كان كاتبا قارئا، و كذا كان غيره، و اللّه أعلم.

فإن قلت: كان في القدرة إذا أنزله جملة أن يسهل عليه حفظه دفعة واحدة.

قلت: ما كلّ ممكن

في القدرة بلازم وقوعه، فقد كان في قدرته تعالى أن يعلّمه الكتابة و القراءة في لحظة واحدة، و أن يلهمهم الإيمان به، و لكنّه لم يفعل، و لا معترض

______________________________

(1)- الفرقان/ 32.

(2)- الفرقان/ 32.

نصوص في علوم القرآن، ص: 147

عليه في حكمه، وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى «1»، وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ «2».

و أيضا في القرآن ما هو جواب عن أمور سألوه عنها، فهو سبب من أسباب تفريق النّزول، و لأنّ بعضه منسوخ و بعضه ناسخ، و لا يتأتّى ذلك إلّا فيما أنزل مفرّقا.

فهذه وجوه و معان حسنة في حكمة نزوله منجّما، و كان بين نزول أوّل القرآن و آخره عشرون أو ثلاث و عشرون أو خمس و عشرون سنة، و هو مبنيّ على الخلاف في مدّة إقامة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بمكّة بعد النّبوّة، فقيل: عشر، و قيل: ثلاث عشرة، و قيل: خمس عشرة، و لم يختلف في مدّة إقامته بالمدينة أنّها عشر، و اللّه أعلم.

و كان اللّه تعالى قد وعد نبيّه صلّى اللّه عليه و سلم حفظ القرآن و بيانه، و ضمن له عدم نسيانه بقوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ «3»، أي علينا أن نجمعه في صدرك فتقرأه فلا ينفلت عنك منه شي ء، و قال تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى «4»، أي غير ناس له.

و في الصّحيحين عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:]

فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ «5»، قال: أنزلناه فاستمع له، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا

بَيانَهُ «6»، أن نبيّنه بلسانك، فكان إذا أتاه جبريل عليه السّلام أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده اللّه تعالى «7».

[ثمّ ذكر رواية موسى بن إسماعيل بسنده عن ابن عبّاس كما تقدّم عن البخاريّ، فقال:]

______________________________

(1)- الأنعام/ 35.

(2)- البقرة/ 253.

(3)- القيامة/ 16 و 17.

(4)- الأعلى/ 6.

(5)- القيامة/ 18.

(6)- القيامة/ 19.

(7)- البخاريّ 6: 76 و 112؛ مسلم 2: 35.

نصوص في علوم القرآن، ص: 148

و عن ابن شهاب، قال: أخبرني أنس بن مالك أنّ اللّه تعالى تابع الوحي على رسوله قبل وفاته حتّى توفّاه أكثر ما كان الوحي، ثمّ توفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بعد «1». هذا لفظ البخاريّ، و لمسلم: إنّ اللّه عزّ و جلّ تابع الوحي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قبل وفاته حتّى توفّي، و أكثر ما كان الوحي يوم توفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «2».

قلت: يعني عام وفاته أو حين وفاته، يريد أيّام مرضه كلّها، كما يقال: يوم الجمل و يوم صفّين، و كانت أيّاما، و اللّه أعلم. (ص: 9- 31)

______________________________

(1)- البخاريّ 6: 97.

(2)- مسلم 8: 238.

نصوص في علوم القرآن، ص: 149

الفصل السّادس عشر نصّ القرطبيّ (م: 671 ه) في تفسيره: «الجامع لأحكام القرآن»

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ البقرة/ 185

نصّ في أنّ القرآن نزل في شهر رمضان، و هو يبيّن قوله عزّ و جلّ: حم* وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «1» يعني ليلة القدر، و لقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2». و في هذا دليل على أنّ ليلة القدر، إنّما تكون في رمضان لا في غيره.

و لا خلاف أنّ القرآن أنزل من اللّوح المحفوظ ليلة القدر- على ما بيّنّاه- جملة واحدة، فوضع في بيت العزّة في سماء الدّنيا، ثمّ كان جبريل عليه السّلام ينزل به نجما نجما

في الأوامر و النّواهي و الأسباب، و ذلك في عشرين سنة.

و قال ابن عبّاس: أنزل القرآن من اللّوح المحفوظ جملة واحدة إلى الكتبة في سماء الدّنيا، ثمّ نزل به جبريل عليه السّلام نجوما، يعني الآية و الآيتين في أوقات مختلفة في إحدى و عشرين سنة.

و قال مقاتل في قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي ... قال: أنزل من اللّوح المحفوظ كلّ عام في ليلة القدر إلى سماء الدّنيا، ثمّ نزل إلى السّفرة من اللّوح المحفوظ في عشرين

______________________________

(1)- الدّخان/ 1- 3.

(2)- القدر/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 150

شهرا، و نزل به جبريل في عشرين سنة.

قلت: و قول مقاتل هذا خلاف ما نقل من الإجماع أنّ القرآن أنزل جملة واحدة، و اللّه أعلم ... و روى واثلة بن أسقع عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:]

قلت: و في هذا الحديث دلالة على ما يقوله الحسن: إنّ ليلة القدر تكون ليلة أربع و عشرين. (2: 297- 298).

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ الإسراء/ 105

مذهب سيبويه أنّ قُرْآناً منصوب بفعل مضمر يفسّره الظّاهر، و قرأ جمهور النّاس فَرَقْناهُ بتخفيف الرّاء، و معناه بيّناه و أوضحناه، و فرقنا فيه بين الحقّ و الباطل قاله الحسن. و قال ابن عبّاس: فصّلناه. و قرأ ابن عبّاس و عليّ و ابن مسعود و أبيّ بن كعب و قتادة و أبو رجاء و الشّعبيّ «فرّقناه» بالتّشديد، أي أنزلناه شيئا بعد شي ء لا جملة واحدة، إلّا أنّ في قراءة ابن مسعود و أبيّ «فرّقناه عليك».

و أختلف في كم نزل القرآن من المدّة؛ فقيل: في خمس و عشرين سنة، ابن عبّاس:

في ثلاث و عشرين، أنس: في عشرين. و هذا بحسب الخلاف في سنّ

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و لا خلاف أنّه نزل إلى السّماء الدّنيا جملة واحدة. و قد مضى هذا في «البقرة». عَلى مُكْثٍ، أي تطاول في المدّة شيئا بعد شي ء. و يتناسق هذا القرآن على قراءة ابن مسعود، أي أنزلناه آية آية و سورة سورة. و أمّا على القول الأوّل فيكون عَلى مُكْثٍ أي على ترسّل في التّلاوة و ترتيل ...

وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا: مبالغة و تأكيد بالمصدر للمعنى المتقدّم، أي أنزلناه نجما بعد نجم، و لو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا. (10: 339- 340)

وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ طه/ 114

علّم نبيّه كيف يتلقّى القرآن. قال ابن عبّاس: كان عليه السّلام يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصا على الحفظ، و شفقة على القرآن مخافة النّسيان، فنهاه اللّه

نصوص في علوم القرآن، ص: 151

عن ذلك، و أنزل: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ. و هذا كقوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ على ما يأتي، و روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا تتله قبل أن تتبيّنه. و قيل: وَ لا تَعْجَلْ أي لا تسل إنزاله مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ، أي يأتيك وَحْيُهُ. و قيل: المعنى لا تلقه إلى النّاس قبل أن يأتيك بيان تأويله. (11: 250)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ... الفرقان/ 32- 33

اختلف في قائل ذلك على قولين؛

أحدهما: أنّهم كفّار قريش، قاله ابن عبّاس.

و الثّاني: أنّهم اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرّقا، قالوا: هلّا أنزل عليه جملة واحدة كما أنزلت التّوراة على موسى و الإنجيل على عيسى و الزّبور على داود. فقال اللّه تعالى:

كَذلِكَ، أي فعلنا لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ: نقوّي به قلبك فتعيه و تحمله؛ لأنّ الكتب المتقدّمة أنزلت على أنبياء يكتبون و يقرءون، و القرآن أنزل على نبيّ أميّ، و لأنّ من القرآن النّاسخ و المنسوخ، و منه ما هو جواب لمن سأل عن أمور، ففرّقناه ليكون أوعى للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، و أيسر على العامل به، فكان كلّما نزل وحى جديد زاده قوّة قلب.

قلت: فإن قيل: هلّا أنزل القرآن دفعة واحدة و حفظه؛ إذا كان ذلك في قدرته؟ قيل:

في قدرة اللّه أن يعلّمه الكتاب و القرآن في لحظة واحدة، و لكنّه لم يفعل و لا معترض عليه في حكمه، و قد بيّنّا وجه الحكمة في ذلك. و قد قيل: إنّ قوله: كَذلِكَ

من كلام المشركين، أي لو لا نزّل عليه القرآن جملة واحدة كذلك، أي كالتّوراة و الإنجيل، فيتمّ الوقف على كَذلِكَ، ثمّ يبتدئ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ. و يجوز أن يكون الوقف على قوله: جُمْلَةً واحِدَةً ثمّ يبتدئ كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ على معنى أنزلناه عليك كذلك متفرّقا لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ.

قال ابن الأنباريّ: و الوجه الأوّل أجود و أحسن، و القول الثّاني قد جاء به التّفسير، حدّثنا محمّد بن عثمان الشّيبيّ، قال: حدّثنا منجاب، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاس، في قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قال: أنزل

نصوص في علوم القرآن، ص: 152

القرآن جملة واحدة من عند اللّه عزّ و جلّ في اللّوح المحفوظ إلى السّفرة الكرام الكاتبين في السّماء، فنجّمه السّفرة الكرام على جبريل عشرين ليلة، و نجّمه جبريل عليه السّلام على محمّد عشرين سنة. قال: فهو قوله: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ، يعني نجوم القرآن وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ «1». قال: فلمّا لم ينزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم جملة واحدة قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً، فقال اللّه تبارك و تعالى: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ يا محمّد. وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا يقول: و رسّلناه ترسيلا؛ يقول: شيئا بعد شي ء.

وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً يقول: لو أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة ثمّ سألوك لم يكن عندك ما تجيب به، و لكن نمسك عليك فإذا سألوك أجبت.

قال النّحّاس: و كان ذلك من علامات النّبوّة؛ لأنّهم لا يسألون عن شيئ إلّا أجيبوا عنه، و هذا لا يكون إلّا من نبيّ، فكان ذلك تثبيتا

لفؤاده و أفئدتهم، و يدلّ على هذا وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً، و لو نزل جملة بما فيه من الفرائض لثقل عليهم، و علم اللّه عزّ و جلّ أنّ الصّلاح في إنزاله متفرّقا؛ لأنّهم ينبّهون به مرّة بعد مرّة، و لو نزل جملة واحدة لزال معني التّنبيه و فيه ناسخ و منسوخ، فكانوا يتعبّدون بالشّي ء إلى وقت بعينه قد علم اللّه عزّ و جلّ فيه الصّلاح، ثمّ ينزل النّسخ بعد ذلك، فمحال أن ينزّل جملة واحدة: افعلوا كذا، و لا تفعلوا.

قال النّحّاس: و الأولى أن يكون التّمام جُمْلَةً واحِدَةً؛ لأنّه إذا وقف على كَذلِكَ صار المعنى كالتّوراة و الإنجيل و الزّبور و لم يتقدّم لها ذكر. (13: 28- 29)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ الدّخان/ 3

و الهاء في أَنْزَلْناهُ للقرآن ... و اللّيلة المباركة ليلة القدر. و يقال: ليلة النّصف من شعبان ... و روى قتادة عن واثلة ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:]

______________________________

(1)- الواقعة/ 75- 77.

نصوص في علوم القرآن، ص: 153

ثمّ قيل: أنزل القرآن كلّه إلى سماء الدّنيا في هذه اللّيلة، ثمّ أنزل نجما نجما في سائر الأيّام على حسب اتّفاق الأسباب.

و قيل: كان ينزّل في كلّ ليلة القدر ما ينزّل في سائر السّنة.

و قيل: كان ابتداء الإنزال في هذه اللّيلة.

و قال عكرمة: اللّيلة المباركة هاهنا ليلة النّصف من شعبان.

و الأوّل أصحّ؛ لقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.

قال قتادة و ابن زيد: أنزل اللّه القرآن كلّه في ليلة القدر من أمّ الكتاب إلى بيت العزّة في سماء الدّنيا، ثمّ أنزله اللّه على نبيّه صلّى اللّه عليه و سلم في اللّيالي و الأيّام في ثلاث و عشرين سنة.

و هذا المعنى قد

مضى في «البقرة» عند قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، و يأتي آنفا إن شاء اللّه تعالى. (16: 125- 126)

فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ... الواقعة/ 75- 77

قال ابن عبّاس: المراد بمواقع النّجوم نزول القرآن نجوما، أنزله اللّه تعالى من اللّوح المحفوظ من السّماء العليا إلى السّفرة الكاتبين، فنجّمه السّفرة على جبريل عشرين ليلة، و نجّمه جبريل على محمّد عليهما الصّلاة و السّلام عشرين سنة، فهو ينزله على الأحداث من أمّته، حكاه الماورديّ عن ابن عبّاس، و السّدّي. و قال أبو بكر الأنباريّ: حدّثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدّثنا حجّاج بن المنهال، حدّثنا همّام عن الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، قال: نزل القرآن إلى سماء الدّنيا جملة واحدة، ثمّ نزل إلى الأرض نجوما، و فرّق بعد ذلك خمس آيات خمس آيات و أقلّ و أكثر، فذلك قول اللّه تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ* وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. و حكى الفرّاء عن ابن مسعود: أنّ مواقع النّجوم هو محكم القرآن. و قرأ حمزة و الكسائيّ «بموقع» على التّوحيد، و هي قراءة عبد اللّه ابن مسعود و النّخعيّ و الاعمش و ابن محيصن و رويس عن يعقوب. الباقون على الجمع، فمن أفرد فلأنّه اسم جنس يؤدّي الواحد فيه عن الجمع، و من جمع فلاختلاف أنواعه.

نصوص في علوم القرآن، ص: 154

قوله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ قيل: إنّ الهاء تعود على القرآن، أي إنّ القرآن لقسم عظيم، قاله ابن عبّاس و غيره. و قيل: ما أقسم اللّه به عظيم إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ذكر المقسم عليه، أي أقسم بمواقع النّجوم إنّ هذا القرآن قرآن كريم، ليس بسحر و لا كهانة، و ليس بمفترى، بل هو قرآن كريم

محمود، جعله اللّه تعالى معجزة لنبيّه صلّى اللّه عليه و سلم، و هو كريم على المؤمنين؛ لأنّه كلام ربّهم، و شفاء صدورهم، كريم على أهل السّماء؛ لأنّه تنزيل ربّهم و وحيه. و قيل: كَرِيمٌ أي غير مخلوق. و قيل: (كريم) لما فيه من كريم الأخلاق و معاني الأمور. و قيل: لأنّه يكرّم حافظه، و يعظّم قارئه.

قوله تعالى: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ: مصون عند اللّه تعالى. و قيل: مكنون محفوظ عن الباطل. و الكتاب هنا: كتاب في السّماء، قاله ابن عبّاس. و قال جابر بن زيد و ابن عبّاس أيضا: هو اللّوح المحفوظ. عكرمة: التّوراة و الإنجيل فيهما ذكر القرآن و من ينزّل عليه.

السّدّي: الزّبور. مجاهد و قتادة: هو المصحف الّذي في أيدينا. (17: 224)

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... القيامة/ 16- 19

في التّرمذيّ: عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إذا نزل عليه القرآن يحرّك به لسانه، يريد أن يحفظه، فأنزل اللّه تبارك و تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، قال: فكان يحرّك به شفتيه، و حرّك سفيان شفتيه. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

و لفظ مسلم عن ابن جبير عن ابن عبّاس قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم يعالج ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:]

خرّجه البخاريّ أيضا. و نظير هذه الآية قوله تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ «1»، و قد تقدّم. و قال عامر الشّعبيّ: إنّما كان يعجل بذكره إذا نزل عليه من حبّه له، و حلاوته في لسانه، فنهي عن ذلك حتّى يجتمع؛ لأنّ بعضه مرتبط ببعض.

و قيل: كان عليه السّلام إذا نزل عليه الوحي حرّك لسانه مع الوحي

مخافة أن ينساه، فنزلت

______________________________

(1)- طه/ 114.

نصوص في علوم القرآن، ص: 155

وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، و نزل سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى، و نزل لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ، قاله ابن عبّاس.

وَ قُرْآنَهُ، أي و قراءته عليك. و القراءة و القرآن في قول الفرّاء مصدران. و قال قتادة: فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي فاتّبع شرائعه و أحكامه. و قوله: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ، أي تفسير ما فيه من الحدود و الحلال و الحرام، قاله قتادة. و قيل: ثمّ إنّ علينا بيان ما فيه من الوعد و الوعيد و تحقيقهما. و قيل: أي إنّ علينا أن نبيّنه بلسانك. (19: 104- 105)

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى* إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى الأعلى/ 6- 7

سَنُقْرِئُكَ، أي القرآن يا محمّد، فنعلّمكه فَلا تَنْسى، أي فتحفظ، رواه ابن وهب عن مالك. و هذه بشرى من اللّه تعالى بشّره بأن أعطاه آية بيّنة، و هي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي، و هو أمّيّ لا يكتب و لا يقرأ، فيحفظه و لا ينساه. و عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: كان يتذكّر مخافة أن ينسى، فقيل: كفيتكه.

قال مجاهد و الكلبيّ: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي، لم يفرغ جبريل من آخر الآية، حتّى يتكلّم للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بأوّلها، مخافة أن ينساها، فنزلت سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى بعد ذلك شيئا، فقد كفيتكه.

و وجه الاستثناء على هذا، ما قاله الفرّاء: إلّا ما شاء اللّه، و هو لم يشأ أن تنسى شيئا، كقوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ «1» و لا يشاء.

و يقال في الكلام: لأعطينّك كلّ ما سألت إلّا ما شئت، و إلّا أن

أشاء أن أمنعك، و النّيّة على ألّا يمنعه شيئا. فعلى هذا مجاري الأيمان، يستثنى فيها، و نيّة الحالف التّمام. و في رواية أبي صالح، عن ابن عبّاس: فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتّى مات، إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ.

و عن سعيد، عن قتادة، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لا ينسى شيئا، إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ. و على هذه الأقوال قيل: إلّا ما شاء اللّه أن ينسى، و لكنّه لم ينس شيئا منه بعد نزول هذه الآية.

و قيل: إلّا ما شاء اللّه أن ينسى، ثمّ يذكر بعد ذلك، فإذا قد نسي، و لكنّه يتذكّر و لا

______________________________

(1)- هود/ 108.

نصوص في علوم القرآن، ص: 156

ينسى نسيانا كلّيّا.

و قد روي أنّه أسقط آية في قراءته في الصّلاة، فحسب أبيّ أنّها نسخت، فسأله فقال:

«إنّي نسيتها».

و قيل: هو من النّسيان، أي إلّا ما شاء اللّه أن ينسيك. ثمّ قيل: هذا بمعنى النّسخ، أي إلّا ما شاء اللّه أن ينسخه. و الاستثناء نوع من النّسخ. و قيل: النّسيان بمعنى التّرك، أي يعصمك من أن تترك العمل به، إلّا ما شاء اللّه أن تتركه لنسخه إيّاه. فهذا في نسخ العمل، و الأوّل في نسخ القراءة.

قال الفرغانيّ: كان يغشى مجلس الجنيد أهل البسط من العلوم، و كان يغشاه ابن كيسان النّحويّ، و كان رجلا جليلا، فقال يوما: ما تقول يا أبا القاسم في قول اللّه تعالى:

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى؟ فأجابه مسرعا- كأنّه تقدّم له السّؤال قبل ذلك بأوقات: لا تنسى العمل به. فقال ابن كيسان: لا يفضض اللّه فاك! مثلك من يصدر عن رأيه. و قوله: فَلا للنّفي لا للنّهي. و قيل: للنّهي، و إنّما أثبتت الياء «1» لأنّ رءوس

الآي على ذلك. و المعنى لا تغفل عن قراءته و تكراره فتنساه، إلّا ما شاء اللّه أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة. و الأوّل هو المختار؛ لأنّ الاستثناء من النّهي لا يكاد يكون إلّا موقّتا معلوما. و أيضا فإنّ الياء مثبتة في جميع المصاحف، و عليها القرّاء. و قيل: معناه إلّا ما شاء اللّه أن يؤخّر إنزاله. و قيل:

المعنى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى «2» إلّا ما شاء اللّه أن يناله بنو آدم و البهائم، فإنّه لا يصير كذلك.

قوله تعالى: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ، أي الإعلان من القول و العمل. وَ ما يَخْفى من السّرّ. و عن ابن عبّاس: ما في قلبك و نفسك. و قال محمّد بن حاتم: يعلم إعلان الصّدقة و إخفاءها. و قيل: الجهر: ما حفظته من القرآن في صدرك. وَ ما يَخْفى هو ما نسخ من صدرك. وَ نُيَسِّرُكَ: معطوف على سَنُقْرِئُكَ، و قوله: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى اعتراض. و معنى لِلْيُسْرى، أي للطّريقة اليسرى، و هي عمل الخير. قال ابن عبّاس:

نيسّرك لأن تعمل خيرا. ابن مسعود: لِلْيُسْرى، أي للجنّة. و قيل: نوفّقك للشّريعة

______________________________

(1)- يريد الألف في (تنسى)، و أصلها الياء (نسي ينسى).

(2)- الأعلى/ 5.

نصوص في علوم القرآن، ص: 157

اليسرى، و هي الحنيفيّة السّمحة السّهلة، قال معناه الضّحّاك. و قيل: أي نهوّن عليك الوحي حتّى تحفظه و تعمل به. (20: 18- 19)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ القدر/ 1

إِنَّا أَنْزَلْناهُ يعني القرآن و إن لم يجر له ذكر في هذه السّورة؛ لأنّ المعنى معلوم، و القرآن كلّه كالسّورة الواحدة، و قد قال: شَهْرُ رَمَضانَ ...، و قال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، يريد في ليلة القدر.

و قال الشّعبيّ: المعنى إنّا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. و قيل: بل

نزّل به جبريل جملة واحدة في ليلة القدر ... [إلى أن قال:] و حكى الماورديّ عن ابن عبّاس، قال: ... [و ذكر كما تقدّم عن الزّمخشريّ و أبي شامة، ثمّ قال:]

قال ابن العربيّ: و هذا باطل، ليس بين جبريل و بين اللّه واسطة، و لا بين جبريل و محمّد عليهما السّلام واسطة. (20: 129- 130)

نصوص في علوم القرآن، ص: 158

الفصل السّابع عشر نصّ البيضاويّ (م: 685 ه) في تفسيره: «أنوار التّنزيل»

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ البقرة/ 185

أي ابتدئ فيه إنزاله، و كان ذلك ليلة القدر، أو أنزل فيه جملة إلى السّماء الدّنيا، ثمّ نزل منجّما إلى الأرض، أو أنزل في شأنه القرآن، و هو قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ.

و عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم نزلت صحف إبراهيم ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:] و فيه إشعار بأنّ الإنزال فيه سبب اختصاصه بوجوب الصّوم فيه. (1: 101)

وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ... مريم/ 64

حكاية قول جبريل عليه السّلام حين استبطأه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لمّا سئل عن قصّة أصحاب الكهف و ذي القرنين و الرّوح، و لم يدر ما يجيب، و رجا أن يوحى إليه فيه، فأبطأ عليه خمسة عشر يوما. و قيل: أربعين يوما، حتّى قال المشركون: ودّعه ربّه و قلاه، ثمّ نزل ببيان ذلك. و التّنزّل: النّزول على مهل؛ لأنّه مطاوع نزل، و قد يطلق التّنزّل بمعنى النّزول مطلقا، كما يطلق نزّل بمعنى أنزل، و المعنى و ما نتنزّل وقتا غبّ إلّا بأمر اللّه على ما تقتضيه حكمته، و قرئ و ما يتنزّل بالياء، و الضّمير للوحي. لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ، و هو ما نحن فيه من الأماكن و الأحايين، لا ننتقل من مكان إلى مكان، أو

نصوص في علوم القرآن، ص: 159

لا ننزّل في زمان دون زمان إلّا بأمره و مشيّته. وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا: تاركا لك، أي ما كان عدم النّزول إلّا لعدم الأمر به، و لم يكن ذلك عن ترك اللّه لك و توديعه إيّاك كما زعمت الكفرة، و إنّما كان لحكمة رآها فيه. (2: 38)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ... الفرقان/ 32

أي أنزل عليه، كخبّر بمعنى أخبر؛ لئلّا يناقض قوله: جُمْلَةً واحِدَةً: دفعة واحدة كالكتب الثّلاثة. و هو اعتراض لا طائل تحته؛ لأنّ الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو متفرّقا، مع أنّ للتّفريق فوائد؛

منها: ما أشار إليه بقوله: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ، أي كذلك أنزلناه مفرّقا، لنقوّي بتفريقه فؤادك على حفظه و فهمه؛ لأنّ حاله يخالف حال موسى و داود و عيسى، حيث كان عليه الصّلاة و السّلام أمّيّا و كانوا يكتبون، فلو ألقي إليه جملة يعي

بحفظه، و لعلّه لم يستتب، فإنّ التّلقّف لا يتأتّى شيئا فشيئا، و لأنّ نزوله بحسب الوقائع يوجب مزيد بصيرة و غوص في المعنى، و لأنّه إذا نزل منجّما- و هو يتحدّى بكلّ نجم فيعجزون عن معارضته- زاد ذلك قوّة قلبه، و لأنّه إذا نزل به جبريل حالا بعد حال تثبّت به فؤاده.

منها: معرفة النّاسخ و المنسوخ.

منها: انضمام القرائن الحالية إلى الدّلالات اللّفظيّة، فإنّه يعين على البلاغة، و كَذلِكَ: صفة مصدر محذوف، و الإشارة إلى إنزاله مفرّقا، فإنّه مدلول عليه بقوله: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً. و يحتمل أن يكون من تمام كلام الكفرة، و لذلك وقف عليه فيكون حالا، و الإشارة إلى الكتب السّابقة، و اللّام على الوجهين تتعلّق بمحذوف.

وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا: و قرأناه عليك شيئا بعد شي ء على تؤدة و تمهّل في عشرين سنة أو ثلاث و عشرين ... (2: 144)

وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ الشّعراء/ 192

تقرير لحقّيّة تلك القصص، و تنبيه على إعجاز القرآن و نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلم، فإنّ الإخبار

نصوص في علوم القرآن، ص: 160

عنها ممّن لم يتعلّمها لا يكون إلّا وحيا من اللّه عزّ و جلّ. و القلب إن أراد به الرّوح فذاك، و إن أراد به العضو فتخصيصه؛ لأنّ المعاني الرّوحانيّة إنّما تنزل أوّلا على الرّوح، ثمّ تنتقل منه إلى القلب؛ لما بينهما من التّعلّق، ثمّ تتصعّد منه إلى الدّماغ، فينتقش بها لوح المتخيّلة و الرّوح الأمين جبريل عليه السّلام، فإنّه أمين اللّه على وحيه. (2: 166)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ الدّخان/ 3

إِنَّا أَنْزَلْناهُ ... في ليلة القدر أو البراءة، ابتدئ فيها إنزاله أو أنزل فيها جملة إلى السّماء الدّنيا من اللّوح المحفوظ، ثمّ أنزل على الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم نجوما، و بركتها لذلك، فإنّ نزول القرآن سبب المنافع الدّينيّة و الدّنيويّة. أو لما فيها من نزول الملائكة و الرّحمة و إجابة الدّعوة و قسم النّعمة و فصل الأقضية.

إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ: استئناف يبيّن المقتضي للإنزال، و كذلك قوله: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، فإنّ كونها مفرق الأمور المحكمة أو الملتبسة بالحكمة يستدعي أن ينزّل فيها القرآن الّذي هو من عظائمها. و يجوز أن يكون صفة لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، و ما بينهما اعتراض، و هو يدلّ على أنّ اللّيلة ليلة القدر؛ لأنّ صفتها؛ لقوله: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ ... «1».

و قرئ يُفْرَقُ بالتّشديد، و «يفرّق كلّ»، أي يفرّقه اللّه، و «نفرّق» بالنّون. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا أي أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا على مقتضى حكمتنا، و فيه مزيد تفخيم للأمر. (2: 373) نصوص في علوم القرآن 160 إنا أنزلناه في ليلة القدر القدر/ 1 ..... ص :

160

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ القدر/ 1

و إنزاله فيها بأنّ ابتدأ بإنزاله، أو أنزله جملة من اللّوح إلى السّماء الدّنيا على السّفرة، ثمّ كان جبريل عليه الصّلاة و السّلام ينزّله على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم نجوما في ثلاث و عشرين سنة. (2: 569)

______________________________

(1)- القدر/ 4.

نصوص في علوم القرآن، ص: 161

الفصل الثّامن عشر نصّ النّيسابوريّ (م: 728 ه) في تفسيره: «غرائب القرآن»

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... البقرة/ 185

و في إنزال القرآن في رمضان أقوال؛ فعن سفيان بن عيينة: أنزل في فضله القرآن، كما تقول: أنزل في عليّ عليه السّلام كذا. و قال ابن الأنباريّ: أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن، كما تقول: أنزل اللّه في الزّكاة كذا، أي في إيجابها، و أنزل في الخمر كذا، أي في تحريمها. و القولان متقاربان، أو هما واحد، فإنّه لم ينزل سوى قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ الآيات.

و اختيار الجمهور أنّ اللّه تعالى أنزل القرآن في رمضان؛ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم: «نزلت صحف إبراهيم ...» [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:]

ثمّ إنّه لا شكّ أنّ القرآن قد نزل منجّما مفرّقا على حسب المصالح و الوقائع، فأوّلت الآية بأنّ المراد أنّه ابتدئ فيه إنزاله، و ذلك ليلة القدر، و مبادئ الملل و الدّول هي الّتي يؤرّخ بها لشرفها و انضباطها، هذا قول محمّد بن إسحاق، أو أنّه أنزل جملة إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر، ثمّ نزل إلى الأرض نجوما.

و ليس يبعد أن يكون للملائكة الّذين هم سكّان سماء الدّنيا مصلحة في إنزال ذلك إليهم، و فيه مصلحة للرّسول من حيث توقّع الوحي عن أقرب الجهات، و لعلّ فيه مصلحة

نصوص في علوم القرآن، ص: 162

لجبريل المأمور بالإنزال و التّأدية، و لا سيّما على رأي الفلاسفة الّذين جبريل عندهم

هو العقل الفعّال الأخير، الّذي يدبّر عالم الكون و الفساد و خاصّة نوع الإنسان.

و على هذا القول يحتمل أن يقال: إنّ اللّه تعالى أنزل كلّ القرآن من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا ليلة القدر، ثمّ نزّله على محمّد صلّى اللّه عليه و سلم منجّما إلى آخر عمره.

و يحتمل أن يقال: إنّه سبحانه كان ينزّل إلى السّماء الدّنيا ليلة القدر كلّ سنة ما يحتاجون إليه في تلك السّنة، و كذلك أبدا إلى أن تمّ إنزاله. و على هذا يكون تعيّن رمضان الّذي أنزل فيه القرآن نوعيّا لا شخصيّا. (2: 109)

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ... الإسراء/ 105

ثمّ إنّ القوم كأنّهم من تعنّتهم طعنوا في القرآن من جهة أنّه لم ينزل دفعة واحدة، فأجاب عن شبهتهم بقوله: وَ قُرْآناً، هو منصوب بفعل يفسّره. فَرَقْناهُ، أي جعلنا نزوله مفرّقا منجّما.

عن ابن عبّاس، أنّه قرأ مشدّدا، و قال: إنّه لم ينزّل في يومين أو ثلاثة، بل كان بين أوّله و آخره عشرون سنة، يعني أنّ «فرق» بالتّخفيف يدلّ على فصل مقارب.

و قال أبو عبيدة: التّخفيف أعجب إليّ؛ لأنّ تفسيره بيّناه، و ليس للتّشديد معنى إلّا أنّه نزل متفرّقا، فالفرق يتضمّن التّبيين. و يؤكّده ما رواه ثعلب عن ابن الأعرابيّ أنّه قال:

فرقت أفرق بين الكلام، و فرّقت بين الأجسام.

و أقول: إنّ ابن عبّاس اعتبر الفصل بين أوّل نزوله و بين آخره، فرأى التّشديد أولى، و لعلّ المراد الفصول المتقاربة الّتي فيما بين المدّة، بدليل قوله: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ، أي على مهل و تؤدة، و لقوله: وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا، أي على حسب المصالح و الحوادث. (15: 91- 92)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ... الفرقان/ 32

ثمّ حكى عنهم شبهة خامسة، و هي قولهم: هلّا نزل عليه القرآن حال كونه جملة

نصوص في علوم القرآن، ص: 163

واحدة أي مجتمعا، و معنى التّنزيل هاهنا التّعدية فقط بقرينة قوله: جُمْلَةً، خلاف ما تقرّر في أكثر المواضع من إرادة التّكثير المفيد للتّدريج، كما مرّ في قوله: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ «1» و القائلون قريش أو اليهود، فأجاب اللّه تعالى عن شبهتهم بقوله: لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ ....

و تقريره من وجوه؛

أحدها: أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و سلم لم يكن قارئا كاتبا بخلاف موسى و داود و عيسى، فلم يكن له بدّ من التّلقّن و التّحفّظ، فأنزله اللّه

عليه منجّما في عشرين سنة. و عن ابن جريح: في ثلاث و عشرين؛ ليكون أقرب إلى الضّبط و أبعد عن النّسيان و السّهو.

و ثانيها: أنّ الاعتماد على الحفظ أقرب إلى التّحصيل من الاعتماد على الكتابة، و الحفظ لا بدّ فيه من التّدرّج.

و ثالثها: أنّ نزول الشّرائع مدرّجة أسهل على المكلّف منها دفعة.

و رابعها: أنّ نزول جبريل ساعة فساعة ممّا يقوّي قلبه و يعينه على تحمّل أعباء النّبوّة و الرّسالة.

و خامسها: أنّ نزوله مفرّقا يوجب وقوع التّحدّي على أبعاض القرآن و أجزائه، و نزوله جملة يقتضي وقوع التّحدّي على مجموعه، و لا ريب في أنّ الأوّل أدخل في الإعجاز.

و سادسها: أنّ نزوله بحسب الوقائع و الحوادث أوفق في باب التّكاليف و الاستبصار، و أدلّ على الإخبار عن الحوادث في أوقاتها.

و سابعها: أنّ في تجديد منصب السّفارة في كلّ حين مزيد شرف لجبريل.

و للتّرتيل معان؛ منها: أنّه قدّره آية بعد آية و دفعة عقيب دفعة. و منها: التّأنّي في القراءة. و معنى وَ رَتَّلْناهُ أمرنا بترتيل قراءته. و منه حديث عائشة ... [ثمّ ذكر تفسير الآية كما تقدّم عن الزّمخشريّ]. (19: 12)

______________________________

(1)- آل عمران/ 3.

نصوص في علوم القرآن، ص: 164

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ... الدّخان/ 3

أقسم بالقرآن إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ؛ لأنّ من شأننا الإنذار و التّخويف من العقاب، و إنّما أنزل في هذه اللّيلة خصوصا لأنّ إنزال القرآن أشرف الأمور الحكميّة، و هذه اللّيلة يفرق فيها كلّ أمر ذي حكمة، فالجملتان أعني قوله: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ كالتّفسير لجواب القسم.

قال صاحب النّظم: ليس من عادتهم أن يقسموا بنفس الشّي ء إذا أخبروا عنه، فجواب القسم إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. و قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ: اعتراض. و الجمهور على

الأوّل، و لا بأس؛ لأنّ المعنى إنّا أنزلنا القرآن على محمّد صلّى اللّه عليه و سلم و لم يتقوّله. و يحتمل أنّ القسم وقع على إنزاله في ليلة مباركة.

و أكثر المفسّرين على أنّها ليلة القدر؛ لقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، و ليلة القدر عند الأكثرين من رمضان.

و نقل محمّد بن جرير الطّبريّ في تفسيره عن قتادة أنّه قال: نزلت صحف إبراهيم ...

[و ذكر كما تقدّم عنه، ثمّ قال:]

و اللّيلة المباركة هي ليلة القدر. و زعم بعضهم كعكرمة و غيره أنّها ليلة النّصف من شعبان، و ما رأيت لهم دليلا يعوّل عليه ... [إلى أن قال:]

و بعضهم أراد أن يجمع بين القولين، فقال: ابتدئ باستنساخ القرآن من اللّوح المحفوظ ليلة البراءة، و وقع الفراغ في ليلة القدر و المباركة: الكثيرة الخير، و لو لم يوجد فيها إلّا إنزال القرآن لكفى به بركة. (25: 64- 65)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ القدر/ 1

الضّمير في إِنَّا أَنْزَلْناهُ للقرآن، إمّا لأنّ القرآن كلّه في حكم سورة واحدة، و إمّا لشهرته و من نباهة شأنه، كأنّه مستغن عن التّصريح بذكره.

و قد عظّم القرآن في الآية من وجوه أخر، هي إسناد إنزاله إلى نفسه دون غيره كجبرائيل مثلا، و صيغة الجمع الدّالة على عظم رتبة المنزل؛ إذ هو واحد في نفسه نقلا

نصوص في علوم القرآن، ص: 165

و عقلا، و الرّفع من مقدار الوقت الّذي أنزل فيه و هو ليلة القدر.

و هاهنا مسائل؛

الأولى: كيف حكم بأنّه أنزل في هذه اللّيلة مع أنّه أنزل نجوما في نيف و عشرين؟

و الجواب كما مرّ في البقرة في قوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، أي أنزل فيها من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا جملة، ثمّ منها إلى الأرض

نجوما.

و وجه حسن المجاز أنّه أنزل إلى السّماء الدّنيا فقد شارف النّزول إلى الأرض، فيكون من فوائد التّشويق، كما قيل:

و أبرح ما يكون الشّوق يوماإذا دنت الخيام من الخيام و قال الشّعبيّ: ابتدئ بإنزاله في هذه اللّيلة لأنّ المبعث كان في رمضان. و قيل: أراد أنزلنا القرآن، يعني هذه السّورة في فضل ليلة القدر، و القدر بمعني التّقدير ... (30: 142)

نصوص في علوم القرآن، ص: 166

الفصل التّاسع عشر نصّ ابن جزيّ الكلبيّ (م: 741 ه) في تفسيره «التّسهيل لعلوم التّنزيل»

[مدّة نزول القرآن]

نزول القرآن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من أوّل ما بعثه اللّه بمكّة- و هو ابن أربعين سنة إلى أن هاجر إلى المدينة، ثمّ نزل عليه بالمدينة إلى أن توفّاه اللّه، فكانت مدّة نزوله عليه عشرون سنة. و قيل: كانت ثلاث و عشرين سنة على حسب الاختلاف في سنّه صلّى اللّه عليه و سلم يوم توفّي، هل كان ابن ستّين سنة، أو ثلاث و ستّين سنة؟ و كان ربّما تنزّل عليه سورة كاملة، و ربّما تنزّل عليه آيات مفترقات، فيضمّ عليه السّلام بعضها إلى بعض حتّى تكمل السّورة. (1: 4)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ... الفرقان/ 32

هذا من اعتراضات قريش؛ لأنّهم قالوا: لو كان القرآن من عند اللّه لنزل جملة واحدة كما نزلت التّوراة و الإنجيل.

قوله: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ، هذا جواب لهم، تقديره أنزلناه كذلك مفرّقا؛ لنثبّت به فؤاد محمّد صلّى اللّه عليه و سلم لحفظه، و لو نزل جملة واحدة لتعذّر عليه حفظه؛ لأنّه أميّ لا يقرأ، فحفظ المفرّق عليه أسهل، و أيضا فإنّه نزل بأسباب مختلفة تقتضي أن ينزّل كلّ جزء منه عند

نصوص في علوم القرآن، ص: 167

حدوث سببه، و أيضا منه ناسخ و منسوخ و لا يتأتّى ذلك فيما ينزل جملة واحدة.

قوله: وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا، أي فرّقناه تفريقا، فإنّه نزل بطول عشرين سنة، و هذا الفعل معطوف على الفعل المقدّر الّذي يتعلّق به كَذلِكَ و «به» يتعلّق لِنُثَبِّتَ. (3: 78)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ الدّخان/ 3

يعني ليلة القدر من رمضان. و كيفيّة إنزاله فيها، أنّه أنزل إلى السّماء الدّنيا جملة واحدة، ثمّ نزل به جبريل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم شيئا بعد شي ء.

و قيل: معناه أنّه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر.

و قيل: يعني باللّيلة المباركة ليلة النّصف من شعبان. و ذلك باطل؛ لقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1»، مع قوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2». (4: 34)

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... القيامة/ 16- 19

الضّمير في «به» يعود على القرآن، دلّت على ذلك قرينة الحال و سبب الآية أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان إذا نزل عليه جبريل بالقرآن يحرّك به شفتيه مخافة أن ينساه لحينه، فأمره اللّه أن ينصت و يستمع.

و قيل: كان يخاف أن ينسى القرآن، فكان يدرسه، حتّى غلب عليه ذلك و شقّ عليه، فنزلت الآية. و الأوّل هو الصّحيح؛ لأنّه ورد في البخاريّ و غيره.

إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ: ضمن اللّه له أن يجمعه في صدره، فلا يحتاج إلى تحريك شفتيه عند نزوله. و يحتمل قُرْآنَهُ هنا وجهين؛

أحدهما: أن يكون بمعنى القراءة، فإنّ القرآن قد يكون مصدرا من قرأت،

و الآخر: أن يكون معناه تأليفه في صدره، فهو مصدر من قولك: قرأت الشّي ء، أي جمعته. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، أي إذا قرأه جبريل فاجعل قراءة جبريل قراءة اللّه؛

______________________________

(1)- القدر/ 1.

(2)- البقرة/ 185.

نصوص في علوم القرآن، ص: 168

لأنّها من عنده، و معنى فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ اسمع قراءته و اتّبعها بذهنك لتحفظها. و قيل: اتّبع القرآن في الأوامر و النّواهي. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ، أي علينا أن نبيّنه لك و نجعلك تحفظه.

و قيل: علينا أن نبيّن معانيه و أحكامه. فإن قيل ما مناسبة قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ-

الآية- لما قبلها؟ فالجواب: أنّه لعلّه نزل معه في حين واحد فجعل على ترتيب النّزول.

(4: 165)

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ... الأعلى/ 7.

هذا خطاب للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم وعده اللّه أن يقرئه القرآن فلا ينساه، و في ذلك معجزة له عليه الصّلاة و السّلام؛ لأنّه كان أمّيّا لا يكتب، و كان مع ذلك لا ينسى ما أقرأه جبريل عليه السّلام من القرآن.

و قيل: معنى الآية كقوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ ... فإنّه عليه الصّلاة و السّلام كان يحرّك به لسانه إذا أقرأه جبريل؛ خوفا أن ينساه، فضمن اللّه له أن لا ينساه.

و قيل: فَلا تَنْسى نهي عن النّسيان، و قد علم اللّه أنّ ترك النّسيان ليس في قدرة البشر، فالمراد الأمر بتعاهده حتّى لا ينساه، و هذا بعيد؛ لإثبات الألف في تنسى.

إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ فيه وجهان؛

أحدهما: أنّ معناه لا تنسى الّا ما شاء اللّه أن تنساه، كقوله: أَوْ نُنْسِها.

و الآخر: إنّه لا ينسى شيئا، و لكن قال إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ تعظيما للّه بإسناد الأمر إليه، كقوله: خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ «1»، على بعض الأقوال.

و عبّر الزّمخشريّ عن هذا بأنّه من استعمال التّقليل في معنى النّفي.

فالأوّل أظهر، فإنّ النّسيان جائز على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم فيما أراد اللّه أن يرفعه من القرآن، أو فيما قضى اللّه أن ينساه ثمّ يذكره. و من هذا قول النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم حين سمع عبّاد بن بشر؛: «لقد أذكرني كذا و كذا آية كنت قد نسيتها».

وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى: عطف على سَنُقْرِئُكَ، و معناه نوفّقك للأمور المرضيّة الّتي

______________________________

(1)- الأنعام/ 128.

نصوص في علوم القرآن، ص: 169

توجب لك السّعادة.

و قيل: معناه للشّريعة اليسرى، من قوله عليه الصّلاة و

السّلام: «دين اللّه يسر»، أي سهل لا حرج فيه. (4: 193- 194)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ... القدر/ 1

الضّمير في أَنْزَلْناهُ للقرآن، دلّ على ذلك سياق الكلام، و في ذلك تعظيم للقرآن من ثلاثة أوجه؛

أحدها: أنّه ذكر ضميره دون اسمه الظّاهر؛ دلالة على شهرته و الاستغناء عن تسميته.

و الثّاني: أنّه اختار لإنزاله أفضل الأوقات.

و الثّالث: أنّ اللّه أسند إنزاله إلى نفسه، و في كيفيّة إنزاله في ليلة القدر قولان؛

أحدهما: أنّه ابتدأ إنزاله فيها،

و الآخر: أنّه أنزل القرآن فيها جملة واحدة إلى السّماء الدّنيا، ثمّ نزل به جبريل إلى الأرض بطول عشرين سنة.

و قيل: المعنى أنزلناه في شأن ليلة القدر و ذكرها. و هذا ضعيف و سمّيت ليلة القدر من تقدير الأمور فيها، أو من القدر بمعنى الشّرف، و يترجّح الأوّل بقوله: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «1». (4: 210)

______________________________

(1)- الدّخان/ 4.

نصوص في علوم القرآن، ص: 170

الفصل العشرون نصّ أبي حيّان (م: 745 ه) في تفسيره: «البحر المحيط»

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ البقرة/ 185

إنّه ظرف لإنزال القرآن، و القرآن يعمّ الجميع ظاهرا، و لم يبيّن محلّ الإنزال، فعن ابن عبّاس: أنّه أنزل جميعه إلى سماء الدّنيا ليلة أربع و عشرين من رمضان، ثمّ أنزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم منجّما.

و قيل: الإنزال هنا هو على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فيكون القرآن ممّا عبّر بكلّه عن بعضه، و المعنى بدئ بإنزاله فيه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و ذلك في الرّابع و العشرين من رمضان. أو تكون الألف و اللّام فيه لتعريف الماهيّة، كما تقول: أكلت اللّحم، لا تريد استغراق الأفراد، إنّما تريد تعريف الماهيّة.

و قيل: معنى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... [و ذكر كما تقدّم عن أبي شامة].

و قيل: أنزل في فرضيّة صومه القرآن و في شأنه القرآن، كما تقول: أنزل في عائشة قرآن، و القرآن الّذي نزل هو قوله: يا

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ «1»، قاله مجاهد و الضّحّاك. و قال سفيان بن عيينة: في فضله.

و قيل: المعنى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، أي أنزل من اللّوح المحفوظ إلى السّفرة في سماء

______________________________

(1)- البقرة/ 183.

نصوص في علوم القرآن، ص: 171

الدّنيا في ليلة القدر من عشرين شهر، أو نزل به جبريل في عشرين سنة، قاله مقاتل.

و روى واثلة بن الأسقع عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:]

و في رواية أبي ذرّ نزلت صحف إبراهيم في ثلاث مضين من رمضان، و إنجيل عيسى عليه السّلام في ثمانية عشر.

و الجمع بين الرّوايتين بأنّ رواية واثلة أخبر فيها عن ابتداء نزول الصّحف و الإنجيل، و رواية أبي ذرّ أخبر فيها عن انتهاء النّزول. (2: 39- 40)

وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ ... آل عمران/ 3- 4

قال الزّمخشريّ: فإن قلت: لم قيل: نزّل الكتاب و أنزل التّوراة و الإنجيل؟ قلت: لأنّ القرآن نزل منجّما، و نزل الكتابان جملة.

و قد تقدّم الرّد على هذا القول، و أنّ التّعدية بالتّضعيف لا تدلّ على التّكثير و لا التّنجيم، و قد جاء في القرآن «نزّل» و «أنزل»؛ قال اللّه تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ «1» و أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ «2». و يدلّ على أنّهما بمعنى واحد قراءة من قرأ ما كان ممّن ينزّل مشدّدا بالتّخفيف إلّا ما استثني، فلو كان أحدهما يدلّ على التّنجيم و الآخر يدلّ على النّزول دفعة واحدة؛ لتناقض الأخبار، و هو محال. 2: 378

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ الإسراء/ 105

و قرأ الجمهور «فرقناه» بتخفيف الرّاء، أي بيّنا حلاله و حرامه، قاله ابن عبّاس. و عن الحسن: فرقنا فيه بين الحقّ و الباطل. و قال الفرّاء: أحكمناه و فصّلناه، كقوله: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «3».

و قرأ أبيّ و عبد اللّه و عليّ و ابن عبّاس و أبو رجاء و قتادة و شعبيّ و حميد و عمرو بن

______________________________

(1)- النّحل/ 44.

(2)- آل عمران/ 7.

(3)- الدّخان/ 4.

نصوص في علوم القرآن، ص: 172

قائد و زيد بن عليّ و عمر بن ذرّ و عكرمة و الحسن بخلاف عنه بشدّ الرّاء، أي أنزلناه نجما بعد نجم، و فصّلناه في النّجوم.

و قال بعض من اختار ذلك: لم ينزل في يوم و لا يومين و لا شهر و لا شهرين و لا سنة و لا سنتين. قال ابن عبّاس: كان بين أوّله و آخره عشرون سنة. هكذا قال الزّمخشريّ عن ابن عبّاس.

و حكي عن ابن عبّاس في ثلاث و عشرين سنة. و قيل: في خمس و عشرين. و هذا الاختلاف مبنيّ على الاختلاف

في سنّه صلّى اللّه عليه و سلم و عن الحسن: نزل في ثمانية عشر سنة. قال ابن عطيّة: و هذا قول مختلّ لا يصحّ عن الحسن.

و قيل: معنى «فرّقناه» بالتّشديد، فرّقنا آياته بين أمر و نهي و حكم و أحكام و مواعظ و أمثال و قصص و أخبار مغيبات أتت و تأتي. و انتصب قُرْآناً على إضمار فعل يفسّره فَرَقْناهُ أي و فرقنا قرآنا فرقناه، فهو من باب الاشتغال. و حسّن النّصب و رجّحه على الرّفع كونه عطفا على جملة فعليّة، و هي قوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ و لا بدّ من تقدير صفة لقوله:

وَ قُرْآناً حتّى يصحّ كونه كان يجوز فيه الابتداء: لأنّه نكرة لا مسوّغ لها في الظّاهر للابتداء بها، و التّقدير وَ قُرْآناً أي قرآن، أي عظيما جليلا و على أنّه منصوب بإضمار فعل يفسّره الظّاهر بعده خرّجه الحوفيّ و الزّمخشريّ. و قال ابن عطيّة: هو مذهب سيبويه.

و قال الفرّاء: هو منصوب بأرسلناك، أي ما أرسلناك إلّا مبشّرا و نذيرا و قرآنا، كما تقول: رحمة؛ لأنّ القرآن رحمة. و هذا إعراب متكلّف، و أكثر تكلّفا منه قول ابن عطيّة.

و يصحّ أن يكون معطوفا على الكاف في أَرْسَلْناكَ من حيث كان إرسال هذا أو إنزال هذا المعنى واحد.

و قرأ أبيّ و عبد اللّه «فرقناه عليك» بزيادة «عليك». و (لتقرأه) متعلّق بفرقناه، و الظّاهر تعلّق (على مكث) بقوله: (لتقرأه) و لا يبالى بكون الفعل يتعلّق به حرفا جرّ من جنس واحد؛ لأنّه اختلف معنى الحرفين، الأوّل في موضع المفعول به، و الثّاني في موضع الحال، أي متمهّلا مترسّلا.

قال ابن عبّاس و مجاهد و ابن جريج: عَلى مُكْثٍ: على ترسّل في التّلاوة.

نصوص في علوم القرآن، ص:

173

و قيل: عَلى مُكْثٍ أي تطاول في المدّة شيئا بعد شي ء.

و قال الحوفيّ: عَلى مُكْثٍ بدل من عَلَى النَّاسِ، و هذا لا يصحّ؛ لأنّ قوله:

عَلى مُكْثٍ هو من صفة الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم و هو القارئ، أو صفات المقروء في المعنى و ليس من صفات النّاس فيكون، بدلا منهم.

و قيل: يتعلّق عَلى مُكْثٍ بقوله: فَرَقْناهُ. و يقال: مكث، بضمّ الميم و فتحها و كسرها. و قال ابن عطيّة: و أجمع القرّاء على ضمّ الميم من مُكْثٍ. و قال الحوفيّ:

و المكث بالضّمّ و الفتح لغتان، و قد قرئ بهما، و فيه لغة أخرى كسر الميم. وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا: على حسب الحوادث من الأقوال و الأفعال. (6: 87- 88)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ... الفرقان/ 32

قال الزّمخشريّ: نُزِّلَ هاهنا بمعنى انزل لا غير، كخبّر بمعنى أخبر و إلّا كان متدافعا، انتهى.

و إنّما قال: إنّ نُزِّلَ بمعنى «أنزل» لأنّ «نزّل» عنده أصلها أن تكون للتّفريق، فلو أقرّه على أصله عنده من الدّلالة على التّفريق تدافع هو.

و قوله: جُمْلَةً واحِدَةً، و قد قرّرنا أنّ نُزِّلَ لا تقتضي التّفريق؛ لأنّ التّضعيف فيه عندنا مرادف للهمزة، و قد بيّنّا ذلك في أوّل آل عمران. و قائل ذلك كفّار قريش؛ قالوا: لو كان هذا من عند اللّه لنزل جملة كما نزلت التّوراة و الإنجيل.

و قيل: قالوا ذلك اليهود، و هذا قول لا طائل تحته؛ لأنّ أمر الاحتجاج به- و الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو مفرّقا- أظهر؛ إذ يطالبون بمعارضة سورة منه، فلو نزل جملة واحدة و طولبوا بمعارضته مثل ما نزل. لكانوا أعجز منهم حين طولبوا بمعارضة سورة منه فعجزوا، و المشار إليه غير مذكور فقيل: هو من كلام الكفّار، و أشاروا إلى

التّوراة و الإنجيل، أي تنزيلا مثل تنزيل تلك الكتب الإلهيّة جملة واحدة، و يبقى لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ تعليلا لمحذوف أي فَرَقْناهُ في أوقات لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ.

و قيل: هو مستأنف من كلام اللّه تعالى لا من كلامهم، و لمّا تضمّن كلامهم معنى لم

نصوص في علوم القرآن، ص: 174

أنزل مفرّقا؟ أشير بقوله: كَذلِكَ إلى التّفريق، أي كذلك أنزل مفرّقا. قال الزّمخشريّ:

و الحكمة فيه أن نقوّي ... [و ذكر كما تقدّم عنه]. (6: 496)

وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ الشّعراء/ 191- 192

الضّمير في وَ إِنَّهُ عائد على القرآن، أي إنّه ليس بكهانة و لا سحر، بل هو من عند اللّه، و كأنّه عاد أيضا إلى ما افتتح به السّورة من إعراض المشركين عمّا يأتهم من الذّكر، ليتناسب المفتتح و المختتم.

و قرأ الحرميان و أبو عمرو و حفص نَزَلَ مخفّفا، و الرُّوحُ الْأَمِينُ مرفوعان، و باقي السّبعة بالتّشديد و نصبهما. و الرّوح هنا جبريل عليه السّلام، و قد تقدّم في سورة «مريم» لم أطلق عليه الرّوح؟ و به قال ابن عطيّة في موضع الحال، كقوله: وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ «1»، انتهى. و الظّاهر تعلّق عَلى قَلْبِكَ و لِتَكُونَ بنزل. و خصّ القلب و المعنى عليك لأنّه محلّ الوعي و التّثبيت، و ليعلم أنّ المنزل على قلبه عليه السّلام محفوظ لا يجوز عليه التّبديل و لا التّغيير، و ليكون علّة في التّنزيل أو النّزول اقتصر عليها؛ لأنّ ذلك أزجر للسّامع، و إن كان القرآن نزل للإنذار و التّبشير. و الظّاهر تعلّق بِلِسانٍ بنزل، فكان يسمع من جبريل حروفا عربيّة.

قال ابن عطيّة: و هو القول الصّحيح، و تكون صلصلة الجرس صفة لشدّة الصّوت و تداخل حروفه و عجلة مورده و أغلاطه و

يمكن أن يتعلّق بقوله: لِتَكُونَ، و تمسّك بهذا من رأي النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم كان يسمع أحيانا مثل صلصلة الجرس يتفهّم له منه القرآن، و هو مردود، انتهى. (7: 40)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ... الدّخان/ 3

قال قتادة و ابن زيد و الحسن: اللّيلة المباركة: ليلة القدر، و قالوا: كتب اللّه كلّها إنّما نزلت في رمضان؛ التّوراة في أوّله، و الإنجيل في وسطه، و الزّبور في نحو ذلك، و القرآن في

______________________________

(1)- المائدة/ 61.

نصوص في علوم القرآن، ص: 175

آخره فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، و يعني ابتداء نزوله كان في ليلة القدر.

و قيل: أنزل جملة ليلة القدر إلى البيت المعمور، و من هناك كان جبريل يتلقّاه. و قال عكرمة و غيره: هي ليلة النّصف من شعبان، فقد أوردوا فيها أحاديث ...

قال الزّمخشريّ: فإن قلت: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ما موقع هاتين الجملتين؟ قلت: ... [و ذكر كما تقدّم عنه]. (8: 32- 33)

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... القيامة/ 16

الظّاهر و المنصوص الصّحيح في سبب النّزول أنّه خطاب للرّسول صلّى اللّه عليه و سلم ... [ثمّ ذكر قول القفّال و رواية ابن عبّاس، كما تقدّم عن الفخر الرّازيّ و البخاريّ، ثمّ قال:]

و قال الضّحّاك: السّبب أنّه كأنّ عليه الصّلاة و السّلام كان يخاف أن ينسي القرآن، فكان يدرسه حتّى غلب ذلك عليه و شقّ، فنزلت.

و قال الشّعبيّ: كان لحرصه عليه الصّلاة و السّلام على أداء الرّسالة و الاجتهاد في عبادة اللّه ربّما أراد النّطق ببعض ما أوحي إليه قبل كمال إيراد الوحي، فأمر أن لا يعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه، و جاءت هذه الآية في هذا المعنى و الضّمير في «به» للقرآن دلّ عليه مساق الآية: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ، أي في صدرك، وَ قُرْآنَهُ، أي قراءتك إيّاه، و القرآن مصدر كالقراءة؛ قال الشّاعر:

ضحّوا بأشمط عنوان السّجود به يقطّع اللّيل تسبيحا و قرآنا و قيل: وَ قُرْآنَهُ: و تأليفه في صدرك، فهو مصدر من قرأت،

أي جمعت. و منه قولهم للمرأة الّتي لم تلد: ما قرأت سلا قط، و قال الشّاعر:

ذراعي بكرة أدماء بكرهجان اللّون لم تقرأ جنينا فَإِذا قَرَأْناهُ، أي الملك المبلّغ عنّا فَاتَّبِعْ، أي بذهنك و فكرك، أي فاستمع قراءته، قاله ابن عبّاس. و قال أيضا هو و قتادة و الضّحّاك: فاتّبع في الأوامر و النّواهي.

و في كتاب ابن عطيّة: و قرأ أبو العالية «فاذا قرته فاتّبع قرته» بفتح القاف و الرّاء و التّاء من غير همزة و لا ألف في الثّلاثة، و لم يتكلّم على توجيه هذه القراءة الشّاذّة. و وجّه

نصوص في علوم القرآن، ص: 176

اللّفظ الأوّل أنّه مصدر، أي «انّ علينا جمعه و قراءته» فنقل حركة الهمزة إلى الرّاء السّاكنة و حذفها، فبقى «قرته» كما ترى. و أمّا الثّاني فإنّه فعل ماض أصله فإذا قرأته، أي أردت قراءته فسكّن الهمزة، فصار قرأته، ثمّ حذف الألف على جهة الشّذوذ، كما حذفت في قول العرب: و لو تر ما الصّبيان يريدون، و لو ترى ما الصّبيان و ما زائدة. و أمّا اللّفظ الثّالث فتوجيهه توجيه اللّفظ الأوّل، أي فإذا قرأته- أي أردت قراءته- فاتّبع قراءته بالدّرس أو بالعمل.

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ: قال قتادة و جماعة: أن نبيّنه لك و نحفظكه. و قيل: أن تبيّنه أنت.

و قال قتادة أيضا: أن نبيّن حلاله و حرامه و مجمله و مفسّره.

و في «التّحرير و التّحبير» قال ابن عبّاس: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ، أي حفظه في حياتك، و قراءته: تأليفه على لسانك. و قال الضّحّاك: نثبّته في قلبك بعد جمعه لك. و قيل: جمعه بإعادة جبريل عليك مرّة أخرى، إلى أن يثبت في صدرك.

فَإِذا قَرَأْناهُ: قال ابن عبّاس: أنزلناه إليك، فاستمع قراءته. و

عنه أيضا: فإذا يتلى عليك فاتّبع ما فيه ...

و قد نمّق الزّمخشريّ بحسن إيراده تفسير هذه الآية، فقال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إذا لقّن الوحي نازع جبريل ... [و ذكر كما تقدّم عنه].

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ: إذا أشكل عليك شي ء من معانيه، كأنّه كان يعجل في الحفظ و السّؤال عن المعنى جميعا، كما ترى بعض الحرّاص على العلم و نحوه، وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ ... انتهى.

[ثمّ ذكر قول الفخر الرّازيّ في طعن الّذين سمّوا بالرّافضة كما تقدّم عنه، فقال:]

و يظهر أنّ المناسبة بين هذه الآية و ما قبلها أنّه تعالى لمّا ذكر منكر القيامة و البعث معرضا عن آيات اللّه تعالى و معجزاته و أنّه قاصر شهواته على الفجور غير مكترث بما يصدر منه ذكر حال من يثابر على تعلّم آيات اللّه و حفظها و تلقّفها و النّظر فيها و عرضها على من ينكرها رجاء قبوله إيّاها، فظهر بذلك تباين من يرغب في تحصيل آيات اللّه و من يرغب عنها و بضدّها تتميّز الأشياء.

نصوص في علوم القرآن، ص: 177

و لمّا كان صلّى اللّه عليه و سلم لمثابرته على ذلك كان يبادر للتّحفّظ بتحريك لسانه أخبره تعالى أنّه يجمعه له و يوضّحه. (8: 387- 388)

فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ* مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ... عبس/ 13- 14.

فِي صُحُفٍ: قيل: اللّوح المحفوظ، و قيل: صحف الأولياء المنزّلة، و قيل: صحف المسلمين. فيكون إخبارا بمغيب؛ إذ لم يكتب القرآن في صحف زمان كونه عليه السّلام بمكّة ينزّل عليه القرآن. مُكَرَّمَةٍ: عند اللّه و مَرْفُوعَةٍ: في السّماء السّابعة، قاله يحيى بن سلّام.

بِأَيْدِي سَفَرَةٍ: كتبة ينسخون الكتب من اللّوح المحفوظ، قال ابن عبّاس: هم الملائكة كتبة.

و قال أيضا: لأنّهم يسفرون بين اللّه تعالى و أنبيائه ...

و قال قتادة: هم القرّاء، و واحد السّفرة سافر.

و قال وهب: هم الصّحابة؛ لأنّ بعضهم يسفر إلى بعض في الخير و التّعليم و العلم.

(8: 428)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ القدر/ 1.

إِنَّا أَنْزَلْناهُ: و الضّمير عائد على ما دلّ عليه المعنى و هو ضمير القرآن.

قال ابن عبّاس و غيره: أنزله اللّه تعالى ليلة القدر إلى سماء الدّنيا جملة، ثمّ نجّمه على محمّد صلّى اللّه عليه و سلم في عشرين سنة.

و قال الشّعبيّ و غيره: إنّا ابتدأنا إنزال هذا القرآن إليك في ليلة القدر. و روي أنّ نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر من رمضان.

و قيل: المعنى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ في هذه السّورة في شأن ليلة القدر و فضلها، و لمّا كانت السّورة من القرآن، جاء الضّمير للقرآن تفخيما و تحسينا، فليست ليلة القدر ظرفا للنّزول بل على نحو قول عمر: لقد خشيت أن ينزل فيّ قرآن. و قول عائشة: لأنا أحقر في نفسي

نصوص في علوم القرآن، ص: 178

من أن ينزل فيّ قرآن.

و قال الزّمخشريّ: عظم من القرآن من إسناد إنزاله إليه مختصّا به، و من مجيئه بضميره دون اسمه الظّاهر شهادة له بالنّباهة و الاستغناء عن التّنبيه عليه، و بالرّفع من مقدار الوقت الّذي أنزل فيه، انتهى. (8: 496)

نصوص في علوم القرآن، ص: 179

الفصل الحادي و العشرون نصّ ابن كثير (م: 774 ه) في «تفسيره»

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ البقرة/ 185.

يمدح تعالى شهر الصّيام من بين سائر الشّهور بأنّ اختاره من بينهنّ لإنزال القرآن العظيم، و كما اختصّه بذلك قد ورد الحديث بأنّه الشّهر الّذي كانت الكتب الإلهيّة تنزل فيه على الأنبياء؛ قال الإمام أحمد بن حنبل: حدّثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدّثنا عمران أبو العوّام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:]

و قد روي من حديث جابر بن عبد اللّه، و فيه: أنّ الزّبور أنزل لثنتي عشرة خلت من رمضان، و الإنجيل لثماني عشرة، و الباقي كما تقدّم،

رواه ابن مردويه. و أمّا الصّحف و التّوراة و الزّبور و الإنجيل، فنزل كلّ منها على النّبيّ الّذي أنزل عليه جملة واحدة، و أمّا القرآن فإنّما نزل جملة واحدة إلى بيت العزّة من السّماء الدّنيا، و كان ذلك في شهر رمضان في ليلة القدر منه، كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، و قال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، ثمّ نزل بعد مفرّقا بحسب الوقائع على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم.

هكذا روي من غير وجه عن ابن عبّاس، كما قال إسرائيل عن السّدّيّ، عن محمّد بن أبي المجالد، عن مقسم، عن ابن عبّاس: أنّه سأل عطيّة بن الأسود، فقال: وقع في قلبي الشّكّ ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:]

نصوص في علوم القرآن، ص: 180

و في رواية سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: أنزل القرآن في النّصف من شهر رمضان إلى سماء الدّنيا، فجعل في بيت العزّة، ثمّ أنزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في عشرين سنة؛ لجواب كلام النّاس.

و في رواية عكرمة عن ابن عبّاس، قال: نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر، إلى هذه السّماء الدّنيا جملة واحدة، و كان اللّه يحدّث لنبيّه ما يشاء، و لا يجي ء المشركون بمثل يخاصمون به إلّا جاءهم اللّه بجوابه، و ذلك قوله: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ .... (1: 380)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ... الفرقان/ 32.

يقول تعالى مخبرا عن كثرة اعتراض الكفّار و تعنّتهم و كلامهم فيما لا يعنيهم؛ حيث قالوا: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً، أي هلّا أنزل عليه هذا الكتاب الّذي أوحي إليه جملة واحدة، كما

نزلت الكتب قبله جملة واحدة، كالتّوراة و الإنجيل و الزّبور و غيرها من الكتب الإلهيّة، فأجابهم اللّه تعالى عن ذلك بأنّه إنّما نزل منجّما في ثلاث و عشرين سنة بحسب الوقائع و الحوادث، و ما يحتاج إليه من الأحكام؛ ليثبّت قلوب المؤمنين به، كقوله:

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ الآية و لهذا قال: لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا، قال قتادة: بيّنّاه تبيينا. و قال ابن زيد: و فسّرناه تفسيرا. وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ، أي بحجّة و شبهة، إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً، أي و لا يقولون قولا يعارضون به الحقّ، إلّا أجبناهم بما هو الحقّ في نفس الأمر، و أبين و أوضح و أفصح من مقالتهم.

قال سعيد بن جبير عن ابن عبّاس: وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ، أي بما يلتمسون به عيب القرآن و الرّسول، إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ الآية، أي إلّا نزل جبريل من اللّه تعالى بجوابهم.

و ما هذا إلّا اعتناء و كبير شرف للرّسول صلّى اللّه عليه و سلم؛ حيث كان يأتيه الوحي من اللّه عزّ و جلّ بالقرآن صباحا و مساء، و ليلا و نهارا، سفرا و حضرا، و كلّ مرّة كان يأتيه الملك بالقرآن لا كإنزال الكتاب ممّا قبله من الكتب المتقدّمة، فهذا المقام أعلى و أجل و أعظم مكانة من سائر إخوانه الأنبياء (صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين)، فالقرآن أشرف كتاب أنزله اللّه،

نصوص في علوم القرآن، ص: 181

و محمّد صلّى اللّه عليه و سلم أعظم نبيّ أرسله اللّه تعالى. و قد جمع اللّه للقرآن الصّفتين معا، ففي الملأ الأعلى أنزل جملة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا، ثمّ أنزل بعد ذلك إلى الأرض منجّما بحسب الوقائع و

الحوادث.

و روى النّسائيّ بإسناده عن ابن عبّاس، قال: أنزل القرآن جملة واحدة ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ]. (5: 150- 151)

فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ... الواقعة/ 75.

و اختلفوا في معنى قوله: بِمَواقِعِ النُّجُومِ، فقال حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس: يعني نجوم القرآن، فإنّه نزل جملة ليلة القدر من السّماء العليا إلى السّماء الدّنيا، ثمّ نزل مفرّقا في السّنين بعد، ثمّ قرأ ابن عبّاس: هذه الآية.

[ثمّ ذكر رواية الضّحّاك عن ابن عبّاس، كما تقدّم عن القرطبيّ، فقال:]

و كذا قال عكرمة و مجاهد و السّدّيّ و أبو حزرة. و قال مجاهد أيضا: مواقع النّجوم في السّماء، و يقال: مطالعها و مشارقها. (6: 535)

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... القيامة/ 16- 17

هذا تعليم من اللّه عزّ و جلّ لرسوله صلّى اللّه عليه و سلم في كيفيّة تلقّيه الوحي من الملك، فإنّه كان يبادر إلى أخذه و يسابق الملك في قراءته، فأمره اللّه إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له، و تكفّل اللّه له أن يجمعه في صدره، و أن ييسّره لأدائه على الوجه الّذي ألقاه إليه و أن يبيّنه له و يفسّره و يوضّحه.

فالحالة الأولى جمعه في صدره، و الثّانية تلاوته، و الثّالثة تفسيره و إيضاح معناه.

و لهذا قال اللّه تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، أي بالقرآن، كما قال تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «1».

إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ [ثمّ ذكر تفسير الآية كما تقدّم عن القرطبيّ، فقال:]

______________________________

(1)- طه/ 114.

نصوص في علوم القرآن، ص: 182

و قال ابن أبي حاتم: حدّثنا أبو سعيد الأشجّ، حدّثنا أبو يحيى التّيميّ، حدّثنا موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إذا أنزل عليه الوحي يلقى منه شدّة، و كان إذا نزل عليه عرف في

تحريكه شفتيه يتلقّى أوّله و يحرّك به شفتيه؛ خشية أن ينسى أوّله قبل أن يفرغ من آخره، فأنزل اللّه تعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ ....

و هكذا قال الشّعبيّ و الحسن البصريّ و قتادة و مجاهد و الضّحّاك و غير واحد: إنّ هذه الآية نزلت في ذلك.

و قد روى ابن جرير من طريق العوفيّ عن ابن عبّاس لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ قال: كان لا يفتر من القرآن مخافة أن ينساه، فقال اللّه تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ.

إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ أن نجمعه لك، وَ قُرْآنَهُ: أن نقرئك فلا تنسى ... (7: 169- 170)

«و نصّه أيضا في «البداية و النّهاية»
عمره صلّى اللّه عليه و سلم وقت بعثته و تأريخها:

قال الإمام أحمد حدّثنا محمّد بن أبي عديّ، عن داود بن أبي هند، عن عامر الشّعبيّ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم نزلت عليه النّبوّة و هو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوّته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلّمه الكلمة و الشّي ء، و لم ينزل القرآن، فلمّا مضت ثلاث سنين قرن بنبوّته جبريل، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة، عشرا بمكّة و عشرا بالمدينة. فمات و هو ابن ثلاث و ستّين سنة. فهذا إسناد صحيح إلى الشّعبيّ، و هو يقتضي أنّ إسرافيل قرن معه بعد الأربعين ثلاث سنين ثمّ جاءه جبريل.

و أمّا الشّيخ شهاب الدّين أبو شامة فإنّه قد قال: و حديث عائشة لا ينافي هذا، فإنّه يجوز أن يكون أوّل أمره الرّؤيا. ثمّ وكّل به إسرافيل في تلك المدّة الّتي كان يخلو فيها بحراء، فكان يلقي إليه الكلمة بسرعة و لا يقيم معه تدريجا له و تمرينا إلى أن جاءه

نصوص في علوم القرآن، ص: 183

جبريل، فعلّمه بعد ما غطّه ثلاث مرّات، فحكت عائشة ما جرى له مع جبريل،

و لم تحك ما جرى له مع إسرافيل اختصارا للحديث، أو لم تكن وقفت على قصّة إسرافيل.

و قال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى بن هشام، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، أنزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و هو ابن ثلاث و أربعين، فمكث بمكّة عشرا و بالمدينة عشرا. و مات و هو ابن ثلاث و ستّين. و هكذا روى يحيى بن سعيد بن المسيّب، ثمّ روى أحمد عن غندر و يزيد ابن هارون، كلاهما عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، قال: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أنزل عليه القرآن، و هو ابن أربعين سنة، فمكث بمكّة ثلاث عشرة سنة و بالمدينة عشر سنين. و مات و هو ابن ثلاث و ستّين سنة. و قال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا حمّاد بن سلمة، أنبأنا عمّار بن أبي عمّار، عن ابن عبّاس، قال: أقام النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بمكّة خمس عشرة سنة، سبع سنين يرى الضّوء و يسمع الصّوت، و ثماني سنين يوحى إليه، و أقام بالمدينة عشر سنين.

قال أبو شامة: و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يرى عجائب قبل بعثته، فمن ذلك ما في صحيح مسلم، عن جابر بن سمرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «إنّي لأعرف حجرا بمكّة كان يسلّم عليّ قبل أن أبعث، إنّي لأعرفه الآن» انتهى كلامه.

و إنّما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يحبّ الخلاء و الانفراد عن قومه؛ لمّا يراهم عليه من الضّلال المبين من عبادة الأوثان و السّجود للأصنام، و قويت محبّته للخلوة عند مقاربة إيحاء اللّه إليه (صلوات اللّه و سلامه

عليه). و قد ذكر محمّد بن إسحاق عن عبد الملك بن عبد اللّه بن أبي سفيان بن العلاء بن حارثة- قال؛ و كان واعية- عن بعض أهل العلم، قال: و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يخرج إلى حراء في كلّ عام شهرا من السّنة يتنسّك فيه. و كان من نسك قريش في الجاهليّة، يطعم من جاءه من المساكين، حتّى إذا انصرف من مجاورته لم يدخل بيته حتّى يطوف بالكعبة. و هكذا روى عن وهب بن كيسان، أنّه سمع عبيد بن عمير يحدث عبد اللّه بن الزّبير مثل ذلك. و هذا يدلّ على أنّ هذا كان من عادة المتعبّدين في قريش أنّهم يجاورون في حراء للعبادة، و لهذا قال أبو طالب في قصيدته المشهورة:

و ثور و من أرسى ثبيرا مكانه وراق ليرقى في حراء و نازل

نصوص في علوم القرآن، ص: 184

هكذا صوّبه على رواية هذا البيت، كما ذكره السّهيليّ و أبو شامة و شيخنا الحافظ أبو الحجّاج المزّي رحمهم اللّه، و قد تصحّف على بعض الرّواة، فقال فيه: وراق ليرقى في حراء و نازل، و هذا ركيك و مخالف للصّواب، و اللّه أعلم.

و حراء: يقصر و يمدّ و يصرّف و يمنع، و هو جبل بأعلى مكّة على ثلاثة أميال منها عن يسار المارّ إلى منى، له قلّة مشرفة على الكعبة منحنية و الغار في تلك الحنية، و ما أحسن ما قال رؤبة بن العجّاج:

فلا و ربّ الآمنات القطّن و ربّ ركن من حراء منحني و قوله في الحديث: و التّحنّث: التّعبّد، تفسير بالمعنى، و إلّا فحقيقة التّحنّث من حنث «1» البنية، فيما قاله السّهيليّ، الدّخول في الحنث، و لكن سمعت ألفاظ قليلة في

اللّغة معناها الخروج من ذلك الشّي ء كحنث، أي خرج من الحنث، و تحوّب و تحرّج و تأثّم، و تهجّد هو:

ترك الهجود، و هو النّوم للصّلاة، و تنجّس و تقذّر، أوردها أبو شامة. و قد سئل ابن الأعرابيّ عن قوله: يتحنّث، أي يتعبّد، فقال: لا أعرف هذا، إنّما هو يتحنّف، من الحنيفيّة دين إبراهيم عليه السّلام. قال ابن هشام: و العرب تقول: التّحنّث و التّحنّف، يبدّلون الفاء من الثّاء، كما قالوا: جدف و جذف، كما قال رؤبة: لو كان أحجاري مع الأجذاف. يريد الأجداث. قال:

و حدّثني أبو عبيدة، أنّ العرب تقول: «فمّ» في موضع «ثمّ» قلت: و من ذلك قول بعض المفسّرين وَ فُومِها: إنّ المراد ثومها.

و قد اختلف العلماء في تعبّده عليه السّلام قبل البعثة، هل كان على شرع أم لا؟ و ما ذلك الشّرع؟ فقيل: شرع نوح، و قيل: شرع إبراهيم، و هو الأشبه الأقوى، و قيل: موسى، و قيل:

عيسى، و قيل: كلّ ما ثبت أنّه شرع عنده اتّبعه و عمل به، و لبسط هذه الأقوال و مناسباتها مواضع أخر في أصول الفقه، و اللّه أعلم.

و قوله: حتّى فجئه الحقّ و هو بغار حراء، أي جاء بغتة على غير موعد، كما قال تعالى وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ «2» الآية. و قد كان نزول صدر

______________________________

(1)- كذا في المصدر، لعلّ الصّحيح «من حيث البنية (م)

(2)- القصص/ 86.

نصوص في علوم القرآن، ص: 185

هذه السّورة الكريمة، و هي اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «1». و هي أوّل ما نزل من القرآن كما قرّرنا

ذلك في التّفسير، و كما سيأتي أيضا في يوم الاثنين، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم سئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: «ذلك يوم ولدت فيه، و يوم أنزل عليّ فيه». و قال ابن عبّاس: ولد نبيّكم محمّد صلّى اللّه عليه و سلم يوم الاثنين، و نبّئ يوم الاثنين. و هكذا قال عبيد بن عمير، و أبو جعفر الباقر، و غير واحد من العلماء: إنّه صلّى اللّه عليه و سلم أوحي إليه يوم الاثنين، و هذا ما لا خلاف فيه بينهم.

ثمّ قيل: كان ذلك في شهر ربيع الأوّل، كما تقدّم عن ابن عبّاس و جابر أنّه ولد عليه السّلام في الثّاني عشر من ربيع الأوّل. يوم الاثنين، و فيه بعث و فيه عرج به إلى السّماء، و المشهور أنّه بعث صلّى اللّه عليه و سلم في شهر رمضان، كما نصّ على ذلك عبيد بن عمير، و محمّد بن إسحاق و غيرهما.

قال ابن إسحاق مستدلّا على ذلك بما قال اللّه تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ فقيل: في عشرة. و روى الواقديّ بسنده عن أبي جعفر الباقر، أنّه قال:

«كان ابتداء الوحي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يوم الاثنين، لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان» و قيل: في الرّابع و العشرين منه. قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدّثنا عمران أبو العوّام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، فقال:]

و روى ابن مردويه في تفسيره عن جابر بن عبد اللّه مرفوعا نحوه، و لهذا ذهب جماعة من الصّحابة و التّابعين، إلى

أنّ ليلة القدر ليلة أربع و عشرين. (3: 4- 6)

______________________________

(1)- العلق/ 1- 5.

نصوص في علوم القرآن، ص: 186

الفصل الثّاني و العشرون نصّ الزّركشيّ (م: 794 ه) في كتابه: «البرهان في علوم القرآن»

في كيفيّة إنزاله

قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «1»، و قال سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2». و اختلف في كيفيّة الإنزال على ثلاثة أقوال؛

أحدها: أنّه نزل إلى سماء الدّنيا ليلة القدر جملة واحدة، ثمّ نزل بعد ذلك منجّما في عشرين سنة أو في ثلاث و عشرين، أو خمس و عشرين، على حسب الاختلاف في مدّة إقامته بمكّة بعد النّبوّة.

و القول الثّاني: أنّه نزل إلى سماء الدّنيا في عشرين ليلة قدر من عشرين سنة، و قيل:

في ثلاث و عشرين ليلة قدر من ثلاث و عشرين سنة، و قيل: في خمس و عشرين ليلة قدر من خمس و عشرين سنة، في كلّ ليلة ما يقدّر اللّه سبحانه إنزاله في كلّ السّنة، ثمّ ينزل بعد ذلك منجّما في جميع السّنة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم.

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- القدر/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 187

و القول الثّالث: أنّه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر، ثمّ نزل بعد ذلك منجّما في أوقات مختلفة من سائر الأوقات.

و القول الأوّل أشهر و أصحّ، و إليه ذهب الأكثرون، و يؤيّده ما رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عبّاس، قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدّنيا في ليلة القدر، ثمّ نزل بعد ذلك في عشرين سنة، قال الحاكم: صحيح على شرط الشّيخين.

و أخرج النّسائيّ في التّفسير من جهة حسّان عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: فصل القرآن من الذّكر، فوضع في بيت العزّة من السّماء الدّنيا، فجعل جبريل ينزل به على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم

و إسناده صحيح، و حسّان هو ابن أبي الأشرس، وثّقه النّسائيّ و غيره.

و بالثّاني قال مقاتل و الإمام أبو عبد اللّه الحليميّ في «المنهاج» و الماورديّ في «تفسيره». و بالثّالث قال الشّعبيّ و غيره.

و اعلم أنّه اتّفق أهل السّنّة على أنّ كلام اللّه منزّل، و اختلفوا في معنى الإنزال، فقيل:

معناه إظهار القرآن، و قيل: إنّ اللّه أفهم كلامه جبريل و هو في السّماء، و هو عال من المكان و علّمه قراءته، ثمّ جبريل أدّاه في الأرض و هو يهبط في المكان.

و التّنزيل له طريقان؛ أحدهما: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم انخلع من صورة البشريّة إلى صورة الملائكة و أخذه من جبريل. و الثّاني: أنّ الملك انخلع إلى البشريّة حتّى يأخذ الرّسول منه، و الأوّل أصعب الحالين.

و نقل بعضهم عن السّمرقنديّ حكاية ثلاثة أقوال في المنزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم ما هو؛

أحدها: أنّه اللّفظ و المعنى، و أنّ جبريل حفظ القرآن من اللّوح المحفوظ و نزل به.

و ذكر بعضهم أنّ أحرف القرآن في اللّوح المحفوظ، كلّ حرف منها بقدر جبل قاف، و أنّ تحت كل حرف معان لا يحيط بها إلّا اللّه عزّ و جلّ، و هذا معنى قول الغزاليّ: إنّ هذه الأحرف سترة لمعانيه.

و الثّاني: أنّه إنّما نزل جبريل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بالمعاني خاصّة، و أنّه صلّى اللّه عليه و سلم علم تلك المعاني و عبّر عنها بلغة العرب، و إنّما تمسّكوا بقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى

نصوص في علوم القرآن، ص: 188

قَلْبِكَ «1».

و الثّالث: أنّ جبريل إنّما ألقي عليه المعنى، و أنّه عبّر بهذه الألفاظ بلغة العرب، و أنّ أهل السّماء يقرءونه

بالعربيّة، ثمّ إنّه أنزل به كذلك بعد ذلك.

فإن قيل: ما السّرّ في إنزاله جملة إلى السّماء؟ قيل ... [و ذكر كما تقدّم عن أبي شامة، ثمّ قال:]. فإن قيل: في أيّ زمان نزل جملة إلى سماء الدّنيا، بعد ظهور نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلم أم قبلها؟ قلت: قال الشّيخ أبو شامة: الظّاهر أنّه قبلها، و كلاهما محتمل، فإن كان بعدها فوجه التّفخيم منه ما ذكرناه، و إن كان قبلها ففائدته أظهر و أكثر.

فإن قلت: فقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2»، من جملة القرآن الّذي نزل جملة أم لا؟ ... [و ذكر كما تقدّم عن أبي شامة، ثمّ قال:]

و قال ابن فورك: قيل: أنزلت التّوراة جملة؛ لأنّها نزلت على نبيّ يقرأ و يكتب- و هو موسى- و أنزل القرآن مفرّقا؛ لأنّه أنزل غير مكتوب على نبيّ أميّ. و قيل: ممّا لم ينزل لأجله جملة واحدة أنّ منه النّاسخ و المنسوخ، و منه ما هو جواب لمن يسأل عن أمور، و منه ما هو إنكار لما كان، انتهى.

و كان بين أوّل نزول القرآن و آخره عشرون أو ثلاث و عشرون أو خمس و عشرون سنة، و هو مبنيّ على الخلاف في مدّة إقامته صلّى اللّه عليه و سلم بمكّة بعد النّبوّة؛ فقيل: عشر، و قيل: ثلاث عشرة، و قيل: خمس عشرة. و لم يختلف في مدّة إقامته بالمدينة أنّها عشر. و كان كلّما أنزل عليه شي ء من القرآن أمر بكتابته، و يقول: في مفترقات الآيات «ضعوا هذه في سورة كذا»، و كان يعرضه جبريل في شهر رمضان كلّ عام مرّة، و عام مات مرّتين.

و في صحيح البخاريّ: قال مسروق، عن عائشة، عن فاطمة ...

[و ذكر كما تقدّم عنه ثمّ قال:]

و أسنده البخاريّ في مواضع. و قد كرّر النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم الاعتكاف، فاعتكف عشرين بعد أن كان يعتكف عشرا. (1: 229- 232)

______________________________

(1)- الشّعراء/ 193.

(2)- القدر/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 189

الفصل الثّالث و العشرون نصّ ابن حجر العسقلانيّ (م: 852 ه) في «فتح الباريّ بشرح صحيح البخاريّ»

قوله: (باب كيف نزل الوحي؟ و أوّل ما نزل؟)

كذا لأبي ذرّ «نزل» بلفظ الفعل الماضي و لغيره: كيف نزول الوحي، بصيغة الجمع، و قد تقدّم البحث في كيفيّة نزوله في حديث عائشة: أنّ الحرث بن هشام سأل النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم:

كيف يأتيك الوحي؟ في أوّل الصّحيح؛ و كذا أوّل نزوله، في حديثها: أوّل ما بدئ به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من الوحي الرّؤيا الصّادقة. لكن التّعبير بأوّل ما نزل أخصّ من التّعبير بأوّل ما بدئ؛ لأنّ النّزول يقتضي وجود من ينزل به، و أوّل ذلك مجي ء الملك له عيانا مبلّغا عن اللّه بما شاء من الوحي، و إيحاء الوحي أعمّ من أن يكون بإنزال أو بإلهام، سواء وقع ذلك في النّوم أو في اليقظة. و أمّا انتزاع ذلك من أحاديث الباب فسأذكره إن شاء اللّه تعالى عند شرح كلّ حديث منها.

قوله: (قال ابن عبّاس: المهيمن الأمين: القرآن أمين على كلّ كتاب قبله)، تقدّم بيان هذا الأثر و ذكر من وصله في تفسير سورة المائدة، و هو يتعلّق بأصل التّرجمة، و هي فضائل القرآن و توجيه كلام ابن عبّاس أنّ القرآن تضمّن تصديق جميع ما أنزل قبله، لأنّ

نصوص في علوم القرآن، ص: 190

الأحكام الّتي فيه إمّا مقرّرة لما سبق و إمّا ناسخة و ذلك يستدعي إثبات المنسوخ، و إمّا مجدّدة، و كلّ ذلك دالّ على تفضيل المجدّد. ثمّ ذكر المصنّف في الباب ستّة أحاديث، الأوّل و الثّاني:

حديثا ابن عبّاس و عائشة معا.

قوله: (عن شيبان) هو ابن عبد الرّحمن، و يحيى هو ابن أبي كثير، و أبو سلمة هو ابن عبد الرّحمن.

قوله: (لبث النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بمكّة عشر سنين ينزل عليه القرآن و بالمدينة عشر سنين) كذا للكشميهنيّ و لغيره: و بالمدينة عشرا بإبهام المعدود و هذا ظاهره أنّه صلّى اللّه عليه و سلم عاش ستّين سنة إذا انضمّ إلى المشهور أنّه بعث على رأس الأربعين، لكن يمكن أن يكون الرّاوي ألغى الكسر كما تقدّم بيانه في الوفاة و النّبوّة، فإنّ كلّ من روى عنه أنّه عاش ستّين سنة أو أكثر من ثلاث و ستّين، جاء عنه أنّه عاش ثلاثا و ستّين، فالمعتمد أنّه عاش ثلاثا و ستّين، و ما يخالف ذلك إمّا أن يحمل على إلغاء الكسر في السّنين و إمّا على جبر الكسر في الشّهور.

و أمّا حديث الباب فيمكن أن يجمع بينه و بين المشهور بوجه آخر، و هو أنّه بعث على رأس الأربعين، فكانت مدّة وحي المنام ستّة أشهر إلى أن نزل عليه الملك في شهر رمضان من غير فترة، ثمّ فتر الوحي، ثمّ تواتر و تتابع، فكانت مدّة تواتره و تتابعه بمكّة عشر سنين من غير فترة، و أنّه على رأس الأربعين قرن به ميكائيل أو إسرافيل، فكان يلقي إليه الكلمة أو الشّي ء مدّة ثلاث سنين كما جاء من وجه مرسل، ثمّ قرن به جبريل، فكان ينزل عليه بالقرآن مدّة عشر سنين بمكّة. و يؤخذ من هذا الحديث ممّا يتعلّق بالتّرجمة أنّه نزل مفرّقا و لم ينزل جملة واحدة، و لعلّه أشار إلى ما أخرجه النّسائي و أبو عبيد و الحاكم من وجه آخر عن

ابن عبّاس، قال أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدّنيا في ليلة القدر، ثمّ أنزل بعد ذلك في عشرين سنة. و قرأ وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ «1» الآية و في رواية للحاكم و البيهقيّ في «الدّلائل» فرّق في السّنين، و في أخرى صحيحة لابن أبي شيبة و الحاكم أيضا وضع في بيت العزّة في السّماء الدّنيا، فجعل جبريل ينزل به على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و إسناده صحيح.

______________________________

(1)- الإسراء/ 105.

نصوص في علوم القرآن، ص: 191

[ثمّ ذكر قول الحليميّ نقلا عن المنهاج و قول «الماورديّ»، كما تقدّم عن أبي شامة، فقال:]

و هذا أيضا غريب، و المعتمد أنّ جبريل كان يعارض النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم في رمضان بما ينزل به عليه في طول السّنة.

كذا جزم به الشّعبيّ فيما أخرجه عنه أبو عبيد و ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، و سيأتي مزيد لذلك بعد ثلاثة أبواب. و قد تقدّم في بدء الوحي أنّ أوّل نزول جبريل بالقرآن كان في شهر رمضان و سيأتي في هذا الكتاب أنّ جبريل كان يعارض النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بالقرآن في شهر رمضان، و في ذلك حكمتان؛ إحداهما: تعاهده، و الأخرى تبقية ما لم ينسخ منه، و رفع ما نسخ، فكان رمضان ظرفا لإنزاله جملة و تفصيلا و عرضا و إحكاما.

قد أخرج أحمد و البيهقيّ في الشّعب عن واثلة ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ. ثمّ قال:]

و هذا كلّه مطابق لقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «1» و لقوله تعالى:

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2» فيحتمل أن تكون ليلة القدر في تلك السّنة كانت تلك اللّيلة فأنزل فيها جملة

إلى سماء الدّنيا، ثمّ أنزل في اليوم الرّابع و العشرين إلى الأرض أوّل اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ و يستفاد من حديث الباب أنّ القرآن نزل كلّه بمكّة و المدينة خاصّة، و هو كذلك، لكن نزل كثير منه في غير الحرمين؛ حيث كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم في سفر حجّ أو عمرة أو غزاة، و لكن الاصطلاح أنّ كلّ ما نزل قبل الهجرة فهو مكّيّ، و ما نزل بعد الهجرة فهو مدنيّ سواء نزل في البلد حال الإقامة أو في غيرها حال السّفر، و سيأتي مزيد لذلك في باب تأليف القرآن.

قوله: (إنّ اللّه تابع على رسوله صلّى اللّه عليه و سلم قبل وفاته)، كذا للأكثر، و في رواية أبي ذرّ: إنّ اللّه تابع على رسوله الوحي قبل وفاته، أي أكثر إنزاله قرب وفاته صلّى اللّه عليه و سلم. و السّرّ في ذلك أنّ الوفود بعد فتح مكّة كثروا و كثر سؤالهم عن الأحكام، فكثر النّزول بسبب ذلك، و وقع لي سبب

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- القدر/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 192

تحديث أنس بذلك من رواية الدّراورديّ، عن الإماميّ، عن الزّهريّ: سألت أنس بن مالك هل فتر الوحي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم قبل أن يموت؟ قال: أكثر ما كان و أجمّه. أورده ابن يونس في تاريخ مصر في ترجمة محمّد بن أبي سعيد بن أبي مريم.

قوله: (حتّى توفّاه أكثر ما كان الوحي)، أي الزّمان الّذي وقعت فيه وفاته كان نزول الوحي فيه أكثر من غيره من الأزمنة.

قوله: (ثمّ توفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بعد)، فيه إظهار ما تضمّنته الغاية في قوله: حتّى توفّاه اللّه، و هذا الّذي وقع أخيرا على

خلاف ما وقع أوّلا، فإنّ الوحي في أوّل البعثة فتر فترة ثمّ كثر، و في أثناء النّزول بمكّة لم ينزل من السّور الطّوال إلّا القليل، ثمّ بعد الهجرة نزلت السّور الطّوال المشتملة على غالب الأحكام، إلّا أنّه كان الزّمن الأخير من الحياة النّبويّة أكثر الأزمنة نزولا بالسّبب المتقدّم، و بهذا تظهر مناسبة هذا الحديث للتّرجمة؛ لتضمّنه الإشارة إلى كيفيّة النّزول.

قوله: (حدّثنا سفيان) هو الثّوريّ و قد تقدّم شرح الحديث قريبا في سورة و الضّحى، و وجه إيراده في هذا الباب الإشارة إلى أنّ تأخير النّزول أحيانا إنّما كان يقع لحكمة تقتضي ذلك لا لقصد تركه أصلا، فكان نزوله على أنحاء شتّى تارة يتتابع و تارة يتراخى.

و في إنزاله مفرّقا وجوه من الحكمة؛

منها: تسهيل حفظه، لأنّه لو نزل جملة واحدة على أمّة أميّة لا يقرأ غالبهم و لا يكتب لشقّ عليهم حفظه. و أشار سبحانه و تعالى إلى ذلك بقوله ردّا على الكفّار و قالوا: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ «1»، أي أنزلناه مفرّقا لنثبّت به فؤادك، و بقوله تعالى:

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ «2».

و منها: ما يستلزمه من الشّرف له و العناية به؛ لكثرة تردّد رسول ربّه إليه يعلّمه بأحكام ما يقع له، و أجوبة ما يسأل عنه من الأحكام و الحوادث.

و منها أنّه أنزل على سبعة أحرف، فناسب أن ينزّل مفرّقا؛ إذ لو نزل دفعة واحدة لشقّ

______________________________

(1)- الفرقان/ 32.

(2)- الإسراء/ 105.

نصوص في علوم القرآن، ص: 193

بيانها عادة.

و منها: أنّ اللّه قدر أن ينسخ من أحكامه ما شاء، فكان إنزاله مفرّقا لينفصل النّاسخ من المنسوخ أولى من إنزالهما معا. و قد ضبط النّقلة ترتيب نزول السّور كما سيأتي

في باب تأليف القرآن، و لم يضبطوا من ترتيب نزول الآيات إلّا قليلا. و قد تقدّم في تفسير اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أنّها أوّل سورة نزلت، و مع ذلك فنزل من أوّلها أوّلا خمس آيات، ثمّ نزل باقيها بعد ذلك، و كذلك سورة المدّثّر الّتي نزلت بعدها، نزل أوّلها أوّلا ثمّ نزل سائرها بعد.

و أوضح من ذلك ما أخرجه أصحاب السّنن الثّلاثة، و صحّحه الحاكم و غيره من حديث ابن عبّاس عن عثمان، قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم ينزل عليه الآيات، فيقول: «ضعوها في السّورة الّتي يذكر فيها كذا» إلى غير ذلك ممّا سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى. (9: 2- 7)

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... القيامة/ 16- 19.

لم يختلف السّلف أنّ المخاطب بذلك النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم في شأن نزول الوحي، كما دلّ عليه حديث الباب. و حكى الفخر الرّازيّ: أنّ القفّال جوّز أنّها نزلت في الإنسان المذكور، قيل:

ذلك في قوله تعالى ... [و ذكر كما تقدّم عنه، ثمّ قال:]

قوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ ذكر فيه حديث ابن عبّاس المذكور من رواية إسرافيل عن موسى بن أبي عائشة أتمّ من رواية ابن عيينة، و قد استغربه الإسماعيليّ، فقال: كذا أخرجه عن عبيد اللّه بن موسى، ثمّ أخرجه هو من طريق أخرى عن عبيد اللّه المذكور، بلفظ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ قال: كان يحرّك به لسانه مخافة أن ينفلت عنه، فيحتمل أن يكون ما بعد هذا من قوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ إلى آخره معلّقا عن ابن عبّاس بغير هذا الإسناد. و سيأتي الحديث في الباب الّذي بعده أتمّ سياقا قوله: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ: قال ابن عبّاس: قَرَأْناهُ: بيّنّاه، فَاتَّبِعْ: اعمل به. هذا التّفسير رواه عليّ

بن أبي طلحة عن ابن عبّاس، أخرجه ابن أبي حاتم.

قوله: (إذا نزل جبريل عليه) في رواية أبي عوانة عن موسى بن أبي عائشة، كما تقدّم في بدء الوحي، كان يعالج من التّنزيل شدّة، و هذه الجملة توطئة لبيان السّبب في النّزول،

نصوص في علوم القرآن، ص: 194

و كانت الشّدة تحصل له عند نزول الوحي، لثقل القول كما تقدّم في بدء الوحي من حديث عائشة، و تقدّم من حديثها في قصّة الإفك: فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء. و في حديثها في بدء الوحي أيضا و هو أشدّه عليّ لأنّه يقتضي الشّدّة في الحالتين المذكورتين، لكن إحداهما أشدّ من الأخرى.

قوله: (و كان ممّا يحرّك به لسانه و شفتيه) اقتصر أبو عوانة على ذكر الشّفتين، و كذلك إسرائيل، و اقتصر سفيان على ذكر اللّسان، و الجميع مراد إمّا لأنّ التّحريكين متلازمان غالبا، أو المراد يحرّك فمه المشتمل على الشّفتين و اللّسان، لكن لمّا كان اللّسان هو الأصل في النّطق اقتصر في الآية عليه.

قوله: (فيشتدّ عليه) ظاهر هذا السّياق أنّ السّبب في المبادرة حصول المشقّة الّتي يجدها عند النّزول، فكان يتعجّل بأخذه؛ لنزول المشقّة سريعا. و بيّن في رواية إسرائيل:

أنّ ذلك كان خشية أن ينساه؛ حيث قال: فقيل له: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ تخشى أن ينفلت.

و أخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي رجاء عن الحسن، كان يحرّك به لسانه يتذكّره، فقيل له: إنّا سنحفظه عليك. و للطّبريّ من طريق الشّعبيّ: كان إذا نزل عليه عجل يتكلّم به من حبّه إيّاه و ظاهر أنّه كان يتكلّم بما يلقي إليه منه أوّلا فأوّلا من شدّة حبّه إيّاه، فأمر أن يتأنّى إلى أن ينقضي النّزول و لا يعدّ في تعدّد

السّبب.

و وقع في رواية أبي عوانة، قال ابن عبّاس: فأنا أحرّكهما كما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يحرّكهما، و قال سعيد: أنا أحرّكهما كما رأيت ابن عبّاس يحرّكهما. فأطلق في خبر ابن عبّاس، و قيّد بالرّؤية في خبر سعيد؛ لأنّ ابن عبّاس لم ير النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم في تلك الحال؛ لأنّ الظّاهر أنّ ذلك كان في مبدأ المبعث النّبويّ، و لم يكن ابن عبّاس ولد حينئذ و لكن لا مانع أن يخبر النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بذلك بعد فيراه ابن عبّاس حينئذ. و قد ورد ذلك صريحا عند أبي داود الطّيالسيّ في مسنده عند أبي عوانة بسنده بلفظ قال ابن عبّاس: فأنا أحرّك لك شفتي كما رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أفادت هذه الرّواية إبراز الضّمير في رواية البخاريّ؛ حيث قال فيها: فأنا أحرّكهما، و لم يتقدّم للشّفتين ذكر، فعلمنا أنّ ذلك من تصرّف الرّواة.

قوله: (فأنزل اللّه) أي بسبب ذلك، و احتجّ بهذا من جوّز اجتهاد النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و جوّز الفخر

نصوص في علوم القرآن، ص: 195

الرّازيّ أن يكون أذن له في الاستعجال إلى وقت ورود النّهي عن ذلك، فلا يلزم وقوع الاجتهاد في ذلك. و الضّمير في (به) عائد على القرآن و إن لم يجر له ذكر لكنّ القرآن يرشد إليه بل دلّ عليه سياق الآية.

قوله: علينا ان نجمعه فى صدرك كذا فسّره ابن عبّاس و عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة تفسير بالحفظ. و وقع في رواية أبي عوانة جمعه لك في صدرك، و رواية جرير أوضح. و أخرج الطّبريّ عن قتادة أنّ معنى (جمعه) تأليفه.

قوله: وَ

قُرْآنَهُ زاد في رواية إسرائيل أنّ تقرأه، أي أنت، و وقع في رواية الطّبريّ و تقرأه بعد. قوله: فَإِذا قَرَأْناهُ، أي قرأه عليك الملك، فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ فإذا أنزلناه «فاستمع» هذا تأويل آخر لابن عبّاس غير المنقول عنه في التّرجمة، و قد وقع في رواية ابن عيينة مثل رواية جرير، و في رواية إسرائيل نحو ذلك، و في رواية أبي عوانة فاستمع و أنصت، و لا شكّ أنّ الاستماع أخصّ من الإنصات؛ لأنّ الاستماع: الإصغاء، و الإنصات:

السّكوت، و لا يلزم من السّكوت الإصغاء، و هو مثل قوله تعالى: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا «1». و الحاصل أنّ لابن عبّاس في تأويل قوله تعالى: أَنْزَلْناهُ و في قوله:

«فاستمع» قولين و عند الطّبريّ من طريق قتادة في قوله: استمع: اتّبع حلاله و اجتنب حرامه، و يؤيّد ما وقع في حديث الباب قوله في آخر الحديث: فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه و الضّمير في قوله فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ لجبريل، و التّقدير فإذا انتهت قراءة جبريل فاقرأ أنت.

قوله: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ: علينا أن نبيّنه بلسانك، في رواية إسرائيل على لسانك، و في رواية أبي عوانة: أن تقرأه، و هي بمثنّاة فوقانيّة. و استدلّ به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب. كما هو مذهب الجمهور من أهل السنّة، و نصّ عليه الشّافعيّ؛ لما تقتضيه (ثمّ) من التّراخي. و أوّل من استدلّ لذلك بهذه الآية القاضي أبو بكر بن الطّيّب و تبعوه، و هذا لا يتمّ إلّا على تأويل البيان بتبيين المعنى، و إلّا فإذا حمل على أنّ المراد استمرار حفظه له و ظهوره على لسانه فلا، قال الآمديّ: يجوز أن يراد بالبيان الإظهار لا

______________________________

(1)- الأعراف/ 204.

نصوص في علوم

القرآن، ص: 196

بيان المجمل؛ يقال بأنّ الكوكب إذا ظهر قال. و يؤيّد ذلك أنّ المراد جميع القرآن، و المجمل إنّما هو بعضه و لا باختصاص لبعضه بالأمر المذكور دون بعض.

و قال أبو الحسين البصرىّ: يجوز أن يراد البيان التّفصيليّ، و لا يلزم منه جواز تأخير البيان الإجماليّ، فلا يتمّ الاستدلال و تعقّب باحتمال إرادة المعنيين الإظهار و التّفصيل و غير ذلك؛ لأنّ قوله: بَيانَهُ جنس مضاف، فيعمّ جميع أصنافه من إظهاره و تبيين أحكامه و ما يتعلّق بها من تخصيص و تقييد و نسخ و غير ذلك، و قد تقدّم كثير من مباحث هذا الحديث في بدء الوحي و أعيد بعضه هنا استطرادا. (8: 552- 555)

نصوص في علوم القرآن، ص: 197

الفصل الرّابع و العشرون نصّ السّيوطيّ (م: 911 ه) في تفسيره: «الدّرّ المنثور»

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... البقرة/ 185.

أخرج أحمد و ابن جرير و محمّد بن نصر و ابن أبي حاتم و الطّبرانيّ و البيهقيّ في «شعب الإيمان» و الأصبهانيّ في «التّرغيب» عن واثلة بن الأسقع ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:]

و أخرج أبو يعلى و ابن مردويه عن جابر بن عبد اللّه، قال: أنزل اللّه صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان، و أنزل التّوراة على موسى لستّ خلون من رمضان، و أنزل الزّبور على داود لاثنتي عشرة خلت من رمضان، و أنزل الإنجيل على عيسى لثماني عشرة خلت من رمضان، و أنزل الفرقان على محمّد صلّى اللّه عليه و سلم لأربع و عشرين خلت من رمضان.

و أخرج ابن الضّريس عن أبي الجلد، قال: أنزل اللّه صحف إبراهيم في أوّل ليلة من رمضان، و أنزل الإنجيل لثماني عشرة خلون من شهر رمضان، و أنزل القرآن لأربع و عشرين ليلة خلت من رمضان. و ذكر لنا أنّ نبي

اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «أعطيت السّبع الطّول مكان التّوراة، و أعطيت المبيّن مكان الإنجيل، و أعطيت المثاني مكان الزّبور، و فضّلت بالمفصّل» ...

و أخرج ابن جرير و محمّد بن نصر في «كتاب الصّلاة» و ابن أبي حاتم و الطّبرانيّ

نصوص في علوم القرآن، ص: 198

و ابن مردويه، و البيهقيّ في «الأسماء و الصّفات» عن مقسم، قال: سأل عطيّة بن الأسود ابن عبّاس ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:].

و أخرج الفريابيّ و ابن جرير و محمّد بن نصر و الطّبرانيّ و ابن مردويه و الحاكم و صحّحه، و البيهقيّ و الضّياء في «المختارة» عن ابن عبّاس، قال: نزل القرآن جملة، و في لفظ: فصل القرآن من الذّكر لأربعة و عشرين من رمضان، فوضع في بيت العزّة في السّماء الدّنيا، فجعل جبريل ينزّله على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يرتّله ترتيلا.

و أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس، قال: شَهْرُ رَمَضانَ ... و اللّيلة المباركة ... [إلى أن قال:] و أخرج ابن الضّريس و النّسائيّ و محمّد بن نصر و ابن جرير و الطّبرانيّ و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و البيهقيّ، عن ابن عبّاس ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:]

و أخرج ابن الضّريس عن سعيد بن جبير، قال: نزل القرآن جملة واحدة ... [و ذكر كما تقدّم عن ابن كثير، ثمّ قال:].

و أخرج أبو يعلى و ابن عساكر، عن الحسن بن عليّ، أنّه لمّا قتل عليّ، قام خطيبا، فقال: و اللّه لقد قتلتم اللّيلة رجلا في ليلة نزل فيها القرآن، و فيها رفع عيسى بن مريم، و فيها قتل يوشع بن نون، و فيها تيب

على بني إسرائيل.

و أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن جريج، قال: بلغني أنّه كان ينزل فيه من القرآن حتّى انقطع الوحي، و حتّى مات محمّد صلّى اللّه عليه و سلم، فكان ينزّل من القرآن في ليلة القدر، و كلّ شي ء ينزل من القرآن في تلك السّنة فينزل ذلك من السّماء السّابعة على جبريل في السّماء الدّنيا، فلا ينزل جبريل من ذلك على محمّد صلّى اللّه عليه و سلم إلّا بما أمره ربّه.

و أخرج عبد بن حميد و ابن الضّريس عن داود بن أبي هند، قال: قلت لعامر الشّعبيّ:

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي ... فهل كان نزل ... [و ذكر كما تقدّم عن أبي شامة]. (1: 189)

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ الإسراء/ 105

أخرج النّسائيّ و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه، و ابن مردويه و البيهقيّ عن ابن عبّاس أنّه قرأ (و قرآنا فرّقناه) مثقّلة، قال: نزل القرآن إلى سماء الدّنيا في ليلة القدر

نصوص في علوم القرآن، ص: 199

من رمضان جملة واحدة، فكان المشركون إذا أحدثوا شيئا أحدث اللّه لهم جوابا، ففرّقه اللّه في عشرين سنة.

و أخرج ابن أبي حاتم و محمّد بن نصر و ابن الأنباريّ في المصاحف من طريق الضّحّاك عن ابن عبّاس، قال: نزل القرآن جملة واحدة ... [و ذكر كما تقدّم عن أبي شامة، ثمّ قال:].

فقال المشركون: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً، فقال اللّه: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ «1»، أي أنزلناه عليك متفرّقا؛ ليكون عندك جواب ما يسألونك عنه، و لو أنزلناه عليك جملة واحدة، ثمّ سألوك لم يكن عندك جواب ما يسألونك عنه.

و أخرج البزّاز و الطّبرانيّ عن ابن عبّاس، قال: أنزل القرآن جملة واحدة حتّى وضع في

بيت العزّة في السّماء الدّنيا، و نزّله جبريل على محمّد صلّى اللّه عليه و سلم بجواب كلام العباد و أعمالهم.

و أخرج ابن شيبة و ابن جرير و ابن المنذر من طريق أبي العالية عن ابن عبّاس، أنّه قرأها مثقّلة، يقول: أنزل آية آية.

و أخرج البيهقيّ في «شعب الإيمان» عن عمر: قال: تعلّموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإنّ جبريل كان ينزل بالقرآن على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم خمسا خمسا.

و أخرج ابن عساكر من طريق أبي نضرة، قال: كان أبو سعيد الخدريّ رضى اللّه عنه يعلّمنا القرآن خمس آيات بالغداة و خمس آيات بالعشيّ، و يخبر أنّ جبريل نزل بالقرآن خمس آيات خمس آيات.

و أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر عن أبيّ بن كعب رضى اللّه عنه أنّه قرأ وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ مخفّفا يعني بيّناه.

و أخرج ابن الضّريس، عن قتادة، عن الحسن، قال: كان يقال؛ أنزل القرآن على نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ثماني سنين بمكّة و عشرا بعد ما هاجر. و كان قتادة يقول: عشرا بمكّة و عشرا بالمدينة. (4: 205)

______________________________

(1)- الفرقان/ 32.

نصوص في علوم القرآن، ص: 200

وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ طه/ 114.

أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّيّ، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إذا أنزل عليه جبريل بالقرآن أتعب نفسه في حفظه حتّى يشقّ على نفسه، يتخوّف أن يصعد جبريل و لم يحفظه، فينسى ما علّمه، فقال اللّه تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، و قال: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... «1».

و أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى

إِلَيْكَ وَحْيُهُ، يقول: لا تعجل حتّى نبيّنه لك.

و أخرج الفريابيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن الحسن، قال: لطم رجل امرأته، فجاءت إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم تطلب قصاصا، فجعل النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بينهما القصاص، فأنزل اللّه وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ ...، فوقف النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم حتّى نزلت الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ... «2».

و أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ ...، قال: لا تمله على أحد حتّى نتمّه لك. (4: 309)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ... الفرقان/ 32- 33

أخرج ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه، و ابن مردويه و الضّياء في «المختارة» عن ابن عبّاس، قال: قال المشركون: إن كان محمّد كما يزعم نبيّا فلم يعذّبه ربّه، ألّا ينزّل عليه القرآن جملة واحدة، ينزّل عليه الآية و الآيتين و السّورة، فأنزل اللّه على نبيّه جواب ما قالوا وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً.

و أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم، عن قتادة: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً، يقولون: كما أنزل على موسى و على عيسى عليهما السّلام، قال اللّه: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا، قال: بيّناه تبيينا.

______________________________

(1)- القيامة/ 16.

(2)- النّساء/ 34.

نصوص في علوم القرآن، ص: 201

وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً، قال: أحسن تفصيلا.

و أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه، عن ابن عبّاس في قوله: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ، قال:

لنشدد به فؤادك، و نربط على قلبك. وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا،

قال: رسّلناه ترسيلا، يقول: شيئا بعد شي ء. وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ ...، يقول: لو أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة، ثمّ سألوك، لم يكن عندك ما تجيب، و لكنّا نمسك عليك، فإذا سألوك أجبت.

و أخرج ابن مردويه، عن ابن عبّاس، قال: قالت قريش: ما للقرآن لم ينزّل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم جملة واحدة، قال اللّه في كتابه: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا، قال: قليلا قليلا، كيما لا يجيئوك بمثل إلّا جئناك بما ينقض عليهم، فأنزلناه عليك تنزيلا، قليلا قليلا، كلّما جاءوا بشي ء جئناهم بما هو أحسن منه تفسيرا.

و أخرج عبد الرّزّاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله:

وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا، قال: كان ينزل عليه الآية و الآيتان و الآيات، كان ينزل عليه جوابا لهم، إذا سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عن شي ء أنزل اللّه جوابا لهم و ردّا عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم فيما تكلّموا به، و كان بين أوّله و آخره نحو من عشرين سنة.

و أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم، عن إبراهيم النّخعيّ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا، يقول: أنزل متفرّقا. و أخرج ابن أبي حاتم، عن السّدّيّ: وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا، قال:

فصّلناه تفصيلا.

و أخرج ابن أبي حاتم، عن عطاء في قوله: وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً، قال: تفصيلا.

و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً، قال:

بيانا. (5: 70)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ الدّخان/ 3

أخرج ابن مردويه، عن ابن عبّاس في قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، قال:

أنزل القرآن في ليلة القدر، ثمّ نزل

به جبريل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم نجوما بجواب كلام النّاس.

نصوص في علوم القرآن، ص: 202

و أخرج عبد الرّزّاق و عبد بن حميد، عن قتادة إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، قال: هي ليلة القدر.

و أخرج عبد بن حميد، عن أبي الجلد، قال: نزلت صحف إبراهيم ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:].

و أخرج سعيد بن منصور، عن إبراهيم النّخعيّ في قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، قال: نزل القرآن جملة على جبريل، و كان جبريل يجي ء به بعد إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم.

و أخرج سعيد بن منصور، عن سعيد بن جبير، قال: نزل القرآن من السّماء العليا إلى السّماء الدّنيا جميعا في ليلة القدر، ثمّ فصّل بعد ذلك في تلك السّنين. (6: 25)

فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ الواقعة/ 75.

أخرج عبد بن حميد، عن عاصم رضى اللّه عنه، أنّه قرأ: فَلا أُقْسِمُ ممدودة، مرفوعة الألف، بِمَواقِعِ النُّجُومِ على الجماع.

و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر، عن مجاهد في قوله: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ، قال: نجوم السّماء.

و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير، عن قتادة فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ، قال:

بمساقطها. [إلى أن قال:]

و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و محمّد بن نصر و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطّبرانيّ و ابن مردويه، عن ابن عبّاس في قوله: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ، قال: القرآن، وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، قال: القرآن.

و أخرج النّسائيّ و ابن جرير و محمّد بن نصر و الحاكم و صحّحه، و ابن مردويه و البيهقيّ في «شعب الإيمان»، عن ابن عبّاس، قال: أنزل القرآن في ليلة القدر من السّماء العليا

إلى السّماء الدّنيا جملة واحدة، ثمّ فرّق في السّنين. و في لفظ: ثمّ نزل من السّماء الدّنيا إلى الأرض نجوما، ثمّ قرأ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ.

و أخرج ابن مردويه، عن ابن عبّاس فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ بألف، قال: نجوم

نصوص في علوم القرآن، ص: 203

القرآن حين ينزل.

و أخرج ابن المنذر و ابن الأنباريّ في كتاب المصاحف، و ابن مردويه، عن ابن عبّاس، قال: أنزل القرآن إلى السّماء الدّنيا جملة واحدة، ثمّ أنزل إلى الأرض نجوما ثلاث آيات و خمس آيات و أقلّ و أكثر، فقال: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ.

و أخرج الفريابيّ بسند صحيح عن المنهال بن عمر، قال: قرأ عبد اللّه بن مسعود فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ، قال: بمحكم القرآن، فكان ينزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم نجوما.

و أخرج ابن نصر و ابن الضّريس، عن مجاهد فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ، قال:

بمحكم القرآن. (6: 161)

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... القيامة/ 16- 19

أخرج الطّيالسيّ و أحمد و عبد بن حميد و البخاريّ و مسلم و التّرمذيّ و النّسائيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن الأنباريّ في «المصاحف» و الطّبرانيّ و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقيّ معا في «الدّلائل» عن ابن عبّاس، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يعالج من التّنزيل ... [و ذكر كما تقدّم عن البخاريّ].

و أخرج ابن المنذر و ابن مردويه، عن ابن عبّاس، قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم إذا نزل عليه القرآن تعجّل بقراءته ليحفظه، فنزلت هذه الآية لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ. و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لا يعلّم ختم سورة حتّى ينزّل عليه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.

و أخرج ابن

جرير و ابن مردويه، عن ابن عبّاس، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لا يفتر ...

[و ذكر كما تقدّم عنه].

و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر، عن قتادة لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم يحرّك لسانه بالقرآن مخافة النّسيان، فأنزل اللّه إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ، يقول: إنّ علينا حفظه و تأليفه. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، يقول: اتّبع حلاله و اجتنب حرامه. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ، قال: بيان حلاله و حرامه و طاعته و معصيته.

(6: 289)

نصوص في علوم القرآن، ص: 204

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى* إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ الأعلى/ 6- 7

أخرج الفريابيّ و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله:

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى، قال: كان يتذكّر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى.

و أخرج الطّبرانيّ و ابن مردويه، عن ابن عبّاس، قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم إذا أتاه جبريل بالوحي لم يفرغ جبريل من الوحي حتّى يزمّل من ثقل الوحي، حتّى يتكلّم النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بأوّله مخافة أن يغشى عليه فينسى، فقال له جبريل: لم تفعل ذلك؟ قال: مخافة أن أنسى، فأنزل اللّه سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى .... فإنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم نسي آيات من القرآن ليس بحلال و لا حرام، ثمّ قال له جبريل: إنّه لم ينزّل على نبيّ قبلك إلّا نسي و إلّا رفع بعضه. و ذلك أنّ موسى أهبط اللّه عليه ثلاثة عشر سفرا، فلمّا ألقى الألواح انكسرت، و كانت من زمرّد، فذهب أربعة أسفار و بقي تسعة.

و أخرج ابن مردويه، عن ابن عبّاس، قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم

يستذكر القرآن مخافة أن ينساه، فقيل له: كفيناك ذلك، و نزلت سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. و أخرج الحاكم، عن سعد بن أبي وقّاص نحوه.

و أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم، عن ابن عبّاس سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، يقول: إلّا ما شئت أنا فأنسيك.

و أخرج عبد الرّزّاق و عبد بن حميد و ابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لا ينسى شيئا. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى، قال: الوسوسة. 6: 339

نصوص في علوم القرآن، ص: 205

و نصّه أيضا في كتابه: «الإتقان في علوم القرآن» في كيفيّة إنزاله فيه مسائل؛

المسألة الأولى: (في كيفيّة إنزاله من اللّوح المحفوظ)

قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «1»، و قال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2». اختلف في كيفيّة إنزاله من اللّوح المحفوظ على ثلاثة أقوال؛

أحدها: و هو الأصحّ الأشهر أنّه نزل إلى سماء الدّنيا ليلة القدر جملة واحدة، ثمّ نزل بعد ذلك منجّما في عشرين سنة، أو ثلاثة و عشرين، أو خمسة و عشرين، على حسب الخلاف في مدّة إقامته صلّى اللّه عليه و سلم بمكّة بعد البعثة.

و أخرج الحاكم و البيهقيّ و غيرهما من طريق منصور، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى سماء الدّنيا، و كان بمواقع النّجوم، و كان اللّه ينزله على رسوله صلّى اللّه عليه و سلم بعضه في أثر بعض.

و أخرج الحاكم و البيهقيّ أيضا و النّسائيّ من طريق داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عبّاس ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ].

و أخرجه ابن أبي حاتم من هذا الوجه،

و في آخره: فكان المشركون إذا أحدثوا شيئا أحدث اللّه لهم جوابا.

و أخرج الحاكم و ابن أبي شيبة من طريق حسّان بن حريث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: فصل القرآن من الذّكر، فوضع في بيت العزّة من السّماء الدّنيا، فجعل

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- القدر/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 206

جبريل ينزل به على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم أسانيدها كلّها صحيحة.

و أخرج الطّبرانيّ من وجه آخر، عن ابن عبّاس، قال: أنزل القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان إلى سماء الدّنيا جملة واحدة، ثمّ أنزل نجوما.

و أخرج الطّبرانيّ و البزّاز من وجه آخر عنه ... [و ذكر كما تقدّم آنفا].

و أخرج ابن أبي شيبة في «فضائل القرآن» من وجه آخر عنه: دفع إلى جبريل في ليلة القدر جملة واحدة، فوضعه في بيت العزّة، ثمّ جعل ينزّله تنزيلا.

و أخرج ابن مردويه و البيهقيّ في «الأسماء و الصّفات» من طريق السّدّيّ عن محمّد، عن ابن أبي المجالد، عن مقسم، عن ابن عبّاس، أنّه سأل عطيّة ابن الأسود ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ].

قال أبو شامة: قوله: «رسلا» أي رفقا، و على موقع النّجوم، أي على مثل مساقطها، يريد أنزل مفرّقا يتلو بعضه بعضا، على تؤدة و رفق.

القول الثّاني: أنّه نزل إلى السّماء الدّنيا في عشرين ليلة قدر أو ثلاث و عشرين أو خمس و عشرين، في كلّ ليلة ما يقدّر اللّه إنزاله في كلّ السّنة. ثمّ نزل بعد ذلك منجّما في جميع السّنة.

و هذا القول ذكره الإمام فخر الدّين الرّازيّ بحثا، فقال: يحتمل أنّه كان ينزل في كلّ ليلة قدر ما يحتاج النّاس إلى إنزاله إلى مثلها من اللّوح إلى السّماء الدّنيا.

ثمّ توقّف، هل هذا أولى أو الأوّل.

قال ابن كثير: و هذا الّذي جعله احتمالا نقله القرطبيّ عن مقاتل بن حيّان، و حكى الإجماع على أنّه نزل جملة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا.

قلت: و ممّن قال بقول مقاتل الحليميّ و الماورديّ، و يوافقه قول ابن شهاب: آخر القرآن عهدا بالعرش آية الدّين.

القول الثّالث: أنّه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر، ثمّ نزل بعد ذلك منجّما في أوقات مختلفة، من سائر الأوقات، و به قال الشّعبيّ.

قال ابن حجر في شرح البخاريّ: و الأوّل هو الصّحيح المعتمد، قال: و قد حكى

نصوص في علوم القرآن، ص: 207

الماورديّ قولا رابعا ... [و ذكر كما تقدّم عنه و عن أبي شامة].

و قال أبو شامة: كأنّ صاحب هذا القول أراد الجمع بين القولين الأوّل و الثّاني.

قلت: هذا الّذي حكاه الماورديّ أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضّحّاك، عن ابن عبّاس، قال ... [إلى أن قال:]

تنبيهات الأوّل: قيل السّر في إنزاله جملة إلى السّماء ... [إلى أن نقل قول التّرمذيّ و السّخاويّ بحسب ما تقدّم عن أبي شامة، ثمّ قال:]

الثّاني: قال أبو شامة أيضا: الظّاهر أنّ نزوله جملة إلى السّماء الدّنيا قبل ظهور نبوّته صلّى اللّه عليه و سلم، قال: و يحتمل أن يكون بعدها.

قلت: الظّاهر هو الثّاني، و سياق الآثار السّابقة عن ابن عبّاس صريح فيه. و قال ابن حجر في شرح البخاريّ: قد أخرج أحمد و البيهقيّ في «الشّعب» عن واثلة ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:].

قلت: لكن يشكل على هذا ما اشتهر من أنّه صلّى اللّه عليه و سلم بعث في شهر ربيع. و يجاب عن هذا بما ذكروه أنّه نبّئ أوّلا

بالرّؤيا في شهر مولده، ثمّ كانت مدّتها ستّة أشهر، ثمّ أوحي إليه في اليقظة، ذكره البيهقيّ و غيره. نعم، يشكل على الحديث السّابق ما أخرجه ابن أبي شيبة في فضائل القرآن عن أبي قلابة، قال: أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع و عشرين من رمضان.

الثّالث: قال أبو شامة أيضا: فإن قيل: ما السّرّ في نزوله منجّما؟ ... [و ذكر كما تقدّم عنه، ثمّ نقل قول ابن فورك كما تقدّم عن الزّركشيّ، فقال:].

و قد تقدّم ذلك في قول ابن عبّاس: و نزّله جبريل بجواب كلام العباد و أعمالهم، و فسّر به قوله: وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ «1».

أخرجه عنه ابن أبي حاتم. فالحاصل أنّ الآية تضمّنت حكمتين لإنزاله مفرّقا.

______________________________

(1)- الفرقان/ 32

نصوص في علوم القرآن، ص: 208

تذنيب ما تقدّم في كلام هؤلاء من أنّ سائر الكتب أنزلت جملة هو مشهور في كلام العلماء و على ألسنتهم، حتّى كاد يكون إجماعا. و قد رأيت بعض فضلاء العصر أنكر ذلك، و قال:

إنّه لا دليل عليه، بل الصّواب أنّها نزلت مفرّقة كالقرآن.

و أقول: الصّواب الأوّل، و من الأدلّة على ذلك آية الفرقان السّابقة.

أخرج ابن أبي حاتم، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: قالت اليهود: يا أبا القاسم، لو لا أنزل هذا القرآن جملة واحدة كما أنزلت التّوراة على موسى، فنزلت.

و أخرجه من وجه آخر عنه بلفظ: قال المشركون، و أخرج نحوه عن قتادة و السّدّيّ.

فإن قلت: ليس في القرآن التّصريح بذلك، و إنّما هو على تقدير ثبوته قول الكفّار!

قلت: سكوته تعالى عن الردّ عليهم في ذلك و عدوله إلى بيان حكمته دليل على صحّته، و لو كانت الكتب كلّها نزلت مفرّقة لكان يكفي في الردّ

عليهم أن يقول: إنّ ذلك سنّة اللّه في الكتب الّتي أنزلها على الرّسل السّابقة، كما أجاب بمثل ذلك قولهم: وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ «1» فقال: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ «2»، و قولهم: أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا «3»، فقال: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ «4»، و قولهم: كيف يكون رسولا و لا همّ له إلّا النّساء! فقال: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّيَّةً ... «5»، إلى غير ذلك.

و من الأدلّة على ذلك أيضا قوله تعالى في إنزال التّوراة على موسى يوم الصّعقة:

فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ* وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا

______________________________

(1)- الفرقان/ 7.

(2)- الفرقان/ 20.

(3)- الإسراء/ 94.

(4)- يوسف/ 109.

(5)- الرّعد/ 38.

نصوص في علوم القرآن، ص: 209

لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ «1»، وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ «2»، وَ لَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ «3»، وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَ ظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ «4»، فهذه الآيات كلّها دالّة على إتيانه التّوراة جملة.

و أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: أعطي موسى التّوراة في سبعة ألواح من زبرجد، فيها تبيان لكلّ شي ء و موعظة. فلمّا جاء بها فرأى بني إسرائيل عكوفا على عبادة العجل رمى بالتّوراة من يده فتحطّمت، فرفع اللّه منها ستّة أسباع و بقى منها سبع.

و أخرج من طريق جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه، رفعه، قال: الألواح الّتي

أنزلت على موسى كانت من سدر الجنّة، كان طول اللّوح اثني عشر ذراعا.

و أخرج النّسائيّ و غيره عن ابن عبّاس، في حديث الفتون، قال: أخذ موسى الألواح بعد ما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالّذي أمر اللّه أن يبلغهم من الوظائف، فثقلت عليهم، و أبوا أن يقرّوا بها حتّى نتق اللّه عليهم الجبل كأنّه ظلّة، و دنا منهم حتّى خافوا أن يقع عليهم، فأقرّوا بها.

و أخرج ابن أبي حاتم، عن ثابت بن الحجّاج، قال: جاءتهم التّوراة جملة واحدة، فكبر عليهم، فأبوا أن يأخذوها حتّى ظلّل اللّه عليهم الجبل، فأخذوها عند ذلك.

فهذه آثار صحيحة صريحة في إنزال التّوراة جملة. و يؤخذ من الأثر الأخير منها حكمة أخرى لإنزال القرآن مفرّقا، فإنّه أدعى إلى قبوله إذا نزل على التّدريج، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة، فإنّه كان ينفر من قبوله كثير من النّاس؛ لكثرة ما فيه من الفرائض و المناهي.

و يوضح ذلك ما أخرجه البخاريّ عن عائشة، قالت: إنّما نزل أوّل ما نزل منه سورة

______________________________

(1)- الأعراف/ 144، 145.

(2)- الأعراف/ 150.

(3)- الأعراف/ 154.

(4)- الأعراف/ 171.

نصوص في علوم القرآن، ص: 210

من المفصّل فيها ذكر الجنّة و النّار، حتّى إذا ثاب النّاس إلى الإسلام نزل الحلال و الحرام، و لو نزل أوّل شي ء «لا تشربوا الخمر» لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، و لو نزل «لا تزنوا» لقالوا:

لا ندع الزّنا أبدا. ثمّ رأيت هذه الحكمة مصرّحا بها في النّاسخ و المنسوخ المكيّ.

فرع الّذي استقرئ من الأحاديث الصّحيحة و غيرها أنّ القرآن كان ينزّل بحسب الحاجة خمس آيات و عشرا و أكثر و أقلّ، و قد صحّ نزول العشر آيات في قصّة الإفك جملة، و صحّ نزول عشر آيات من أوّل «المؤمنون»

جملة، و صحّ نزول غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ «1» وحدها؛ و هي بعض آية، و كذا قوله: وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ... «2» إلى آخر الآية، نزلت بعد نزول أوّل الآية كما حرّرناه في أسباب النّزول، و ذلك بعض آية.

و أخرج ابن أشتة في كتاب «المصاحف» عن عكرمة في قوله: بِمَواقِعِ «3» قال: أنزل اللّه القرآن نجوما ثلاث آيات، و أربع آيات، و خمس آيات.

و قال النّكزاويّ في كتاب «الوقف»: كان القرآن ينزل مفرّقا الآية و الآيتين و الثّلاث و الأربع، و أكثر من ذلك.

[ثمّ ذكر رواية ابن عساكر من طريق أبي نضرة و رواية البيهقيّ في «الشّعب» من طريق أبي خلدة ...، كما تقدّم آنفا في «الدرّ المنثور» ثمّ قال:]

من طريق ضعيف عن عليّ، قال: أنزل القرآن خمسا خمسا إلّا سورة الأنعام، و من حفظ خمسا خمسا لم ينسه.

فالجواب: أنّ معناه- إن صحّ- إلقاؤه إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بهذا القدر حتّى يحفظه، ثمّ يلقي إليه الباقي، لا إنزاله بهذا القدر خاصّة. و يوضّح ذلك ما أخرجه البيهقيّ أيضا، عن خالد بن دينار، قال: قال لنا أبو العالية: تعلّموا القرآن خمس آيات، خمس آيات، فإنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم

______________________________

(1)- النّساء/ 95.

(2)- التّوبة/ 28.

(3)- الواقعة/ 75.

نصوص في علوم القرآن، ص: 211

كان يأخذه من جبريل خمسا خمسا.

المسألة الثّانية: (في كيفيّة الإنزال و الوحي)

قال الأصفهانيّ في أوائل تفسيره: اتّفق أهل السّنّة و الجماعة على أنّ كلام اللّه منزّل ...

[و ذكر كما تقدّم عن الزّركشيّ].

و قال الطّيّبيّ: لعلّ نزول القرآن على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم أن يتلقّفه الملك من اللّه تعالى تلقّفا روحانيّا، أو يحفظه من اللّوح المحفوظ، فينزل به إلى الرّسول

و يلقيه عليه.

و قال القطب الرّازيّ في «حواشي الكشّاف»: الإنزال لغة بمعنى الإيواء، بمعنى تحريك الشّي ء من علوّ إلى أسفل، و كلاهما لا يتحقّق في الكلام، فهو مستعمل فيه في معنى مجازيّ، فمن قال: القرآن معنى قائم بذات اللّه تعالى، فإنزاله أن يوجد الكلمات و الحروف الدّالة على ذلك المعنى و يثبتها في اللّوح المحفوظ. و من قال: القرآن هو الألفاظ: فإنزاله مجرّد إثباته في اللّوح المحفوظ، و هذا المعنى مناسب لكونه منقولا عن المعنيين اللّغويّين. و يمكن أن يكون المراد بإنزاله إثباته في السّماء الدّنيا بعد الإثبات في اللّوح المحفوظ، و هذا مناسب للمعنى الثّاني، و المراد بإنزال الكتب على الرّسل أن يتلقّفها الملك من اللّه تلقّفا روحانيّا أو يحفظها من اللّوح المحفوظ، و ينزل بها فيلقيها عليهم، انتهى.

و قال غيره في المنزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم ثلاثة أقوال:

أحدها: أنّه اللّفظ و المعنى، و أنّ جبريل حفظ القرآن من اللّوح المحفوظ و نزل به.

و ذكر بعضهم أنّ أحرف القرآن في اللّوح المحفوظ، كلّ حرف منها بقدر جبل قاف، و أنّ تحت كلّ حرف منها معاني لا يحيط بها إلّا اللّه.

و الثّاني: أنّ جبريل أنّما نزل بالمعاني خاصّة، و أنّه صلّى اللّه عليه و سلم علم تلك المعاني و عبّر عنها بلغة العرب، و تمسّك قائل هذا بظاهر قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ «1».

و الثّالث: أنّ جبريل ألقى إليه المعنى، و أنّه عبّر بهذه الألفاظ بلغة العرب، و أنّ أهل السّماء يقرءونه بالعربيّة، ثمّ إنّه نزل به كذلك بعد ذلك.

______________________________

(1)- الشّعراء/ 193، 194.

نصوص في علوم القرآن، ص: 212

و قال البيهقيّ في معنى قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ

الْقَدْرِ: يريد و اللّه أعلم: إنّا أسمعنا الملك و أفهمناه إيّاه و أنزلناه بما سمع، فيكون الملك منتقلا به من علوّ إلى أسفل.

قال أبو شامة: هذا المعنى مطّرد في جميع ألفاظ الإنزال المضافة إلى القرآن، أو إلى شي ء منه يحتاج إليه أهل السّنّة المعتقدون قدم القرآن و أنّه صفة قائمة بذات اللّه تعالى.

قلت: و يؤيّد أنّ جبريل تلقّفه سماعا من اللّه تعالى ما أخرجه الطّبرانيّ من حديث النّواس بن سمعان مرفوعا: إذا تكلّم اللّه بالوحي أخذت السّماء رجفة شديدة من خوف اللّه، فإذا سمع بذلك أهل السّماء صعقوا و خرّوا سجّدا، فيكون أوّلهم يرفع رأسه جبريل فيكلّمه اللّه من وحيه بما أراد، فينتهي به على الملائكة، فكلّما مرّ بسماء سأله أهلها: ما ذا قال ربّنا؟ قال: الحقّ. فينتهى به حيث أمر.

و أخرج ابن مردويه من حديث ابن مسعود رفعه: «إذا تكلّم اللّه بالوحي سمع أهل السّماوات صلصلة كصلصلة السّلسة على الصّفوان، فيفزعون و يرون أنّه من أمر السّاعة.

و أصل الحديث في الصّحيح.

و في تفسير عليّ بن سهل النّيسابوريّ: قال جماعة من العلماء ... [و ذكر كما تقدّم عن أبي شامة، ثمّ قال:]

و قال: الجوينيّ: كلام اللّه المنزّل قسمان: قسم قال اللّه لجبريل: قل للنّبيّ الّذي أنت مرسل إليه: إنّ اللّه يقول: افعل كذا و كذا، و أمر بكذا و كذا، ففهم جبريل ما قاله ربّه، ثمّ نزل على ذلك النّبيّ و قال له ما قاله ربّه، و لم تكن العبارة تلك العبارة، كما يقول الملك لمن يثق به: قل لفلان: يقول لك الملك: اجتهد في الخدمة، و اجمع جندك للقتال، فإن قال الرّسول:

يقول الملك: لا تتهاون في خدمتي و لا تترك الجند تتفرّق، و حثّهم

على المقاتلة، لا ينسب إلى كذب و لا تقصير في أداء الرّسالة. و قسم آخر قال اللّه لجبريل: اقرأ على النّبيّ هذا الكتاب، فنزل جبريل بكلمة من اللّه من غير تغيير، كما يكتب الملك كتابا و يسلّمه إلى أمين، و يقول: اقرأه على فلان، فهو لا يغيّر منه كلمة و لا حرفا- انتهى.

قلت: القرآن هو القسم الثّاني، و القسم الأوّل هو السّنّة، كما ورد أنّ جبريل كان ينزل بالسّنّة كما ينزل بالقرآن. و من هنا جاز رواية السّنة بالمعنى، إلّا أنّ جبريل أدّاه بالمعنى،

نصوص في علوم القرآن، ص: 213

و لم تجز القراءة بالمعنى؛ لأنّ جبريل أدّاه باللّفظ، و لم يبح له إيحاءه بالمعنى، و السّرّ في ذلك أنّ المقصود منه التّعبّد بلفظه و الإعجاز به. فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه.

و أنّ تحت كلّ حرف منه معاني لا يحاط بها كثرة، فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه. و التّخفيف على الأمّة حيث جعل المنزل إليهم على قسمين: قسم يروونه بلفظه الموحى به، و قسم يروونه بالمعنى، و لو جعل كلّه ممّا يروى باللّفظ لشقّ، أو بالمعنى لم يؤمن التّبديل و التّحريف، فتأمّل و قد رأيت عن السّلف ما يعضد كلام الجوينيّ.

و أخرج ابن أبي حاتم، من طريق عقيل عن الزّهريّ، أنّه سئل عن الوحي، فقال:

الوحي: ما يوحى اللّه إلى نبيّ من الأنبياء، فيثبته في قلبه، فيتكلّم به و يكتبه، و هو كلام اللّه، و منه ما لا يتكلّم به و لا يكتبه لأحد، و لا يأمر بكتابته، و لكنّه يحدّث به النّاس حديثا، و يبيّن لهم أنّ اللّه أمره أن يبيّنه للنّاس و يبلّغهم إيّاه. (1: 146- 160)

المسألة الثّالثة:

(في الأحرف السّبعة ...) سيجي ء بحثها في القسم الثّالث من هذا الكتاب.

نصوص في علوم القرآن، ص: 214

الفصل الخامس و العشرون نصّ القسطلانيّ (م: 923 ه) في «لطائف الإشارات لفنون القراءات»

و قد أخرج النّسائيّ و الحاكم عن ابن عبّاس: أنزل القرآن ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:].

قال العلّامة شيخ الحفّاظ ابن حجر، و في رواية للحاكم و البيهقيّ في الدّلائل: فرّق في السّنين. و في رواية لابن أبي شيبة و الحاكم أيضا وضع في بيت العزّة، في السّماء الدّنيا، فجعل جبريل ينزل به على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، و إسناده صحيح. [ثمّ ذكر قول «الحليميّ في المنهاج» كما تقدّم عن أبي شامة، فقال:]

و هذا أورده ابن الأنباريّ من طريق ضعيفة و منقطعة أيضا. و ما تقدّم- من أنّه نزل جملة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، ثمّ نزل بعد ذلك مفرّقا- هو الصّحيح المعتمد. [ثمّ ذكر قول الماورديّ كما تقدّم عن أبي شامة، فقال:] و هذا أيضا غريب، و المعتمد أنّ جبريل كان يعارض النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم في رمضان بما ينزل به عليه في طول السّنة. كذا جزم به الشّعبيّ، فيما أخرجه عنه أبو عبيد، و ابن أبي شيبة بإسناد صحيح.

و في معارضة جبريل النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بالقرآن في شهر رمضان حكمتان؛ إحداهما: تعاهده، و الثّانية: تبقية ما لم ينسخ منه، و رفع ما نسخ، فكان رمضان ظرفا لإنزاله جملة، و عرضا

نصوص في علوم القرآن، ص: 215

و إحكاما.

و قد أخرج أحمد و البيهقيّ في الشّعب عن واثلة ... [و ذكر كما عن الطّبريّ، ثمّ قال:]

و هذا كلّه مطابق لقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «1» و لقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ

«2». فيحتمل أن تكون ليلة القدر في تلك السّنة كانت تلك اللّيلة، فأنزل فيها جملة إلى سماء الدّنيا، ثمّ أنزل في الرّابع و العشرين، إلى الأرض، أوّل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «3». و في إنزال القرآن مفرّقا وجوه من الحكمة.

منها: تسهيل حفظه، و تكرير لفظه؛ لأنّه لو نزل جملة واحدة، على أمّة أمّيّة، لا يقرأ غالبهم، و لا يكتب، لشقّ عليهم حفظه، و ثقل لفظه، كما أشار إلى ذلك سبحانه و تعالى بقوله ردّا على الكفّار: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ، أي أنزلناه مفرّقا، لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ «4»، أي لنقوّي بتفريقه فؤادك، حتّى تعيه و تحفظه؛ لأنّ الملقّن إنّما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئا بعد شي ء، و جزءا بعد جزء، و لو ألقي عليه جملة واحدة لعجز عن حفظه. و بقوله تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «5»، أي على حسب الوقائع، فقد يسّره تعالى للذّكر، و إلّا فالطّاقة البشريّة تعجز قواها عن حفظه و حمله. و لقد شهد بذلك قوله تعالى: وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ «6»، الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ «7». و انظر إلى قوله سبحانه: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «8»، و قوله: وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- القدر/ 1.

(3)- العلق/ 1. نصوص في علوم القرآن 215 الفصل الخامس و العشرون نص القسطلاني(م: 923 ه) في«لطائف الإشارات لفنون القراءات» ..... ص : 214

(4)- الفرقان/ 32.

(5)- الإسراء/ 106.

(6)- القمر/ 17، 32، 40.

(7)- الرّحمن/ 1.

(8)- الحشر/ 21.

نصوص في علوم القرآن، ص: 216

قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى «1»،

أي لكان هذا القرآن الّذي أنزلناه إليك.

و منها: ما يستلزم من الشّرف له عليه السّلام، و العناية به؛ لكونه تردّد به إليه، يعلّمه أحكام ما يقع له، و أجوبة ما يسأل عنه من الأحكام و الحوادث.

[ثمّ ذكر قول أبي شامة و قول السّخاويّ، كما تقدّم عن أبي شامة، فقال:].

و منها: أنّه أنزل على سبعة أحرف، فناسب أن ينزل مفرّقا؛ إذ لو نزل دفعة واحدة لشقّ بيانها عادة.

و قد ضبط النّقل ترتيب نزول الآيات، إلّا قليلا، و أوّل سورة نزلت اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «2». فنزل من أوّلها خمس آيات، ثمّ نزل باقيها بعد ذلك، و كذلك سورة المدّثّر، نزلت بعدها، نزل أوّلها، ثمّ نزل سائرها بعد.

و قد أخرج أصحاب السّنن الثّلاثة، و صحّحه الحاكم و غيره من حديث ابن عبّاس عن عثمان، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم تنزّل عليه الآيات فيقول: «ضعوها في السّورة الّتي يذكر فيها كذا». (22- 26)

______________________________

(1)- الرّعد/ 31.

(2)- العلق/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 217

الفصل السّادس و العشرون نصّ شيخ زاده (م: 950 ه) في «حاشيته على تفسير البيضاويّ»

نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً الفرقان/ 1.

و الإنزال و التّنزيل عبارتان عن تحريك الشّي ء مبتدأ من الأعلى إلى الأسفل، و بينهما فرق من جهة أنّ التّنزيل يدلّ على النّزول تدريجا، و الإنزال يدلّ على النّزول دفعة، و ذلك لأنّ بناء التّفعيل للتّكثير، و كثرة النّزول إنّما يكون بكونه على سبيل التّدريج، ثمّ إنّ المتحرّك قسمان؛

أحدهما: متحيّز بالذّات كالجواهر المفردة و ما يتركّب منها.

و ثانيهما: متحيّز بالتّبع و هو الأعراض القائمة بموضوعاتها، فإنّ العرض تابع لموضوعه في التّحيّز سواء كان قارّا في الموضوع كالسّواد و البياض، أو سيّالا مترتّب الأجزاء، ممتنع البقاء كالحركة و الكلام اللّفظيّ. و كلّ واحد من القسمين المذكورين تعرض له الحركة حقيقة، إلّا أنّ القسم

الأوّل منهما تعرض له الحركة أصالة و بالذّات، بخلاف القسم الثّاني فإنّه لا يتحرّك أصالة؛ لاستحالة انتقال الأعراض عن موضوعاتها، و إنّما يتحرّك بتبعيّة محلّه ضرورة تحرّك الحال بحركة المحلّ، كالجسم الأسود المتحرّك إذا تحرّك بحركة تحرّك ما حلّ فيه من السّواد، و الكلام تبعا له.

ثمّ إنّ الكلام النّفسيّ الّذي هو صفة أزليّة قائمة بذاته تعالى، لا يتصوّر فيه الحركة

نصوص في علوم القرآن، ص: 218

و النّزول لا بالذّات، و هو ظاهر، لامتناع انتقال شي ء من صفات اللّه تعالى عنه، و لا بتبعيّة موصوفه الّذي هو ذات الواجب تعالى و تقدّس؛ لاستحالة الحركة عليه حتّى تتحرّك صفاته تبعا له. و إنّما المنزل هو الكلام اللّفظيّ الحادث المركّب من الألفاظ و الحروف المؤلّفة من الآيات و السّور، و هو القرآن المعجز المتحدّى به؛ لكونه كلام اللّه حقيقة على أنّه مخلوق اللّه تعالى ليس من تأليف المخلوقين، لا على معنى أنّه صفة قائمة بذاته تعالى؛ لأنّه حادث و يمتنع قيام الحوادث به تعالى. و يجوز أن يخلق اللّه تعالى أصواتا مقطّعة مؤلّفة على هذا النّظم المخصوص، فيأخذها جبريل عليه السّلام، و يخلق له علما ضروريّا أنّه هو العبارة المؤدّية لمعنى ذلك الكلام النّفسيّ القديم الّذي هو كلام اللّه على معنى أنّه صفة له قائمة به مع أنّ الأشاعرة يجوّزون أن يسمع كلامه تعالى الأزليّ بلا صوت و حرف، كما يرى ذاته تعالى في الآخرة بلا كمّ و كيف فعلى هذا يجوز أن يخلق اللّه تعالى لجبريل عليه السّلام و هو في مقامه عند سدرة المنتهى؛ سماعا لكلامه الأزليّ و إن لم يكن من جنس الحروف و الأصوات، ثمّ يقدّره على عبارة يعبّر بها عن ذلك الكلام القديم.

و

قيل: أظهر اللّه تعالى في اللّوح المحفوظ كتابة هذا النّظم المخصوص و نقشه، فقرأه جبريل عليه السّلام و حفظه. و خلق اللّه تعالى فيه علما ضروريّا بأنّه هو نفس العبارة المؤدّية للمعنى القديم، على أنّ إنزال الملك الكتاب السّماويّ لا يتوقّف على سماع اللّفظ، لجواز أن يتلقّفه الملك تلقّفا روحانيّا، أي لا جسمانيّا، بأن يلهم اللّه تعالى الملك ذلك المعنى القديم، و يخلق فيه قدرة على التّعبير عنه، و يسمّى النّظم الصّادر عنه كلام اللّه تعالى باعتبار كونه عبارة عن الكلام النّفسيّ دالّا عليه.

ثمّ إنّ الكلام النّفسيّ لكونه غير متحيّز بالذّات بل هو عرض قائم بالموضوع لا يكون إنزاله و تنزيله إلّا تبعا لحامله و مبلّغه، فإنّه تعالى لمّا نزّل جبريل عليه السّلام و حرّكه إلى أسفل و هو حامل للقرآن بأن أمره بالحركة إلى أسفل، فتحرّك هو بأمره تعالى، فقد تحرّك القرآن القائم به تبعا لحركته. فينبغي أن يكون قوله: نَزَّلَ الْفُرْقانَ مجازا على طريق إطلاق اسم العرض الحالّ على المحلّ الّذي هو ذلك الحامل، فإنّه هو المنزّل بالذّات و الأصالة و القرآن منزّل تبعا له. و المعنى نزّل القرآن بواسطة تنزيل جبريل عليه السّلام ثمّ إنّ القرآن العظيم يصحّ أن

نصوص في علوم القرآن، ص: 219

يوصف بأنّه منزل و منزّل؛ لأنّه تعالى أنزله جملة من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، و أمر السّفرة الكرام بانتساخه، ثم نزّله إلى الأرض إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم منجّما موزّعا على حسب المصالح و وقوع الحوادث، إلّا أنّ في إنزاله إلى السّماء الدّنيا قولين؛

أحدهما: ما روي عن عكرمة عن ابن عبّاس أنّه قال: أنزل القرآن جملة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا ليلة القدر،

ثمّ نزل إلى الأرض في عشرين سنة.

و ثانيهما: أنّه أنزل من اللّوح إلى السّماء الدّنيا كلّ سنة مقدار ما يكون منزلا في سنة واحدة بحسب المصالح.

فعلى هذا القول يقع الإنزال الدّفعيّ عشرين مرّة، و على القول الأوّل يقع مرّة واحدة:

و إنّما حمد اللّه تعالى على التّنزيل دون الإنزال على أنّ التّنزيل أعمّ و أكمل نعمة في حقّنا بالنّسبة إلى الإنزال؛ إذ لا تظهر لنا فائدة في نزوله جملة إلى السّماء الدّنيا. (1: 2- 3)

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ البقرة/ 185.

قوله: (أي ابتدأ فيه إنزاله) جواب عمّا يقال: إنّ القرآن نزل على محمّد صلّى اللّه عليه و سلم في مدّة ثلاث و عشرين سنة منجّما مبعّضا، فما معنى تخصيص إنزاله برمضان؟ أجاب بثلاثة أوجه؛

الوجه الأوّل: أنّ ابتداء نزوله وقع في رمضان في ليلة القدر منه، و فيه مجاز حينئذ؛ لأنّه حمل لفظ القرآن على بعض أجزائه.

و روي عن عمر بن الخطّاب أنّه استدلّ بهذه الآية و بقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1» على أنّ ليلة القدر لا تكون إلّا في رمضان؛ لأنّ ليلة القدر إذا كانت في رمضان كان إنزاله في ليلة القدر إنزالا في رمضان.

و الوجه الثّاني: أنّ القرآن أنزل في ليلة القدر جملة إلى سماء الدّنيا، ثمّ نزل نجوما.

روي عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه أنّه سئل عن قوله عزّ و جلّ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ و قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ و قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ و قد نزل

______________________________

(1)- القدر/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 220

في سائر الشّهور. قال عزّ و جلّ: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ «1»، فقال: أنزل القرآن جملة واحدة من اللّوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان إلى

بيت العزّة في سماء الدّنيا، ثمّ نزل به جبريل عليه السّلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم نجوما في عشرين سنة، فذلك قوله تعالى: بِمَواقِعِ النُّجُومِ «2».

و الوجه الثّالث: أنّ قوله: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ معناه أنزل في فضل هذا الشّهر و إيجاب صومه على الخلق القرآن، كما تقول: أنزل اللّه في الزّكاة آية كذا، أي في إيجابها، و أنزل في الخمر آية كذا، أي في تحريمها.

و قوله: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ يؤيّد الوجه الثّاني من الجواب، بناء على ما اشتهر من أنّ الإنزال مختصّ بما يكون النّزول فيه دفعة واحدة، و أنّ التّنزيل مختصّ بالنّزول على سبيل التّدريج، و لهذا قال تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ «3». (1: 493)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ... الدّخان/ 3.

قوله: (ابتدئ فيها إنزاله) جواب عمّا يقال: ما معنى إنزال القرآن في هذه اللّيلة، مع أنّه تعالى أنزله في جميع الشّهور و لياليها و أيّامها؟

و روي أنّ عطيّة الحروريّ سأل ابن عبّاس ... [و ذكر كما تقدّم عن الفخر الرّازيّ].

قال قتادة و ابن زيد: أنزل اللّه القرآن في ليلة القدر من أمّ الكتاب إلى سماء الدّنيا، ثمّ نزل به جبريل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم نجوما في عشرين سنة. (4: 308- 309)

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى الأعلى/ 6- 7

______________________________

(1)- الإسراء/ 106.

(2)- الواقعة/ 75.

(3)- آل عمران/ 2.

نصوص في علوم القرآن، ص: 221

قوله: (سنقرئك على لسان جبريل) أي سنعلّمك بأن يقرأ عليك جبريل القرآن مرّات إلى أن تحفظ حفظا لا تنساه بعد ذلك، أو سنجعلك قارئا بإلهام القراءة، بأن نشرح صدرك و نقوّي خاطرك حتّى تحفظه بالمرّة الواحدة حفظا لا تنساه. فيكون حفظه عليه السّلام لهذا الكتاب المطوّل من غير دراسة و لا تكرار و لا كتبة أمرا خارقا للعادة، و لا سيّما هو أمّيّ فيكون معجزا. و أيضا إنّ هذه السّورة من أوائل ما نزل بمكّة، و قد أخبر اللّه أنّه سيظهر على يده أمرا عجيبا غريبا مخالفا للعادة، و هو أنّه تعالى سيقرئه و هو أمّيّ لا يكتب و لا يقرأ، فيحفظه و لا ينساه إلّا ما شاء اللّه أن ينساه، فيذهب به عن حفظه برفع حكمه و تلاوته، كما قال تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها «1» فإنّ الإنسان نوع من النّسخ، و هذا إخبار عن الغيب، و قد وقع كما أخبر فيكون معجزا. قيل: كان صلّى اللّه عليه و سلم إذا نزل عليه القرآن أكثر تحريك لسانه مخافة أن ينسى، و كان جبريل عليه

السّلام لا يفرغ من آخر الوحي حتّى يتكلّم عليه السّلام بأوّله مخافة النّسيان، فأنزل اللّه سبحانه و تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى فلم ينس بعد ذلك شيئا؛ لأنّه لا يخلف وعده و لا في قوله تعالى: فَلا تَنْسى نافية، و عليه الجمهور، لا للنّهي؛ لأنّ الإنسان لا ينهى عن النّسيان، لأنّه لا مدخل فيه للاختيار، فلا ينهى عنه، فلذلك ثبت الألف في فَلا تَنْسى في الخطّ و التّلفّظ. و من جعله نهيا عن النّسيان احتاج إلى التّكلّف في توجيه ورود النّهي عمّا ليس باختياريّ، فقال: إنّ النّهي و إن كان عن النّسيان صورة لكنّه في الحقيقة نهي عن سببه، و هو الغفلة عن دراسته و تكريره، فكأنّه قيل:

لا تغفل عن قراءته و تكراره فتنساه و احتاج في توجيه ثبوت الألف إلى أن يقول: إنّها مزيدة رعاية لفواصل الآي كالّتي في الظُّنُونَا «2» و السَّبِيلَا «3» و حمله على الخبر أولى؛ لعدم احتياجه إلى التّكلّف. و قوله: فَلا تَنْسى أصلا، أي لا بطريق النّسخ و لا بغيره، ذكره ليظهر كون الاستثناء متّصلا.

قوله: (و قيل: المراد به القلّة) أي قلّة المنسيّ الّذي يعقبه التّذكّر، عطف من حيث

______________________________

(1)- البقرة/ 106.

(2)- الأحزاب/ 10.

(3)- الأحزاب/ 67.

نصوص في علوم القرآن، ص: 222

المعنى على قوله: (بأن تنسخ تلاوته) فإنّ المراد بنسيان ما شاء اللّه نسيانه حينئذ النّسيان المستمرّ؛ بحيث لا يعقبه التّذكّر بعده، فإنّ النّسيان الّذي هو أحد طريقي النّسخ لا بدّ أن يكون مستمرّا و أمّا أنّ حمل الاستثناء على القلّة فحينئذ يكون المراد بالنّسيان، النّسيان المتعارف الّذي يعقبه التّذكّر بعده، و يكون المقصود من الاستثناء تقليل المنسيّ بهذا المعنى، فإنّه صلّى اللّه عليه و سلم قد عرض له النّسيان بهذا

الوجه كما ذكره المصنّف. و وجه إفهام معنى القلّة من هذا الاستثناء أنّ المستثنى هو المنسيّ الّذي تعلّقت المشيئة بنسيانه، و لا شكّ أنّ تعلّق المشيئة بنسيان شي ء منه غير معلوم؛ إذ يجوز أن لا تتعلّق بشي ء منه أصلا، و على تقدير تعلّقها بنسيان شي ء منه فلا شكّ أنّ ما تعلّقت المشيئة بنسيانه أقلّ من الباقي بعد الاستثناء، فدار أمر المستثنى بين أن ينتفي رأسا و بين القلّة و النّدرة، و ما كان كذلك يكون في غاية القلّة، فهذا وجه من حمل الاستثناء على القلّة.

قوله: (أو نفي النّسيان) مرفوع معطوف على قوله: «القلّة و النّدرة» و النّسيان المنفيّ على القولين الأخيرين هو النّسيان الّذي يعقبه التّذكّر، إلّا أنّه على القول الأوّل يقصد استثناء القليل منه، كأنّه قيل: فلا تنسى شيئا ممّا علّمناه لك و قرأناه عليك نسيانا متعارفا، و هو الّذي يعقبه التّذكّر بعد إلّا قليلا منه. و على القول الثّاني لا يقصد استثناء شي ء منه، و يكون قوله: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ لنفي النّسيان المتعارف رأسا و كلّ واحد من القسمين قسيم لقوله: فَلا تَنْسى شيئا ممّا أقرأناك أصلا إلّا ما شاء اللّه نسيانه بأن تنسخ تلاوته.

و لمّا كان قوله: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ممّا يدلّ على القلّة جاز أن يراد منه نفي النّسيان رأسا، فإنّ استعمال القلّة بمعنى النّفي رأسا وارد في كلامهم كما في قوله تعالى: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «1»، فإنّ قضاء حقّ الشّكر بكماله غير مقدور للبشر.

قوله: (فيعلم ما فيه صلاحكم من إبقاء أو إنساء) تفريع على التّفسيرين، و أشار إلى أنّ قوله تعالى: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى تعليل للحكم السّابق المشتمل على الاستثناء، بأن يجعل علمه

تعالى بما ظهر من أحوال عباده و بما يخفى منها، أو علمه بجهره صلّى اللّه عليه و سلم بالقرآن مع جبريل و بما يخفى في نفسه ممّا يدعوه إليه من مخافة النّسيان

______________________________

(1)- سبأ/ 13.

نصوص في علوم القرآن، ص: 223

مجازا عن علمه بما فيه صلاح العباد، فلا ينسى ما أنساه من الوحي و لا يبقى ما أبقاه إلّا لمصلحة تعود إليهم.

قوله: (و نعدّك للطّريقة اليسرى) ضمن قوله: نُيَسِّرُكَ معنى الإعداد و التّوفيق بيانا لوجه تعدية قوله: نُيَسِّرُكَ بدون اللّام. فإنّ العبارة الشّائعة أن يقال: جعل الفعل الفلانيّ ميسّرا لفلان، و لا يقال: جعل فلان ميسّرا للفعل الفلانيّ، فالظّاهر أن يقال: نيسّر اليسرى لك، إلّا أنّه جعل الفاعل ميسّرا للفعل في هذا الموضع، و كذا في سورة اللّيل أيضا و في قوله صلّى اللّه عليه و سلم: «اعملوا، فكلّ ميسّر لما خلق له» باعتبار التّضمين، أي معدّ و موفّق له. و المراد بالطّريقة اليسرى أعمال الخير، سميّت يسرى لكونها مؤدّية إلى اليسرى و الرّاحة.

و قوله تعالى: وَ نُيَسِّرُكَ معطوف على سَنُقْرِئُكَ، و قوله: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى اعتراض، و التّقدير سنقرئك فلا تنسى و نوفّقك للطّريقة الّتي هي أسهل و أيسر في حفظ القرآن، أو في باب التّديّن و الطّاعة ... (4: 648- 649)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ القدر/ 1.

قوله: (و إنزاله فيها) جواب عمّا يقال: القرآن إن لم ينزل جملة واحدة في وقت واحد، بل أنزل منجّما مفرّقا في ثلاث و عشرين سنة، فما وجه قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ؟ و أجاب عنه بثلاثة أوجه:

الأوّل: أنّ المراد ابتدأنا بإنزاله على طريق التّنجيم و التّفريق في ليلة القدر، بناء على أنّ البعثة كانت في رمضان.

و الثّاني: أنّ

السّؤال إنّما يرد أن لو كان المراد إنزاله إلى الأرض و إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم فإنّه الّذي كان منجّما في ثلاث و عشرين سنة، و ليس المراد ذلك، بل المراد و اللّه أعلم ما روي عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه أنّ جبريل عليه السّلام نزل به جملة واحدة ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبرسيّ].

و الثّالث: أنّ السّؤال إنّما يرد أن لو كان ليلة القدر ظرفا لنفس الإنزال، على معنى أنّ الإنزال وقع في ذلك الزّمان المعيّن، و ليس كذلك بل المعنى إنّا أنزلناه في حقّ فضل ليلة القدر و بيان شرفها و قدرها، و هذا المعنى لا ينافي كون الإنزال مفرّقا في ثلاث و عشرين سنة. (4: 679)

نصوص في علوم القرآن، ص: 224

الفصل السّابع و العشرون نصّ الخطيب الشّربينيّ (م: 977 ه) في «السّراج المنير»

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... البقرة/ 185.

جملة من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا ليلة القدر، ثمّ تنزّل منجّما إلى الأرض.

و قيل: ابتدئ فيه إنزاله و كان ذلك ليلة القدر، و قيل: أنزل في شأنه القرآن، و هو قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ «1».

و عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم: نزلت صحف إبراهيم ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:]

فائدة: قال ابن عادل: يروى أنّ جبريل عليه السّلام نزل على آدم اثنتي عشرة مرّة، و على إدريس أربع مرّات، و على إبراهيم اثنتين و أربعين مرّة، و على نوح خمسين مرّة، و على موسى أربعمائة مرّة، و على عيسى عشر مرّات، و على محمّد صلّى اللّه عليه و سلم أربعة و عشرين ألف مرّة.

(1: 120)

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا الإسراء/ 105.

______________________________

(1)- البقرة/ 183.

نصوص في علوم القرآن، ص: 225

... ثمّ إنّ اللّه تعالى أخبر أنّ الحكمة في إنزال القرآن مفرّقا بقوله: قُرْآناً، أي فصّلناه، أو أنزلنا قرآنا. فَرَقْناهُ، أي أنزلناه منجّما في أوقات متطاولة. [ثمّ ذكر قول سعيد بن جبير، كما تقدّم عن الفخر الرّازيّ، فقال:]

لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، أي عامّة. عَلى مُكْثٍ، أي مهل و تؤدة ليفهموه.

وَ نَزَّلْناهُ: من عندنا بما لنا من العظمة، تَنْزِيلًا: بعضه إثر بعض مفرّقا بحسب الوقائع لأنّه أتقن في فصلها، و أعون على الفهم؛ لطول التّأمّل لما نزل من نجومه في مدّة ما بين النّجمين، لغزارة ما فيه من المعاني. (2: 343)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً الفرقان/ 31

الشّبهة الخامسة لمنكري النّبوّة: ما حكاه اللّه تعالى عنهم لقوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أي الّذين غطّوا عداوة و حسدا ما تشهد عقولهم بصحّته من أنّ القرآن كلام اللّه تعالى؛ لإعجازه لهم مفرّقا، فضلا عن كونه مجتمعا. لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً أي من أوّله إلى آخره، كما أنزلت التّوراة على موسى عليه السّلام و الإنجيل على عيسى عليه السّلام، و الزّبور على داود عليه السّلام؛ لتحقّق أنّه من عند اللّه تعالى، و يزول عنّا ما نتوهّمه من أنّه الّذي يرتّبه قليلا قليلا.

و هذا الاعتراض في غاية السّقوط؛ لأنّ الإعجاز لا يتخلّف بنزوله جملة أو متفرّقا، مع أنّ للتّفريق فوائد؛ منها ما أشار بقوله تعالى: كَذلِكَ ...، [ثمّ ذكر تفسير الآية، كما تقدّم عن الزّمخشريّ]. (2: 659)

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا الإنسان/ 23

إِنَّا نَحْنُ، أي على ما لنا من العظمة الّتي لا نهاية لها لا غيرنا. نَزَّلْنا عَلَيْكَ: و أنت أعظم الخلق إنزالا، استعلى حتّى صار المنزل خلقا لك. الْقُرْآنَ، أي الجامع لكلّ هدى تَنْزِيلًا. قال ابن عبّاس: متفرّقا آية بعد آية، و لم ينزّل جملة واحدة.

نصوص في علوم القرآن، ص: 226

قال الرّازيّ: و المقصود من هذه الآية تثبيت الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم، و شرح صدره فيما نسبوه إليه صلّى اللّه عليه و سلم من كهانة و سحر، فذكر تعالى أنّ ذلك وحي من اللّه تعالى، فكأنّه تعالى يقول: إن كان هؤلاء الكفّار يقولون: إنّ ذلك كهانة فأنا اللّه الملك الحقّ، أقول على سبيل التّأكيد: إنّ ذلك وحي حقّ، و تنزيل صدق من عندي. و في ذلك فائدتان؛

الأولى: إزالة الوحشة الحاصلة بسبب طعن الكفّار؛ لأنّ اللّه تعالى عظّمه و صدّقه.

الثّانية: تقويته على تحمّل مشاقّ

التّكليف، فكأنّه تعالى يقول له: إنّي ما نزّلت القرآن عليك متفرّقا إلّا لحكمة بالغة، تقتضي تخصيص كلّ شي ء بوقت معيّن، و قد اقتضت تلك الحكمة تأخير الإذن في القتال. (4: 459)

نصوص في علوم القرآن، ص: 227

الفصل الثّامن و العشرون نصّ ملّا فتح اللّه الكاشانيّ (م: 988 ه) في تفسيره: «منهج الصّادقين» «1»

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ... البقرة/ 23

ذكر نَزَّلْنا دون «أنزلنا» لأنّ نزول القرآن وقع نجما فنجما و دفعة بعد دفعة على حسب الوقائع كما هو مفهوم نَزَّلْنا، لا دفعة واحدة كما هو منطوق أَنْزَلْنا. و الحكمة تكون في تنزيل القرآن دون إنزاله، لأنّ نزوله على وجه التّدريج يوهمهم بأنّ القرآن من جنس كلام أهل الشّعر و الخطابة، و أمّا القرآن فيكون ظهوره على طريق النّجوم بحسب وقائعهم، كما حكى اللّه تعالى عنهم فقال: قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «2». و على هذا الوجه وجب تحدّيهم، لإزالة الشّبهة و إلزام الحجّة. (1: 124)

وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ طه/ 114

______________________________

(1)- قد ترجمنا هذا النّصّ من الفارسيّة.

(2)- الفرقان/ 31.

نصوص في علوم القرآن، ص: 228

كان هذا نهيا عن الاستعجال في تلقّي الوحي من جبرئيل و المساوقة معه في القراءة، حتّى يتمّ الوحي. و كان هذا النّهي بعد ذكر نزول هذه الآية على سبيل الاستطراد، فالآية لا تستلزم أنّ التّلقّي و المساوقة قبل نزولها كان منهيّ عنه، و ينافي عصمته عليه السّلام، قاله ابن عبّاس و الحسن و الجبّائيّ.

أو بمعنى إن نزلت عليك آية و سورة مجملة لا تقرأ على أصحابك، و لا تملي عليهم حتّى ينزل بيانه إليك، و يبيّن لك معانيه، قاله مجاهد و قتادة و عطيّة و ابن مسلم.

أو أنّها تعني لا تسأل إنزال القرآن قبل أن يأتيك وحيه؛ لأنّ اللّه تعالى ينزّله بحسب المناسبة، قاله الماورديّ. [ثمّ ذكر شأن نزول الآية نقلا عن ابن الجوزيّ كما تقدّم عنه، ثمّ قال:] بناء على هذا فمعنى هذه الآية أنّه لا تحكم بشي ء إلّا بعد نزول القرآن.

قوله تعالى: وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي زدني علما بالأحكام الشّرعيّة، أعني أكرمني منه علما بعد علم.

أو زدني علم القرآن و معانيه، أي علّمني نزول آية بعد آية و سورة بعد سورة، أو بيّن معناه. أو زدني علما بقصص الأنبياء و بمنازلهم. أو زدني في حفظي حتّى لا أنسى بما توحي إليّ، و المقصود بدل الاستعجال في القراءة حتّى تسأل الزّيادة بما سيوحى إليك و يصلك، و ستحفظه في خاطرك. (6: 30)

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ ... الشّعراء/ 192

عَلى قَلْبِكَ، أي لقّنك جبرئيل على الوجه الّذي كان مأمورا به، و تعلّمت منه، و حفظت في قلبك بلا تبديل و تغيير.

و تنزيل جبرئيل من جانب اللّه تعالى على قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم كان على سبيل التّوسّع؛ لأنّ حقيقة المعنى هو أنّ اللّه تعالى أسمع القرآن لجبرئيل و كان هو يحفظه، فأنزله على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أقرأه عليه، و كان هو يحفظه أيضا بقلبه، فكأنّ نفس جبرئيل نزلت مع القرآن على قلبه.

و قرأ حفص بتخفيف نَزَلَ، و رفع الحاء و النّون في بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، و الباء في (به) للتّعدية، أي أنزله جبرئيل على قلبك. [ثمّ ذكر قول البيضاويّ حول كيفيّة نزوله على

نصوص في علوم القرآن، ص: 229

قلب النّبيّ كما تقدّم عنه، ثمّ قال:]

قيل: ذكر القلب لكون النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمّيّا، و حينما كان جبرئيل يتلو عليه كان يتعلّم بقلبه. (6: 480)

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ الأعلى/ 6- 7

سَنُقْرِئُكَ، أي سنقرأ عليك القرآن، يعني أنّ جبرئيل كان قد قرأ عليك بأمرنا، أو ألهمنا عليك القراءة.

فَلا تَنْسى، أي فلا تنسى القرآن؛ لقوّة حافظتك الّتي أعطيناكها لحفظ هذه السّورة و الآيات، و هذه علامة أخرى على نبوّتك، أو أنّ الإخبار بالمستقبل و وقوعه فيها كان أيضا من الآيات الباهرة و المعجزات الظّاهرة على نبوّتك.

و قال بعضهم: فَلا تَنْسى نهي، و الألف للفاصلة كقوله تعالى: السَّبِيلَا «1»، و إنّ النّسيان من الأفعال الاختياريّة حتّى تعلّق به النّهي.

فعلى هذا كان المعنى هكذا، لا تغفل عن قراءة القرآن حتّى لا تنساه، و الأوّل أصحّ القولين، ففي هذا كان بشارة له صلّى اللّه عليه و آله أنّ كلّ ما نقرأ عليك لا تنسى.

إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ،

أي لا تنساه إلّا بمشيّة اللّه، و ذلك عند نسخ قراءته. و حينئذ يمحو اللّه سبحانه من صحيفة قلبك، كقوله تعالى: أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها «2».

و قيل: المراد بالنّفي نسيان المطلق؛ لأنّ القلّة تستعمل للنّفي، كما يقول الرّجل لصاحبه: أنت سهيمي فيما أملك إلّا فيما شاء اللّه، فالمراد فيها ليس استثناء، بل كان من قبيل الاستعمال بمعنى النّفي.

[ثمّ ذكر قول الفرّاء، كما تقدّم عن الطّبرسيّ، ثمّ قال:]

إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ، أي أنّه يعلم ما ظهر من أقوالكم و أفعالكم.

وَ ما يَخْفى، أي ما بطن من أطواركم و أحوالكم، أي هو يعلم ما كان فيه مصلحة

______________________________

(1)- الأحزاب/ 67.

(2)- البقرة/ 106.

نصوص في علوم القرآن، ص: 230

دينكم و دنياكم. أو يعلم قراءتك مع جبرئيل جهرا، و ما يخفى في نفسك باعثه الجهر لخوف النّسيان. فلا تخف، إنّي حافظك من نسيان ما في بقائه في فكرك صلاح، و منسيك ما في نسيانه مصلحة.

وَ نُيَسِّرُكَ عطف على سَنُقْرِئُكَ، و قوله: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى جملة معترضة. لِلْيُسْرى، أي نسهّل لك و نوفّقك لسلوك الطّريقة الأيسر و الأسهل، و أنّه حفظ الوحي، أو حفظ الشّريعة الّتي هي أيسر الشّرائع و أسهلها من ناحية الأخذ و التّعليم (10: 217)

نصوص في علوم القرآن، ص: 231

الفصل التّاسع و العشرون نصّ الشّيخ على ددة (م: 1007 ه) في «حلّ الرّموز و كشف الكنوز» «1»

السّؤال الحادي و الأربعون من خواتم الحكم

ما الحكمة و السّرّ في إنزال القرآن جملة واحدة إلى السّماء الدّنيا في بيت العزّة؟

الجواب: ذكره الإمام العلّامة و الأستاذ ... في الإتقان: السّرّ في نزول القرآن جملة إلى السّماء تفخيم أمره و شأنه، و تعظيم حكمه و برهانه، و تكريم أمر من نزل عليه، و تعظيم من أرسل الوحي إليه، و هو سيّد المرسلين و خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و

سلم. و نزولها في بيت العزّة إشارة إلى أنّه كتاب عزيز إلى رسول كريم، لدعوة أعزّ الأمم على اللّه تعالى على لسان أفضل الرّسل، و فيه إشارة إلى أنّه بيت العزّة، أشرف المقامات السّماوية بعد اللّوح المحفوظ لنزول القرآن منه إليها، و لذلك قيل: تفضّل السّماء الأولى على أخواتها لأنّها مقرّ الوحي الرّبّاني و معدن آياتها.

و قيل: السّماء السّابعة أفضل؛ لأنّها مقام لسدرة المنتهى و مهبط الأحكام و الأنوار، و هو مقام جبرئيل الأمين، ذي قوّة عند ذي العرش مكين.

قيل: فضل المكان بالمكين، و بالنّسب المتعدّة و الوجوه المختلفة يكون الفضل تارة

______________________________

(1)- نقل كلام السّيوطيّ بتصرّف، و لذا لم نحذف منه شيئا.

نصوص في علوم القرآن، ص: 232

أمرا إضافيّا أو نسبيّا أو ذاتيّا أو عرضيّا، فأفهم.

و ذلك بإعلام مكان السّماوات السّبع أنّ آخر الكتب المنزّلة هذا الكتاب المبين على خاتم الرّسل لأشرف الأمم، قد قرّبناه إليهم لننزله عليه. و لو لا أنّ الحكمة الإلهيّة اقتضت وصوله إليهم منجّما بحسب الوقائع لأهبط به إلى الأرض جملة، كسائر الكتب المنزّلة قبله، و لكن باين بينه و بينها، فجعل الأمرين إنزاله جملة، ثمّ إنزاله مفرّقا تشريفا للمنزل عليه، كما ذكره أبو شامة في «المرشد الوجيز».

السّؤال الثّاني و الأربعون من خواتم الحكم:

ما الحكمة في وضع القرآن بالسّماء الدّنيا ببيت العزّة دون غيرها من المقامات في السّماوات؟

الجواب: أجاب الحكيم التّرمذيّ: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدّنيا تسليما للأمّة ما كان أبرز لهم من الخطّ بمبعث محمّد صلّى اللّه عليه و سلم، و بعثة محمّد صلّى اللّه عليه و سلم كانت رحمة، فلمّا خرجت الرّحمة بفتح الباب جاءت بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلم و بالقرآن، فوضع القرآن ببيت العزّة في السّماء الدّنيا ليدخل في

حدّ الدّنيا، و وضعت النّبوّة في قلب محمّد صلّى اللّه عليه و سلم. و جاء جبريل عليه السّلام بالرّسالة ثمّ الوحي، كأنّه أراد تعالى أن يسلّم هذه الرّحمة الّتي كانت حظّ هذه الأمّة من اللّه تعالى إلى الأمّة. و في بيت العزّة إشارة أنّ قلب المؤمن أعزّ على اللّه تعالى من سائر المقامات؛ لأنّ القرآن نزل من اللّوح على القلب و استقرّ فيه إلى أبد الدّهر دنيا و أخرى.

و في نزوله إشارة إلى تعظيم الحضرة المحمّديّة بالتّدريج، كما تدخل الهدايا بالتّوسّط على أيدي الخدّام تعظيما للمهدى إليه، فأفهم. [ثمّ ذكر قول الإمام السّخاويّ كما تقدّم عن أبي شامة و السّيوطيّ].

السّؤال الثّالث و الأربعون من خواتم الحكم

ما الحكمة في نزوله منجّما، و هلّا نزل كسائر الكتب جملة؟

الجواب: قال الإمام في الإتقان: هذا ... [و ذكر كما تقدّم عن أبي شامة، ثمّ قال:]

(حكمة أخرى) لإنزال القرآن مفرّقا، فإنّه أدعى إلى قبوله صلّى اللّه عليه و سلم إذا نزل على التّدريج، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة، فإنّه ينفر من قبوله كثير من النّاس؛ لكثرة ما فيه من

نصوص في علوم القرآن، ص: 233

الفرائض و المناهي.

(برهان جلّي) في إنزاله مفرّقا، ما أخرجه البخاريّ عن أمّ المؤمنين رضي اللّه عنها قال: إنّما أنزل ما نزل منه سورة من المفصّل ... [و ذكر كما تقدّم عن السّيوطيّ].

السّؤال الخامس و الأربعون من خواتم الحكم

ما الحكمة عند نزول الوحي في تقدّم صوت الملك مثل صلصلة الجرس كما ورد في صحيح البخاريّ؟

الجواب: قال الإمام: و الحكمة في تقدّم الصّوت عند نزول الوحي على لسان روح القدس أن يقرع سمع نبيّه صلّى اللّه عليه و سلم بالوحي تنبيها أن لا يبقى فيه مكانا لغيره. و في الصّحيح هذه الحالة أشدّ حالات الوحي عليه.

و قيل: إنّه كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيدا أو تهديدا كما أشار في الخبر «فما من مرّة يوحى إليّ إلّا ظننت أن نفسي تقبض».

تحقيق للوحي طبقات؛

إحداها: مجي ء الملك كصلصلة الجرس.

و ثانيها: كما قال صلّى اللّه عليه و سلم: «إنّ روح القدس نفث في روعي».

و ثالثها: كما ورد في الصّحيح يأتيه جبريل في صورة الرّجل فيكلّمه، و هو أهون طريق الوحي.

و رابعها: نزول الملك على قلبه في النّوم، كما ورد في سورة الكوثر.

و خامسها: أن يكلّمه إمّا في اليقظة كما في ليلة الأسراء، و إمّا في النّوم كما في حديث معاذ: «أتاني ربّي، فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى». و ليس في

القرآن من هذا شي ء فيما أعلم، و تسمّى هذه الطّبقة بالكلمات القدسيّة وحيا أو إلهاما.

سئل بعض المحقّقين عن الوحي، فقال: الوحي ما يوحي اللّه إلى نبيّ من أنبيائه، فيثبّته في قلبه و يتكلّم به و يكتب، و هو كلام اللّه تعالى، و منه ما لا يتكلّم به و لا يكتبه لأحد و لا يأمر بكتابته، و لكن يحدّث به النّاس، فيسمّى حديثا قدسيّا، و يبيّن لهم إنّ اللّه تعالى أمره أن يبيّنه للنّاس و يبلّغهم إيّاه.

نصوص في علوم القرآن، ص: 234

قال الإمام السّيوطيّ نقلا عن بعض الأئمّة الأعلام، أنّه قال:

كلام اللّه المنزل قسمان: يسمّى بالسّنّة و الخبر القدسيّ؛ لأنّ جبريل كان نزل بالسّنّة كما نزل بالقرآن، و من هنا جاز رواية السّنّة بالمعنى؛ لأنّ جبريل أدّاه بالمعنى، و لم تجز القراءة بالمعنى؛ لأنّ جبريل أدّاه باللّفظ. و السّرّ في ذلك التّعبّد بلفظه و الإعجاز به، فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه من الإعجاز لفظا و من الأسرار معنى، فلا يقوم لفظ الغير مقام لفظه و لا حرف غيره مقام حرفه؛ لأنّ تحت كلّ حرف منه معان لا يحاط بها كثرة، فيكون القرآن معجزا من حيث اللّفظ و المعنى.

و ذكر بعضهم في الخبر: أنّ أحرف القرآن في اللّوح المحفوظ، كلّ حرف منها بقدر جبل قاف، و أنّ تحت كلّ حرف معان لا يحيط بها إلّا اللّه تعالى.

السّؤال السّادس و الأربعون من خواتم الحكم

ما الحكمة في إنزال القرآن على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و هو ابن أربعين سنة؟ و ما السّرّ في قرن نبوّته بإسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلّمه الكلمة و الشّي ء، و لم ينزّل عليه القرآن على لسانه، فلمّا مضت ثلاث سنين قرن بنبوّته جبريل،

فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة؟

الجواب: و أمّا الحكمة في نزوله على رأس أربعين سنة؛

قيل: تستكمل القوّة الجسمانيّة و القوى الرّوحانيّة لقبول كمال الاستعداد بالفيض الأقدس، و التّجليّات الكلّية، و الكمالات العليّة، و النّفحات القدسيّة، و سيّد المرسلين و خاتم النّبيين مظهر الكمال الكلّيّ و مجمعها و منبعها، فناسب مقامه مقام الأربعين من حيث الإحاطة و الأسرار الأربعينيّة؛ لأنّه ظهر بأكمل الاستعداد، و مقام الأربعينيّة أكمل الاستعداد كما ظهر في حقّ موسى عليه السّلام قوله تعالى: وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً «1». و أشار صلّى اللّه عليه و سلم في حقّ أمّته بقوله: «من أخلص للّه أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه».

______________________________

(1)- الأعراف/ 142.

نصوص في علوم القرآن، ص: 235

و لمقام الأربعينيّة أسرار و حكم في حقّه صلّى اللّه عليه و سلم و في حقّ أخيه عليه السّلام و في حقّ أمّته صلّى اللّه عليه و سلم لا يحتملها أكثر العقول.

أمّا السّرّ في اقتران إسرافيل بنبوّته صلّى اللّه عليه و سلم ثلاث سنين ذكره الإمام السّيوطيّ في الإتقان، و قال نقلا عن بعض الأئمّة: و الحكمة في توكيل إسرافيل به أنّه الموكّل بالصّور الّذي فيه هلاك الخلق و قيام السّاعة، و نبوّته صلّى اللّه عليه و سلم مؤذّنة بقرب السّاعة و انقطاع الوحي، كما وكّل بذي القرنين رفائيل الّذي يطوي الأرض، و بخالد بن سنان مالك خازن النّار.

و ذكر بعض المحقّقين: إنّ في أمّ الكتاب كلّ شي ء هو كائن إلى يوم القيامة، فوكّل ثلاثة بحفظه من الملائكة، فوكّل جبريل بالكتب و الوحي إلى الأنبياء، و بالنّصر عند الحروب و الهلاكات، إذا أراد أن

يهلك قوما. و وكّل ميكائيل بالقطر و النّبات، و وكّل ملك الموت بقبض الأنفس فإذا كان يوم القيامة عارضوا بين حفظهم و بين ما كان في أمّ الكتاب فيجدونه سواء، و أوّل من يحاسب جبريل؛ لأنّه كان أمين اللّه إلى رسله. 22- 25

السّؤال الثّالث عشر بعد المائة من خواتم الحكم

ما الحكمة في إنزال القرآن العظيم متفرّقا، بخلاف التّوراة و سائر الصّحف نزلت جملة واحدة؟

الجواب: قال أهل التّفسير: أنزل اللّه القرآن متفرّقا لوجوه؛

أحدها: تفضيلا لنبيّنا صلّى اللّه عليه و سلم، أراد أن تكون الرّسالة متّصلة من عنده إليه، كلّ وقت يتجدّد الخطاب المستطاب، و يكون حبيبه على علم و ذوق و خطاب و فيض كتاب في كلّ ساعة من حضرة المحبّ الحبيب المشتاق في كلّ آن.

و الثّاني: لو أنزله مرّة واحدة لا يشتغل بحفظه و خاف على فواته، أ لا ترى إلى قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ «1».

و الثّالث: نزل بعض الآيات في النّاسخ و المنسوخ، فلو أنزله دفعة واحدة لفاتت فوائد النّسخ و مراعاة المصالح بحسب الأزمنة المتعاقبة، و في النّسخ أسرار الدّعوة و التّدريج

______________________________

(1)- القيامة/ 17.

نصوص في علوم القرآن، ص: 236

و جذب الأرواح، فانظر إلى تدريج حرمة الخمر أوّلا بالنّهي عن الصّلاة بالسّكر، ثمّ بالنّهي مطلقا حكمة و رحمة منه سبحانه و تعالى.

و الرّابع: لو أنزله جملة واحدة لثقل عليهم استعمال ما فيه من التّكليف كما ثقل على قوم موسى، فأراد تعالى أن يكون يسيرا؛ لقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «1».

و الخامس: أراد تعالى أن يكون معجزة للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بالأخبار بالكوائن، فكلّما أرادوا شيئا نزل جبريل ببيانه و أخبره عمّا يكون، فكان خبيرا.

و السّادس: قضاء الحوائج و

إجابة كلّ سائل، فكلّما سألوا منه شيئا من الأحكام و الحكم نزل جبريل بإجابة سؤالهم ليرتفع مرادهم، و أيضا كيلا يقنطوا من حياته صلّى اللّه عليه و سلم، و يعلموا أنّه باق ما لم يتمّ القرآن و يتجدّد نزوله عليه صلّى اللّه عليه و سلم.

و السّابع: أنزله تعالى متفرّقا؛ لئلّا يستوحش النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، و هذا معنى قوله تعالى:

لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ «2»، و يكون أنيسا له في كلّ ساعة.

السّؤال الرّابع عشر بعد المائة من خواتم الحكم

ما الحكمة في نزول القرآن ليلا؛ لقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «3»، إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «4»؟

الجواب: أجيب بوجوه؛ قيل: لأنّ أكثر الكرامات و نزول النّفحات و الإسراء إلى السّماوات يكون باللّيل، و أكثر مناجاة الأخيار في اللّيل، كما قال تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا «5». و في اللّيل معارج الأرواح و استراحة الأشباح، و في اللّيل سير الأسراء إلى حضرة الكبرياء، و في اللّيل فراغ القلوب بذكر حضرة المحبوب، اللّيل مقام المناجاة و مهبط النّفحات، اللّيل مشهد التّنزّلات و مظهر التّجلّيات، كما ورد في الخبر:

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- الفرقان/ 32.

(3)- القدر/ 1.

(4)- الدّخان/ 1.

(5)- المزّمّل/ 6.

نصوص في علوم القرآن، ص: 237

«ينزّل ربّنا في الثّلث الأخير» الخ. و في الخبر: «إذا جاء اللّيل، جاء خلق اللّه الأعظم».

و اللّيل محلّ الرّاحة و السّبات، كما قال تعالى: وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً «1»، و لذا قيل: اللّيل من الجنّة، فيه لحصول الاستراحة، و النّهار من النّار؛ لأنّ فيه المعاش و التّعب. و للعرب العاربة لطائف مستغربة في تفضيل اللّيل على النّهار و النّهار على اللّيل، كما ذكر في كتاب نوادر العرب، و ليس هذا محلّ التّفصيل بل المراد

فنّ الحكمة و المعرفة.

السّؤال الخامس عشر بعد المائة من خواتم الحكم

ما الحكمة في أنّ الملائكة بأسرها صعقت ليلة نزول القرآن من حضرة اللّوح المحفوظ إلى حضرة بيت العزّة في السّماء الدّنيا؟

الجواب- أقول: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يتفقّأ عرقا عند نزول الوحي، و تحصل له الهميانات و الجذبات من حضرة الوحي بنزول الأسرار و النّفحات الإلهيّة و المعاني الحكميّة من العلوم اللّدنّيّة و الأحكام القدرية من حيث المطالع و البطون، و كان يقول: «إنّ للوحي أثقالا تدكدك الجبال». و قد صعقت الرّجال من نفحات أسرار الوحي، فكيف من الوحي!

و قيل: صعقت الملائكة عند نزول القرآن لثلاثة أشياء؛ أوّلها: أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و سلم عندهم من أشراط القيامة و القرآن كتابه، فنزوله دلّ على قيام السّاعة، فصعقوا هيبة منه، و إجلالا لهيبة كلامه، و تعظيما لحضرة وعده و وعيده، و أمره و نهيه في كلامه المجيد.

و في بعض الأخبار: «إنّ اللّه تعالى إذا تكلّم بالرّحمة تكلّم بالفارسيّة (المراد بالفارسيّة لسان غير العرب سريانيّا كان أو عبريّا) «2»، و إذا تكلّم بالعذاب تكلّم بالعربيّة المحمّديّة، ظنّوا أنّه عقاب فصعقوا» و غاب عنهم أنّ النّبيّ العربيّ رحمة للعالمين، فافهم سرّ العربيّة و جلالتها، و لذا قال صلّى اللّه عليه و سلم: «بعثت بالسّيف». و قال صلّى اللّه عليه و سلم: «أنا النّبيّ المحمّديّ، جعل رزقي تحت ظلّ رمحي»، إلى غير ذلك من الأحاديث الّتي تدلّ على جلالة النّبيّ العربيّ و مهابة الملّة العربيّة، فافهم تفز سراجا جليّا ... (70- 72)

______________________________

(1)- النّبأ/ 9.

(2)- لا نرى وجها لهذا التّفسير.

نصوص في علوم القرآن، ص: 238

الفصل الثّلاثون نصّ صدر المتألّهين (م: 1050 ه) في «تفسيره»

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ... البقرة/ 23

و إنّما قيل: نَزَّلْنا على لفظ التّنزيل دون «الإنزال»؟ لأنّ المراد نزوله على نهج التّدريج و التّنجيم، و هو الحريّ

بمكان التّحدّي؛ لأنّهم كانوا يقولون: لو كان هذا من عند اللّه لم ينزّل هكذا نجوما، سورة بعد سورة، و آيات غبّ آيات، على سنن أهل الخطابة و الشّعر؛ حيث صدر عنهم و سنح ببالهم مضامين الأشعار و الخطب، حسب ما عنّ لهم من الأحوال و تجدّد عليهم سوانح الحاجات، و لم يلق النّاظم ديوان شعره دفعة، و لم يرم الخطيب مجموع خطبه و رسائله ضربة، كما حكى اللّه عنهم: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «1». ثمّ بيّن الحكمة في ذلك بقوله: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «2». (2: 125)

مكاشفات سرّيّة و نفثات روعيّة

اعلم أنّ الفرق بين القرآن المجيد و سائر كتب اللّه المنزلة على الأنبياء، بأنّ القرآن

______________________________

(1)- الفرقان/ 31.

(2)- الفرقان/ 31.

نصوص في علوم القرآن، ص: 239

كلام اللّه و كتابه جميعا و غيره كتاب فقط، و كلام اللّه أشرف من كتابه بوجوه؛

أوّلها: أنّ كلامه تعالى قوله، و كتابه فعله، و القول أقرب من القائل من الكتاب إلى الكاتب، فكلام اللّه أشرف من كتابه.

و ثانيها: أنّ الكلام و القول من عالم الأمر: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1».

و الكتاب من عالم الخلق، و عالم الأمر كلّه علوم عقليّة و حقائق معنويّة بخلاف عالم الخلق؛ لأنّ العلوم و المعاني زائدة فيه على صحائف مداركها و ألواح مشاعرها.

و ثالثها: أنّ كلام اللّه نزل على قلب الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سرّه، و كتاب اللّه نزلت صورة ألفاظها على ألواح و قراطيس.

و رابعها: أنّ تلقّي الكلام و تعلّمه بأن يتجلّي حقيقته و تنوّر معناه على قلب من يشاء من عباده؛ لقوله تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ

وَ لَا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا «2»، و من علّمه اللّه تعالى القرآن بهذا التّعليم كان عليه من اللّه فضلا عظيما، كما قال لحبيبه بعد تعليمه: وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً «3»، فتلقّيه صلّى اللّه عليه و آله بالقرآن من حيث هو قرآن بأن يتخلّق به؛ إذ كان القرآن خلقه، كما هو المرويّ عن بعض أزواجه حين سئلت عن خلقه صلّى اللّه عليه و آله فإنّ اللّه يقول: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «4»، قالت: كان خلقه القرآن «5». و أمّا تلقّي الكتاب و تعلّمه فبالدّراسة و القراءة و التّلاوة، فالأنبياء: يتدارسون الكتب؛ لقوله تعالى: مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها «6».

و خامسها: أنّ تنزيل القرآن على قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و مكاشفة أسراره منه و تجلّي أنواره له أمر بينه و بين اللّه لا يطّلع عليه ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل، و أمّا إنزال الكتب على سائر

______________________________

(1)- النّحل/ 40.

(2)- الشّورى/ 52.

(3)- النّساء/ 113.

(4)- القلم/ 4.

(5)- المسند: 6: 19 و 163 عن عائشة.

(6)- سبأ/ 44.

نصوص في علوم القرآن، ص: 240

الأنبياء فهي ممّا يقرأها كلّ قارئ.

و سادسها: أنّ سائر الكتب يستوي في هداها الأنبياء و الأمم؛ لقوله في هذه الآية:

وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ «1»، و قوله: هُدىً لِلنَّاسِ «2». و أمّا القرآن من حيث هو كلام فالرّسول صلّى اللّه عليه و آله مخصوص بالهداية به عند تجلّي أنواره في التّنزيل على قلب الرّسول، كما قال: وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا «3»، و قال: وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ «4»، أي خصّصك بهداه و

علمه.

و سابعها: أنّ الكتب المنزلة عليهم كانت تصرّف فيهم بأن يكون الكتاب مع أحدهم نورا من اللّه يجي ء به إلى قومه؛ ليكون هدى لهم، كما قال: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً «5». و أمّا تنزيل القرآن على قلب الخاتم صلّى اللّه عليه و آله فكان تصرّفه فيه بأن جعله نورا من اللّه، يجي ء ذلك النّور إلى الأمّة و معه القرآن، كما قال تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ «6» و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله وَ كِتابٌ مُبِينٌ «7». فشتّان بين نبيّ يجي ء و يكون هو بذاته نورا و معه كتاب، و بين نبيّ يجي ء و معه نور من الكتاب.

و ثامنها: قد فرّق اللّه بين ما شرّف النّبيّ الخاتم صلّى اللّه عليه و آله بإنزال الكلام على قلبه، و بين ما شرّفوا به من إنزال الكتاب، فقال تعالى تشريفا لموسى عليه السّلام: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً «8». و قال تعالى تشريفا لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى «9»، أنظر و تدبّر كيف قال: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ «10»، فشتّان بين نبيّ تشرّف بكتابة

______________________________

(1)- السّجدة/ 23.

(2)- البقرة/ 185.

(3)- الشّورى/ 52.

(4)- النّساء/ 113.

(5)- الأنعام/ 91.

(6)- المائدة/ 15.

(7)- المائدة/ 15.

(8)- الأعراف/ 145.

(9)- النّجم/ 10.

(10)- المجادلة/ 22.

نصوص في علوم القرآن، ص: 241

الموعظة له في الألواح، و بين نبيّ تشرّف أمّته بكتابة الإيمان لهم في قلوبهم.

و تاسعها: أنّ من خصائص إنزال القرآن بما هو كلام اللّه أنّه متى نزل على قلب أحد صار خاشعا متصدّعا من خشية اللّه؛ لقوله سبحانه: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ

خَشْيَةِ اللَّهِ «1». و لمّا نزل على قلب الرّسول صار قلبه خاشعا خاضعا من خشية اللّه، حتّى قال كما هو المرويّ عنه: «أنا أعلمكم باللّه و أخشاكم منه» «2». و أمّا إنزال الكتب فليس من لوازمه الخضوع و الخشوع و التّخلّق بأخلاق اللّه، و لذا قيل: لو كانت التّوراة أنزلت على قلب موسى عليه السّلام لا في الألواح، لعلّه ما ألقى الألواح في حال الغضب، و ما احتاج إلى صحبة خضر عليه السّلام؛ لتعلّمه العلم، كما حكى اللّه تعالى عنه بقوله: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً* قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً «3». (6: 123- 125)

و نصّه أيضا في «تفسير سورة الواقعة»
لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ الواقعة/ 79

إنّ القرآن كالإنسان المنقسم إلى سرّ و علن، و لكلّ منهما ظهر و بطن، و لبطنه بطن آخر- إلى أن يعلمه اللّه- و لعلنه علانية أخرى إلى أن يدركه الحواسّ و أهلها. أمّا ظاهر علنه فهو المصحف المحسوس الملموس و الرّقم المنقوش الممسوس. و أمّا باطن علنه فهو ما يدركه الحسّ الباطن و يستثبته القرّاء و الحفّاظ في خزانة محفوظاتهم كالخيال و نحوه.

و الحسّ الباطن لا يدرك المعنى صرفا، بل خلطا مع عوارض جسمانيّة، إلّا أنّه يستثبته بعد زوال المحسوس، فإنّ التّخيّل و الوهم أيضا كالحسّ لا يحضران في الباطن المعنى الصّرف كالإنسانيّة المطلقة، بل نحو ما يدركه الحسّ من خارج مخلوطا بزوائد و غواش من كمّ و كيف و وضع و أين. فإذا حاول أحدهما أن يتمثّل له الصّورة المقيّدة بالعلائق المأخوذة

______________________________

(1)- الحشر/ 21.

(2)- البخاريّ 8: 31، المسند 2: 45 و 181 و فيهما «لأنا أعلمهم باللّه عزّ و جلّ و أشدّهم له خشية».

(3)- الكهف/ 66 و 67.

نصوص في علوم القرآن، ص: 242

عن أيدي

الحواسّ، و أنّ فارق المحسوس بخلاف الحسّ، فإنّه لا يمكنه ذلك. فهاتان المرتبتان من القرآن أوّليّتان دنيويّتان ممّا يدركه كلّ إنسان.

و أمّا باطنه و سرّه فهما مرتبتان أخرويّتان لكلّ منهما درجات؛ فالأولى: ممّا يدركه الرّوح الإنسانيّة الّتي يتمكّن من تصوّر المعنى بحدّه و حقيقته، منفوضا عنه اللّواحق القريبة مأخوذا من المبادئ الفعّالة، من حيث يشترك فيه الكثرة، و يجتمع عنده الأعداد في الوحدة، و يضمحلّ فيه التّخالف و التّضاد، و يتصالح عليه الآحاد.

و مثل هذا الأمر لا يدركه الرّوح الإنسانيّة ما لم يتجرّد عن مقام الخلق، و لم ينفض عنها الحواسّ، و لم يرتق إلى مقام الأمر متّصلة بالملإ الأعلى؛ إذ ليس من شأن المعقول من حيث هو معقول أن يحسّ، كما ليس من شأن المحسوس من حيث هو محسوس أن يعقل.

و لن يستتمّ الإدراك العقليّ بآلة جسمانيّة، فإنّ المتصوّر فيها مخصوص مقيّد بوضع و مكان و زمان، و الحقيقة الجامعة العقليّة لا يتقرّر في منقسم مشار إليه بالحسّ، بل الرّوح الإنسانيّة يتلقّى المعقولات بجوهر عقليّ من حيّز عالم الأمر، ليس بمتحيّز في جسم و لا متمكّن في حسّ، و لا داخل في وهم. ثمّ لمّا كان الحسّ تصرّفه فيما هو من عالم الخلق، و العقل تصرّفه فيما هو من عالم الأمر، فما هو فوق الخلق و الأمر فهو محتجب عن الحسّ و العقل جميعا. و لا شكّ أنّ كلام اللّه من حيث هو كلامه قبل نزوله إلى عالم الامر- و هو اللّوح المحفوظ- و قيل نزوله إلى عالم السّماء- و هو لوح المحو و الإثبات و عالم الخلق- له مرتبة فوق مرتبة الخلق و الأمر جميعا، فلا يتلقّاه و لا يدركه أحد من الأنبياء

إلّا في مقام الوحدة الإلهيّة عند تجرّده عن الكونين- الدّنيا و الآخرة- و عروجه و خرقه العالمين- الخلق و الامر-، كما قال أفضل الأنبياء: «لي مع اللّه وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب، و لا نبيّ مرسل».

فإذا تقرّر هذا فثبت أنّ للقرآن منازل و مراتب، كما للإنسان درجات و معارج، فلا بدّ لمسّ القرآن في كلّ مرتبة و درجة من طهارة و تجرّد عن بعض العلائق.

فالضّمير في لا يَمَسُّهُ إن كان عائدا إلى المصحف الّذي بأيدي النّاس، و يدركه جمهور أرباب الحواسّ فلا يجوز لغير المتطهّر من الأحداث و الأنجاس- كالجنابة

نصوص في علوم القرآن، ص: 243

و الحيض و النّفاس- مسّ كتابته أو مسّ المصحف، كما هو عند البعض، و روى عن محمّد بن عليّ الباقر عليهما السّلام، و عطاء و طاوس و سالم، و هو مذهب الشّافعيّ و مالك. و لا لغير المتطهّر من نجاسة كفر القالب بالإقرار بالشّهادتين، تلاوته و حفظ ألفاظه، فيكون لا يَمَسُّهُ خبرا بمعنى النّهي.

و إن كان عائدا إلى كِتابٍ مَكْنُونٍ، و جعلت الجملة الفعليّة صفة له فالمعنى لا يمسّ اللّوح المحفوظ و لا يحمله بما فيه إلّا المجرّدون عن جلباب البشريّة من الإنسان، و الملائكة الّذين وصفوا بالطّهارة من آثام الأجرام كجبرئيل حامل التّنزيل في مقام التّفصيل.

و إن كان عائدا إلى القرآن الكريم من حيث يحمله القلم الأعلى في مقام الإجمال، حتّى تكون الجملة الاسميّة صفة له، و الفعليّة صفة أخرى بعد صفة، و هما جميعا صفتان له بعد صفة الكرامة، فيكون المعنى لا يمسّه إلّا المطهّرون عن نقائص الإمكان و إحداث الحدثان، و هم أعاظم الأنبياء المرسلين و أكابر الملائكة المقرّبين.

و بالجملة للقرآن درجات كما مرّ، و كذلك

للإنسان بحسبها، و لكلّ درجة من درجاته حملة يحملونه و حفظة يحفظونه، و لا يمسّونه إلّا بعد طهارتهم عن حدثهم و حدوثهم و تقدّسهم عن شواغل مكانهم و إمكانهم، و أدنى المنازل في القرآن ما في الجلد و الغلاف- كما أنّ أدون الدّرجات للإنسان هو ما في الجلد و البشرة- و يجب أن لا يحمله الإنسان البشريّ إلّا بعد تطهير بشرته و غلافه من النّجاسة. و هذا كما ورد «أنّ الإيمان ليس بابا واحدا، بل هو نيف و سبعون بابا، أعلاها شهادة أن لا إله إلّا اللّه، و أدناها إماطة الأذى عن الطّريق».

و مثاله قول القائل: ليس الإنسان موجودا واحدا، بل هو نيّف و سبعون موجودا، أعلاها الرّوح، و أدناها إماطة الأذى عن البشرة، بأن يكون مقصوص الشّارب، مقلوم الأظفار، نقيّ البشرة عن الأخباث، حتّى يتميّز عن البهائم المرسلة الملوّثة بأوراثها المستكرهة الصّور بطول مخالبها و أظلافها، فعلم من هذا أنّ الإنسان و مراتبه مثال مطابق للإيمان و مراتبه، و كذا حكم القرآن، و سيأتيك زيادة كشف و بيان.

نصوص في علوم القرآن، ص: 244

تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ الواقعة/ 80

هذه صفة رابعة للقرآن، أي منزّل من عند ربّ العالمين إلى أهل هذا العالم، و إنّما وصف بالمصدر لأنّه من حيث هذا الوجود الكونيّ نزل منجّما بحسب الدّواعي الكونيّة و المصالح الخلقيّة في الأوقات المعيّنة، فكأنّه في نفسه تنزيل؛ لتعالي الباريّ القيّوم عن وصف التّغيّر و التّجدّد و كثرة الدّواعي و الإرادات.

و أمّا كيفيّة هذا التّنزيل فنقول في بيانها: إنّ الذّات الأحديّة بحقيقته الصّمدانيّة ممّا لا سبيل لأحد إلى إدراكه- سواء كان من الملائكة أو من الأناس- و غاية السّبيل إليه لأهل الكونين إدراك أفعاله و آثاره، و كلامه و

كتابه عندنا من جملة أفعاله و آثاره، إلّا أنّ أحدهما- و هو الكلام- من عالم أمره، بل هو الأمر كلّه؛ لقوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1»، و أمره منزّه عن التّجدّد و التّضاد؛ لقوله: وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ «2».

و ثانيهما- و هو الكتاب- من عالم خلقه، بل هو عالم خلقه؛ لاشتماله على التّجدّد و التّضاد، لقوله تعالى: لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «3».

و لكلّ منهما منازل و مراتب، و كلّ واحدة من مراتب الكلام قضاء و كلّ واحدة من مراتب الكتاب قدر، و أعلى مراتب القضاء «قضاء محض» ليس فوقه قضاء، و هو الكلام الإلهيّ المبدع له بالحقيقة، و أدنى مراتب القدر «قدر محض» لا قدر تحته، و هو الكتاب الكونيّ الّذي فيه كتابة أعمال أهل الشّمال.

و كما أنّ كلام اللّه مشتمل على الآيات، و هي آيات اللّه الكبرى الواقعة في المواقف العقليّة المثالية، تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ «4»، و كذلك كتابه المبين مشتمل على آيات- و هي الآفاق و الأنفس- تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ «5». و كلّ كلام إذا نزل

______________________________

(1)- يس/ 82.

(2)- القمر/ 50.

(3)- الأنعام/ 59.

(4)- البقرة/ 252.

(5)- يونس/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 245

و تشخّص يصير كتابا، كما أنّ الأمر إذا نزل صار فعلا كُنْ فَيَكُونُ «1». فالكتاب نائب الكلام، و أصل الكلام إنّما يراد لتصوير ما يتضمّنه باطن المتكلّم في باطن المخاطب فيصير مثله، فإذا عجز المخاطب عن مسّ باطن المتكلّم مسّ الخاتم للشّمعة؛ ليجعله مثل نفسه في نقشه و رقشه اتّخذ بين الباطنين سفيرا من الظّاهرين، إمّا رسولا هوائيّا متكلّما به، أو رسالة سطحيّة ناطقة بما

فيها. فإنّ الهواء بتموّجه الصّوتيّ على هيئاته الحرفيّة كتاب بالقياس إلى ما فوقه و هو نفس المتكلّم، و هو بعينه كلام بالقياس إلى ما تحته، و هو صحيفة الرّسالة أو بسيط الصّماخ بهيئاتها الكتابيّة.

فعلى هذا كلّ واحدة من الذّوات المفارقة و الملائكة العقليّة الّتي هي علوم إبداعيّة و صور مجرّدة، كلام اللّه باعتبار، و قلمه باعتبار. و كلّ واحد من الجواهر العقليّة و الملائكة المدبّرة كتاب اللّه باعتبار، و لوحه باعتبار. و كذا الألواح القدريّة و الصّحائف السّماويّة كلّ منها كتاب مشتمل على آيات الرّبوبيّة و دلائل القدرة، و هكذا صحيفة الأكوان و طومار حوادث الزّمان و دفتر الصّور الجسمانيّة كتاب فيه آيات اللّيل و النّهار الّتي ينشر بعضها و ينطوي بعض آخر و يظهر و يكمن، كما قال: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ «2».

فعالم الكلام و القول فيه آيات أمريّة عقليّة علميّة، و عالم الكتاب و الفعل فيه آيات خلقيّة كونيّة عمليّة، ليطالع الإنسان أوّلا بمشاعر نفسه و بدنه هذه الآيات الفعليّة الكتابيّة الآفاقيّة و الأنفسيّة ثمّ يترقّى بها ذاته من مقام الحسّ و النّفس إلى مقام القلب و الرّوح، فيسمع و يفهم تلك الآيات القوليّة الكلاميّة حتّى يعرف بها الحقّ الأوّل، كما قال:

سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ «3».

فإذا علمت الفرق بين الكلام و الكتاب فاعلم: أنّ هذا القرآن كلام اللّه و كتابه جميعا، و هو بما هو كلام اللّه نور من أنوار اللّه المعنويّة نازل من لدنه و منزله الأوّل قلب من يشاء

______________________________

(1)- يس/ 82.

(2)- يونس/ 6.

(3)- فصّلت/ 53.

نصوص في علوم القرآن، ص: 246

من عباده المحبوبين؛ لقوله: وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا «1»، و قوله مخاطبا لحبيبه: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ «2»، و قوله: بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ «3». و هو بما هو كتاب نقوش و أرقام، فيها آيات أحكام نازلة من السّماء نجوما على صحائف قلوب المحبّين و ألواح نفوس السّالكين، و غيرهم يكتبونها بأيديهم في صحائفهم و ألواحهم، بحيث يقرأها كلّ قارئ، و يعمل بأحكامها كلّ عامل، و يتساوى في هداها الأنبياء و الأمم، كما في قوله: وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ* مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ «4»، و قوله: وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ «5».

و أمّا القرآن الكريم ففيه عظائم علم اللّه، كان يتعلّم به نبيّ اللّه؛ لقوله تعالى: وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً «6».

و فيه عظائم أخلاق اللّه أن يتخلّق به خاتم الأنبياء:؛ بقوله: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «7».

فإذا تقرّر هذه المقدّمات و تبيّنت فنقول في كيفيّة تنزيل الكلام و إنزال الكتب: إنّ الرّوح الإنسانيّ كمرآة مجلوّة، إذا صقلت بصقالة العقل النّظريّ، و زالت عنها غشاوة الطّبيعة و رين المعصية، فحينئذ لاح لها نور المعرفة و الإيمان، و هو المسمّى عند أئمّة الحكمة بالعقل بالفعل، و بهذا النّور يتراءى فيها حقائق الملكوت و خبايا الجبروت، كما يتراءى الأشباح المثاليّة في المرايا الصّيقليّة، إذا لم تفسد صقالتها بطبع و رين؛ لقوله:

وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ «8»، كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ «9».

______________________________

(1)- الشّورى/ 52.

(2)- الشّعراء/ 193.

(3)- الإسراء/ 105.

(4)- آل عمران/ 3 و 4.

(5)- المائدة/ 43.

(6)- النّساء/ 113.

(7)- القلم/ 4.

(8)- التّوبة/ 87.

(9)- المطّففين/ 14.

نصوص في

علوم القرآن، ص: 247

فإذا أعرضت عن البدن و الاشتغال بما تحتها من الشّهوة و الغضب و الحسّ و التّخيّل، و توجّهت و ولّت بوجهها تلقاء عالم الملكوت الأعلى اتّصلت بالسّعادة القصوى، و رأت عجائب الملكوت و آيات اللّه الكبرى، كما في قوله: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى «1».

ثمّ إنّ هذا الرّوح إذا كانت قدسيّة شديدة القوى، قويّة الإنارة لما تحتها لا يشغلها جهة فوقها عن جهة تحتها، فيفي للجانبين و تضبط للطّرفين، لا يستغرقها لغاية قوّتها و شدّة تمكّنها حسّها الباطن عن حسّها الظّاهر، و ليست كالأرواح العاميّة الضّعيفة، إذا مالت إلى الجانب الباطن غابت عن الجانب الظّاهر، و إذا رجعت إلى مطالعة الظّاهر غابت عن مطالعة الباطن، و إذا حضرت في شهود نشأة احتجبت عن النّشأة الأخرى، بل إذا ركنت إلى مشعر من المشاعر ذهلت عن الآخر، و كذلك في القوى العمليّة، إذا اشتغلت بما تورده قوّة تعطّلت عمّا تورده قوّة أخرى، و كذلك البصر منها يخلّ بالسّمع، و الخوف يشغلها عن الشّهوة، و الشّهوة تصدّها عن الغضب، و الفكر يعطّلها عن الفعل، و الذّكر يصرفها عن الفكر.

و الرّوح القدسيّة لا يشغلها شأن عن شأن، و لا يحجبها نشأة عن نشأة. فإذا توجّهت إلى الأفق الأعلى و تلقّت المعارف بلا تعليم بشريّ من اللّه، أو من ملائكة اللّه يتعدّى تأثيرها إلى قواها، و يتمثّل صورة ما شاهدها في روحها البشريّ، و منها إلى أجسام العالم، فيذعن لها طبيعة الخلق الأكبر، و قواها من النّفوس الجزئيّة، كما يذعن للملائكة الأقربين لاتّصالها بهم، فيكون حكمها حكمهم عند اتّصالها بالأفق النّور الإلهيّ.

و الملائكة القلميّة ذوات حقيقيّة، و لها ذوات مضافة إلى ما دونها تنشأ منها

الملائكة اللّوحيّة، و أمّا ذواتها الحقيقيّة فهي أمريّة كلاميّة قضائيّة، و ذواتها الإضافية النّفسيّة فهي خلقيّة كتابيّة قدريّة.

و إنّما تلاقي الصّنف الأوّل للملائكة من القوى البشريّة الرّوح القدسيّة في اليقظة، فإذا اتّصلت الرّوح النّبويّة بعالمهم- عالم الوحي الإلهيّ- يسمع كلام اللّه، و هو إعلام الحقائق بالمكالمة الحقيقيّة بينها و بينه؛ لكونها في مقام القرب و مقعد الصّدق. و الوحي هو

______________________________

(1)- النّجم/ 18.

نصوص في علوم القرآن، ص: 248

الكلام الحقيقيّ الإلهيّ كما مرّ. فكذلك يعاشر تلك الملائكة، و يخاطبهم، و يسمع صرير أقلامهم، كما حكاه النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن نفسه «1».

ثمّ إذا نزل إلى ساحة الملكوت السّماويّ يتمثّل له صورة ما شاهدها في لوح نفسه الواقعة في عالم الأرواح، ثمّ يتعدّى منه الأثر إلى الظّاهر، و حينئذ يقع للحواسّ الظّاهر شبه نوم و دهش؛ لما علمت أنّ الرّوح القدسيّ لضبطه الجانبين يستعمل المشاعر الحسّية و يشغلها في سبيل معرفة اللّه و إطاعة الحقّ. فإذا خاطبه اللّه خطابا بلا حجاب من الخلق بواسطة الملك أو بدونه و اطّلع على آيات ربّه، و انطبع في فصّ نفسه النّاطقة نقش الملكوت و صورة اللّاهوت، و كان يتشبّح له مثال من الوحي و حامله إلى الحسّ الباطن فينجذب قوة الحسّ الظّاهر إلى فوق، و يتمثّل لها صورة الملك بحسب ما يحتملها، فيرى ملكا على غير صورته الّتي كانت في عالم الأمر، بل على صورته الخلقيّة القدريّة، و يسمع كلامه بعد ما كان وحيا، أو يرى لوحا بيده مكتوبا، فيكون الموحى إليه يتّصل بالملك بباطنه و روحه، و يتلقّى بروحه القدسيّة منه المعارف الإلهيّة، و يشاهد آيات اللّه، و يسمع كلام اللّه الحقيقيّ العقليّ من الملك الّذي هو

الرّوح الأعظم، ثمّ يتمثّل له الملك بصورة محسوسة، و كلامه بصورة أصوات و حروف منظومة مسموعة، و فعله و كتابه بصورة أرقام و نقوش مبصرة، فيكون كلّ من الوحي و الملك تتأدّى إلى مشاعره و قواه المدركة من وجهين، و يعرض للقوى الحسّيّة شبه الدّهش، و للموحى إليه شبه الغشي، ثمّ يرى و يسمع و يقع الإنباء.

فهذا معنى تنزيل الكلام و إنزال الكتاب من ربّ العالمين، و علم منه وجه ما قيل: إنّ الرّوح القدسيّة يخاطب الملائكة في اليقظة و الرّوح النّبويّة يعاشرها في النّوم، و لكن يجب أن يفرّق بين نوم الأنبياء و نوم غيرهم، فإنّ نومهم عين اليقظة. (208- 214)

______________________________

(1)- البخاريّ: كتاب الصّلاة الباب الأوّل 1: 98، المسند 5: 144.

نصوص في علوم القرآن، ص: 249

و نصّه أيضا، في «أسرار الآيات» [النّازل على الأنبياء هو الكتاب دون كلام اللّه]

و أعلم أنّ النّازل على أكثر الأنبياء:، من اللّه هو الكتاب دون كلام اللّه. و هذا القرآن الّذي أنزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله كلام اللّه و كتابه جميعا باعتبارين، و أمّا سائر الكتب السّماويّة المنزلة على سائر المرسلين، سلام اللّه عليهم أجمعين، فإنّها ليست بكلام اللّه، بل كتب يدرسونها، و يكتبون بأيديهم. فهذا المنزل بما هو كلام اللّه نور من أنوار اللّه المعنويّة النّازل من عنده على قلب من يشاء من عباده المحبوبين وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ «1»، و قوله: وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا «2»، و قوله: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ «3»، و قوله: بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ «4».

و هو بما هو كتاب نقوش و أرقام و صور و ألفاظ، و فيها آيات أحكام نازلة من السّماء نجوما على صحائف قلوب المحبّين و

ألواح نفوس الطّالبين. و غيرهم يكتبونها في صحائفهم و ألواحهم الحسّيّة، بحيث يتلوها كلّ تال و يقرأها كلّ قارئ، و يتكلّم بها كلّ متكلّم، و بها يهتدون و بما فيها يعملون، و يتساوى في هديها النّاس العوامّ و الخواصّ و الأنبياء و الأمم، كقوله: هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ «5»، و قوله: وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ* مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ «6»، و قوله: وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ «7».

______________________________

(1)- النّمل/ 6.

(2)- الشّورى/ 52.

(3)- آل عمران/ 3.

(4)- الإسراء/ 105.

(5)- البقرة/ 185.

(6)- آل عمران/ 3 و 4.

(7)- المائدة/ 43.

نصوص في علوم القرآن، ص: 250

قاعدة في وجوه الفرق بين إنزال كلام اللّه على قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بين إنزال الكتب السّماويّة و تنزيلها إلى سائر الأنبياء عليهم السّلام.

قوله تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ «1»، أي نزّل على قلبك حقائق القرآن و أنواره متجلّية بسرّك، لا صورة ألفاظ مسموعة أو مكتوبة على ألواح زمرّدية مقروءة لكلّ قارئ.

دليل ذلك قوله تعالى: وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ «2» يعني نزل بالحقيقة لا بالتّصوير و الحكاية. و قوله: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا «3» يعني ما كنت تكتسب بالدّراية و الفهم صورة ما في الكتب العلميّة، و لست تتعلّم الإيمان من معلّم غير اللّه، و لكن جعل اللّه قلبك نورا عقليّا تتنوّر به حقائق الأشياء، و يهتدى بها إلى ملكوت الأرض و السّماء. و قوله: وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ* بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ

فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «4». و قد وقعت الإشارة إلى أنّ تعليم القرآن من قبل اللّه بأن يتجلّى بنور الحكمة الّذي هو حقيقة الكلام، و نور الإيمان على قلب من كان من عباده الكرام و أحبّائه العظام. و بالجملة، القرآن خلق النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كما مرّ، و سائر الكتب ليست كذلك. و بالجملة من علمه اللّه القرآن بهذا التّعليم، كان عليه من اللّه فضلا عظيما، كما قال لحبيبه صلّى اللّه عليه و آله:

وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً «5».

بل نقول: التّعليم على ثلاثة أقسام: تعليم بشريّ، و تعليم ملكيّ، و تعليم إلهيّ.

و الأوّل، كما لسائر النّاس، و الثّاني، كما لسائر الرّسل عليهم السّلام، كان يمثّل لهم الملك و يعلّمهم الكتاب، و الثّالث، كما لخواصّ الأنبياء و عظماء الأولياء عند عروجهم المعنويّ إلى اللّه.

______________________________

(1)- آل عمران/ 3.

(2)- الإسراء/ 105.

(3)- الشّورى/ 52.

(4)- العنكبوت/ 48 و 49.

(5)- النّساء/ 113.

نصوص في علوم القرآن، ص: 251

و إلى هذه الاقسام الثّلاثة أشار بقوله تعالى: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا «1». فالأوّل هو التّعليم الإلهيّ، و الثّاني هو الملكيّ، و الثّالث هو البشريّ، فافهم إن كنت من أهله. و لا يفهم هذه الرّموز إلّا من خرج طائر روحه الأمريّ من قالبه البشريّ و نفسه، فإنّه منطق الطّير، و أنت بعد بيضة محبوسة في القشر الصّوريّ، لست من السّيارين في أرض الملكوت و لا من الطّيّارين في جوّ الجبروت.

وجه آخر من الفرق، أنّه قال تعالى: وَ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ «2». و قال: وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ

الْإِنْجِيلَ* مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ «3»، و قال في حقّ القرآن: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ «4». و الفرق ظاهر بين كتاب فيه هدى للنّاس و يستوون في هداه الأنبياء و الأمم، و بين كتاب فيه هدى الأنبياء و المتّقين من هذه الأمّة المخصوصين بالعناية، كما قال: وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا «5».

وجه آخر، قال: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً «6»، و قال في حقّ القرآن:

فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى «7»، و قال: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً «8».

و الفرق عظيم بين الكتابة و الوحي و كذا بين الموعظة و البرهان ثمّ إنّه جعل اللّه تشريف سائر الأنبياء: مثل تشريف هذه الأمّة المرحومة لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، حيث قال لهذه

______________________________

(1)- الشّورى/ 51.

(2)- الإسراء/ 3.

(3)- آل عمران/ 3 و 4.

(4)- الشّورى/ 52.

(5)- الشّورى/ 52.

(6)- الأعراف/ 145.

(7)- النّجم/ 10.

(8)- النّساء/ 174.

نصوص في علوم القرآن، ص: 252

الأمّة: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ «1»، فشتّان بين نبيّ تشرّف بكتابة الموعظة له في الألواح، و بين نبيّ تشرّف أمّته بكتابة الإيمان لهم في قلوبهم.

وجه آخر: القرآن تنزّل على قلب الرّسول، و سائر الكتب نازلة على صدر الأنبياء، و فرق بين تعلّمهم الكتاب و بين تعلّم نبيّنا الكتاب، فكانوا يتدارسون الكتب، و خاتمهم صلّى اللّه عليه و آله كان متخلّقا بالقرآن.

وجه آخر في الفرق بين ما أفاد له صلّى اللّه عليه و آله: تنزيل الكلام، و بين ما أفاد لهم عليهم السّلام إنزال الكتب، فإن أفاد الإنزال لهم الحكمة، فقد أفاد له صلّى اللّه عليه و آله أن أوتي

جوامع الكلم، و به فضّل على الأنبياء: و بخمسة أمور أخرى، لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «فضّلت على الأنبياء بستّ» و كذا تحقّق الفرق بين تصرّف تنزيل الكلام على قلبه و تصرّف الإنزال عليهم، فإن كان إنزال الكتب تصرّف فيهم بأن كان الكتاب مع أحدهم نورا من اللّه يجي ء به إلى أمّته ليكون هدى لهم، كما قال تعالى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ «2»، فإنّ تصرّف تنزيل القرآن على قلبه جعله نورا من اللّه يجي ء إلى الأمّة و معه الكتاب لقوله: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ «3» و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كتاب مبين، فشتّان بين نبيّ يجي ء و يكون هو بذاته نورا و معه كتاب، و بين نبيّ يجي ء و يكون معه نور من الكتاب.

هذا و قد انكشف عليك من تضاعيف ما ذكرناه لك أنّ الكلام غير الكتاب و إنّ الحكمة و النّور و القرآن و الكلام الإلهيّ يجري مجرى الألفاظ المترادفة في لسان هذا الكتاب، و إنّها جميعا عبارة عن مرتبة العقل البسيط الّذي فيه حقايق الأشياء مجملة، و إنّ الكتاب عبارة عن مقام نفسيّ فيه صور العلوم التّفصيليّة و نسبة الأوّل إلى الثّاني كنسبة الكيميا إلى الدّنانير و كنسبة البذر إلى الشّجرة، بل كنسبة المبدإ الفعّال إلى مجعولاته.

______________________________

(1)- المجادلة/ 22.

(2)- الأنعام/ 91.

(3)- المائدة/ 15.

نصوص في علوم القرآن، ص: 253

قاعدة في تحقيق كلامه تعالى اعتقادنا في الكلام أنّه ليس كما زعمته الأشاعرة، من أنّه معان نفسيّة قائمة بذاته تعالى، و سمّوها الكلام النّفسيّ، و لا كما ذهب إليه المعتزلة، من أنّه خلق أصوات و حروف دالّة على المعاني في جسم

من الأجسام، و إلّا لكان كلّ كلام كلام اللّه، و هو باطل.

و لا يكفي تقييده على قصد إعلام الغير من قبل اللّه، أو على قصد الإلقاء من عنده، و لو أريد بغير واسطة فهو غير ممكن، و إلّا لم يكن أصواتا و حروفا، بل حقيقة التّكلّم إنشاء كلمات تامّات، و إنزال آيات محكمات، و أخر متشابهات في كسوة الألفاظ و العبارات.

و الكلام قرآن، و هو العقل البسيط و العلم الإجماليّ، و فرقان، و هو المعقولات التّفصيليّة، و هما جميعا غير الكتاب؛ لأنّهما من عالم الأمر و عالم القضاء، و مظهرهما و حاملهما القلم و اللّوح المحفوظ. و الكتاب من عالم الخلق و التّقدير، و محلّه عالم القدر الذّهنيّ و القدر العينيّ، و الأوّلان غير قابلين للنّسخ و التّبديل؛ لأنّهما فوق الزّمان و المكان، بخلاف الكتاب؛ لأنّه موجود زمانيّ، و محلّه لوح قدريّ نفسانيّ، هو لوح المحو و الإثبات، أو موادّ خارجيّ، و كلاهما متغيّران. و الكتاب يدركه كلّ أحد، و القرآن لا يمسّه إلّا المطهّرون من أدناس البشريّة.

و ربّما يقال الكتاب للفرقان، فإنّه بالنّسبة إلى القرآن كتاب منزل، أو باعتبار أنّه منزل أيضا في صورة مكتوبة في لوح القدر، بل الّذي بين أظهرنا كلام منزل من عند ربّ العالمين، منزل الأوّل: القلم الرّبانيّ، و الثّاني: اللّوح المحفوظ، و الثّالث: لوح القدر و سماء الدّنيا، و الرّابع: لسان جبرئيل تلقّاه الرّسول الأمين صلّى اللّه عليه و آله في جميع المقامات، تارة أخذه من اللّه بلا واسطة ملك، كما قال: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى* فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى* ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى* أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى «1».

و تارة بواسطة جبرئيل

وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى* وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى «2».

______________________________

(1)- النّجم/ 8- 12.

(2)- النّجم/ 3- 7.

نصوص في علوم القرآن، ص: 254

و تارة في مقام غير ذلك المقام الشّامخ الإلهيّ وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى* عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى* عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى* إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى* ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى* لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى «1».

و تارة كان يسمع كلام اللّه في هذا العالم الحسّيّ وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ* وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ «2». و من هذا المقام ما كان في أوّل البعثة في جبل حراء، أو في جبل فاران، فأتاه جبرئيل عليه السّلام بصورة محسوسة و سمع منه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «3»، كما سمع موسى كلامه تعالى النّازل في طور سينا إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً* فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى* إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً* وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى* إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي «4». و من منازل كلام اللّه تعالى ما يدوّن في الكتب و القراطيس، يبدو لكلّ أحد، و يتكلّم به كلّ متكلّم، و يقرأه كلّ قارئ، و يسمعه كلّ مستمع، كما في قوله تعالى:

وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ «5». ثمّ قد اختصّ محمّد صلّى اللّه عليه

و آله من بين سائر الأنبياء عليهم السّلام بتلقّي الوحي و الكتاب، بأن جاوز مقامات الأنبياء كلّها، و جاوز منازلهم كلّهم، في السّماوات السّبع دون البلوغ إلى مقام الأفق الأعلى أو أدنى.

(16- 20)

______________________________

(1)- النّجم/ 13- 18.

(2)- الشّعراء/ 192- 196.

(3)- العلق/ 1- 5.

(4)- طه/ 10- 14.

(5)- التّوبة/ 6.

نصوص في علوم القرآن، ص: 255

و نصّه أيضا في «شرح أصول الكافي» [حقيقة إنزال القرآن]

و أمّا قوله عليه السّلام: «لقد ختم اللّه بكتابكم الكتب، و ختم بنبيّكم الأنبياء» فوجه ذلك مع ما دلّ عليه من الشّواهد السّمعية و الآيات القرآنيّة إنّ النّفوس و الغرائز من زمن نزول آدم و ابتداء خلق العالم في التّرقّي دائما، بحسب قابليّاتها و استعداداتها و الارتقاء من حضيض النّقص إلى ذروة الكمال، و الارتفاع من مهوى البعد و أرض السّفالة إلى بقاع الرّفعة و سماء القرب من المبدع المتعال.

و ذلك ببعثة الأنبياء و نزول الملائكة بالكتب و الصّحف المنزلة عليهم من ملكوت السّماء؛ لتعليم الأمم و هدايتهم، و تخليصهم عن القيود و التعلّقات، و تكميل نفوسهم بأنوار العلوم و المعارف و الآيات، و كلّما زادوا في الاستعداد وصفت أذهانهم بالتّلطيف و التّأديب استعدّوا و استحقّوا لشريعة جديدة، و أحكام أخرى ناسخة لما سبق من الأحكام، و هكذا إلى أن انتهت الشّرائع و الأديان إلى شريعة لا أكمل منها، و دين لا أتمّ منه و هو الإسلام؛ لقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «1» الآية. و بلغت الكتب المنزلة إلى كتاب هو كلام اللّه النّازل بالحقّ على قلب عبده، كما قال: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ «2»، و قال: نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ «3»، أي نزّل حقائق القرآن و أنوار الكتاب على قلبك بالحقيقة، متجلّية بسرّك و روحك، لا صورة ألفاظ مكتوبة على ألواح

أحجار مقروءة كلّ قارئ سريانيّة أو عبرانيّة، و كما قال: وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ «4»، يعني نزل بالحقيقة لا بالصّورة فقط.

______________________________

(1)- المائدة/ 3.

(2)- آل عمران/ 3.

(3)- البقرة/ 97.

(4)- الإسراء/ 105.

نصوص في علوم القرآن، ص: 256

ثمّ أخبر عن حقيقة الكتاب الّذي كلام الحقّ بقوله: وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا «1»، إشارة إلى أنّ تعليم القرآن بأن يتجلّى نور الكلام «2» الّذي هو حقيقة القرآن على قلب من يشاء من عباده.

و من علّمه الرّحمن القرآن «3» بهذا التّعليم يكون عليه من اللّه فضلا عظيما، كما قال بعد امتنانه على عباده ببعثة الرّسول، و تعليمه إيّاهم الكتاب و الحكمة: وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ «4».

كما قال لحبيبه بعد تعليمه: وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً «5».

فمن ذلك الفضل العظيم في حقّه أن نزّل على قلبه حقيقة القرآن قبل أن نزّل صورة الكتاب و الكلام على سمعه، و صورة المتكلّم و هو الملك على بصره، و قال: وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ* مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ «6»، يعني لا تظنّنّ يا محمّد! أنّ إنزال الكتب الأخرى على الأنبياء كان كتنزيل القرآن بالحقّ و الحقيقة على قلبك، فيكاشف عند تجلّي أنواره و حقائق أسراره الّتي بيني و بينك في مقام أو أدنى؛ حيث لا يطّلع عليه ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل.

و إنّما أنزلت الكتب على الأنبياء عليهم السّلام بالصّورة على ظواهرهم مكتوبة في صحائف و ألواح، يقرأها كلّ قارئ، و يستوي في هداها الأنبياء و الأمم؛ لقوله:

______________________________

(1)- الشّورى/ 52.

(2)- مرتبة الكلام

مرتبة الصّنع، و الصّنع صفة الصّانع، و مرتبة الكتاب مرتبة المصنوع، و المصنوع لا يكون صفة للصّانع، إنّ اللّه لا يوصف بخلقه.

(3)- فيه قال تعالى: (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ) فإنّ الإنسان الكامل الختميّ صلّى اللّه عليه و آله خلق و يخلق بالقرآن، و القرآن هو البيان؛ لأنّه بيان كلّ شي ء. و في الآية النّشر على ترتيب اللّفّ، فيه سرّ عظيم، فتلطّف لئلّا يفوت عنك سرّ سيرة كريمة (و ما ترى فى خلق الرّحمن من تفاوت).

(4)- الجمعة/ 2 و 3.

(5)- النّساء/ 113.

(6)- آل عمران/ 3 و 4.

نصوص في علوم القرآن، ص: 257

هُدىً لِلنَّاسِ عمّهم فيه؛ لأنّ معظم ما في التّوراة الأحكام الظّاهرة، و كنت مخصوصا بالهداية و أهل بيت نبوّتك عند تجلّي أنوار القرآن على قلبك، فينعكس منه على قلوبهم للقرابة و المناسبة المعنويّة و الصّوريّة دون الصّوريّة فقط، كما قال: وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا «1».

ثمّ قال مؤكّدا لمعناه و مؤيّدا لفحواه: وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ ... «2»، سمّاه الفرقان كما سمّاه القرآن كلّ منهما من جهة أخرى، فالقرآن للمقام الجمعيّ و العلم الإجماليّ، و هو المسمّى عندهم بالعقل النّفسانيّ المنبعث من العقل البسيط انبعاث القدر من القضاء، و القضاء من العناية؛ لأنّ العقل القرآنيّ كلّ الأشياء كما مرّت الإشارة إليه.

و أيضا سمّي القرآن فرقانا؛ لحصول الفرق بين تنزيله على قلب رسول الأمّيّ و بين إنزال الكتب على ظاهر الأنبياء أو نفوسهم، و كذا الفرق متحقّق بين تعلّمه القرآن و بين تعلّمهم الكتب، فإنّهم كانوا يتدارسون الكتب و النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يتخلّق بالقرآن، فإن أفاد لهم الحكمة فقد أفاد له أن أوتي جوامع

الكلم، و به فضّل على سائر الأنبياء و بخمس خصال أخرى؛ لقوله: «فضّلت على الأنبياء بستّ» و عدّ من جملتها بقوله: «أوتيت جوامع الكلم»، فإن كانت الكتب يتصرّف فيهم، بأن يكون الكتاب مع أحدهم نورا من اللّه يجي ء به إلى قومه ليكون هدى لهم، كما قال تعالى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً «3». (2: 458- 460)

______________________________

(1)- الشّورى/ 52.

(2)- آل عمران/ 4.

(3)- الأنعام/ 91.

نصوص في علوم القرآن، ص: 258

الفصل الحادي و الثّلاثون نصّ ملّا صالح المازندرانيّ (م: 1081 ه) في «شرح جامع الكافيّ، الأصول و الرّوضة»

حم* وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ الدّخان/ 1- 3

و المراد بالكتاب المبين القرآن، و باللّيلة المباركة ليلة القدر، و بإنزاله فيها ابتداء إنزاله، أو إنزال كلّه فيها إلى السّماء الدّنيا، ثمّ إنزاله نجوما إلى الأرض. و بالأمر الحكيم الأمر المحكم المشتمل على الحكمة، و بالإرسال إرسال الملائكة في ليلة القدر ما دامت الدّنيا إلى من يتولّى أمور الخلق، و يحكم بينهم بالعدل. (5: 400)

قوله: «لمّا أمر اللّه تعالى هذه الآيات أن يهبطن إلى الأرض، تعلّقن بالعرش» «1»، أي توسّلن بعلم اللّه تعالى بما يقع في دار الغرور و عالم السّرور، أو تعلّقن بالعرش الجسمانيّ الّذي هو مطاف الملائكة المقرّبين، و قد مرّ أنّ القرآن يتصوّر بمثل جسدانيّ و هيكل إنسانيّ، فنسبة التّعلّق إليه صحيحة. و هنا شي ء لا بدّ في توضيحه من تقديم مقدّمة، و هي:

أنّه روي أنّ القرآن نزل جملة واحدة في أوّل ليلة من شهر رمضان، و أنّه نزل إلى الأرض تدريجا لا جملة واحدة، فقال السّيّد المحقّق ابن طاوس: إنّه نزل جملة واحدة من بعض

______________________________

(1)- هذه العبارة و نظائرها الّتي تكون بين القوسين، شطر من روايات الكافي، المنقولة عن الإمام الصّادق (عليه السّلام).

نصوص في علوم القرآن، ص: 259

المقامات العالية بأمر اللّه جلّ شأنه إلى

مقام آخر، ثمّ نزل من هذا المقام تدريجا إلى الأرض، فلا منافاة بين نزوله جملة و نزوله تدريجا.

... فنقول: يحتمل أن يراد بهبوط هذه الآيات هبوطها أوّل مرّة، و هو هبوطها في ضمن الكلّ. و قوله: (إلى الأرض) باعتبار أنّ هذا الهبوط آيل إلى هبوطها إلى الأرض بالآخرة و سبب له في الجملة، و حينئذ فالظّاهر من قوله: «يتلوكنّ» تلاوة مجموعها من حيث المجموع و ترتّب الجزاء المذكور، أعني قوله: «نظرت إليه ...» على تلاوة المجموع لا على تلاوة كلّ واحدة منها، و يحتمل أن يراد بهبوطها هبوطها مرّة ثانية إلى الأرض، و ظاهر أنّ هذا الهبوط كان تدريجيّا و أنّ هبوط هذه الآيات لم يكن دفعة واحدة، و لم ينقل أحد حينئذ، فالظّاهر أنّ الجزاء المذكور يترتّب على تلاوة كلّ واحدة على حدة، إذ الظّاهر حينئذ أنّ زمان تعلّق كلّ واحدة بالعرش غير زمان تعلّق الأخرى به، و كذلك الوحي إليها بذلك الجزاء غير الوحي إلى الأخرى به، فليتأمّل. (11: 48)

قوله: «و إنّما أنزل القرآن في عشرين سنة» الغرض منه بيان طول زمان النّزول لا تحديد زمانه بحسب الواقع، أو أهمل ذكر الكسر بحسب المتعارف، و إلّا فهو أنزل في ثلاث و عشرين سنة.

قوله: «و أنزل القرآن في ثلاث و عشرين من شهر رمضان» هذا مع قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1» دليل واضح على أنّ ليلة القدر ثلاث و عشرين من شهر رمضان، و يدلّ عليه روايات أخر. (11: 62)

______________________________

(1)- القدر/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 260

الفصل الثّاني و الثّلاثون نصّ الطّريحيّ (م: 1085 ه) في «مجمع البحرين»

وَ النَّجْمِ إِذا هَوى ... النّجم/ 1

قيل: كان ينزل القرآن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نجوما، أي نجما نجما، فأقسم اللّه بالنّجم إذا نزل. و قيل:

هو قسم في النّجم إذا هوى، أي سقط في الغرب. (6: 173)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ القدر/ 1

قال الشّيخ أبو علي: الهاء كناية عن القرآن ... [و ذكر كما تقدّم عنه، ثمّ قال:]

فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، أي ليلة الشّرف و الخطر و عظم الشّأن، من قولهم: رجل له قدر عند النّاس، أي منزلة و شرف ...

قيل: سميّت ليلة القدر لأنّه أنزل فيها كتاب ذو قدر إلى رسول؛ لأجل أنّها ذات قدر، على يدي ملك ذي قدر.

و قيل: لأنّ اللّه تعالى قدّر فيها إنزال القرآن.

و قيل: سميّت بذلك لأنّ الأرض تضيق فيها بالملائكة، من قوله: وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ «1»، و هو منقول عن الخليل بن أحمد.

______________________________

(1)- الطّلاق/ 7.

نصوص في علوم القرآن، ص: 261

ثمّ قال: و اختلفوا في تحقيق استمرارها و عدمه، فذهب قوم إلى أنّها إنّما كانت على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ رفعت، و قال آخرون: لم ترفع، بل هي إلى يوم القيامة ... [إلى أن قال]: و جمهور العلماء في أنّها في شهر رمضان في كلّ سنة.

و هذا هو الحقّ، يعلم ذلك من مذهب أهل البيت: بالضّرورة، و لا خلاف بين أصحابنا في انحصارها في ليلة تسعة «1». (3: 448- 449)

إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ القيامة/ 17- 19

إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ أي جمعه في صدرك و إثبات قراءته. فَإِذا قَرَأْناهُ جعل قراءة جبرئيل قراءته. قوله تعالى: فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، أي فكن مقفيا له فيه، فهو مصدر مضاف إلى المفعول أي قراءتك إيّاه.

قوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى «2» الإقراء: الأخذ على القارئ بالاستماع لتقويم الزّلل، و القارئ: التّالي، و أصله الجمع؛ لأنّه يجمع الحروف، أي سنأخذ عليك قراءة القرآن فلا تنسى ذلك. و معناه

سيقرأ عليك جبرئيل بأمرنا فتحفظ فلا تنساه، و النّسيان: ذهاب المعنى عن النّفس، و نظيره السّهو، و نقيضه الذّكر، كذا ذكره الشّيخ أبو عليّ. (1: 336)

______________________________

(1)- هكذا، و لعلّه يريد في ليلة تسع عشرة.

(2)- الأعلى/ 6.

نصوص في علوم القرآن، ص: 262

الفصل الثّالث و الثّلاثون نصّ الفيض الكاشانيّ (م: 1091 ه) في «تفسيره الصّافيّ»

نبذ ممّا جاء في زمان نزول القرآن و تحقيق ذلك

[بعد أن حكى روايات عديدة كما تقدّم عن الكلينيّ، قال:]

أقول: و ذلك لأنّ في ليلة القدر ينزل كلّ سنة من تبيين القرآن و تفسيره ما يتعلّق بأمور تلك السّنة إلى صاحب الأمر عليه السّلام، فلو لم يكن ليلة القدر لم ينزّل من أحكام القرآن ما لا بدّ منه في القضايا المتجدّدة، و إنّما لم ينزل ذلك إذا لم يكن من ينزل عليه، و إذا لم يكن من ينزّل عليه لم يكن قرآن؛ لأنّهما متصاحبان، لن يفترقا حتّى يردا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حوضه، كما ورد في الحديث المتّفق عليه، و قد مضى معنى تصاحبهما.

و المستفاد من مجموع هذه الأخبار، و خبر إلياس الّذي أورده في الكافي في باب شأن إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1» و تفسيرها من كتاب «الحجّة» أنّ القرآن نزل كلّه جملة واحدة في ليلة ثلاث و عشرين من شهر رمضان إلى البيت المعمور، و كأنّه أريد به نزول معناه على قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، كما قال اللّه نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ «2»، ثمّ نزل في طول عشرين سنة نجوما من باطن قلبه إلى ظاهر لسانه، كلّما أتاه جبرئيل عليه السّلام بالوحي

______________________________

(1)- القدر/ 1.

(2)- الشّعراء/ 191.

نصوص في علوم القرآن، ص: 263

و قرأه عليه بألفاظه، و أنّ معنى إنزال القرآن في ليلة القدر في كلّ سنة إلى صاحب الوقت إنزال بيانه

بتفصيل مجمله، و تأويل متشابهه، و تقييد مطلقه، و تفريق محكمه من متشابهه.

و بالجملة تتميم إنزاله بحيث يكون هدى للنّاس و بيّنات من الهدى و الفرقان، كما قال اللّه سبحانه: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، يعني في ليلة القدر منه، هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ «1»، تثنية لقوله عزّ و جلّ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أي محكم أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ «2».

فقوله: فِيها يُفْرَقُ، و قوله: وَ الْفُرْقانِ معناهما واحد، فإنّ الفرقان هو المحكم الواجب العمل به، كما مضى في الحديث. و قد قال تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ، أي حين أنزلناه نجوما، فإذا قرأناه عليك حينئذ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، أي جملته ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ «3» في ليلة القدر، بإنزال الملائكة و الرّوح فيها عليك و على أهل بيتك من بعدك، بتفريق المحكم من المتشابه، و بتقدير الأشياء، و تبيين أحكام خصوص الوقائع الّتي تصيب الخلق في تلك السّنة إلى ليلة القدر الآتية.

قال في «الفقيه» تكامل نزول القرآن ليلة القدر، و كأنّه أراد به ما قلناه. و بهذا التّحقيق حصل التّوفيق بين نزوله تدريجا و دفعة، و استرحنا من تكلّفات المفسّرين. (1: 56- 57)

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- الدّخان/ 3 و 4.

(3)- القيامة/ 17.

نصوص في علوم القرآن، ص: 264

الفصل الرّابع و الثّلاثون نصّ البحرانيّ (م: 1107 ه) في تفسيره: «البرهان في تفسير القرآن»

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ البقرة/ 185

محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد اللّه بن المغيرة، عن عمرو الشّاميّ، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «إنّ الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرا في كتاب اللّه يوم خلق السّماوات و الأرض، فغرّة الشّهور شهر اللّه (عزّ ذكره)، و هو شهر رمضان، و قلب

شهر رمضان ليلة القدر، و نزل القرآن في أوّل ليلة من شهر رمضان، فاستقبل الشّهر بالقرآن».

عنه عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه و عليّ بن محمّد، عن القاسم بن محمّد، عن سليمان بن داود، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام ... [و ذكر كما تقدّم عن الكلينيّ].

عنه عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، بن أبي نصر، عن هشام بن سالم، عن سعد، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: كنّا عنده ثمانية رجال، فذكر رمضان، فقال: «لا تقولوا هذا رمضان و لا ذهب رمضان و لا جاء رمضان، فإنّ رمضان اسم من أسماء اللّه عزّ و جلّ لا يجي ء و لا يذهب، و إنّما يجي ء و يذهب الزّائل، و لكن قولوا: شهر رمضان، فالشّهر

نصوص في علوم القرآن، ص: 265

مضاف إلى الاسم، و الاسم اسم اللّه (عزّ ذكره)، و هو الشّهر الّذي أنزل فيه القرآن جعله مثلا وعيدا».

و عنه عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن سنان و غيره عمّن ذكره، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن القرآن و الفرقان، أ هما شيئان أو شي ء واحد؟ فقال عليه السّلام: «القرآن جملة الكتاب، و الفرقان المحكم الواجب العمل به».

الشّيخ في التّهذيب بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمّد، عن عليّ، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «نزلت التّوراة في ستّ مضين من شهر رمضان، و أنزل الإنجيل في اثنتي عشرة مضت من شهر رمضان، و نزل الزّبور في ثمان عشرة مضت من شهر رمضان، و أنزل القرآن في ليلة القدر».

العيّاشيّ، عن الحرث البصريّ، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: قال في

آخر شعبان: «إنّ هذا الشّهر المبارك الّذي أنزلت فيه القرآن، و جعلته هدى للنّاس و بيّنات من الهدى و الفرقان، قد حضر فسلّمنا فيه، و سلّمه لنا، و سلّمه منّا في يسر منك و عافية».

عليّ بن إبراهيم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سألته عن شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... [و ذكر كما تقدّم عن الفيض الكاشانيّ].

أبو عليّ الطّبرسيّ، قال: روى الثّعلبيّ بإسناده عن أبي ذرّ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال.

«أنزلت صحف ...» [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ].

و روى عليّ بن إبراهيم في تفسيره قال: روي عن العالم عليه السّلام أنّه قال: «نزلت صحف إبراهيم عليه السّلام أوّل شهر رمضان و نزلت التّوراة لستّ خلون من شهر رمضان، و نزل الإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، و نزل القرآن لأربع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان. (1: 182- 183)

وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً طه/ 114.

عليّ بن إبراهيم ... قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا نزل عليه القرآن يبدأ بقراءته قبل نزول تمام الآية و المعنى، فأنزل اللّه وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، أي

نصوص في علوم القرآن، ص: 266

يفرغ من قراءته، وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً. (3: 45)

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً الفرقان/ 1

ابن بابويه بإسناده عن يزيد بن سلّام، أنّه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال له: لم سمّي الفرقان فرقانا؟ قال: «لأنّه متفرّق الآيات و السّور، نزلت في غير الألواح، و غيره من الصّحف و التّوراة و الإنجيل و الزّبور أنزلت كلّها جملة في الألواح و الورق».

المفيد

في «الاختصاص» في حديث عبد اللّه بن سلّام لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: فأخبرني هل أنزل اللّه عليك كتابا؟ قال: نعم، قال: و أيّ كتاب هو؟ قال: «الفرقان»، قال: و لم سمّاه ربّك فرقانا؟ قال: «لأنّه متفرّق الآيات و السّور، أنزل في غير الألواح، و غيره من الصّحف و التّوراة و الإنجيل و الزّبور أنزلت كلّها جملة في الألواح و الأوراق»، قال: صدّقت يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله. (3: 155)

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ الأعلى/ 6.

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى، أي نعلّمك فلا تنسى، ثمّ استثنى فقال: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ لأنّه لا يؤمن عليه النّسيان اللّغويّ و هو التّرك، لأنّ الّذي لا ينسى هو اللّه.

سعد بن عبد اللّه، عن أحمد بن محمّد بن عيسى و محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب و غيرهما، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن هشام بن سالم، عن سعد بن ظريف الخفّاف، قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: ما تقول فيمن أخذ، عنكم علما فنسيه؟ قال: «لا حجّة عليه، إنّما الحجّة على من سمع منّا حديثا فأنكره، أو بلغه فلم يؤمن به فكفر، و أمّا النّسيان فهو موضوع عنكم، إنّ أوّل سورة نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «1» فنسيها، لم يلزمه حجّة في نسيانه، و لكنّ اللّه تعالى أمضى له ذلك، ثمّ قال: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. (4: 450)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ القدر/ 1.

______________________________

(1)- الأعلى/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 267

عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمرو بن أذينة، عن الفضيل و زرارة و محمّد بن مسلم، عن حمران أنّه سأل أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «1»، قال: «نعم ليلة القدر، و هي في كلّ سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر، فلم ينزل القرآن إلّا في ليلة القدر» ...

عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن أحمد، عن السّيّاريّ، عن بعض أصحابنا، عن داود بن فرقد، قال: حدّثني يعقوب، قال: سمعت رجلا يسأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ليلة القدر، فقال: أخبرني عن ليلة القدر، كانت أو تكون في كلّ عامّ؟ فقال أبو عبد

اللّه عليه السّلام: لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن». (4: 486)

______________________________

(1)- الدّخان/ 3.

نصوص في علوم القرآن، ص: 268

الفصل الخامس و الثّلاثون نصّ العلّامة المجلسيّ (م: 1111 ه) «1» في «بحار الأنوار»

البعثة و تاريخه

ذكر عليّ بن إبراهيم: «و هو من أجلّ رواة أصحابنا» أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا أتى له سبع و ثلاثون سنة كان يرى في نومه كأنّ آتيا أتاه [و ذكر كما سيأتي عنه في الجزء الثّاني من هذا الكتاب، باب بدء الوحي، رقم الحديث: 2]. (18: 184)

عليّ، عن أبيه، عن القاسم، عن جدّه الحسن، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «لا تدع صيام يوم سبع و عشرين من رجب، فإنّه اليوم الّذي نزلت فيه النّبوّة على محمّد صلّى اللّه عليه و آله» «2».

سهل، عن بعض أصحابنا، عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام، قال: «بعث اللّه عزّ و جلّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله رحمة للعالمين في سبع و عشرين من رجب ...» «3».

المفيد، عن ابن قولويه، عن محمّد بن الحسن الجوهريّ، عن الأشعريّ، عن البزنطيّ، عن أبان بن عثمان، عن كثير النّوا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في اليوم السّابع و العشرين من رجب نزلت النّبوّة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «4»».

عليّ بن محمّد رفعه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «يوم سبعة و عشرين من رجب نبّئ

______________________________

(1)- و قيل: 1110.

(2)- فروع الكافي 4: 148.

(3)- المصدر السّابق.

(4)- أمالي ابن الشّيخ: 28.

نصوص في علوم القرآن، ص: 269

فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» الحديث.

في علل الفضل عن الرّضا عليه السّلام قال: «فإن قال: فلم جعل الصّوم في شهر رمضان خاصّة دون سائر الشّهور؟ قيل: لأنّ شهر رمضان هو الشّهر الّذي أنزل اللّه تعالى فيه القرآن»

إلى قوله عليه السّلام: «و فيه نبّئ محمّد صلّى اللّه عليه و آله». «1»

هذا الخبر مخالف لسائر الأخبار المستفيضة، و لعلّ المراد به معنى آخر ساوق لنزول القرآن أو غيره من المعاني المجازيّة، أو يكون المراد بالنّبوّة في سائر الأخبار الرّسالة، و تكون النّبوّة فيه بمعنى نزول الوحي عليه صلّى اللّه عليه و آله فيما يتعلّق بنفسه كما سيأتي تحقيقه، و يمكن حمله على التّقية، فإنّ العامّة قد اختلفوا في زمان بعثته صلّى اللّه عليه و آله على خمسة أقوال؛

الأوّل: لسبع عشرة خلت من شهر رمضان.

الثّاني: لثمان عشرة خلت من رمضان.

الثّالث: لأربع و عشرين خلت من شهر رمضان.

الرّابع: للثّاني عشر من ربيع الأوّل.

الخامس: لسبع و عشرين من رجب، و على الأخير اتّفاق الإماميّة. (18: 189- 190)

قرن إسرافيل برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاث سنين يسمع الصّوت و لا يرى شيئا، ثمّ قرن به جبرئيل عليه السّلام عشرين سنة، و ذلك حيث أوحى إليه فأقام بمكّة عشر سنين، ثمّ هاجر إلى المدينة، فأقام بها عشر سنين، و قبض صلّى اللّه عليه و آله و هو ابن ثلاث و ستّين سنة. «2» (18: 232)

قال المفيد؛ في سوانح اليوم السّابع و العشرين: و هو يوم المبعث.

روي عن ابن عبّاس و أنس بن مالك أنّهما قالا: أوحى اللّه عزّ و جلّ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم الاثنين السّابع و العشرين من شهر رجب و له أربعون سنة.

و قال ابن مسعود: إحدى و أربعون سنة.

و قيل بعث في شهر رمضان، لقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أي ابتدأ إنزاله في السّابع عشر أو الثّامن عشر انتهى كلام المفيد؛. (98: 200)

______________________________

(1)- عيون أخبار الرّضا

(ع): 261.

(2)- الاختصاص: 130.

نصوص في علوم القرآن، ص: 270

ابن عبّاس و مجاهد في قوله: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كما أنزلت التّوراة و الإنجيل، فقال اللّه تعالى: كَذلِكَ متفرّقا لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ «1» و ذلك أنّه كان يوحى في كلّ حادثة، و لأنّها نزلت على أنبياء يكتبون و يقرءون و القرآن نزل على نبيّ أمّيّ، و لأنّ فيه ناسخا و منسوخا، و فيه ما هو جواب لمن سأله عن أمور، و فيه ما هو إنكار لما كان، و فيه ما هو حكاية شي ء جرى، و لم يزل صلّى اللّه عليه و آله يريهم الآيات و يخبرهم بالمغيبات فنزل: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ «2» الآية، و معناه لا تعجل بقراءته عليهم حتّى أنزل عليك التّفسير في أوقاته كما أنزل عليك التّلاوة. (18: 199)

أمّا نزول القرآن في شهر رمضان فيكفي في البرهان قول اللّه (جلّ جلاله): شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «3».

و إنّما وردت في الحديث: أنّ نزوله كان في شهر الصّيام إلى السّماء الدّنيا، ثمّ نزل منها إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كما شاء جلّ جلاله في الأوقات و الأزمان. (98: 5)

أقول: في خبر المفضّل بن عمر الّذى مضى بطوله في كتاب الغيبة أنّه قال الصّادق عليه السّلام: يا مفضّل إنّ القرآن نزل في ثلاث و عشرين سنة، و اللّه يقول: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «4» و قال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ «5» و قال: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ «6».

قال المفضّل: يا

مولاى فهذا تنزيله الّذي ذكره اللّه في كتابه، و كيف ظهر الوحي في ثلاث و عشرين سنة؟ قال: نعم يا مفضّل أعطاه اللّه القرآن في شهر رمضان و كان لا يبلّغه إلّا في وقت استحقاق الخطاب، و لا يؤدّيه إلّا في وقت أمر و نهي فهبط جبرئيل عليه السّلام

______________________________

(1)- الفرقان/ 32.

(2)- طه/ 115.

(3)- البقرة/ 185.

(4)- البقرة/ 185.

(5)- الدّخان/ 3- 5.

(6)- الفرقان/ 32.

نصوص في علوم القرآن، ص: 271

بالوحي فبلّغ ما يؤمر به و قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ «1» فقال المفضّل: أشهد أنّكم من علم اللّه علمتم، و بقدرته قدرتم و بحكمه نطقتم، و بأمره تعملون. (92: 38).

[الرّدّ على ما اعترضه المفيد على قول الصّدوق]

[بعد أن حكى كلام الصّدوق و المفيد، حسب ما تقدّم، قال:] و أقول: أمّا الاعتراض الأوّل الّذي أورده قدس سرّه على الصّدوق رحمه اللّه فغير وارد؛ إذ ثبت بالأخبار المستفيضة أنّ جميع الكتب الّتي أنزلها اللّه تعالى على أنبيائه أثبته في اللّوح المحفوظ قبل خلق السّماء و الأرض، ثمّ ينزل منها بحسب المصالح في كلّ وقت و زمان.

و أمّا انطباقها على الوقائع المتأخّرة فلا ينافي ذلك؛ لأنّ اللّه تعالى عالم بما يتكلّمون، و يصدر منهم و يقع بينهم بعد ذلك، فأثبت في القرآن المثبت في اللّوح جواب جميع ذلك على وفق علمه الّذي لا يتخلّف، فالمضيّ إنّما يكون بالنّسبة إلى زمان التّبليغ إلى الخلق، فلا استبعاد في أن ينزل هذا الكتاب جملة على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يأمره بأن لا يقرأ على الأمّة شيئا منه إلّا بعد أن ينزل كلّ جزء منه في وقت معيّن يناسب تبليغه، و في واقعة معيّنة يتعلّق بها.

و أمّا تشبيه صاحب هذا القول بالمشبّهة القائلين بقدم كلام

اللّه فلا يخفى ما فيه؛ لأنّ صاحب هذا القول لا يقول بقدم القرآن المؤلّف من الحروف، و لا بكونه صفة قديمة للّه، قائمة بذاته تعالى، فأيّ مفسدة تلزم عليه.

و أمّا المشابهة في أنّه يمكن نفي القولين بتلك الآيات ففيه: أنّ نفي هذا المذهب السّخيف أيضا بتلك الآيات لا يتمّ، بل ثبت بطلانه بسائر البراهين الموردة في محالّها.

و أمّا الاعتراضات الّتي أوردها على تفسير الصّدوق للآية الكريمة فلعلّها مبنيّة على الغفلة عن مراده، فإنّ الظاهر أنّ الصّدوق؛ أراد بذلك الجمع بين الآيات و الرّوايات، و دفع ما يتوهّم من التّنافي بينها، لأنّه دلّت الآيات على نزول القرآن في ليلة القدر، و الظّاهر

______________________________

(1)- القيامة/ 18.

نصوص في علوم القرآن، ص: 272

نزول جميعه فيها، و دلّت الآثار و الأخبار على نزول القرآن في عشرين أو ثلاث و عشرين سنة، و ورد في بعض الرّوايات أنّ القرآن نزل في أوّل ليلة من شهر رمضان، و دلّ بعضها على أنّ ابتداء نزوله في المبعث، فجمع بينها بأنّ في ليلة القدر نزل القرآن جملة من اللّوح إلى السّماء الرّابعة، لينزل من السّماء الرّابعة إلى الأرض بالتّدريج، و نزل في أوّل ليلة من شهر رمضان جملة القرآن على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليعلم هو، لا ليتلوه على النّاس، ثمّ ابتداء نزوله آية آية و سورة سورة في المبعث أو غيره ليتلوه على النّاس، و هذا الجمع مؤيّد بالأخبار، و يمكن الجمع بوجوه أخر سيأتي تحقيقها في باب ليلة القدر و غيره.

فقوله رحمه اللّه: إنّ اللّه تعالى أعطى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله العلم جملة لا يعني به أنّه أعطاه بمحض النّزول إلى البيت المعمور ليرد عليه ما أورده، و

لا أنّ المراد بالنّزول إلى البيت المعمور أنّه علّمه النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و هذا منه؛ غريب، و أمّا اللّوح الّذي ذكره أوّلا أنّه يضرب جبين إسرافيل عليه السّلام فيحتمل أن يكون المراد به اللّوح المحفوظ، و يكون ذلك عند أوّل النّزول إلى البيت المعمور، أو يكون المراد اللّوح الّذي ثبت فيه القرآن في السّماء الرّابعة، و لعلّه بعد نظر إسرافيل في اللّوح على الوجهين يجد فيه علامة يعرف بها مقدار ما يلزمه إنزالها، أو يكون لوحا آخر ينقش فيه شي ء فشي ء عند إرادة الوحي، و لا ينافي انتقاش الأشياء فيه كونه ملكا، كما اعترض عليه المفيد رحمه اللّه، و إن كان بعيدا. (18: 253)

و نصّه أيضا في «الفرائد الطّريقة»

معنى نزول القرآن في ليلة القدر:

و قد نزل في ثلاث و عشرين سنة منجّما كما ذكره المفسّرون.

فقيل: المراد ابتداء نزوله.

و قيل: نزول جملته من اللّوح إلى السّفرة.

و قيل: إلى السّماء الدّنيا.

و قيل: كان ينزل مجموع ما ينزل في السّنة في ليلة القدر إلى السّفرة.

نصوص في علوم القرآن، ص: 273

و قال الصّدوق (رحمه اللّه) في الفقيه: تكامل نزول القرآن في ليلة القدر «1».

أقول: و يحتمل نزول جملته على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثمّ كان ينزّل بحسب المصالح منجّما.

[ثمّ ذكر رواية حفص بن غياث عن الكلينيّ، كما تقدّم عنه، ثمّ قال:]

أقول: هذا الخبر أيضا ممّا يدلّ على كون ليلة القدر ليلة ثلاث و عشرين. (ص: 73)

______________________________

(1)- من لا يحضره الفقيه 2: 99.

نصوص في علوم القرآن، ص: 274

الفصل السّادس و الثّلاثون نصّ البروسويّ (م: 1137 ه) في تفسيره: «روح البيان»

ما الحكمة في تعدّد مواطن نزول القرآن؟

إن قلت: ما الحكمة في تعدّد مواطن نزول القرآن و تكرّر مشاهده؛ مكّيا مدنيّا ليليّا نهاريّا سفريّا حضريّا صيفيّا شتائيّا نوميّا برزخيّا، يعني بين اللّيل و النّهار، أرضيّا سماويّا غاريّا ما نزل في الغار، يعني تحت الأرض، برزخيّا، ما نزل بين مكّة و المدينة، عرشيّا معراجيّا، ما نزل ليلة المعراج آخر سورة البقرة؟

الجواب: الحكمة في ذلك تشريف مواطن الكون كلّها بنزول الوحي الإلهيّ فيها، و حضور الحضرة المحمّديّة عندها، كما قيل: سرّ المعراج و الإسراء به، و سير المصطفى في مواطن الكون كلّها، كأنّ الكون و العرش و الجنان يسأل كلّ موطن بلسان الحال أن يشرّفه اللّه تعالى بقدوم قدم حبيبه، و تكتحل أعين الأعيان و الكبار بغبار نعال قدم سيّد السّادات، و مفخر موجودات الولاة، ما شمّ الكمون رائحة الوجود، و ما بدا من حضرة الكمون لمعة الشّهود، كما ورد بلسان القدس «لو لاك لما

خلقت الأفلاك». (1: 27)

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ... آل عمران/ 3

فإن قلت: لم قيل: نزّل الكتاب، و أنزل التّوراة و الإنجيل؟

قلت: لأنّ التّنزيل للتّكثير، و القرآن نزل منجّما، و نزل الكتابان جملة، و ذكر في آخر

نصوص في علوم القرآن، ص: 275

الآية الإنزال و أراد به من اللّوح المحفوظ إلى سماء الدّنيا جملة في ليلة القدر في شهر رمضان، و المراد هنا هو تنزيله إلى الأرض، ففي القرآن جهة الإنزال و التّنزيل. (2: 3) نصوص في علوم القرآن 275 و قال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة الفرقان/ 31 ..... ص : 275

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً الفرقان/ 31

فلو لا: تحضيضية بمعنى «هلّا»، و التّنزيل هنا مجرّد عن معنى التّدريج بمعنى أنزل، كخبّر بمعنى أخبر؛ لئلّا يناقض قوله: جُمْلَةً واحِدَةً، أي دفعة واحدة كالكتب الثّلاثة، أي التّوراة و الإنجيل و الزّبور، حال من القرآن؛ إذ هي في معنى مجتمعا، و هذا اعتراض حيرة و بهت لا طائل تحته؛ لأنّ الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو مفرّقا، و قد تحدّوا بسورة واحدة فعجزوا عن ذلك حتّى أخلدوا إلى بذل المهج و الأموال دون الإتيان بها، مع أنّ للتّفريق فوائد؛

منها: ما أشار إليه بقوله: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ، و «ذلك» إشارة إلى ما يفهم من كلامهم، أي مثل ذلك التّنزيل المفرّق الّذي قدحوا فيه نزّلناه لا تنزيلا مغايرا له؛ لنقوّي بذلك التّنزيل المفرّق فُؤادَكَ، أي قلبك، فإنّ فيه تيسيرا لحفظ النّظم، و فهم المعنى، و ضبط الأحكام و العمل بها.

أ لا ترى أنّ التّوراة أنزلت دفعة فشقّ العمل على بني إسرائيل، و لأنّه كلّما نزل عليه وحي جديد في كلّ أمر و حادثة ازداد هو قوّة قلب و بصيرة.

و بالجملة، إنزال القرآن منجّما فضيلة خصّ بها نبيّنا عليه السّلام

من بين سائر النّبيّين، فإنّ المقصود من إنزاله أن يتخلّق قلبه المنير بخلق القرآن و يتقوّى بنوره، و يتغذّى بحقائقه و علومه.

و هذه الفوائد إنّما تكمل بإنزاله مفرّقا، أ لا يرى أنّ الماء لو نزّل من السّماء جملة واحدة؛ لما كانت تربية الزّروع به مثلها، إذا نزل مفرّقا إلى أن يستوي الزّرع. (6: 208)

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ الشّعراء/ 192

و اعلم أنّ القرآن كلام اللّه و صفته القائمة به، فكساه الألفاظ بالحروف العربيّة، و نزله

نصوص في علوم القرآن، ص: 276

على جبرئيل، و جعله أمينا عليه؛ لئلا يتصرّف في حقائقه، ثمّ نزل به جبرئيل كما هو على قلب محمّد عليه السّلام كما قال: عَلى قَلْبِكَ، أي تلاه عليك يا محمّد حتّى وعيته بقلبك.

فخصّ القلب بالذّكر لأنّه محلّ الوعي و التّثبيت، و معدن الوحي و الإلهام، و ليس شي ء في وجود الإنسان يليق بالخطاب و الفيض غيره، و هو عليه السّلام مختصّ بهذه الرّتبة العليّة و الكرامة السّنيّة من بين سائر الأنبياء، فإنّ كتبهم منزلة في الألواح و الصّحائف جملة واحدة على صورتهم لا على قلوبهم، كما في التّأويلات النّجمية.

قال في كشف الأسرار: الوحي إذا نزل بالمصطفى ... [و ذكر كما تقدّم عن الميبديّ].

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ ...، ثمّ إذا انقطع ذاك، كان يقول: فينفصم عنّي و قد وعيته.

و في «الفتاوى الزّينبيّة»: سئل عن السّيّد جبريل، كم نزل على النّبيّ عليه السّلام؟ أجاب: نزل عليه أربعة و عشرين ألف مرّة على المشهور، انتهى. و في «مشكاة الأنوار»: نزل عليه سبعة و عشرين ألف مرّة، و على سائر الأنبياء لم ينزل أكثر من ثلاثة آلاف مرّة. (6: 306)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ الدّخان/ 3

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أي الكتاب المبين الّذي هو القرآن، و هو جواب القسم. (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) هي ليلة القدر، فإنّه تعالى أنزل القرآن في ليلة القدر من شهر رمضان من اللّوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا دفعة واحدة، و أملاه جبريل على السّفرة، ثمّ كان ينزّله على النّبيّ عليه السّلام نجوما، أي متفرّقا في ثلاث و عشرين سنة.

و الظّاهر أنّ ابتداء تنزيله إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و

آله أيضا كان في ليلة القدر؛ لأنّ ليلة القدر في الحقيقة ليلة افتتاح الوصلة، و لا بدّ في الوصلة من الكلام و الخطاب. و الحكمة في نزوله ليلا أنّ اللّيل زمان المناجاة، و مهبط النّفحات، و مشهد التّنزّلات، و مظهر التّجلّيّات، و مورد الكرامات، و محلّ الأسرار إلى حضرة الكبرياء. و في اللّيل فراغ القلوب بذكر حضرة المحبوب، فهو أطيب من النّهار عند المقرّبين و الأبرار. و وصف اللّيلة بالبركة لما أنّ نزول القرآن مستتبع للمنافع الدّينيّة و الدّنيويّة بأجمعها، أو لما فيها من تنزّل الملائكة و الرّحمة و إجابة الدّعوة و نحوها، و إلّا فأجزاء الزّمان متشابهة بحسب ذواتها و صفاتها، فيمتنع أن

نصوص في علوم القرآن، ص: 277

يتميّز بعض أجزائه عن بعض بمزيد القدر و الشّرف لنفس ذواتها، و على هذا فقس شرف الأمكنة، فإنّه لعارض في ذاتها. (8: 401)

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... القيامة/ 16- 19

لا تُحَرِّكْ بِهِ، أي بالقرآن لِسانَكَ ما دام جبريل يقرأ و يلقي عليك لِتَعْجَلَ بِهِ، أي بأخذه، أي لتأخذه على عجلة مخافة أن يتفلّت. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ في صدرك بحكم الوعد، بحيث لا يخفى عليك شي ء من معانيه. وَ قُرْآنَهُ بتقدير المضاف، أي إثبات قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت. فالقرآن مصدر بمعنى القراءة، كالغفران بمعنى المغفرة، مضاف إلى مفعوله. و القراءة ضمّ الحروف و الكلمات بعضها إلى بعض في التّرتيل، و ليس يقال ذلك لكل جمع؛ لا يقال: قرأت القوم، إذا جمعتهم. فَإِذا قَرَأْناهُ، أي أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل، و إسناد القراءة إلى نون العظمة للمبالغة في إيجاب التّأنّي.

فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، أي فاشرع فيه بعد فراغ جبريل منه بلا مهلة. و قال ابن عبّاس رضى اللّه عنه: فإذا جمعناه و أثبتناه

في صدرك فاعمل به. و قال الواسطيّ رحمه اللّه: جمعه في السّرّ و قراءته في العلانيّة. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ، أي بيان ما أشكل عليك من معانيه و أحكامه، و سمّي ما يشرح المجمل و المبهم من الكلام بيانا لكشفه عن المعنى المقصود إظهاره. و في ثُمَ دليل على أنّه يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب لا عن وقت الحاجة إلى العمل؛ لأنّه تكليف بما لا يطاق. قال أهل التّفسير: كان عليه السّلام إذا لقّن الوحي نازع جبريل القراءة، و لم يصبر إلى أن يتمّها؛ مسارعة إلى الحفظ و خوفا من أن يفلت منه، فأمر بأن يستنصت له ملقيا إليه قلبه و سمعه حتّى يقض إليه الوحي، كما قال تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ «1»، ثمّ يقضيه بالدّراسة إلى أن يرسخ فيه. و عن بعض العارفين أنّه قال: فيه إشارة إلى صحّة الأخذ عن اللّه بواسطة، كأنّه تعالى يقول: خذه عن جبريل كأنّك ما علمته إلّا منه، و لا تسابق بما عندك منّا من غير واسطة. و أكابر المحقّقين يسمّون هذه الجهة الّتي هي عدم الوسائط بالوجه الخاصّ، و الفلاسفة ينكرون هذا الوجه، و يقولون:

______________________________

(1)- طه/ 144.

نصوص في علوم القرآن، ص: 278

لا ارتباط بين الحقّ و الموجودات إلّا من جهة الأسباب و الوسائط، فليس عندهم أن يقول الإنسان: أخبرني ربّي، أي بلا واسطة، و هم مخطئون في هذا الحكم، فإنّه لمّا كان ارتباط كلّ ممكن بالحقّ من حيث الممكن من جهتين: جهة الوحدة و جهة الكثرة، وجب أن تكون جهة الوحدة بلا واسطة و هو الوجه الخاصّ، و جهة الكثرة بواسطة و هو الوجه العامّ.

و لمّا كان نبيّنا

عليه السّلام أكمل الخلق في جهة الوحدة؛ لكون أحكام كثرته و إمكانه مستهلكة بالكلّيّة في وحدة الحقّ و أحكام وجوبه، كان يأخذ عن اللّه بلا واسطة، أي من الوجه الخاصّ، و كان ينطبع في قلبه ما يريد الحقّ أن يخبره به، فإذا جاءه الكلام من جهة الوسائط، أي من الوجه العامّ بصور الألفاظ و العبارات الّتي استدعتها أحوال المخاطبين كأن يبادر إليه بالنّطق به؛ لعلمه بمعناه بسبب تلقّيه إيّاه من حيث اللّاواسطة، لينفّس عن نفسه ما يجده من الكربة و الشّدّة الّتي يلقاها مزاجه من التّنزّل الرّوحانيّ، فإنّ الطّبيعة تنزعج من ذلك للمباينة الثّابتة بين المزاج و بين الرّوح الملكيّ. فعرف الحقّ نبيّنا عليه السّلام أنّ القرآن و إن أخذته عنّا من حيث معناه بلا واسطة فإنّ إنزالنا إيّاه مرّة أخرى من جهة الوسائط يتضمّن فوائد زائدة منّا مراعاة إفهام المخاطبين به؛ لأنّ الخلق المخاطبين بالقرآن حكم ارتباطهم بالحقّ إنّما هو من جهة سلسلة التّرتيب و الوسائط كما هو الظّاهر بالنّسبة إلى أكثرهم، فلا يفهمون عن اللّه إلّا من تلك الجهة. و منها معرفتك اكتساء تلك المعاني العبارة الكاملة، و تستجلي في مظاهرها من الحروف و الكلمات، فتجمع بين كمالاته الباطنة و الظّاهرة، فيتجلّى بها روحانيّتك و جسمانيّتك، ثمّ يتعدّى الأمر منك إلى امّتك، فيأخذ كلّ منهم حصّته منه علما و عملا.

ففي قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ الخ: تعليم و تأديب، أمّا التّعليم فما أشير إليه من أنّ باب جهة الوحدة مسدود على أكثر النّاس، فلا يفهمون عن اللّه إلّا من الجهة المناسبة لحالهم، و هي جهة الوسائط و الكثرة الإمكانيّة. و أمّا التّأديب فإنّه لمّا كان الآتي بالوحي من اللّه جبريل فمتى بودر

بذكر ما أتى به كان كالتّعجيل له و إظهار الاستغناء عنه، و هذا خلل في الأدب بلا شكّ، سيّما مع المعلّم المرشد.

و من هذا التّقرير عرف أنّ قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ الخ واقع في البين بطريق

نصوص في علوم القرآن، ص: 279

الاستطراد، فإنّه لمّا كان من شأنه عليه السّلام الاستعجال عند نزول كلّ وحي على ما سبق من الوجه، و لم ينه عنه إلى أن أوحى إليه هذه السّورة من أوّلها إلى قوله: وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ «1» و عجل في ذلك كسائر المرّات نهي عنه بقوله: لا تُحَرِّكْ الخ ثمّ عاد الكلام إلى تكملة ما ابتدئ به من خطاب النّاس. و نظيره ما لو ألقى المدرّس على الطّالب مسألة، و تشاغل الطّالب بشي ء لا يليق بمجلس الدّرس، فقال: ألق إليّ بالك و تفهّم ما أقول، ثمّ كمّل المسألة. يقول الفقير (أيّده اللّه القدير): لاح لي في سرّ المناسبة وجه لطيف أيضا، و هو أنّ اللّه تعالى بيّن قبل قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ الخ جمع العظام و متفرّقات العناصر الّتي هي أركان ظاهر الوجود، ثمّ انتقل إلى جمع القرآن و أجزائه الّتي هي أساس باطن الوجود، فقال بعد قوله: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ «2»، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ «3»، فاجتمع الجمع بالجمع، و الحمد للّه تعالى ...

و في التّأويلات النّجميّة: اعلم أنّ كلّ ما استعدّ لإطلاق الشّيئية عليه فله ملك و ملكوت؛ لقوله تعالى: بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ «4» و القرآن أشرف الأشياء و أكملها، فله أيضا ملك و ملكوت. فأمّا ملكه فهو الأحكام و الشّرائع الظّاهرة الّتي تتعلّق بمصالح الأمّة من العبادات الماليّة و البدنيّة و الجنايات و الوصايات و أمثالها. و

أمّا ملكوته فهو الأسرار الإلهيّة و الحقائق اللّاهوتيّة الّتي تتعلّق ببواطن خواصّ الأمّة و أخصّ الخواصّ، بل بخلاصة أخصّ الخواصّ من المكاشفات و المشاهدات السّرّيّة و المعاينات الرّوحية، و لكلّ واحد من الملك و الملكوت مدركات يدرك بها لا غير؛ لأنّ الوجدانيّات و الذّوقيّات لا تسعها ألسنة العبارات، لأنّها منقطع الإشارات. فقوله لا تُحَرِّكْ الخ يشير إلى عدم تعبيره بلسان الظّاهر عن أسرار الباطن و الحقائق الآبية عن تصرّف العبارات فيها بالتّعبير عنها، و أنّ مظهره الجامع جامع بين ملك القرآن و ملكوته، و هو عليه السّلام يتبع بظاهره ملكه

______________________________

(1)- القيامة/ 15.

(2)- القيامة/ 3.

(3)- القيامة/ 17.

(4)- المؤمنون/ 88.

نصوص في علوم القرآن، ص: 280

و بباطنه ملكوته. نسأل اللّه سبحانه أن يجعلنا من المتّبعين للقرآن في كلّ زمان.

(10: 247- 249)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ القدر/ 1

النّون للعظمة، أو للدّلالة على الذّات مع الصّفات و الأسماء، و الضّمير للقرآن؛ لأنّ شهرته تقوم مقام تصريحه باسمه و إرجاع الضّمير إليه، فكأنّه حاضر في جميع الأذهان، و عظّمه بأن أسند إنزاله إلى جنابه، مع أنّ نزوله إنّما يكون بواسطة الملك، و هو جبرائيل على طريقة القصر بتقديم الفاعل المعنويّ، إلّا أنّه اكتفى بذكر الأصل عن ذكر التّبع. قال في بعض التّفاسير: إِنَّا أَنْزَلْناهُ مبتدأ أو خبر في الأصل، بمعنى نحن أنزلناه فأدخل «إنّ» للتّحقيق، فاختير اتّصال الضّمير للتّخفيف. و معنى صيغة الماضي إنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، و قضينا به و قدّرناه في الأزل.

ثمّ إنّ الإنزال يستعمل في الدّفعيّ، و القرآن لم ينزّل جملة واحدة بل أنزل منجّما مفرّقا في ثلاث و عشرين سنة، و هذه السّورة من جملة ما أنزل. و جوابه: أنّ المراد أنّ جبرائيل نزل به جملة واحدة في ليلة

القدر من اللّوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا، و أملاه على السّفرة، أي الملائكة الكاتبين في تلك السّماء، ثمّ كان ينزّل على النّبيّ عليه السّلام منجّما على حسب المصالح.

و كان ابتداء تنزيله أيضا في تلك اللّيلة. و فيه إشارة إلى أنّ بيت العزّة أشرف المقامات السّماويّة بعد اللّوح المحفوظ؛ لنزول القرآن منه إليه، و لذلك قيل: بفضل السّماء الأولى على أخواتها؛ لأنّها مقرّ الوحي الرّبانيّ. و قيل: لشرف المكان بالمكين، و كلّ منهما وجه، فإنّ السّلطان إنّما ينزل على أنزه مكان، و لو فرضنا نزوله على مسبخة لكفى نزوله هناك شرفا لها، فالمكان الشّريف يزداد شرفا بالمكين الشّريف كما سبق في سورة البلد.

ففي نزول القرآن بالتّدريج إشارة إلى تعظيم الجناب المحمّديّ، كما تدخل الهدايا شيئا بعد شي ء على أيدي الخدّام تعظيما للمهدى إليه بعد التّسوية بينه و بين موسى عليهما السّلام بإنزاله جملة إلى بيت العزّة. و في التّدريج أيضا تسهيل للحفظ و تثبيت لفؤاده كما قال تعالى:

نصوص في علوم القرآن، ص: 281

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ «1».

و كلام اللّه المنزل قسمان: القرآن و الخبر القدسيّ ... [و ذكر كما تقدّم عن السّيوطيّ، ثمّ قال:]

و من الأسرار معنى، فكيف يقوم لفظ الغير و معناه مقام حرف القرآن، ثمّ إنّ اللّوح المحفوظ قلب هذا التّعيين، و لكن قلب الإنسان ألطف منه؛ لأنّه زبدته و أشرفه، لأنّ القرآن نزل به الرّوح الأمين على قلب النّبيّ المختار.

و هنا سؤال و هو: أنّ الملائكة بأسرهم صعقوا ليلة نزول القرآن من حضرة اللّوح المحفوظ إلى حضرة بيت العزّة، فما وجهه؟

و الجواب: أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و

سلم عندهم من أشراط القيامة، و القرآن كتابه، فنزوله دلّ على قيام السّاعة، فصعقوا هيبة منه و إجلالا لكلامه، و حضرة وعده و وعيده.

و في بعض الأخبار: أنّ اللّه تعالى إذا تكلّم بالرّحمة تكلّم بالفارسيّة، و المراد بالفارسيّة لسان غير العرب سريانيّا كان أو عبرانيّا، و إذا تكلّم بالعذاب تكلّم بالعربيّة، فلمّا سمعوا العربيّة المحمّديّة ظنّوا أنّه عقاب، فصعقوا، و سيأتي معنى القدر. ثمّ القرآن كلامه القديم أنزله في شهر رمضان كما قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2» و هذا هو البيان الأوّل، و لم ندر نهارا أنزل فيه أم ليلا؟ فقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «3»، و هذا هو البيان الثّاني، و لم ندر أيّ ليلة هي؟ فقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فهذا هو البيان الثّالث الّذي هو غاية البيان.

فالصّحيح أنّ اللّيلة الّتي فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «4» و ينسخ فيها أمر السّنة و تدبير الأحكام إلى مثلها هي ليلة القدر، و لتقدير الأمور فيها سمّيت ليلة القدر. و يشهد التّنزيل لما ذكرنا؛ إذ في أوّل الآية إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ثمّ وصفها فقال فيها: يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ.

______________________________

(1)- الفرقان/ 31.

(2)- البقرة/ 185.

(3)- الدّخان/ 3.

(4)- الدّخان/ 4.

نصوص في علوم القرآن، ص: 282

و القرآن إنّما نزل في ليلة القدر، فكانت هذه الآية بهذا الوصف في هذه اللّيلة مواطئة لقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. كذا في قوّت القلوب للشّيخ أبي طالب المكّيّ قدّس سرّه.

فإن قلت: ما الحكمة في إنزال القرآن ليلا؟ قلت: لأنّ أكثر الكرامات و نزول النّفحات و الإسراء إلى السّماوات يكون باللّيل، و اللّيل من الجنّة؛ لأنّها محلّ الاستراحة، و النّهار من

النّار؛ لأنّ فيه المعاش و التّعب، و النّهار حظّ اللّباس و الفراق، و اللّيل حظّ الفراش و الوصال.

و عبادة اللّيل أفضل من عبادة النّهار؛ لأنّ قلب الإنسان فيه أجمع، و المقصود هو حضور القلب، قال بعض العارفين: اعمل التّوحيد في النّهار، و الاسم في اللّيل، حتّى تكون جامعا بين الطّريقتين: الجلوتيّة (بالجيم) و الخلوتيّة، و يكون التّوحيد و الاسم جناحين لك.

(10: 479- 480)

نصوص في علوم القرآن، ص: 283

الفصل السّابع و الثّلاثون نصّ شبّر (م: 1242 ه) في تفسيره: «الجوهر الثّمين»

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ البقرة/ 185

الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ جملة واحدة إلى البيت المعمور، ثمّ نزل في طول عشرين سنة، أو ابتدأ نزوله فيه، أو أنزل في شأنه، أو نزل بيانه و تأويله في ليلة القدر. (1: 187)

وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ طه/ 114

القمّيّ: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إذا نزل عليه القرآن بادر بقراءته قبل نزول الآية أي قبل تمامها حرصا عليه.

أقول: فالمعنى لا تعجل بقراءته قبل أن يفرغ جبرئيل من إبلاغه. قيل: لا تعجل في تبليغ ما كان مجملا قبل أن يأتيك بيانه. (4: 175)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ... الفرقان/ 32

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا هلّا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أي أنزل بقرينة جُمْلَةً واحِدَةً مجتمعا كالكتب الثّلاثة، و هي شبهة واهية، إذ إعجازه لا يختلف بنزوله جملة و مفرّقا مع أنّ من حكم التّفريق ما أفاده قوله تعالى: كَذلِكَ نزل مفرّقا. قوله تعالى:

نصوص في علوم القرآن، ص: 284

لِنُثَبِّتَ بِهِ لنقوّي بتفريقه فُؤادَكَ على حفظه و فهمه، و لأنّ نزول نزوله بحسب الحوادث يزيده بصيرة، و لأنّ نزول جبرئيل به حينا بعد حين يقوّي قلبه. و منها اقتضاء النّاسخ و المنسوخ. قوله تعالى: وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا نزّلناه شيئا بعد شي ء بتمهّل في نحو عشرين سنة، أو أمرنا بترتيله أي تبيينه و التّأنّي في قراءته. (4: 356)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ... الدّخان/ 3

ليلة القدر ابتدئ فيها إنزاله، أو أنزل فيها جملة من اللّوح إلى سماء الدّنيا ثمّ أنزله على محمّد صلّى اللّه عليه و سلم نجوما و كانت مباركة لذلك و لنزول الرّحمة و قسم النّعم و إجابة الدّعاء فيها.

إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فلذلك أنزلناه

فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ محكم أوذي حكمة من الآجال و الأرزاق و غيرها إلى السّنة القابلة و لذلك أنزل فيها القرآن الحكيم.

و عن الباقر و الصّادق عليهما السّلام أي أنزلنا القرآن، و اللّيلة المباركة هي: ليلة القدر. و عنهما و عن الكاظم عليهم السّلام «أنزل اللّه القرآن فيها إلى البيت المعمور جملة واحدة، ثمّ نزل من البيت المعمور على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في طول عشرين سنة، فيها يفرق يعني في ليلة القدر، كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أي يقدّر اللّه كلّ أمر من الحقّ و الباطل و ما يكون في تلك السّنة و له فيه البداء و المشيّة ...» الخبر.

أَمْراً ... مِنْ عِنْدِنا على

مقتضى حكمنا.

قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ بدل من إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أي أنزلنا القرآن لأنّ من شأننا إرسال الرّسل بالكتب إلى عبادنا. (5: 437- 438)

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ الأعلى/ 6- 7

سَنُقْرِئُكَ القرآن بقراءة جبرئيل

فَلا تَنْسى ما تقرأه، و هذا إعجاز أيضا لكونه أمّيّا و وقوعه كما أخبر إعجاز آخر.

روي أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان إذا نزل عليه جبرئيل بالوحي يقرأه مخافة أن ينساه فكان لا يفرغ

نصوص في علوم القرآن، ص: 285

جبرئيل من آخر الوحي حتّى يتكلّم هو بأوّله، فلمّا نزلت هذه الآية لم ينس بعد ذلك شيئا.

إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن ينساه بنسخ تلاوته، أو أريد به التّبرّك. و القمّيّ: أي نعلّمك فلا تنسى إلّا ما شاء اللّه، ثمّ استثني لأنّه لا يؤمن عليه النّسيان فإنّ الّذي لا ينسى هو اللّه تعالى.

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى) ما ظهر من أحوالكم و ما بطن فيعلم ما فيه صلاحكم من نسخ و إبقاء أو جهرك بقراءتك مع جبرئيل و ما في نفسك من خوف النّسيان فلا تتعب بالجهر فإنّه يكفيك ما تخافه. (6: 396)

نصوص في علوم القرآن، ص: 286

الفصل الثّامن و الثّلاثون نصّ الآلوسيّ (م: 1270 ه) في تفسيره: «روح المعاني»

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ الإسراء/ 105

و قد أخرج ابن أبي حاتم و ابن الأنباريّ و غيرهما، عن ابن عبّاس، قال: نزل القرآن ...

إلى السّفرة الكرام ... [و ذكر كما تقدّم عن السّيوطيّ].

و في رواية أنّه أنزل ليلة القدر في رمضان، و وضع في بيت العزّة في السّماء الدّنيا، ثمّ أنزل نجوما في عشرين و في رواية في ثلاث و عشرين سنة، و في أخرى خمس و عشرين، و هذا الاختلاف- على ما في البحر- مبنيّ على الاختلاف في سنّه صلّى اللّه عليه و سلم.

و أخرج ابن الضّريس من طريق قتادة، عن الحسن كان يقول: أنزل اللّه القرآن على نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في ثماني عشرة سنة، ثماني سنين بمكّة، و عشر بعد ما هاجر.

و

تعقّبه ابن عطيّة بأنّه قول مختلّ لا يصحّ عن الحسن، و اعتمد جمع أنّ بين أوّله و آخره ثلاثا و عشرين سنة، و كان ينزل به جبريل عليه السّلام على ما قيل خمس آيات خمس آيات.

فقد أخرج البيهقيّ في «الشّعب» عن عمر ... و أخرج ابن عساكر من طريق أبي نضرة، قال: ... [و ذكر كما تقدّم عن السّيوطيّ، ثمّ قال:]

و كان المراد في الغالب، فإنّه قد صحّ أنّه نزل بأكثر من ذلك و بأقلّ منه.

نصوص في علوم القرآن، ص: 287

و قرأ أبيّ و عبد اللّه فرقناه عليك، لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ، أي تؤدة و تأنّ، فإنّه أيسر للحفظ و أعون على الفهم، و روي ذلك عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه و قيل: أي تطاول في المدّة و تقضّيها شيئا فشيئا، و الظّاهر تعلّق لِتَقْرَأَهُ بفرقناه، و عَلَى النَّاسِ بتقرأه، و عَلى مُكْثٍ به أيضا، إلّا أنّ فيه تعلّق حرفي جرّ بمعنى بمتعلّق واحد. و أجيب بأنّ تعلّق الثّاني بعد اعتبار تعلّق الأوّل به فيختلف المتعلّق. و في البحر: لا يبالي بتعلّق هذين الحرفين بما ذكر لاختلاف معناهما؛ لأنّ الأوّل في موضع المفعول به و الثّاني في موضع الحال، أي متمهّلا و ترسّلا. و لما في ذلك من القيل و القال، اختار بعضهم تعلّقه بفرقناه، و جوّز الخفاجيّ تعلّقه بمحذوف، أي تفريقا أو فرقا عَلى مُكْثٍ أو قراءة عَلى مُكْثٍ منك، كمكث تنزيله.

و جعله أبو البقاء في موضع الحال من الضّمير المنصوب في فَرَقْناهُ، أي متمكّنا.

و من العجيب قول الحوفيّ: أنّه بدل من عَلَى النَّاسِ. و قد تعقّبه أبو حيّان بأنّه لا يصحّ؛ لأنّ عَلى مُكْثٍ من صفات القارئ أو من صفات

المقروء، و ليس من صفات النّاس ليكون بدلا منهم، و المكث مثلّث الميم، و قرئ بالضّمّ و الفتح، و لم يقرأ بالكسر و هو لغة قليلة، و زعم ابن عطيّة إجماع القرّاء على الضّمّ.

وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا على حسب الحوادث و المصالح، و ذكر هذا بعد قوله تعالى:

فَرَقْناهُ الخ مفيد، و ذلك لأنّ الأوّل دالّ على تدريج نزوله، ليسهل حفظه و فهمه من غير نظر إلى مقتض لذلك، و هذا أخصّ منه، فإنّه دالّ على تدريجه بحسب الاقتضاء.

(15: 188 189)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً الفرقان/ 32

حكاية لنوع آخر من أباطيلهم، و المراد بهم المشركون، كما صحّ عن ابن عبّاس، و هم القائلون أوّلا. و التّعبير عنهم بعنوان الكفر لذمّهم به و الإشعار بعلّة الحكم، و قيل:

المراد بهم طائفة من اليهود.

لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، أي أنزل عليه، كخبّر بمعنى أخبر، فلا قصد فيه إلى التّدريج

نصوص في علوم القرآن، ص: 288

لمكان جُمْلَةً واحِدَةً، فإنّه لو قصد ذلك لتدافعا؛ إذ يكون المعنى لو لا فرّق القرآن جملة واحدة، و التّفريق ينافي الجمليّة. و قيل: عبّر بذلك للدّلالة على كثرة المنزل في نفسه، و نصب جُمْلَةً على الحال، و واحِدَةً على أنّه صفة مؤكّدة له، أي هلّا أنزل القرآن عليه صلّى اللّه عليه و سلم دفعة غير مفرّق كما أنزلت التّوراة و الإنجيل و الزّبور، على ما تدلّ عليه الأحاديث و الآثار، حتّى كاد يكون إجماعا، كما قال السّيوطيّ و ردّ على من أنكر ذلك من فضلاء عصره. فقول ابن الكمال: إنّ التّوراة أنزلت منجّمة في ثماني عشرة سنة، و يدلّ عليه نصوص التّوراة، و لا قاطع بخلافه من الكتاب و السّنّة ناشئ من نقصان الاطّلاع.

و هذا الاعتراض ممّا لا طائل تحته؛ لأنّ

الإعجاز ممّا لا يختلف بنزوله جملة أو مفرّقا، مع أنّ للتّفريق فوائد، منها ما ذكره اللّه تعالى بعد. و قيل: إنّ شاهد صحّة القرآن إعجازه و ذلك ببلاغته، و هي بمطابقته لمقتضى الحال في كلّ جملة منه، و لا يتيسّر ذلك في نزوله دفعة واحدة، فلا يقاس بسائر الكتب، فإنّ شاهد صحّتها ليس الإعجاز.

و فيه أنّ قوله: و لا يتيسّر الخ ممنوع، فإنّه يجوز أن ينزّل دفعة واحدة مع رعاية المطابقة المذكورة في كلّ جملة؛ لما يتجدّد من الحوادث الموافقة لها الدّالّة على أحكامها.

و قد صحّ أنّه نزل كذلك إلى السّماء الدّنيا، فلو لم يكن هذا لزم كونه غير معجز فيها، و لا قائل به، بل قد يقال: إنّ هذا أقوى في إعجازه، و البليغ يفهم من سياق الكلام ما يقتضيه المقام، فافهم.

كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ: استئناف وارد من جهته تعالى؛ لردّ مقالتهم الباطلة، و بيان بعض الحكم في تنزيله تدريجا، و محلّ الكاف نصب على أنّها صفة لمصدر مؤكّد لمضمر معلّل بما بعده، و جوّز نصبها على الحالية، و كَذلِكَ: إشارة إلى ما يفهم من كلامهم، أي تنزيلا مثل ذلك التّنزيل الّذي قدحوا فيه و اقترحوا خلافه، نزّلناه لا تنزيلا مغايرا له، أو نزّلناه مماثلا لذلك التّنزيل؛ لنقوّي به فؤادك، فإنّ في تنزيله مفرّقا تيسيرا لحفظ النّظم، و فهم المعاني، و ضبط الكلام، و الوقوف على تفاصيل ما روعي فيه من الحكم و المصالح، و تعدّد نزول جبريل عليه السّلام، و تجدّد إعجاز الطّاعنين فيه في كلّ جملة مقدار أقصر سورة تنزّل منه. و لذلك فوائد غير ما ذكر أيضا؛

نصوص في علوم القرآن، ص: 289

منها: معرفة النّاسخ المتأخّر نزوله من المنسوخ المتقدّم نزوله

المخالف لحكمه.

و منها: انضمام القرائن الحالية إلى الدّلالات اللّفظيّة، فإنّه يعين على معرفة البلاغة؛ لأنّه بالنّظر إلى الحال يتنبّه السّامع لما يطابقها و يوافقها إلى غير ذلك.

و قيل: قوله تعالى: كَذلِكَ من تمام كلام الكفرة، و الكاف نصب على الحال من القرآن، أو الصّفة لمصدر نُزِّلَ المذكور أو لجملة، و الإشارة إلى تنزيل الكتب المتقدّمة، و لام لِنُثَبِّتَ لام التّعليل، و المعلّل محذوف نحو ما سمعت أوّلا، أي نزّلناه مفرّقا لنثبّت الخ. و قال أبو حاتم: هي لام القسم، و التّقدير و اللّه لنثبّتنّ، فحذف النّون و كسرت اللّام، و قد حكى ذلك عنه أبو حيّان. و الظّاهر أنّها عنده كذلك على القولين في كَذلِكَ. و تعقّبه بأنّه قول في غاية الضّعف، و كأنّه ينحو إلى مذهب الأخفش، إنّ جواب القسم يتلقّى بلام «كي»، و جعل منه وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ «1» الخ، و هو مذهب مرجوح. و قرأ عبد اللّه «ليثبّت» بالياء، أي ليثبّت اللّه تعالى. (19: 15)

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ ... الشّعراء/ 192

و المراد بالقلب إمّا الرّوح، و هو أحد إطلاقاته كما قال الرّاغب، و كون الإنزال عليه، على ما قال غير واحد؛ لأنّه المدرك و المكلّف دون الجسد. و قد يقال: لمّا كان له صلّى اللّه عليه و سلم جهتان: جهة ملكيّة يستفيض بها، و جهة بشريّة يفيض بها، جعل الإنزال على روحه صلّى اللّه عليه و سلم؛ لأنّها المتّصفة بالصّفات الملكيّة الّتي يستفيض بها من الرّوح الأمين.

و للإشارة إلى ذلك قيل: عَلى قَلْبِكَ دون «عليك» الأخصر. و قيل: إنّ هذا لأنّ القرآن لم ينزل في الصّحف كغيره من الكتب. و إمّا العضو المخصوص و هو الإطلاق المشهور. و تخصيصه بالإنزال عليه قيل: للإشارة إلى كمال تعقّله

صلّى اللّه عليه و سلم و فهمه ذلك المنزل؛ حيث لم تعتبر واسطة في وصوله إلى القلب الّذي هو محلّ العقل، كما يقتضيه ظاهر كثير من الآيات و الأحاديث. و يشهد له العقل على ما لا يخفى على من كان له قلب أو ألقى السّمع و هو شهيد. و قد أطال في الانتصار لذلك الإمام في تفسيره.

______________________________

(1)- الأنعام/ 113.

نصوص في علوم القرآن، ص: 290

و ردّ على من ذهب إلى أنّ الدّماغ محلّ العقل. و قيل: للإشارة إلى صلاح قلبه صلّى اللّه عليه و سلم و تقدّسه؛ حيث كان منزلا لكلامه تعالى؛ ليعلم منه حال سائر أجزائه صلّى اللّه عليه و سلم فإنّ القلب رئيس جميع الأعضاء و ملكها، و متى صلح الملك صلحت الرّعيّة، و في الحديث «ألا و إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، و إذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا و هي القلب». و قد يقال: يجوز أن يكون التّخصيص لأنّ اللّه تعالى جعل لقلب رسوله صلّى اللّه عليه و سلم سمعا مخصوصا يسمع به ما ينزل عليه من القرآن تمييزا لشأنه على سائر ما يسمعه و يعيه على حدّ ما قيل.

و ذكره النّوويّ في شرح صحيح مسلم في قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى «1»، من أنّ اللّه عزّ و جلّ جعل لفؤاده صلّى اللّه عليه و سلم بصرا، فرآه به سبحانه ليلة المعراج. و هذا كلّه على القول بأنّ جبرائيل عليه السّلام ينزل بالألفاظ القرآنيّة المحفوظة له بعد أن نزل القرآن جملة من اللّوح المحفوظ إلى بيت العزّة أو الّتي يحفظها من اللّوح عند الأمر بالإنزال، أو الّتي يوحي بها إليه، أو الّتي يسمعها منه سبحانه،

على ما قاله بعض أجلّة السّلف، عنده فيلقيها إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم على ما هي عليه من غير تغيير أصلا. و كذا على القول بأنّ جبرائيل عليه السّلام ألقى عليه المعاني القرآنيّة، و أنّه عبّر عنها بهذه الألفاظ العربيّة، ثمّ نزل بها كذلك، فألقاها إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم. و أمّا على القول بأنّه عليه السّلام إنّما نزل بالمعاني خاصّة إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و أنّه عليه الصّلاة و السّلام علم تلك المعاني، و عبّر عنها بلغة العرب، فقيل: إنّ القلب بمعنى العضو المخصوص لا غير، و تخصيصه لأنّ المعاني إنّما تدرك بالقوّة المودعة فيه.

و قيل: يجوز أن يراد به الرّوح، و روحه عليه الصّلاة و السّلام لغاية تقدّسها و كمالها في نفسها تدرك المعاني من غير توسّط آلة. و من النّاس من ذهب إلى هذا القول، و جعل الآية دليلا له، و هو قول مرجوح. و مثله القول بأنّ جبرائيل عليه السّلام ألقى عليه المعاني فعبّر عنها بألفاظ، فنزل بما عبّر هو به. و القول الرّاجح أنّ الألفاظ منه عزّ و جلّ كالمعاني لا مدخل لجبرائيل عليه السّلام فيها أصلا.

و كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم يسمعها و يعيها بقوى إلهيّة قدسيّة، لا كسماع البشر إيّاها منه عليه

______________________________

(1)- النّجم/ 11.

نصوص في علوم القرآن، ص: 291

الصّلاة و السّلام و تنفعل عند ذلك قواه البشريّة، و لهذا يظهر على جسده الشّريف صلّى اللّه عليه و سلم ما يظهر، و يقال لذلك؛ برحاء الوحي، يظنّ في بعض الأحايين أنّه أغمي عليه عليه الصّلاة السّلام. و قد يظنّ أنّه صلّى اللّه عليه و سلم أغفى.

و على هذا يخرج

ما رواه مسلم، عن أنس، قال: بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثمّ رفع رأسه متبسّما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول اللّه؟ فقال: أنزل عليّ آنفا سورة فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ* إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ «1». و لا يحتاج من قال: إنّ الأشبه أنّ القرآن كلّه نزل في اليقظة، إلى تأويل هذا الخبر بأنّه عليه الصّلاة و السّلام خطر له في تلك الإغفاءة سورة الكوثر الّتي نزلت قبلها في اليقظة، أو عرض عليه الكوثر الّذي أنزلت فيه السّورة فقرأها عليهم، ثمّ إنّه على ما قيل: من أنّ بعض القرآن نزل عليه عليه الصّلاة و السّلام و هو نائم، استدلالا بهذا الخبر، يبقى ما قلناه من سماعه عليه الصّلاة و السّلام ما ينزل إليه صلّى اللّه عليه و سلم و وعيه إيّاه بقوى إلهيّة قدسيّة، و نومه عليه الصّلاة و السّلام لا يمنع من ذلك، كيف و قد صحّ عنه صلّى اللّه عليه و سلم أنّه قال: «تنام عيني و لا ينام قلبي».

و قد ذكر بعض المتصدّرين في محافل الحكمة من المتأخّرين في بيان كيفيّة نزول الكلام، و هبوط الوحي من عند اللّه تعالى بواسطة الملك على قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم: أنّ الرّوح الإنسانيّ إذا تجرّد عن البدن، و خرج عن وثاقه من بيت قالبه، و موطن طبعه مهاجرا إلى ربّه سبحانه؛ لمشاهدة آياته الكبرى، و تطهّر عن درن المعاصي و اللّذّات و الشّهوات و الوساوس العادية و المتعلّقات، لاح له نور المعرفة و الإيمان باللّه تعالى و ملكوته الأعلى، و هذا النّور إذا تأكّد و تجوهر كان

جوهرا قدسيّا يسمّى في لسان الحكمة النّظريّة بالعقل الفعّال، و في لسان الشّريعة النّبويّة بالرّوح القدسيّ. و بهذا النّور الشّديد العقليّ يتلألأ فيه أسرار ما في الأرض و السّماء، و يتراءى منه حقائق الأشياء كما يتراءى بالنّور الحسّيّ البصريّ الأشباح المثاليّة في قوّة البصر إذا لم يمنع حجاب، و الحجاب هاهنا هو آثار الطّبيعة و شواغل هذه الأولى، فإذا عريت النّفس عن دواعي الطّبيعة و الاشتغال بما

______________________________

(1)- الكوثر/ 1- 4.

نصوص في علوم القرآن، ص: 292

تحتها من الشّهوة و الغضب و الحسّ و التّخيّل، و توجّهت بوجهها شطر الحقّ و تلقاء عالم الملكوت الأعلى، اتّصلت بالسّعادة القصوى، فلاح لها سرّ الملكوت، و انعكس عليها قدس اللّاهوت، و رأت عجائب آيات اللّه تعالى الكبرى. ثمّ إنّ هذه الرّوح إذا كانت قدسيّة شديدة القوى قويّة الآثار؛ لقوّة اتّصالها بما فوقها فلا يشغلها شأن عن شأن، و لا يمنعها جهة فوقها عن جهة تحتها، فتضبط الطّرفين، و تسع قوّتها الجانبين؛ لشدّة تمكّنها في الحدّ المشترك بين الملك و الملكوت، كالأرواح الضّعيفة الّتي إذا مالت إلى جانب غاب عنها الجانب الآخر، و إذا ركنت إلى مشعر من المشاعر ذهلت عن المشعر الآخر، و إذا توجّهت هذه الرّوح القدسيّة الّتي لا يشغلها شأن عن شأن، و لا تصرفها نشأة عن نشأة، و تلقّت المعارف الإلهيّة بلا تعلّم بشريّ، بل من اللّه تعالى يتعدّى تأثيرها إلى قواها، و يتمثّل لروحه البشريّ صورة ما شاهده بروحه القدسيّ، و تبرز منها إلى ظاهر الكون، فتتمثّل للحواسّ الظّاهرة سيّما السّمع و البصر؛ لكونهما أشرف الحواسّ الظّاهرة، فيرى ببصره شخصا محسوسا في غاية الحسن و الصّباحة، و يسمع بسمعه كلاما منظوما في غاية الجودة و

الفصاحة، فالشّخص هو الملك النّازل بإذن اللّه تعالى الحامل للوحي الإلهيّ، و الكلام هو كلام اللّه تعالى، و بيده لوح فيه كتاب هو كتاب اللّه تعالى، و هذا الأمر المتمثّل بما معه أو فيه ليس مجرّد صورة خياليّة، لا وجود لها في خارج الذّهن و التّخيّل، كما يقوله من لا حظّ له من علم الباطن، و لا قدم له في أسرار الوحي و الكتاب، كبعض أتباع المشّائين، معاذ اللّه تعالى عن هذه العقيدة النّاشئة عن الجهل بكيفيّة الإنزال و التّنزيل.

ثمّ قال: إنارة قلبيّة و إشارة عقليّة، عليك أن تعلم أنّ للملائكة ذوات حقيقيّة، و ذوات إضافيّة مضافة إلى ما دونها إضافة النّفس إلى البدن الكائن في النّشأة الآخرة.

فأمّا ذواتها الحقيقيّة فإنّما هي أمريّة قضائيّة قوليّة، و أمّا ذواتها الإضافيّة فإنّما هي خلقية قدريّة تنشأ منها الملائكة اللّوحيّة، و أعظمهم إسرافيل عليه السّلام، و هؤلاء الملائكة اللّوحيّة يأخذون الكلام الإلهيّ و العلوم اللّدنّيّة من الملائكة القلميّة، و يثبّتونها في صحائف ألواحهم القدرية الكتابية. و إنّما كان يلاقي النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم في معراجه الصّنف الأوّل من الملائكة، و يشاهد روح القدس في اليقظة، فإذا اتّصلت الرّوح النّبويّة بعالمهم، عالم

نصوص في علوم القرآن، ص: 293

الوحي الرّبانيّ، يسمع كلام اللّه تعالى، و هو إعلام الحقائق بالمكالمة الحقيقيّة، و هي الإفاضة و الاستفاضة في مقام قاب قوسين أو أدنى، و هو مقام القرب و مقعد الصّدق و معدن الوحي و الإلهام. و كذا إذا عاشر النّبيّ الملائكة الأعلين يسمع صريف أقلامهم و إلقاء كلامهم، و هو كلام اللّه تعالى النّازل في محلّ معرفتهم، و هي ذواتهم و عقولهم؛ لكونهم في مقام القرب.

ثمّ إذا نزل صلّى اللّه

عليه و سلم إلى ساحة الملكوت السّماويّ يتمثّل له صورة ما عقله و شاهده في لوح نفسه الواقعة في عالم الأرواح القدريّة السّماويّة، ثمّ يتعدّى منه الأثر إلى الظّاهر، و حينئذ يقع للحواسّ شبه دهش و نوم؛ لمّا أنّ الرّوح القدسيّة لضبطها الجانبين تستعمل المشاعر الحسّيّة، لكن لا في الأغراض الحيوانيّة، بل في سبيل السّلوك إلى الرّبّ سبحانه، فهي تشائع الرّوح في سبيل معرفته تعالى و طاعته، فلا جرم إذا خاطبه اللّه تعالى خطابا من غير حجاب خارجي، سواء كان الخطاب بلا واسطة أو بواسطة الملك، و اطّلع على الغيب، فانطبع في فصّ نفسه النّبويّة نقش الملكوت و صورة الجبروت، تنجذب قوّة الحسّ الظّاهر إلى فوق، و يتمثّل لها صورة غير منفكّة عن معناها و روحها الحقيقيّ، لا كصورة الأحلام و الخيالات العاطلة عن المعنى، فيتمثّل لها حقيقة الملك بصورته المحسوسة بحسب ما يحتملها، فيرى ملكا على غير صورته الّتي كانت له في عالم الأمر؛ لأنّ الأمر إذا نزل صار خلقا مقدّرا، فيرى صورته الخلقيّة القدريّة، و يسمع كلاما مسموعا بعد ما كان وحيا معقولا، أو يرى لوحا بيده مكتوبا، فالموحى إليه يتّصل بالملك أوّلا بروحه العقليّ، و يتلقّى منه المعارف الإلهيّة، و يشاهد ببصره العقليّ آيات ربّه الكبرى، و يسمع بسمعه العقليّ كلام ربّ العالمين من الرّوح الأعظم، ثمّ إذا نزل عن هذا المقام الشّامخ الإلهيّ يتمثّل له الملك بصورة محسوسة بحسبه، ثمّ ينحدر إلى حسّه الظّاهر، ثمّ إلى الهواء، و هكذا الكلام في كلامه، فيسمع أصواتا و حروفا منظومة مسموعة، يختصّ هو بسماعها دون غيره، فيكون كلّ من الملك و كلامه و كتابه قد تأدّى من غيبه إلى شهادته، و من باطن سرّه

إلى مشاعره، و هذه التّأدية ليست من قبيل الانتقال و الحركة للملك الموحي من موطنه و مقامه؛ إذ كلّ له مقام معلوم لا يتعدّاه و لا ينتقل عنه، بل مرجع ذلك إلى انبعاث

نصوص في علوم القرآن، ص: 294

نفسي النّبيّ عليه الصّلاة السّلام من نشأة الغيب إلى نشأة الظّهور. و لهذا كان يعرض له شبه الدّهش و الغشي، ثمّ يرى و يسمع، ثمّ يقع منه الإنباء و الإخبار، فهذا معنى تنزيل الكتاب و إنزال الكلام من ربّ العالمين، انتهى.

و فيه ما تأباه الأصول الإسلاميّة ممّا لا يخفى عليك. و قد صرّح غير واحد من المحدّثين و المفسّرين و غيرهم بانتقال الملك و هو جسم عندهم، و لم يؤوّل أحد منهم نزوله فيما نعلم، نعم أوّلوا نزول القرآن و إنزاله.

قال الأصفهانيّ في أوائل تفسيره: اتّفق أهل السّنة و الجماعة ... [و ذكر كما تقدّم عن الزّركشيّ، ثمّ حكى قول الطّيّبيّ و القطب في «حواشي الكشّاف»، حسبما تقدّم عن السّيوطيّ، فقال:]

و فيه بحث لا يخفى، و عندي أنّ إنزاله إظهاره في عالم الشّهادة بعد أن كان في عالم الغيب، ثمّ إنّ ظاهر الآية يقتضي أنّ جميع القرآن نزل به الرّوح الأمين على قلبه الشّريف صلّى اللّه عليه و سلم، و هذا ينافي ما قيل: إنّ آخر سورة البقرة، كلّمه اللّه تعالى بها ليلة المعراج؛ حيث لا واسطة احتجاجا بما أخرجه مسلم، عن ابن مسعود: لما أسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم انتهى إلى سدرة المنتهى، الحديث. و فيه: فأعطي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم الصّلوات الخمس، و أعطي خواتيم سورة البقرة، و غفر لمن لا يشرك من أمّته باللّه تعالى شيئا المقحمات. و

أجيب بعد تسليم أن يكون ما ذكر دليلا لذلك، يجوز أن يكون قد نزل جبريل عليه السّلام بما ذكر أيضا تأكيدا و تقريرا أو نحو ذلك. و قد ثبت نزوله عليه السّلام بالآية الواحدة مرّتين لما ذكر. و جوّز أن تكون الآية باعتبار الأغلب، و اعتبر بعضهم كونها كذلك لأمر آخر، و هو أنّ من القرآن ما نزل به إسرافيل عليه السّلام، و هو ما كان في أوّل النّبوّة، و فيه أنّ ذلك لم يثبت أصلا.

و في الإتقان: أخرج الإمام أحمد في تاريخه من طريق داود بن أبي هند، عن الشّعبيّ، قال: أنزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم النّبوّة و هو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوّته إسرافيل عليه السّلام ثلاث سنين، فكان يعلّمه الكلمة و الشّي ء، و لم ينزل عليه القرآن على لسانه، فلمّا مضت ثلاث سنين قرن بنبوّته جبريل عليه السّلام، فنزل عليه القرآن على لسانه عشر سنين، انتهى، و هو صريح في خلاف ذلك، و إن كان فيه ما يخالف الصّحيح المشهور من أنّ جبريل عليه السّلام هو

نصوص في علوم القرآن، ص: 295

الّذي نزل عليه عليه الصّلاة و السّلام بالوحي من أوّل الأمر، إلّا أنّه نزل عليه صلّى اللّه عليه و سلم غيره عليه السّلام من الملائكة أيضا ببعض الأمور، و كثيرا ما ينزلون لتشييع الآيات القرآنيّة مع جبريل عليه و عليهم السّلام. و من النّاس من اعتبر كونها باعتبار الأغلب؛ لأنّ إنزال جبريل عليه السّلام قد لا يكون على القلب بناء على ما ذكره الشّيخ محيى الدّين قدّس سرّه في الباب الرّابع عشر من الفتوحات، من قوله: اعلم أنّ الملك يأتي النّبيّ عليه الصّلاة و السّلام بالوحي على حالين:

تارة

ينزل بالوحي على قلبه، و تارة يأتيه في صورة جسديّة من خارج، فيلقي ما جاء به إلى ذلك النّبيّ على أذنه فيسمعه، أو يلقيه على بصره فيبصره، فيحصل له من النّظر ما يحصل من السّمع سواء.

و تعقّب بأنّه لا حاجة إلى ما ذكر، و ما نقل عن محيى الدّين قدّس سرّه لا يدلّ على أنّ نزول الوحي إلى كلّ نبيّ يكون على هذين الحالين، فيجوز أن يكون نزول الوحي إلى نبيّنا صلّى اللّه عليه و سلم على الحال الأولى فقط سلّمنا دلالته على العموم، و أنّ نزول الوحي إلى نبيّنا عليه الصّلاة و السّلام قد يكون بتمثّل الملك بناء على بعض الأخبار الصّحيحة في ذلك، لكن لا نسلّم أنّه يدلّ على أنّ نزول الوحي إذا كان الموحى قرآنا يكون على الحال الثّانية سلّمنا دلالته على ذلك، لكن لا نسلّم صحّة جعله مبنيّ لتأويل الآية، و كيف يؤوّل كلام اللّه تعالى لكلام مناف لظاهره صدر من غير معصوم، و يكفي محيى الدّين قدّس سرّه من علماء الشّريعة أن يؤوّلوا كلامه ليوافق كلام اللّه عزّ و جلّ فيسلم من الطّعن، و لعلّ من يؤوّل في مثل ذلك يحسن الظّن بمحيى الدّين قدّس سرّه، و يقول: إنّه لم يقل ذلك إلّا لدليل شرعيّ، فقد قال قدّس سرّه في الكلام على الإذن من الفتوحات: اعلم أنّي لم أقرّر بحمد اللّه تعالى في كتابي هذا و لا غيره قطّ أمرا غير مشروع، و ما خرجت عن الكتاب و السّنّة في شي ء من تصانيفي، و قال في الباب السّادس و السّتّين و ثلاثمائة من الكتاب المذكور: جميع ما أتكلّم به في مجالسي و تأليفي إنّما هو من حضرة القرآن العظيم، فإنّي

أعطيت مفاتيح العلم فيه، فلا أستمدّ قطّ في علم من العلوم إلّا منه كلّ ذلك، حتّى لا أخرج عن مجالسة الحقّ تعالى في مناجاته بكلامه، أو بما تضمّنه كلامه سبحانه، إلى غير ذلك. فالدّاعي للتّأويل في الحقيقة ذلك الدّليل، لا نفس كلامه قدّس سرّه، و هو اللّائق بالمسلمين الكاملين. (19: 120- 125)

نصوص في علوم القرآن، ص: 296

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ الدّخان/ 3

و المراد بإنزاله في تلك اللّيلة إنزاله فيها جملة إلى السّماء الدّنيا من اللّوح، فالإنزال المنجّم في ثلاث و عشرين سنة أو أقلّ كان من السّماء الدّنيا، و روي هذا عن ابن جرير و غيره، و ذكر أنّ المحلّ الّذي أنزل فيه من تلك السّماء البيت المعمور، و هو مسامت للكعبة؛ بحيث لو نزل لنزل عليها.

و أخرج سعيد بن منصور، عن إبراهيم النّخعيّ، أنّه قال: نزل القرآن جملة على جبريل عليه السّلام، و كان جبريل عليه السّلام يجي ء به بعد إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم.

و قال غير واحد: المراد ابتداء إنزاله في تلك اللّيلة على التّجوّز في الطّرف أو النّسبة، و استشكل ذلك بأنّ ابتداء السّنة المحرّم أو شهر ربيع الأوّل؛ لأنّه ولد فيه صلّى اللّه عليه و سلم، و منه اعتبر التّاريخ في حياته عليه الصّلاة و السّلام إلى خلافة عمر و هو الأصحّ. و قد كان الوحي إليه صلّى اللّه عليه و سلم على رأس الأربعين سنة من مدّة عمره عليه الصّلاة و السّلام على المشهور من عدّة أقوال، فكيف يكون ابتداء الإنزال في ليلة القدر من شهر رمضان أو في ليلة البراءة من شعبان؟

و أجيب: بأنّ ابتداء الوحي كان مناما في شهر ربيع الأوّل، و لم يكن بإنزال شي ء من القرآن، و

الوحي يقظة مع الإنزال كان في يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، و قيل: لسبع منه، و قيل: لأربع و عشرين ليلة منه، و أنت تعلم كثرة اختلاف الأقوال في هذا المقام، فمن يقول بابتداء إنزاله في شهر يلتزم منها ما لا يأباه. (25: 125- 111)

فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ... الواقعة/ 75- 77

و أخرج عبد الرّزّاق، و ابن جرير، عن قتادة: أنّها منازلها و مجاريها، على أنّ الوقوع النّزول، كما يقال: على الخبير سقطت، و هو شائع، و التّخصيص لأنّ له تعالى في ذلك من الدّليل على عظيم قدرته، و كمال حكمته ما لا يحيط به نطاق البيان، و قال جماعة منهم ابن عبّاس: النّجوم نجوم القرآن، و مواقعها: أوقات نزولها.

[ثمّ ذكر رواية النّسائيّ و ابن جرير و ... و البيهقيّ في «شعب الإيمان» عن ابن عبّاس

نصوص في علوم القرآن، ص: 297

كما تقدّم عن السّيوطيّ، فقال:]

و أيّد هذا القول بأنّ الضّمير في قوله تعالى بعد: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ يعود حينئذ على ما يفهم من مواقع النّجوم حتّى يكاد يعدّ كالمذكور صريحا، و لا يحتاج إلى أن يقال: يفسّره السّياق، كما في سائر الأقوال، و وجه التّخصيص أظهر من أن يخفى. و لعلّ الكلام عليه من باب: و ثناياك إنّها إغريض.

و قرأ ابن عبّاس و أهل المدينة و حمزة و الكسائيّ «بموقع» مفردا مرادا به الجمع.

(27: 153)

فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ* مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ عبس/ 13- 14

(فى صحف) متعلّق بمضمر هو صفة لتذكرة أو خبر ثان؛ لأنّ أيّ كائنة أو مثبتة في صحف، و المراد بها الصّحف المنتسخة من اللّوح المحفوظ. و عن ابن عبّاس: هي اللّوح نفسه، و هو غير ظاهر. و قيل: الصّحف المنزّلة على الأنبياء: كقوله تعالى: وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ «1»، و قيل: صحف المسلمين، على أنّه إخبار بالغيب، فإنّ القرآن بمكّة لم يكن في الصّحف، و إنّما كان متفرّقا في الدّفاف و الجريد و نحوهما، و أوّل ما جمع في صحيفة في عهد أبي بكر الصّديق و هو كما ترى.

مُكَرَّمَةٍ: عند اللّه عزّ و جلّ مَرْفُوعَةٍ، أي في السّماء السّابعة، كما

قال يحيى بن سلّام، أو مرفوعة القدر كما قيل. مُطَهَّرَةٍ: منزّهة عن مساس أيدي الشّياطين أو عن كلّ دنس، على ما روي عن الحسن، و قيل: عن الشّبه و التّناقص. و الأوّل قيل: مأخوذ من مقابلته بقوله تعالى: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، أي كتبة من الملائكة:، كما قال مجاهد و جماعة، فإنّهم ينسخون الكتب من اللّوح، و هو جمع سافر، أي كاتب، و المصدر السّفر كالضّرب.

و عن ابن عبّاس: هم الملائكة المتوسّطون بين اللّه تعالى و أنبيائه:. على أنّه جمع سافر أيضا بمعنى سفير، أي رسول و واسطة، و المشهور في مصدره بهذا المعني السّفارة بكسر السّين و فتحها، و جاء فيه السّفر أيضا كما في القاموس.

______________________________

(1)- الشّعراء/ 196.

نصوص في علوم القرآن، ص: 298

و قيل: هم الأنبياء عليهم السّلام لأنّهم سفراء بين اللّه تعالى و الأمّة، أو لأنّهم يكتبون الوحي.

و لا يخفى بعده، فإنّ الأنبياء عليهم السّلام وظيفتهم التّلقّي من الوحي، لا الكتب لما يوحى على أنّ خاتمهم صلّى اللّه عليه و سلم لم يكن يكتب القرآن، بل لم يكتب أصلا على ما هو الشّائع، و قد مرّ تحقيقه.

و كذا وظيفتهم إرشاد الأمّة بالأمر و النّهي و تعليم الشّرائع و الأحكام لا مجرّد السّفارة إليهم.

و أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر، عن وهب بن منبّه: أنّهم أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و سلم، قيل:

لأنّهم سفراء و وسائط بينه عليه الصّلاة و السّلام و بين سائر الأمّة، و قيل: لأنّ بعضهم يسفر إلى بعض في الخير و التّعليم و التّعلّم، و في رواية عن قتادة: أنّهم القرّاء. و كأنّ القولين ليس بالمعوّل عليه، و قد قالوا هذه اللّفظة مختصّة بالملائكة: لا تكاد تطلق على غيرهم و

إن جاز الإطلاق بحسب اللّغة، و مادّتها موضوعة بجميع تراكيبها؛ لما يتضمّن الكشف، كسفرت المرأة، إذا كشفت القناع عن وجهها. و الباء قيل: متعلّقة بمطهّرة، و قيل: بمضمر، هو صفة أخرى لصحف ... (30: 42)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ... القدر/ 1- 3

الضّمير عند الجمهور للقرآن، و ادّعى الإمام فيه إجماع المفسّرين، و كأنّه لم يعتدّ بقول من قال منهم برجوعه لجبريل عليه السّلام أو غيره لضعفه. قالوا: و في التّعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدّم ذكره تعظيم له، أي تعظيم لما أنّه يشعر بأنّه لعلوّ شأنه كأنّه حاضر عند كلّ أحد، فهو في قوّة المذكور، و كذا في إسناد إنزاله إلى نون العظمة مرّتين و تأكيد الجملة. و أشار الزّمخشريّ إلى إفادة الجملة اختصاص الإنزال به سبحانه بناء على أنّها من باب، أنا سعيت في حاجتك، ممّا قدّم فيه الفاعل المعنويّ على الفعل. و تعقّب بأنّ ما ذكروه في الضّمير المنفصل دون المتّصل كما في اسم «إنّ» هنا. نعم، الاختصاص يفهم من سياق الكلام، و فيه أنّهم لم يصرّحوا باشتراط ما ذكر. و كذا في تفخيم وقت إنزاله بقوله تعالى: وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ؛ لما فيه من الدّلالة. على أنّ علوّها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يعلم ذلك و لا يعلم به إلّا علّام الغيوب، كما يشعر به قوله سبحانه: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، فإنّ [هذا] بيان إجماليّ لشأنها أثر تشويقه عليه الصّلاة و السّلام

نصوص في علوم القرآن، ص: 299

إلى درايتها، فإنّ ذلك معرب عن الوعد بإدرائها.

و عن سفيان بن عيينة: إنّ كلّ ما في القرآن من قوله تعالى: ما أَدْراكَ أعلم اللّه تعالى به نبيّه صلّى اللّه عليه و سلم و ما فيه

من قوله سبحانه: وَ ما يُدْرِيكَ «1» لم يعلّمه عزّ و جلّ به. و قد مرّ بيان كيفيّة إعراب الجملتين، و في إظهار ليلة القدر في الموضعين من تأكيد التّعظيم و التّفخيم ما لا يخفى.

و المراد بإنزاله فيها إنزاله كلّه جملة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، صحّ عن ابن عبّاس أنّه قال: أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى السّماء الدّنيا، و كان بمواقع النّجوم، و كان اللّه تعالى ينزّله على رسوله صلّى اللّه عليه و سلم بعضه في أثر بعض. و في رواية بدل و كان بمواقع الخ، ثمّ نزل بعد ذلك في عشرين سنة، و في رواية أخرى عنه أيضا: أنزل القرآن جملة واحدة حتّى وضع في بيت العزّة في السّماء الدّنيا، و نزل به جبريل عليه السّلام على محمّد صلّى اللّه عليه و سلم بجواب كلام العباد و أعمالهم. و في أخرى: أنّه أنزل في رمضان ليلة القدر جملة واحدة، ثمّ أنزل على مواقع النّجوم رسلا في الشّهور و الأيّام. و كون النّزول بعد في عشرين سنة قول لهم، و قال بعضهم و هو الأشهر: في ثلاث و عشرين، و قال آخر في خمس و عشرين. و هذا للخلاف في مدّة إقامته صلّى اللّه عليه و سلم بمكّة بعد البعث.

و قال الشّعبيّ: المراد ابتدأنا بإنزاله فيها. و المشهور أنّ أوّل ما نزل من الآيات اقْرَأْ، و أنّه كان نزولها بحراء نهارا.

نعم، في «البحر» روى: أنّ نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر من رمضان، فإن صحّ و كان المراد كان ليلا فذاك، و إلّا فظاهر كلام الشّعبيّ غير مستقيم، اللّهم إلّا أن يقال: إنّه أراد ابتداء إنزاله إلى

السّماء الدّنيا فيها، و لا يلزم أن يتّحد ذلك و ابتداء إنزاله عليه صلّى اللّه عليه و سلم في الزّمان. ثمّ إنّ في أَنْزَلْناهُ على ما ذكر تجوّزا في الإسناد؛ لأنّه أسند فيه ما للجزء إلى الكلّ، أو مجازا الطّرف، أو تضمينا.

و قيل: المراد إنزاله من اللّوح إلى السّماء الدّنيا مفرّقا في ليالي قدر، على أنّ المراد بليلة الجنس، فقد قيل: إنّ القرآن أنزل إلى السّماء الدّنيا في عشرين ليلة قدر أو ثلاث

______________________________

(1)- الأحزاب/ 33، الشّورى/ 42، عبس/ 80.

نصوص في علوم القرآن، ص: 300

و عشرين أو خمس و عشرين. و كان ينزل في كلّ ليلة ما يقدّر اللّه تعالى إنزاله في كلّ السّنة، ثمّ ينزّله سبحانه منجّما في جميع السّنة، و هذا القول ذكره الإمام احتمالا، و نقله القرطبيّ كما قال ابن كثير عن مقاتل، لكنّه ممّا لا يعوّل عليه. و الصّحيح المعتمد عليه كما قال ابن حجر في شرح البخاريّ: إنّه أنزل جملة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا، بل حكى بعضهم: الإجماع عليه. نعم، لا يبعد القول بأنّ السّفرة هناك نجّموه لجبريل عليه السّلام في اللّيالي المذكورة.

و أجاب السيّد عيسى الصّفويّ: بأنّه لا محذور في ذلك بناء على جواز مثل أتكلّم مخبرا به عن التّكلّم بقولك: أتكلّم، و في ذلك اختلاف بين الدّوانيّ و غيره، ذكره في رسالته الّتي ألّفها في الجواب عن مسألة الحذر الأصمّ. أو يقال: يرجع الضّمير للقرآن باعتبار جملته و قطع النّظر عن أجزائه، فيخبر عن الجملة بإنّا أنزلناه، و إن كان من جملته إِنَّا أَنْزَلْناهُ المندرج في جملته ممّن غير نظير له بخصوصه، و قد ذكروا أنّ الجزء من حيث هو مستقلّ مغاير

له من حيث هو في ضمن الكلّ.

و في الإتقان عن أبي شامة: فإن قلت: إِنَّا أَنْزَلْناهُ إن لم يكن من جملة القرآن الّذي نزل جملة، فما نزل جملة؟ و إن كان من الجملة فما وجه هذه العبارة؟

قلت: لها وجهان؛ أحدهما: أن يكون المعنى إنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، و قضينا به و قدّرناه في الأزل. و الثّاني: أنّ لفظ أَنْزَلْناهُ ماض و معناه على الاستقبال، أي ننزّله جملة في ليلة القدر، انتهى.

و لم يظهر لي في كلا وجهيه رحمه اللّه تعالى شامّة حسن، فأجّل في ذلك نظرا، فلعلّك ترى. و قيل: المعنى إِنَّا أَنْزَلْناهُ في فضل ليلة القدر أو في شأنها و حقّها فالكلام على تقدير مضاف، أو الظّرفية مجازيّة كما في قول عمر: خشيت أن ينزّل فيّ قرآن، و قول عائشة لأنا أحقر في نفسي من أن ينزّل فيّ قرآن، و جعل بعضهم «فى» في ذلك للسّببيّة، و الضّمير قيل للقرآن بالمعنى الدّائر بين الكلّ و الجزء.

و قيل: بمعنى السّورة، و لا يأباه كون إِنَّا أَنْزَلْناهُ فيها لما مرّ آنفا لا حاجة إلى أن يقال: المراد بها ما عدا إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.

نصوص في علوم القرآن، ص: 301

و قيل: يجوز أن يراد به المجموع؛ لاشتماله على ذلك و أيّا ما كان، فحمل الآية على هذا المعنى غير معوّل عليه، و إنّما المعوّل عليه ما تقدّم.

و المراد بالإنزال إظهار القرآن من عالم الغيب إلى عالم الشّهادة، أو إثباته لدى السّفرة هناك، أو نحو ذلك ممّا لا يشكل نسبته إلى القرآن. (30: 189- 190)

نصوص في علوم القرآن، ص: 302

الفصل التّاسع و الثّلاثون نصّ البروجرديّ (م: 1277 ه) في تفسيره: «الصّراط المستقيم»

الإنزال و التّنزيل و الفرق بينهما

قد سبق جملة من الكلام في تحقيق معنى التّنزيل و الوحي و الإلهام،

و الّذي ينبغي ذكره في المقام أنّ القرآن تارة قد وصف بالإنزال و أخرى بالتّنزيل، و هما و إن اشتركا في الحلول من عال إلى أسفل، بل قال في القاموس: نزّله تنزيلا، و أنزله إنزالا و منزلا كمجمل، و استنزله بمعنى، إلّا أنّه قد يفرّق بين الأمرين باختصاص الأوّل بإحداث الفعل من غير تكثّر، بأن كان النّزول دفعة واحدة، و الثّاني بإحداثه على وجه التّكثير و التّدريج، و لعلّه لما في معنى التّفعيل من الإشعار على تكثير الفعل أو الفاعل أو المفعول، و المقام من الأوّل؛ حيث أنّه قد أنزل إلى السّماء الدّنيا، و إلى البيت المعمور في ليلة القدر، ثمّ أنزل منجّما مفرّقا إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم في ثلاث و عشرين سنة، أو في عشرين سنة. بل يستفاد ذلك أيضا من قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «1» و قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2»، بل من

______________________________

(1)- الدّخان/ 3.

(2)- القدر/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 303

قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «1». سيّما بعد ملاحظة الأخبار الواردة في تفسيرها حسبما تسمع إنشاء اللّه تفصيل الكلام فيها. و في قوله تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «2»، و غيره ممّا يدلّ على الأمرين، و لذا جاء بالفعل في الثّلاثة على صيغة الإفعال، و الرّابعة على صيغة التّفعيل. بل نبّه سبحانه بجعله فرقانا بعد كونه قرآنا مجتمعا في النّزول، أو في صقع وجوده. و بالجملة هذا الفرق بين الفعلين و إن لم ينبّه عليه جمهور أهل اللّغة إلّا أنّه لا بأس بعد مساعدة الأخبار و دلالتها على قسمي النّزول. و مناسبة

الإطلاق لهما في خصوص الموارد.

[ثمّ ذكر رواية حفص بن غياث و رواية أبي بصير كما تقدّم عن الكلينيّ، فقال:]

و عن بعض نسخ الفقيه: الفرقان بدل القرآن، و لا باس به، فإنّ الأوّل باعتبار النّزول الأوّل الجمعيّ. و الأخير باعتبار ما يؤوّل إليه من النّزول المنجّم التّفريقيّ.

و فيهما عن حمران بن أعين، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «3» ... [و ذكر كما تقدّم عن الكلينيّ، ثمّ نقل رواية القميّ عن الإمام الباقر عليه السّلام بحسب ما تقدّم عن الفيض الكاشانيّ، فقال:]

أقول: و صريح هذا الخبر كبعض ما مرّ أنّ القرآن و قد نزل جملة واحدة إلى البيت المعمور، و الأخبار و إن اختلفت في تعيين موضعه، حيث أنّه قد ورد في العلويّ المذكور في الدّر المنثور: إنّه الضّراح «4» بيت فوق سبع سماوات تحت العرش، يدخله كلّ يوم سبعون الف ملك، ثمّ لا يعودون اليه الى يوم القيمة «5».

و في علل ابن سنان المرويّ عن مولانا الرّضا عليه السّلام؛ «انّه بيت فى السّماء الدّنيا، بحذاء الضّراح، و هو بيت فى الرّابعة بحذاء العرش» «6».

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- الإسراء/ 106.

(3)- الدّخان/ 3.

(4)- الضّراح بضمّ الضّاد بيت في السّماء الرّابعة حيال الكعبة، يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك.

(5)- بحار الأنوار ج 14: 105 ط القديم عن الدّرّ المنثور.

(6)- في البحار ج 14: 104. عن العلل: فوضع في السّماء الرّابعة بيتا بحذاء العرش يسمّى الضّراح، ثمّ وضع في السّماء

نصوص في علوم القرآن، ص: 304

بل قد ورد مثله في أخبار أخر، و عن بعضهم، أنّه هو الكعبة البيت الحرام؛ لكونه معمورا بالحجّ و العمرة، إلّا أنّ المستفاد من أكثر الرّوايات،

و أشهرها و أظهرها أنّه بيت في السّماء الرّابعة و هو الضّراح، حيث أنّ الملائكة لمّا ردّوا على اللّه سبحانه في جعله في الأرض خليفة، فقالوا: أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ «1»، فحجبهم عن نوره سبعة آلاف عام، فلاذوا بالعرش سبعة آلاف سنة إلى أن تاب عليهم، و جعل لهم البيت المعمور في السّماء الرّابعة بحذاء العرش مثابة و أمنا و مطافا لهم و قبولا لتوبتهم، و أمرهم ببناء بيت في الأرض بمثاله و قدره. بل «2» قد يقال: إنّ هذه الأخبار الأخيرة و إن كانت أشهر و أكثر، إلّا أنّ مقتضى الجمع بينها مع صحّة جميعها القول بتحقّق البيت في جميع تلك المواضع، و الخطب فيه سهل. (1: 408- 411)

______________________________

- الدّنيا بيتا يسمّى البيت المعمور بحذاء الضّراح.

(1)- البقرة/ 30.

(2)- كما في البحار ج 14: 114. عن العلل عن الصّادق عليه السّلام و عن الدرّ المنثور عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام.

نصوص في علوم القرآن، ص: 305

الفصل الأربعون نصّ الأصفهانيّ (م: 1308 ه) في كتابه: «مجد البيان في تفسير القرآن»

زمان نزول القرآن و ما يتعلّق بذلك

قال اللّه سبحانه: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «1»

و قال عزّ و جلّ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2»

و قال سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ «3»

[ثمّ ذكر رواية حفص بن غياث، و رواية أبي بصير، و رواية حمران، نقلا عن الكافي كما تقدّم عن الفيض الكاشانيّ، فقال:]

أقول: لمّا كان جميع الحوادث الواقعة في السّنة مقدّرة متعيّنة الأحكام و الحدود في

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- القدر/ 1.

(3)- الدّخان/ 3- 6.

نصوص في علوم القرآن، ص: 306

ليلة القدر على ما يستفاد من الأخبار المستفيضة «1» لزم منه أن

يكون الآيات الّتي نزل في كلّ سنة ثابتة متعيّنة في ليلة القدر الّتي تقع في تلك السّنة. و بهذا يصحّ القول بأنّ القرآن نزل في ليلة القدر و في شهر رمضان؛ لأنّها فيه على ما يستفاد من المستفيضة المعتضدة بالكتاب «2»، لكنّ الظّاهر من تنكير اللّيلة الآية الثّالثة و رواية حفص المتقدّمة، و ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره «3» مضمون «4» هذا الجزء منه، أعني قوله «نزل القرآن جملة واحدة» الخ، من دون إسناد إلى الإمام عليه السّلام، لكنّ الظّاهر من حاله أخذه من رواياتهم، مع ما يشعر به سائر الرّوايات، أنّ القرآن نزل في ليلة واحدة جملة، و حينئذ فيمكن أن يقال: إنّ القرآن إنّما قرّر و ثبت كلّا تبعا لتقدير النّبوّة و الرّسالة؛ لأنّه لمّا قدّر الرّسالة و الإنذار قدّر المرسل به و المنذر به، لأنّه من متعلّقاته. و لمّا كان إعطاء منصب الرّسالة دفعيّا، لزم منه تعيّن المرسل به، كما إذا قدّر و عيّن السّبب في آخر السّنة؛ بحيث لا ينفكّ عن تفرّع مسبّبه عليه، ترتّب عليه تقدير المسبّب في أوّل السّنة الآتية.

مراتب نزول القرآن

و الّذي يقتضيه النّظر الدّقيق أنّ توقيت التّقديرات بليلة القدر إنّما هو في بعض المراتب النّازلة من مراتب القضاء و القدر، و فوقه مراتب أخرى، إلى أن ينتهي إلى اللّوح المحفوظ الّذي رقّم فيه جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة قبل خلق العالم. و يشبه أن يكون هو أمّ الكتاب «5»، الّتي يتولّد منها أحكام القضاء مرتبة بعد مرتبة، إلى أن ينتهي إلى تفصيل أحكام كلّ سنة في ليلة القدر منها.

______________________________

(1) كما في الخبر الأخير و سائر الأخبار الّتي أوردها الأعلام في كتبهم، و قد جمعها المجلسيّ

(رض) في البحار 97، باب ليلة القدر و فضلها، فراجع.

(2)- مراده (ره) الرّوايات الكثيرة المتواترة المنقولة في كتب الأخبار، منها ما ذكره المجلسيّ (ره) في البحار 97، باب ليلة القدر و فضلها. و هي معتضدة بقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ.

(3) القمّيّ 1،: 66.

(4) في عبارة المؤلّف (قدس سرّه) هنا تشويش، و عبارته هي: «و ذكر مضمون هذا الجزء منه، أعني قوله «نزل القرآن جملة واحدة- الخ» عليّ بن إبراهيم في تفسيره.

(5)- لقد ذهب إليه جمهور المفسّرين.

نصوص في علوم القرآن، ص: 307

و حينئذ فنزول القرآن جملة واحدة يصحّ أن يكون من عالم اللّوح المحفوظ دفعة إلى مرتبة تحتها، ثمّ نزوله منها في مرتبة ثالثة في كلّ سنة بقدرها، ثمّ نزوله في هذا العالم في أجزاء اللّيالي و الأيّام. و يشبه أن يكون المرتبة الثّانية هي البيت المعمور، أو باطنه و روحه و هو مظهره، كما روي.

و أمّا ما ذكره المحدّث الكاشانيّ بقوله: كأنّه اريد به نزول معناه على قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله «1»، فإن أراد به أنّ البيت المعمور هو قلبه صلّى اللّه عليه و آله فهو فاسد؛ إذ هو من أجزاء العالم الكبير و قد ورد ذكره في الأخبار «2»، و للقرآن مراتب نزوليّة في العالم الكبير. و إن أراد به أنّه مساوق لمقام قلبه بحيث إذا نزل فيه اطّلع قلبه صلّى اللّه عليه و آله عليه لاتّحادهما رتبة، فهو ليس بذلك البعيد؛ إذ أريد بالقلب ما يسمّى به قلبا باصطلاح جماعة من أهل المعرفة، إلّا أنّ ذلك المقام لا يأبى عن الألفاظ حين ينزّل النّزول إلى المعاني، بل الألفاظ بنفسها ممّا يصحّ نزولها فيه، و ليس تنزيل

نزول القرآن إلى نزول المعاني الصّرفة، إلّا تأويلا من دون سبب يقتضيه، فثبت.

كيفيّة نزول القرآن في ليلة القدر و تفصيله

ثمّ لمّا كان القرآن تبيان كلّ شي ء على نهج كلّي إجماليّ مشتمل على تكليفيّات و تكوينيّات متعلّقة بموضوعات مستقلّة، تفصّل في ليلة القدر، و تتولّد منها أحكام و قضايا معيّنة مشخّصة جزئيّة بالنّسبة إلى ما كان عليه، صحّ أنّه: «لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن» كما روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «3»؛ إذ لو لم ينزل تفصيله فيها و بقي على حاله الإجماليّ كان مرفوعا عن هذا العالم.

و ربّما يشهد لما ذكرناه معنى ما رواه الكافي عن الباقر عليه السّلام أنّه قال: قال اللّه عزّ و جلّ

______________________________

(1)- راجع الصّافيّ 1، المقدّمة التّاسعة: 42.

(2)- راجع البحار 58، باب البيت المعمور. و أنّه (ره) ذكر فيه روايات من الخاصّة و العامّة يستفاد منها: أنّ البيت المعمور هو في السّماء الرابعة، و إنّه قد سمّي «الضّراح».

(3)- رواه الكلينيّ (ره) في الكافي، ج 4، باب في ليلة القدر من كتاب «الصّيام» 158، ح 7 عن داود بن فرقد، عن يعقوب، عنه (عليه السّلام)؛ و أيضا الصّدوق (ره) في «الفقيه» 2: 101، ح 9، بهذا الإسناد؛ و نقله الفيض (ره) في الصّافي المقدّمة التّاسعة: 42.

نصوص في علوم القرآن، ص: 308

في ليلة القدر: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ يقول: ينزل فيها كلّ أمر حكيم، و المحكم ليس بشيئين، إنّما هو شي ء واحد، فمن حكم بما ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم اللّه عزّ و جلّ، و من حكم بأمر فيه اختلاف فرأى أنّه مصيب، فقد حكم بحكم الطّاغوت. إنّه لينزل في ليلة القدر إلى وليّ الأمر تفسير الأمور سنة سنة، يؤمر فيها في أمر نفسه

بكذا و كذا، و في أمر النّاس بكذا و كذا، و إنّه ليحدث لأولي الأمر سوى ذلك كلّ يوم علم اللّه الخاصّ، و المكنون العجيب المخزون، مثل ما ينزل في تلك اللّيلة من الأمر، ثمّ قرأ وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ «1». (147- 152)

مراتب وجود القرآن في النّزول و الصّعود

أقول: يمكن أن يقال: القرآن له وجود كتبي بين الدّفّتين، و وجود لفظيّ للقارئ منّا و من المعصومين: و من الملائكة كجبرئيل عليه السّلام، و وجود علميّ في لوح النّفس مكتسب من المرتبتين الأوليين، و وجود علميّ من إلقاء الرّوح الّذي في عالم الأمر إيّاه في القلب بأمر اللّه سبحانه؛ كما لعلّه يرشد إليه قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. «2» أو من انتقاش الألفاظ الغيبيّة في لوح القلب عند مواجهته لها و مقابلته إيّاه.

و لعلّه يومئ إليه قوله تعالى بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ. «3»

و وجود غيبيّ كتبي في لوح غيبي هو المبدأ لهذه النّقوش الواقعة في لوح القلب، و به يصير القلب مصحفا لوجه أوراقه و تلك النّقوش كتابته. و لعلّ إليه الإشارة بقوله تعالى:

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. «4»

و وجود لفظيّ غيبيّ هو كلام اللّه سبحانه، الّذي أوجده و أسمعه من شاء من عباده من الملك و النّبيّ. و لعلّ إليه الإشارة بقوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ «5».

______________________________

(1)- الكافي 1: باب في شأن إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ و تفسيرها: 248، ح 3؛ و الصّافيّ 2: 540. و الآية الأخيرة، لقمان/ 27.

(2)- الشّعراء/ 193- 194.

(3)- العنكبوت/ 49.

(4)- الواقعة/ 77- 79.

(5)- الزّمر/ 23.

نصوص في علوم القرآن، ص: 309

و له

وجود إجماليّ قبل التّفصيل. لعلّ إليه الإشارة بقوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ «1»

و هو الأصل، و الباقي تنزّلاته و مراتبه و شئونه بمنزلة أصل الشّجرة بالنّسبة إلى ساقه و أعضائه. و لعلّ إلى هذه المقامات الإشارة بإطلاق الإنزال و التّنزيل على القرآن في مواضع كثيرة.

ثمّ إنّ له صعودا أيضا، فإنّ القرآن اللّفظيّ الصّادر عنّا يتمثّل بمثال و يتشكّل بصورة جوهريّ في عالم أرفع من هذا العالم على ما تحقّق و ثبت في محلّه بالآيات و الأخبار الكثيرة الواردة في الموارد الكثيرة، المعتضدة بالاستبصارات العقليّة و غيرها، من أنّ الأعمال الحسنة و السّيّئة تتجسّم و تتمثّل و تبقى في عالم البرزخ مع الميّت، و قراءة القرآن منها، بل من أولى أفرادها بهذا الحكم، و كتابة القرآن عمل يتجسّم كذلك.

و حينئذ يتحقّق في القرآن قوسان؛ قوس نزول ينتهي إلى وجوده اللّفظيّ و الكتبيّ الواقع في هذه النّشأة، و قوس صعود واقع في عالم البرزخ، كما هو الحال في حقيقة الإنسان.

ثمّ إنّ حقيقة القرآن ليس مقصورا على عالم الألفاظ و النّقوش الواقعة في عالم الملك و الملكوت، بل مداليل الكلمات القرآنيّة أحقّ بالدّخول في حقيقة القرآن منها، و لها وجود في عالمها المعنويّة، فهي أيضا يصحّ أن تعدّ مقاما آخر له، و مراتبه المتعدّدة تنتهي إلى حقيقة الإسم الإلهيّ، الّذي هو المبدأ للقرآن. و يشبه أن يكون هو حقيقة اسم الهاديّ و النّور الّذي ربّما أطلق اسمه على القرآن في مواضع. (160- 161)

______________________________

(1)- هود/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 310

الفصل الحادي و الأربعون نصّ السّيّد رشيد رضا (م: 1354 ه) في تفسيره: «المنار»

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ البقرة/ 185

و أمّا معنى إنزال القرآن في رمضان مع أنّ المعروف باليقين أنّ القرآن نزل منجّما متفرّقا في مدّة البعثة كلّها، فهو أنّ ابتداء نزوله كان

في رمضان، و ذلك في ليلة منه، سمّيت ليلة القدر، أي الشّرف، و اللّيلة المباركة، كما في آيات أخرى، و هذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه، على أنّ لفظ القرآن يطلق على هذا الكتاب كلّه، و يطلق على بعضه. و قد ظنّ الّذين تصدّوا للتّفسير منذ عصر الرّواية أنّ الآية مشكلة، و رووا في حلّ الإشكال أنّ القرآن نزل في ليلة القدر من رمضان إلى سماء الدّنيا و كان في اللّوح المحفوظ فوق سبع سماوات، ثمّ نزل على النّبيّ منجّما بالتّدريج، و ظاهر قولهم هذا أنّه لم ينزل على النّبيّ في رمضان منه شى ء، خلافا لظاهر الآيات، و لا تظهر المنّة علينا و لا الحكمة في جعل رمضان شهر الصّوم على قولهم هذا؛ لأنّ وجود القرآن في سماء الدّنيا كوجوده في غيرها من السّماوات أو اللّوح المحفوظ، من حيث أنّه لم يكن هداية لنا، و لا تظهر لنا فائدة في هذا الإنزال و لا في الإخبار به، و قد زادوا على هذا روايات في كون جميع الكتب السّماويّة أنزلت في رمضان، كما قالوا: إنّ الأمم السّابقة كلّفت صيام رمضان، قال الأستاذ

نصوص في علوم القرآن، ص: 311

الإمام: و لم يصحّ من هذه الأقوال و الرّوايات شى ء «1»، و إنّما هي حواش أضافوها لتعظيم رمضان، و لا حاجة لنا بها؛ إذ يكفينا أنّ اللّه تعالى انزل فيه هدايتنا، و جعله من شعائر ديننا و مواسم عبادتنا، و لم يقل تعالى إنّه أنزل القرآن جملة واحدة في رمضان، و لا أنّه أنزله من اللّوح المحفوظ إلى سماء الدّنيا، بل قال بعد إنزاله هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ فهو محفوظ في لوح بعد نزوله قطعا. و أمّا

اللّوح المحفوظ الّذي ذكروا أنّه فوق السّماوات السّبع، و أنّ مساحته كذا، و أنّه كتب فيه كلّ ما علم اللّه تعالى، فلا ذكر له في القرآن.

و هو من عالم الغيب، فالإيمان به إيمان بالغيب، يجب أن يوقف فيه عند النّصوص الثّابتة بلا زيادة و لا نقص و لا تفصيل، و ليس عندنا في هذا المقام نصّ يجب الإيمان به.

(2: 161- 162)

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ... آل عمران/ 3

أي أوحي إليك هذا القرآن المكتوب بالتّدريج متّصفا بالحقّ ملتبسا به، و إنّما عبّر عن الوحي بالتّنزيل و بالإنزال، كما في آيات أخرى؛ للإشعار بعلوّ مرتبة الموحي على الموحى إليه. و يصحّ التّعبير بالإنزال عن كلّ عطاء منه تعالى كما قال: وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ و أمّا التّدريج فقد استفيد من صيغة التّنزيل، و كذلك كان، فقد نزل القرآن نجوما متفرّقة بحسب الأحوال و الوقائع. (3: 155)

______________________________

(1)- حديث واثلة مرفوعا عند أحمد و ابن جرير و غيرهما، و هو غير صحيح.

نصوص في علوم القرآن، ص: 312

الفصل الثّاني و الأربعون نصّ ابن باديس (م: 1359 ه) في «تفسيره»

تثبيت القلوب بالقرآن العظيم
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ... الفرقان/ 32

المناسبة هذا اعتراض آخر من اعتراضاتهم الباطلة، نسقه مع ما تقدّم منها ليجاب عنه، و يبيّن خطأهم فيه، كما فعل بما تقدّمه.

المفردات (لو لا): مع المضارع للتّحضيض، نحو لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ «1». و مع الماضي للّوم و التّوبيخ، نحو لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ «2». و هي هنا مع الماضي، فتكون للّوم على عدم حصول المذكور و حصول ضدّه، و المقصود من اللّوم هنا الاعتراض على عدم نزوله جملة واحدة، و نزوله مفرّقا، فالمعترض عليه هو نزوله مفرّقا.

(نزّل): يأتي مرادفا لأنزل، و التّضعيف أخو الهمزة، و يأتي مفيدا للتّكثير، فيفيد تكرّر

______________________________

(1)- النّمل/ 46.

(2)- النّور/ 13.

نصوص في علوم القرآن، ص: 313

النّزول و تجديده.

و خرّج على هذا قوله تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ «1»

و أمّا هنا فلا يصحّ حمله على التّكثير المفيد للتّدريج؛ لئلّا يناقض قولهم، (جملة واحدة)، فيكون من التّضعيف المرادف للهمزة.

و عندي إنّ (نزّل) المضاعف يرد لكثرة الفعل و لقوّته، فجاء لكثرته في آية آل عمران المتقدّمة، و جاء لقوّته في هذه الآية؛ لأنّ إنزال الجملة مرّة

واحدة أقوى من إنزال كلّ جزء من الأجزاء بمفرده.

(كذلك) الإشارة للإنزال المفرّق، المفهوم من قولهم لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً لأنّه في المعنى لمّه نزّل عليه جملة، و لم ينزّل عليه مفرّقا؟

التّثبيت: ثبات الشّي ء اقامته و رسوخه دون اضطراب، و ذلك من قوّته، كما أنّ اضطراب المضطرب من ضعفه. فتفسير تثبيت الفؤاد هنا بتقويته تفسير بلازم معناه، على أنّه مراد منه أيضا أصل المعنى، و هو السّكون و عدم الاضطراب. فتثبيته- إذن- هو تسكينه و تقويته.

التّرتيل: مادّة (ر ت ل) كلّها ترجع إلى تناسق الشّي ء و حسن تنضيده، منه ثغر رتل (بالتّحريك)، أي مفلج بين الأسنان فرج لا يركب بعضها بعضا.

و ترتيل القرآن في التّلاوة هو إلقاء حروفه حرفا حرفا، و كلماته كلمة كلمة، و آياته آية آية، على تؤدة و مهل، حتّى يتبيّن للقارئ و للسّامع، و لا يخفى عليه شي ء منه.

و أمّا ترتيله في نزوله- و هو المراد هنا- فإنّه إنزاله آية و آيتين و آيات، مفرّقا نجوما على حسب الوقائع.

التّراكيب وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وصل؛ لأنّه قيل من أقوالهم، فعطف على ما تقدّم من مثله.

______________________________

(1)- آل عمران/ 3.

نصوص في علوم القرآن، ص: 314

كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ الأصل أنزلناه كذلك، فأوجز بحذف المتعلّق لوجود ما يدلّ عليه من اعتراضهم، و فصل لأنّه جواب عن اعتراضهم.

وَ رَتَّلْناهُ: وصل؛ لأنّه معطوف على أنزلناه المحذوف. و التّنوين في تَرْتِيلًا تنوين تنويع و تعظيم، أي نوعا من التّرتيل عظيما.

المعنى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا- و هم قريش، أو اليهود أو الجميع، و هو الظّاهر؛ لأنّ قريشا و اليهود كان يتّصل بينهم الكلام في شأن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و شأن القرآن- قالوا معترضين و مقترحين: لم

لم ينزّل عليه القرآن جملة واحدة كما أنزلت التّوراة و غيرها، و نزّل عليه مفرّقا؟

فقال اللّه تعالى جوابا لهم: أنزلناه كذلك الإنزال مفرّقا؛ لنثبّت به قلبك فيسكن و يطمئنّ، و نقوّيه فيصبر و يتحمّل.

و أنزلناه مرتّلا و مفرّقا تفريقا مرتّبا، منزلا كلّ قسم منه في الوقت المناسب لإنزاله و الحالة الدّاعية إليه اللّائقة به.

مزيد بيان للاعتراض و الجواب أمّا اعتراضهم، فكان لأنّهم سمعوا القرآن يذكر أنّ الكتاب أنزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم كما أنزلت الكتب على الأنبياء: من قبل بمثل قوله تعالى: وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ «1».

فقالوا: لما ذا نزّل هذا الكتاب مفرّقا، و لم ينزّل مثل تلك الكتب جملة واحدة؟!

و هم لمّا عجزوا عن معارضة أقصر سورة منه، أخذوا يباهتون بالباطل، و يعترضون بمثل هذا الاعتراض.

و أمّا الجواب، فكان ببيان حكمتين في إنزاله مفرّقا؛ الحكمة الأولى: تثبيت قلبه صلّى اللّه عليه و سلم.

و الحكمة الثّانية: تفريقه مرتّبا على الواقع. و كان في تينك الحكمتين مزيّتان عظيمتان للقرآن العظيم على غيره من كتب اللّه تعالى؛ فكان ما اعترضوا به أنّه نقص فيه عنها هو كمال له عليها.

______________________________

(1)- العنكبوت/ 47.

نصوص في علوم القرآن، ص: 315

شرح الحكمة الأولى كان كلّ نجم ينزل من القرآن العظيم- و النّجم القسم الّذي ينزل معا آية أو آيتين أو أكثر- يزداد به عجزهم و عنادهم ظهورا و تزداد حجّة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و صدقه وضوحا، فيزداد بذلك سكون قلبه و طمأنينته بظهور أمره على عدوّه، و علوّ كلمة الحقّ على كلمة الباطل.

و في ذلك تقوية له، و أيّ تقوية! لا عن شكّ كان في قلبه أو تردّد و لكنّ البراهين المتوالية، و الحجج

المتتالية، تزيد في سكون القلب و اطمئنانه، و إن كان معقودا من أوّل أمره على اليقين. فهذا وجه من تثبيت فؤاده بالآيات المتفرّقات في النّزول.

و قد كان كلّ نجم من نجوم القرآن ينزل بشي ء من العلم و العرفان، ممّا يرجع إلى العقائد أو الأخلاق أو الأحكام، أو التّذكير بالأمم الماضية أو أخبار الرّسل المتقدّمين، أو باليوم الآخر أو بسنّة اللّه في المكذّبين، إلى غير ذلك من علوم القرآن، فيقوى قلبه عند نزول كلّ نجم بما يكتسبه منه من معرفة و علم.

و كان يلقى من الجهد و العناء في تبليغ الرّسالة ما تضعف عن تحمّله القوى البشريّة.

فإذا نزل عليه القرآن، و اتّصل بالملك الرّوحانيّ النّورانيّ، و قذف في قلبه ذلك الوحي القرآنيّ، تقوّى قلبه على تحمله أعباء الرّسالة و مشاقّ التّبليغ. و لمّا كان البلاء و العناء في سبيل التّبليغ متكرّرا متجدّدا، كان محتاجا إلى تحديد تقوية قلبه، و كان ذلك مقتضيا لتفريق نزول الآي عليه، فهذه ثلاثة وجوه من التّثبيت.

حظّنا من العمل بهذه الحكمة حاجتنا إلى تجديد التّلاوة و التّدبير: قلوبنا معرضة لخطرات الوسواس، بل للأوهام و الشّكوك، فالّذي يثبّتها، و يدفع عنها الاضطراب، و يربطها باليقين هو القرآن العظيم.

و لقد ذهب قوم مع تشكيكات الفلاسفة و فروضهم «1» و مماحكات المتكلّمين

______________________________

(1)- لا شكّ أنّ تشكيكات الفلاسفة و افتراضاتهم، أضرّت و شكّكت؛ لأنّها من عمل البشر النّاقص المضطرب، غير أنّها-

نصوص في علوم القرآن، ص: 316

و مناقضاتهم، فما ازدادوا إلّا شكّا، و ما ازدادت قلوبهم إلّا مرضا، حتّى رجع كثير منهم في أواخر أيّامهم إلى عقائد القرآن و أدلّة القرآن، فشفوا بعد ما كادوا، كإمام الحرمين و الفخر الرّازيّ.

و قلوبنا معرضة لرين المعصية الّتي تظلم

منها القلوب و تقسو، حتّى تحجب عنها الحقائق، و تطمس أمامها سبل العرفان. فالّذي يجلو عنها ذلك الرّين، و يزيل منها تلك القسوة، و يكشف لها حقائق العلم، و يوضّح لها سبل المعرفة هو القرآن العظيم. فقرّاؤه المتفقّهون فيه، قلوبهم نيّرة، مستعدّة لتلقّي العلوم و المعارف، مستعدّة لسماع الحقّ و قبوله، لها من نور القرآن فرقان تفرّق بين الحق و الباطل، و تميز بين الهدى و الضّلال.

و قلوبنا معرضة للضّعف عن القيام بأعباء التّكليف، و ما نحن مطالبون به من الأعمال، و الّذي يجدّد لنا فيها القوّة، و يبعث فيها الهمّة هو القرآن العظيم. فحاجتنا إلى تجديد تلاوته و تدبيره، أكيدة جدّا؛ لتقوية قلوبنا باليقين و بالعلم و بالهمّة و النّشاط، للقيام بالعمل.

شرح الحكمة الثّانية من محاسن هذه الشّريعة المطهّرة أنّها نزلت بالتّدريج المناسب و كما كان في تحريم الخمر، و كما كان في العدد المفروض عليه الثّبات للعدو في آيات الأنفال «1». و كما كان في مشروعيّة قيام اللّيل في آيات سورة المزّمّل «2». و ما كان ليكون هذا التّدريج بغير تفريق الآيات في التّنزيل. و من محاسنها نسخ الحكم، عند انتهاء المصلحة التي اقتضت تشريعه، و انقضاء زمنها لحكم آخر، أنسب منه للبقاء في الأزمان. كما كان في آيتي المتوفّى عنها في سورة البقرة. و ما كان ذلك ليأتي إلّا بتفريق الآيات في الإنزال.

______________________________

- أحيانا أفادت في طرق البحث و الاستنباط و السّير على المنهج العلميّ، و نحن- و لا شكّ- محتاجون إليها، خاصّة في وجوهها الحسنة، و خاصّة في أيّامنا هذه؛ لأنّ الشّباب المثقّف اليوم لا يقنع إلّا بالدّليل، و قرع الحجّة بالحجّة على أساس علميّ، و لا خوف على قرآننا من

ذلك، و إنّما المشكلة هي كيف نجد الدّاعي الّذي يقوم بذلك.

(1)- في قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ ... مَعَ الصَّابِرِينَ الأنفال/ 65 و 66.

(2)- في قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ ... رَحِيمٌ، الآية/ 20 من سورة المدّثّر

نصوص في علوم القرآن، ص: 317

و كانت الوقائع تقع، و الحوادث تحدث، و الشّبه تعرض، و الاعتراضات ترد .. فكانت الآيات تنزل بما تتطلّبه تلك الوقائع من بيان، و ما تقتضيه تلك الحوادث من أحكام، و ما تستدعيه تلك الشّبه من ردّ، و تلك الاعتراضات من إبطال، إلى غير ما ذكرنا من مقتضيات نزول الآيات المعروفة بأسباب النّزول.

و في بيان الواقعة عند وقوعها، و ذكر حكم الحادثة عند حدوثها، و ردّ الشّبه عند عروضها، و إبطال الاعتراض عند وروده- ما فيه من تأثير في النّفوس، و وقع في القلوب، و رسوخ في العقول، و جلاء في البيان، و بلاغة في التّطبيق، و استيلاء على السّامعين.

و ما كان هذا كلّه ليأتي لو لا تفريق الآيات في التّنزيل، و ترتيلها و تنضيدها هذا التّرتيل العجيب، و هذا التّنضيد الغريب، الّذي بلغ الغاية من الحسن و المنفعة، حتّى أنّه ليصحّ أن يعدّ وحده وجها من وجوه الإعجاز. (ص: 289- 294)

نصوص في علوم القرآن، ص: 318

الفصل الثّالث و الأربعون نصّ الزّنجانيّ (م: 1360 ه) في «تاريخ القرآن»

ابتداء نزول الوحي

ابتدأ نزول القرآن في ليلة القدر، و هي بنصّ القرآن في رمضان للسّنة الحادية و الأربعين من ميلاده الشّريف؛ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1»، إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ «2»، شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ

«3» و هو الشّهر الّذي كان محمّد صلّى اللّه عليه و آله يعتكف فيه بغار حراء «4»، و يعتزل فيه النّاس للصّوم و العبادة.

أمّا نفس اللّيلة الّتي ابتدأ فيها الوحي ففيها خلاف كثير. و في قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ «5»، إشارة إلى أنّ ابتداء الوحي كان في السّابع عشر من رمضان؛ لأنّ التقاء الجمعين في (17) رمضان سنة (2)

______________________________

(1)- سورة القدر/ 1.

(2)- سورة الدّخان/ 3- 5.

(3)- سورة البقرة/ 185.

(4)- حراء بالكسر و التّخفيف و المدّ: جبل من جبال مكّة على ثلاثة أميال، و كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبل أن يأتيه الوحي يتعبّد في غار من حراء.

(5)- الأنفال/ 41.

نصوص في علوم القرآن، ص: 319

للهجرة، و المراد بالجمعين هم المسلمون و المشركون ببدر. فالآية تشير إلى يومين عظيمين رفيعين شرّف اللّه تعالى فيهما محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بالرّسالة، و أعزّ المسلمين بنصره، روى أبو جعفر بن جرير الطّبريّ في تفسيره بسنده عن الإمام حسن بن عليّ بن أبي طالب عليهما السّلام قال: «كانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان لسبع عشر من شهر رمضان». (ص: 7)

نصوص في علوم القرآن، ص: 320

الفصل الرّابع و الأربعون نصّ النّهاونديّ (م: 1369 ه) في «خزينة الجواهر» «1»

المنازل الأربعة عشر القرآن الكريم

إنّ هذا القرآن هو أوّل كتاب سماويّ، و له منازل عديدة و نزولات متعدّدة؛

الأوّل: القرآن و هو أشرفها، و نزل بالمشيئة الإلهيّة، و تجلّى للبشر بنور محمّد صلّى اللّه عليه و آله أوّل خليقته و وعاء مشيئته. و المراد بالنّور المقدّس ذلك العقل الأوّل الّذي قال له البارئ بعد خلقه: أقبل، فأقبل، ثمّ قال له: أدبر، فأدبر.

و كان نبيّا في ذلك المقام النّورانيّ كما قال صلّى اللّه عليه

و آله: «كنت نبيّا و آدم بين الماء و الطّين» بل أنّه خلق نبيّا و كان متّصفا بمقام الرّسالة، و إعطاء الحكم و النّبوّة و الرّسالة في أوّل الخلقة، كما أنّ قاعدة إمكان الأشرف شاهدة على ذلك، و أنّ سائر الأنبياء يستضيئون بضوئه، و يستنيرون بنوره.

الثّاني: القرآن المكتوب على جبهة إسرافيل و جبهته مورده و منزله كما أفاد غير واحد من الأخبار.

الثّالث: هو عالم الأسماء و الأشباح الّذي أطلق عليه عالم النّور و نور النّور و عالم

______________________________

(1)- ترجم هذا النّص من الفارسيّة. و النّهاونديّ هذا هو الشّيخ علي أكبر صاحب المؤلّفات الكثيرة باللّغة الفارسيّة، غير النّهاونديّ صاحب التّفسير الآتي «نفحات الرّحمن».

نصوص في علوم القرآن، ص: 321

المثال و التّمثال.

الرّابع: اللّوح المحفوظ الّذي أخبر عنه اللّه سبحانه بقوله: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «1».

الخامس: سدرة المنتهى، و هو المقام الّذي يتلقّى جبرئيل منه الوحي.

السّادس: اللّوح الموجود في عرش الرّحمن، إذ قد ورد في كثير من التّفاسير كتفسير القمّيّ و العيّاشيّ و البرهان و نور الثّقلين عند تفسير الآية المباركة وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ «2»، أنّ الإمام عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: «في العرش تمثال جميع ما خلق اللّه في البرّ و البحر»، و هذا العموم يشمل القرآن أيضا على وجه أعلى و أشرف.

السّابع: نزول القرآن على الرّسول دفعة واحدة ليلة المعراج بدون توسّط جبرئيل حسبما يستفاد من الأخبار و الآثار إمّا تصريحا أو تلويحا.

الثّامن: عالم المشيئة الإلهيّة؛ لأنّ القرآن مخلوق و حادث، خلافا للأشاعرة القائلين بالكلام النّفسيّ و بقدم القرآن. فهو موجود- إذا- في المشيئة الإلهيّة، كما تشير كلمة «كن» إلى

ذلك المقام في بعض الرّوايات؛ حيث ناجى موسى ربّه قائلا: ربّ أرني خزائنك! قال اللّه تعالى: «إنّما خزائني إذا أردت لشي ء أن أقول له: كن، فيكون».

التّاسع: البيت المعمور، استنادا إلى بعض الأحاديث.

العاشر: قلب خاتم الأنبياء في ليلة القدر، طبق أخبار كثيرة أنّ القرآن نزل على قلب النّبيّ جملة واحدة في ليلة القدر.

الحادي عشر: البيت المعمور في اللّيلة الثّالثة و العشرين من شهر رمضان، و نزول معناه على قلب الرّسول مدّة عشرين سنة، كما قال اللّه تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «3».

الثّاني عشر: نفس القرآن الموجود بين النّاس، الثّابت بين الدّفّتين، و الّذي قرنه النّبيّ

______________________________

(1)- الواقعة/ 76- 78.

(2)- الحجر/ 21.

(3)- الشّعراء/ 193.

نصوص في علوم القرآن، ص: 322

بالعترة في الحديث المعروف «إنّي تارك فيكم الثّقلين كتاب اللّه و عترتي» و هو نفس القرآن الّذي جرى على لسان الرّسول و الأئمّة:، و نفسه الّذي نزل على سيّد المرسلين بواسطة الرّوح الأمين.

الثّالث عشر: وجوده اللّفظيّ و كسوته الكلاميّة في ألسنة القرّاء و أفواههم.

الرّابع عشر: بعثه يوم القيامة بصورته الحسنة و شفاعته لقارئيه، كما جاء ذلك في حديث طويل برواية سعد الخفّاف نقلا عن الإمام الباقر عليه السّلام. و قد أشار العالم الجليل و الأستاذ النّبيل المرحوم الشّيخ جعفر الشّوشتريّ في كتاب «الخصائص الحسينيّة» إلى بعض هذه المنازل و المقامات، و كذا فعل العالم الجليل المتّقي الشّيخ محمّد تقي الأصفهاني المعاصر، المعروف بآقا نجفي في كتاب «العنايات الرّضويّة».

إشارة: اعلم أنّ المراد من قول الإمام العسكريّ عليه السّلام: «إنّ روح القدس في الجنان الصّاقورة ذاق عن حدائقنا الباكورة» على ما نقله عنه في «السّابع عشر» من بحار الأنوار، و رواية تعليم أمير المؤمنين عليه السّلام

لجبرئيل عليه السّلام في عالم الأشباح و الأنوار، ليس نزول جبرئيل على خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، و نزول الكتاب عليه، بل هو تلقّيه من باطن محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و إنزال القرآن على ظاهره، و هذا شرف لجبرئيل، و ليس افتقار النّبيّ و احتياجه إليه.

و لنعم ما قال في هذا المقام بعض الأعلام، و حريّ بنا أن ننقل كلامه تشييدا للمرام، قال: اعلم أنّ نزول جبرئيل على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله إنّما كان على حسب الحكمة البالغة الرّبانيّة، و لعلّه من جهة تشرّف جبرئيل بهذه الخدمة، فإنّه صلّى اللّه عليه و آله معدن الرّحمة الواسعة، و هو إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، و هذا تفضّل من اللّه و رسوله بالنّسبة إلى جبرائيل، لا من جهة افتقار الرّسول صلّى اللّه عليه و آله في تعلّمه الوحي إلى جبرئيل، أو جهله بالقرآن قبل نزول جبرئيل عليه، بل كان عالما بذلك من أوّل الخلقة و قبل أن يخلق جبرئيل. فقوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى «1» معناه أعطاه العلم، و لا يلزمه نسبة الجهل إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله. إلى آخر ما قال من هذا النّمط من المقال «2». (ص 433- 435)

______________________________

(1)- النّجم/ 5.

(2)- و في بعض هذا الكلام نظر من أجل أنّه لا يوافق ظاهر القرآن.

نصوص في علوم القرآن، ص: 323

الفصل الخامس و الأربعون نصّ النّهاونديّ (م: 1371 ه) في تفسيره: «نفحات الرّحمن»

في بيان سرّ نزول القرآن جملة إلى البيت المعمور في ليلة القدر

قد اتّفقت الأمّة من الخاصّة و العامّة، و تظافرت بل تواترت نصوصهم على أنّ الكتاب العزيز نزل أوّلا في ليلة القدر و مجموعا من اللّوح المحفوظ إلى البيت المعمور الّذي يكون في السّماء الرّابعة، أو إلى بيت العزّة في سماء الدّنيا إلى السّفرة الكرام البررة، ثمّ نزل

به جبرئيل نجوما على خاتم النّبيين صلّى اللّه عليه و آله في مدّة عشرين أو ثلاث عشرين أو خمس و عشرين سنة، على حسب اختلاف العلماء في مدّة إقامته صلّى اللّه عليه و آله بمكّة بعد بعثته و قبل هجرته.

و قيل: في سرّ إنزاله جملة أوّلا إلى سماء الدّنيا ... [و ذكر كما تقدّم عن أبي شامة].

و قيل: إنّ السّرّ هو تسليمه تبارك و تعالى لهذه الأمّة ما كان أبرز لهم من الحظّ من الرّحمة الّتي استحقّوها لأجل مبعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و ذلك أنّ بعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله كانت رحمة، فلمّا خرجت الرّحمة و فتح بابها جاءت بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و بالقرآن معا، فوضع القرآن ببيت العزّة في السّماء الدّنيا ليدخل في حدّ الدّنيا، و وضعت النّبوّة في قلب محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و جاء جبرئيل عليه السّلام بالرّسالة ثمّ بالوحي، كأنّه تعالى أراد أن يسلّم إلى الأمّة الرّحمة الّتي كانت

نصوص في علوم القرآن، ص: 324

حظّها من اللّه.

و قيل: إنّ السرّ في نزوله جملة إلى سماء الدّنيا تكريم بني آدم، و تعظيم شأنهم عند الملائكة، و تعريفهم عناية اللّه بهم و رحمته لهم، و لهذا المعنى أمر اللّه سبعين ألف ملك أن يشيّعوا سورة الأنعام، و زاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبرئيل بإملائه على السّفرة الكرام و إنساخهم إيّاه و تلاوتهم له. و فيه أيضا التّسوية بين نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و بين موسى بن عمران و عيسى بن مريم عليهما السّلام في إنزاله كتابه جملة، كما أنزل كتابيهما جملتين، و التّفصيل لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله

في إنزاله عليه منجّما؛ لحكم كثيرة لا يعلمها إلّا اللّه.

أقول: يمكن أن يكون السّرّ تكميل عالم الملكوت، و وجود الرّوحانيّين بإيجاد الكتاب الكريم فيهم. و تقريره أن يقال: المراد من إنزاله إلى سماء الدّنيا و إلى البيت المعمور هو إبداعه تعالى و إيجاده كتابه الكريم بوجوده الجوهريّ، و صورته النّوريّة في ملكوت السّماء و عالم الأنوار و بعد وجوده في مكنون علمه المعبّر عنه بالعرش تارة و باللّوح المحفوظ أخرى، و لمّا كان وجود خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله رحمة للعالمين حصل ببركة استعداد الكمال لجميع العوالم الملكيّة و الملكوتيّة، و كما كان للكتاب العظيم تأثير عظيم بوجوده اللّفظيّ و الكتبيّ في تكميل النّفوس المستعدّة في عالم الملك، كان لوجوده الجوهريّ النّوريّ في عالم الملكوت تأثير في تكميل وجود الذّوات المستعدّة الملكوتيّة و الملكيّة. و بحصول مرتبة من الكمال الوجوديّ لعالم الوجود صار مستحقّا لتزيينه بوجود خاتم النّبيّين و تكميله ببعثته، فشملته هذه الرّحمة العظيمة و بعثه اللّه فيه. ثمّ بعد هذا الفيض حصل له استعداد قبول فيض آخر، و استحقاق رحمة أتمّ من إنزال كتابه الكريم الّذي هو تجلّى صفاته التّامّة في العوالم. و كان إيجاد الكتاب الكريم في عالم الملكوت تكميل الرّحمة على جميع الموجودات الملكيّة و الملكوتيّة ببركة وجود نبيّ الرّحمة و إرساله رحمة للعالمين.

لعلّ هذا الوجه الّذي ذكرناه أوجه في الواقع و أقرب إلى الأذهان من الوجه الّذي ذكره الفيض، في «مقدّمات الصّافي» فإنّه بعد نقل الرّوايات الدّالّة على نزول القرآن جملة إلى البيت المعمور في ليلة القدر ... [ثمّ ذكر كما تقدّم عنه فقال:]

نصوص في علوم القرآن، ص: 325

مع أنّه ليس فيما ذكرناه حمل الرّوايات على خلاف

ظاهرها؛ إذ من الواضح أنّه ليس المراد من القرآن الّذي نزل في البيت المعمور الأصوات المعتمدة على المخارج المعبّر عنها بالحروف و الكلمات، و لا النّقوش المنطبعة في الأوراق و الصّفحات، بل له صورة في عالم الملكوت مغايرة لصورته في هذا العالم، و استعمال لفظ الإنزال في معنى الايجاد غير عزيز، كما قال تعالى: وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «1»، أي أوجد لكم.

نعم، في خبر المفضّل إشعار بتوجيهه رحمه اللّه حيث قال: قال الصّادق عليه السّلام: يا مفضّل، أنّ القرآن نزل ... [و ذكر كما تقدّم عن العلّامة المجلسيّ، ثمّ قال:]

و يمكن حمله على ما ذكرنا من الوجه، أو إبقائه على ظاهره إن كان له ظهور فيما ذكره رحمه اللّه من التّوجيه و القول بنزوله في البيت المعمور و في قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لا منافاة بينهما.

في بيان أسرار نزول القرآن العظيم نجوما على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله

و أمّا سرّ نزوله نجوما فكثير، منه: أنّه صلّى اللّه عليه و آله بنزوله نجوما كان يتحدّى بكلّ نجم من آية أو سورة تنزّل عليه، و من الواضح أنّ عجز الفصحاء من الإتيان بمثل كلّ واحد من النّجوم أظهر في الإعجاز من عجزهم من إتيان مثل المجموع إذا كان نزوله جملة واحدة، إذا كان تحدّى به.

و منه: إنّ في إنزاله نجوما كان لطفا على المؤمنين؛ حيث أنّه كان بنزول نجم يزداد فرحهم و يقينهم كما قال اللّه تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ «2».

و أيضا: كان بنزول الآيات في مواقع الجهاد يزداد نشاطهم و رغبتهم و جدّهم فيه، و إذا نزلت بهم بليّة ثمّ نزلت في شأنهم آية كان يهوّن عليهم تلك البليّة، و إذا وقعوا في تعب و

عناء كان نزول الآيات يزيل تعبهم و عنائهم بتكميل بصيرتهم و يقينهم.

______________________________

(1)- الزّمر/ 6.

(2)- التّوبة/ 124.

نصوص في علوم القرآن، ص: 326

و منه: أنّ مناسبة الواقع و خصوصيّات المقامات و انضمام القرائن الحالية كانت موجبة لزيادة البلاغة.

و منه: أنّ نزول بعض الآيات ردّا على الكفّار في مواقع معارضتهم، أو إلقاء شبهاتهم، أو تهديدا لهم عند صدور استهزاءاتهم و الطّعون منهم على الإسلام و المسلمين، أو زجرا لهم عند إرادتهم الفساد في الدّين، كان أشدّ تأثيرا في تبكيتهم و تقريعهم و ردعهم و زجرهم و هدايتهم و تبعهم إلى الإيمان و الانقياد إلى الحقّ.

و منه: أنّ نزوله مفرّقا أدعى لقبوله و تحمّل إطاعة أحكامه، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة، فإنّه كان يثقل قبوله على كثير من النّاس؛ لكثرة ما فيه من الفرائض و المناهي.

روي عن عائشة أنّها قالت: إنّما نزل أوّل ما أنزل منه سور من المفصّل، فيها ذكر الجنّة و النّار، حتّى إذا ثاب النّاس إلى الإسلام نزل الحلال و الحرام، و لو نزل أوّل شي ء «لا تشربوا الخمر» لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، و لو نزل «لا تزنوا» لقالوا: لا ندع الزّنى أبدا.

و عن الباقر عليه السّلام قال: «ليس أحد أرفق من اللّه تعالى من رفقه تبارك و تعالى أنّه ينقلهم من خصلة إلى خصلة، و لو حمل عليهم جملة واحدة لهلكوا». و في رواية عنهم عليهم السّلام «إنّ اللّه تعالى إذا أراد أن يفرض فريضة أنزلها شيئا بعد شي ء، حتّى يوطّن النّاس أنفسهم عليها، و يسكنوا إلى أمر اللّه و نهيه، و كان ذلك من التّدبير فيهم أصوب و أقرب لهم إلى الأخذ بها، و أقل لنفارهم منها».

أقول: و لعلّه إلى جميع

الوجوه المذكورة أشار سبحانه و تعالى بقوله: وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «1».

روي عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: أخذ موسى الألواح بعد ما سكن عنه الغضب؛ فأمرهم بالّذي أمر اللّه أن يبلغهم من الوظائف فثقلت عليهم، فأبوا أن يقرّوا بها، حتّى نتق اللّه عليهم الجبل كأنّه ظلّة، و دنا منهم حتّى خافوا أن يقع عليهم فأقرّوا بها.

أقول: لعلّه من الإصار التي كانت على بني إسرائيل أنّه نزلت التّوراة على موسى دفعة، و حمّل عليهم جميع التّكاليف بدوّا، فصار ثقيلا عليهم، فأبوا عن قبولها. (1: 6- 8)

______________________________

(1)- الإسراء/ 106.

نصوص في علوم القرآن، ص: 327

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... البقرة/ 185

الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ: ابتداءه أو بيانه أو تأويله أو جميعه دفعة إلى البيت المعمور في ليلة القدر منه.

روي عن الكافي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن قول اللّه شهر رمضان ... [و ذكر كما تقدّم عنه، ثمّ قال:]

و قد تظافرت الرّوايات بأنّها ليلة القدر، فتوصيف هذا الشّهر بذلك الوصف لبيان أنّ هذا الشّهر لفضيلته و شرافته الذّاتية خصّ بنزول الرّحمة و وفور البركات التي أتمّها نزول القرآن، الّذي وصفه بكونه هُدىً و دليلا لِلنَّاسِ إلى الحقّ القويم و الصّراط المستقيم بما فيه من الإعجاز.

وَ بَيِّناتٍ قيل: يعني آياته موضحات مِنَ الْهُدى الّذي يكون في سائر الكتب السّماويّة، و كاشفات عن مبهمات سائر الصّحف الّتي نزلت لهداية النّاس، وَ الْفُرْقانِ الّذي يكون فيها.

و الحاصل أنّ جميع الكتب السّماويّة و إن كان هاديا إلى الخير و مفرّقا بين الحقّ و الباطل، إلّا أنّه لا يتمّ هدايتها و تفريقها إلّا بتوضيحات من القرآن، فالقرآن بيّن بنفسه و مبيّن لغيره من الكتب، فلذا كان أهدى و أفضل و أشرف من سائر

الكتب، و هذا الشّهر صار أفضل و أشرف بسبب نزول القرآن فيه، فحقّ على العباد أن يشكروا للّه فيه و يعبدوه.

(1: 136- 137)

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ ... آل عمران/ 3- 4

استدلّ سبحانه على انحصار استحقاق العبادة فيه بنعمه العظام الّتي أهمّها إنزال الكتب السّماويّة لهداية البشر إلى العقائد الحقّة، و المحسنات العقليّة و المصالح الدّنيويّة بقوله: مخبرا عن ذاته المقدّسة بأنّه نَزَّلَ نجوما و تدريجا، عَلَيْكَ يا محمّد لهداية الخلق إلى يوم القيمة، الْكِتابَ المجيد و القرآن الحميد ... [إلى أن قال:]

نصوص في علوم القرآن، ص: 328

ثمّ استدلّ سبحانه بنعمه السّابقة على الأمم السّالفة بقوله: وَ أَنْزَلَ سبحانه دفعة التَّوْراةَ على موسى بن عمران وَ الْإِنْجِيلَ على عيسى بن مريم مِنْ قَبْلُ و في الأزمنة السّابقة على نزول القرآن؛ لأجل أن يكون كلّ واحد منهما هُدىً و دليلا مرشدا لِلنَّاسِ المكلّفين باتّباعهما إلى الحقّ و الرّشاد.

و لا يذهب عليك أنّه ظهر من تفسيرنا الفرق بين التّنزيل و الإنزال، و إنّ التّنزيل متضمّن للكثرة و التّدرّج في النّزول دون الإنزال، و لمّا كان القرآن جامعا بين الجهتين، باعتبار نزوله دفعة إلى البيت المعمور و تدريجا إلى الأرض أسند إليه التّنزيل في أوّل الآية، ثمّ للدّلالة على كونه أعظم شأنا و أتمّ نعمة من غيره، أعاد ذكره بقوله: وَ أَنْزَلَ الكتاب الّذي جعله الْفُرْقانَ بين الحقّ و الباطل، و المائز بين الضّلال و الرّشاد، و المبيّن لمشتبهات سائر الكتب السّماويّة و المهيمن عليها.

عن الصّادق عليه السّلام: «القرآن جملة الكتاب، و الفرقان المحكم الواجب العمل به». و في رواية: «الفرقان كلّ آية محكمة».

و عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «سمّي القرآن فرقانا لأنّه متفرّق الآيات و السّور، أنزلت في غير الألواح و غير

الصّحف، و التّوراة و الزّبور أنزلت كلّها جملة في الألواح و الأوراق».

أقول: لا منافاة بين هذه الأخبار؛ لإمكان إطلاق هذا الوصف عليه بكلا الاعتبارين، فتحصّل من الآيات أنّ من كان كمال قدرته وسعة لطفه و رحمته و وفور نعمته بهذه المرتّبة كان هو المعبود بالاستحقاق دون عيسى و غيره من الخلق. (1: 202)

وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ... طه/ 114

وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ و لا تسرع إلى قراءته و حفظه خوفا من النّسيان و الانفلات،

مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ و يتمّ جبرئيل قراءته عليك.

وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً بالقرآن، و فهما لحقائقه، و تنوّرا بأنواره. [ثمّ ذكر قول ابن عبّاس و مجاهد و الضّحّاك كما تقدّم عن الفخر الرّازيّ]. (3: 95)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً الفرقان/ 32

نصوص في علوم القرآن، ص: 329

ثمّ حكى سبحانه اعتراض المشركين على القرآن بنزوله نجوما بقوله: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من قريش طعنا على القرآن لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كتوراة موسى و إنجيل عيسى، على ما قاله أهل الكتاب فأجاب سبحانه عنه بقوله كَذلِكَ التّفريق فرقناه؛ لِنُثَبِّتَ و لنقوّي به فُؤادَكَ و قلبك في التّبليغ؛ لكون كلّ آية في حادثة و واقعة معجزة ظاهرة مستقلّة، فعجزهم عن إتيان مثلها دليل واضح على صدرك، فيكون القرآن معجزات كثيرة بحسب كثرة آياته، فلو نزل جملة واحدة لعدّ جميعه معجزة واحدة.

و لكون نزوله على حسب أسئلة النّاس و الوقائع موجب لازدياد بصيرتهم؛ لانضمام فصاحته بالأخبار المغيبة، مع أنّ في نزوله مفرّقا رفق بالعباد و تسهيل للعمل بالأحكام قليلا قليلا، فلو نزلت الأحكام جملة واحدة لثقلت عليهم و خرجوا من الدّين، ففي ثباتهم عليه ما استلزم التّفريق من رؤية جبرئيل وقتا بعد وقت و حالا بعد حال تقوية لقلبك الشّريف.

وَ رَتَّلْناهُ: و قرأناه عليك شيئا فشيئا و على تؤدة و مهل، تَرْتِيلًا حسنا موجبا لتيسّر فهمه و حفظه و الالتفات إلى جهات إعجازه. (3: 228- 231)

نصوص في علوم القرآن، ص: 330

الفصل السّادس و الأربعون نصّ المراغي في «تفسيره»

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ... الفرقان/ 32

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً، أي و قال اليهود: هلا أنزل القرآن على محمّد دفعة واحدة كما أنزلت الكتب السّالفة على الأنبياء كذلك. و هذا زعم باطل، و دعوى داحضة، فإنّ هذه الكتب نزلت متفرّقة، فقد أنزلت التّوراة منجّمة في ثماني عشرة سنة كما تدلّ على ذلك نصوص التّوراة، و ليس هناك دليل قاطع على خلاف ذلك من كتاب أو سنّة كما نزل القرآن، لكنّهم معاندون أو جاهلون

لا يدرون كيف نزلت كتب اللّه على أنبيائه، و هو اعتراض بما لا طائل تحته، لأنّ الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو متفرّقا.

فردّ اللّه عليهم ما قالوا، و أشار إلى السّبب الّذي لأجله نزل منجّما فقال: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أي أنزلناه كذلك لنقوّي قلبك به بإعادته و حفظه كما قال: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا.

و خلاصة تلك الفوائد: ... [و ذكر ما تقدّم نحوه عن الفخر الرّازيّ، ثمّ قال:]

إنّ بعض أحكام الشّريعة جاء في بدء التّنزيل وفق حال القوم الّذين أنزلت عليهم، و بحسب العادات الّتي كانوا يألفونها، فلمّا أضاء اللّه بصائرهم بهدى رسوله تغيّرت بعض

نصوص في علوم القرآن، ص: 331

أحوالهم و استعدّت أنفسهم لتشريع يزيدهم طهرا على طهر، و يذهب عنهم رجس الجاهليّة الّذي كانوا فيه، فجاء ذلك التّشريع الجديد الكامل المناسب لتلك الحال الجديدة، و لو نزل القرآن جملة لم يتسنّ شي ء من هذا.

وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا، أي أنزلناه عليك هكذا على مهل، و قرأناه بلسان جبريل شيئا فشيئا في ثلاث و عشرين سنة. (19: 12- 13)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ... القدر/ 1

«تقدمة تبيّن ميقات» أشار الكتاب الكريم إلى زمان نزول القرآن على رسوله صلّى اللّه عليه و سلم في أربعة مواضع من كتابه الكريم، «و القرآن يفسّر بعضه بعضا»:

(1) في سورة القدر: 1 إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.

(2) في سورة الدّخان: 1- 6 حم* وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.

(3) في سورة البقرة: 185 شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ

الْفُرْقانِ.

(4) في سورة الأنفال: 41 وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.

فآية القدر صريحة في أنّ إنزال القرآن كان في ليلة القدر، و آية الدّخان تؤكّد ذلك و تبيّن أنّ النّزول كان في ليلة مباركة، و آية البقرة ترشد إلى أنّ نزول القرآن كان في شهر رمضان، و آية الأنفال تدلّ على أنّ إنزال القرآن على رسوله كان في ليلة اليوم المماثل ليوم التقاء الجمعين في غزوة بدر، الّتي فرّق اللّه فيها بين الحقّ و الباطل، و نصر حزب الرّحمن على حزب الشّيطان، و من ذلك يتّضح أنّ هذه اللّيلة هي ليلة الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان.

نصوص في علوم القرآن، ص: 332

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أي إنّا بدأنا ننزّل الكتاب الكريم في ليلة الشّرف، ثمّ أنزلناه بعد ذلك منجّما في ثلاث و عشرين سنة بحسب الحوادث الّتي كانت تدعو إلى نزول شي ء منه، تبيانا لما أشكل من الفتوى فيها، أو عبرة بما يقصّ فيه من القصص و زواجر. و لا شكّ أنّ البشر كان في حاجة إلى دستور يبيّن لهم ما التبس عليهم من أمر دينهم و دنياهم، و يوضّح لهم أمر النّشأة الأولى و أمر النّشأة الآخرة، لأنّهم كانوا أعجز من أن يفهموا مصالحهم الحقّة حتّى يسنّوا لأنفسهم من النّظم ما يغنيهم عن الدّين و التّديّن و حوادث الكون الّتي نراها رأي العين كفيلة بأن تبيّن وجه الحقّ في ذلك، فإنّ النّاس من بدء الخليقة يبدءون و

يعيدون، و يصحّحون و يراجعون في قوانينهم الوضعيّة، ثمّ يستبين لهم بعد قليل من الزّمن أنّها لا تكفي لهدى المجتمع و الأخذ بيده إلى موضع الرّشاد، و تمنعه من الوقوع في مهاوي الزّلل و من ثمّ قيل: لا غنى للبشر عن الدّين و لا عن وازع روحيّ يضع لهم مقاييس الأشياء و قيمها، بعد أن أبان لهم العلم وصفها و خواصّها، كما لا غنى له عن الاعتقاد في قوّة غيبيّة يلجأ إليها حين يظلم عليه ليل الشّكّ، و تختلط عليه صروف الحياة و ألوان مآسيها. (30: 206- 208)

نصوص في علوم القرآن، ص: 333

الفصل السّابع و الأربعون نصّ سيّد قطب (م: 1385 ه) في تفسيره: «في ظلال القرآن»

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ... الدّخان/ 3

و اللّيلة المباركة الّتي أنزل فيها القرآن هي- و اللّه أعلم- اللّيلة الّتي بدأ فيها نزوله، و هي إحدى ليالي رمضان الّذي قيل فيه شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «1»، و القرآن لم ينزل كلّه في تلك اللّيلة، كما أنّه لم ينزل كلّه في رمضان، و لكنّه بدأ يتّصل بهذه الأرض، و كانت هذه اللّيلة موعد هذا الاتّصال المبارك، و هذا يكفي في تفسير إنزاله في اللّيلة المباركة.

و إنّها لمباركة حقّا تلك اللّيلة الّتي يفتح فيها ذلك الفتح على البشريّة، و الّتي يبدأ فيها استقرار هذا المنهج الإلهيّ في حياة البشر، و الّتي يتّصل فيها النّاس بالنّواميس الكونيّة الكبرى مترجمة في هذا القرآن ترجمة يسيرة، تستجيب لها الفطرة و تلبّيها في هوادة، و تقيم على أساسها عالما إنسانيّا مستقرّا على قواعد الفطرة و استجاباتها، متناسقا مع الكون الّذي يعيش فيه، طاهرا نظيفا كريما بلا تعمّل و لا تكلّف، يعيش فيه الإنسان على الأرض موصولا بالسّماء في كلّ حين.

و لقد عاش الّذين أنزل القرآن لهم أوّل مرّة فترة عجيبة في كنف

السّماء، موصولين

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

نصوص في علوم القرآن، ص: 334

مباشرة باللّه، يطلعهم أوّلا بأوّل على ما في نفوسهم، و يشعرهم أوّلا بأوّل بأنّ عينه عليهم، و يحسبون هم حساب هذه الرّقابة، و حساب هذه الرّعاية، في كلّ حركة و كلّ هاجسة تخطر في ضمائرهم، و يلجئون إليه أوّل ما يلجئون، واثقين أنّه قريب مجيب.

و مضى ذلك الجيل و بقي بعده القرآن كتابا مفتوحا موصولا بالقلب البشريّ، يصنع به حين يتفتّح له ما لا يصنعه السّحر، و يحوّل مشاعره بصورة تحسب أحيانا في الأساطير!.

و بقي هذا القرآن منهجا واضحا كاملا صالحا لإنشاء حياة إنسانيّة نموذجيّة في كلّ بيئة و في كلّ زمان، حياة إنسانيّة تعيش في بيئتها و زمانها في نطاق ذلك المنهج الإلهيّ المتميّز الطّابع، بكلّ خصائصه دون تحريف، و هذه سمة المنهج الإلهيّ وحده، و هي سمة كلّ ما يخرج من يد القدرة الإلهيّة.

إنّ البشر يصنعون ما يغني مثلهم، و ما يصلح لفترة من الزّمان، و لظرف خاصّ من الحياة، فأمّا صنعة اللّه فتحمل طابع الدّوام و الكمال، و الصّلاحيّة المستمرّة و تلبية الحاجات في كلّ ظرف و في كلّ حين، جامعة بين ثبات الحقيقة و تشكّل الصّورة في اتّساق عجيب.

أنزل اللّه هذا القرآن في هذه اللّيلة المباركة أوّلا للإنذار و التّحذير إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فاللّه يعلم غفلة هذا الإنسان و نسيانه و حاجته إلى الإنذار و التّنبيه. و هذه اللّيلة المباركة بنزول هذا القرآن كانت فيصلا و فارقا بهذا التّنزيل. (5: 3208)

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... القيامة/ 16- 19

كان الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم يخاف أن ينسى شيئا ممّا يوحى إليه، فكان حرصه على التّحرّز من النّسيان يدفعه إلى استذكار الوحي فقرة فقرة في أثناء تلقّيه، و تحريك

لسانه به ليستوثق من حفظه. فجاءه هذا التّعليم لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ..

جاءه هذا التّعليم ليطمئنّه إلى أنّ أمر هذا الوحي، و حفظ هذا القرآن و جمعه و بيان مقاصده .. كلّ أولئك موكول إلى صاحبه. و دوره هو، هو التّلقّي و البلاغ، فليطمئنّ بالا،

نصوص في علوم القرآن، ص: 335

و ليتلقّ الوحي كاملا، فيجده في صدره منقوشا ثابتا، و هكذا كان فأمّا هذا التّعليم فقد ثبت في موضعه حيث نزل، أ ليس من قول اللّه تعالى؟ و قول اللّه ثابت في أيّ غرض كان؟ و لأيّ أمر أراد؟ و هذه كلمة من كلماته تثبت في صلب الكتاب شأنها شأن بقيّة الكتاب، و دلالة إثبات هذه الآيات في موضعها هذا من السّورة دلالة عميقة موحية على حقيقة لطيفة في شأن كلّ كلمات اللّه في أيّ اتّجاه، و في شأن هذا القرآن و تضمّنه لكلّ كلمات اللّه الّتي أوحي بها إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم لم يخرم منها حرف، و لم تند منها عبارة، فهو الحقّ و الصّدق و التّحرّج و الوقار!

ثمّ تجي ء الآيات الأربع الخاصّة بتوجيه الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم في شأن الوحي و تلقّي هذا القرآن لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... و بالإضافة إلى ما قلناه في مقدّمة السّورة عن هذه الآيات، فإنّ الإيحاء الّذي تتركه في النّفس هو تكفّل اللّه المطلق بشأن هذا القرآن، وحيا و حفظا و جمعا و بيانا، و إسناده إليه سبحانه و تعالى بكليّته. ليس للرّسول صلّى اللّه عليه و سلم من أمره إلّا حمله و تبليغه، ثمّ

لهفة الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم و شدّة حرصه على استيعاب ما يوحى إليه، و أخذه مأخذ الجدّ الخالص، و خشيته أن ينسى منه عبارة أو كلمة، ممّا كان يدعوه إلى متابعة جبريل عليه السّلام في التّلاوة آية آية و كلمة كلمة، يستوثق منها أنّ شيئا لم يفته، و يتثبّت من حفظه له فيما بعد!.

و تسجيل هذا الحادث في القرآن المتلوّ له قيمته في تعميق هذه الإيحاءات الّتي ذكرناها هنا و في مقدّمة السّورة بهذا الخصوص.

ثمّ يمضي سياق السّورة في عرض مشاهد القيامة و ما يكون فيها من شأن النّفس اللّوّامة. فيذكّرهم بحقيقة نفوسهم و ما يعتلج فيها من حبّ للدّنيا و انشغال، و من إهمال للآخرة و قلّة احتفال، و يواجههم بموقفهم في الآخرة بعد هذا و ما ينتهي إليه حالهم فيها.

و يعرض لهم هذا الموقف في مشهد حيّ قويّ الإيحاء عميق الإيقاع:

كَلَّا* بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ* وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ* وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ* وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ* تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ «1».

______________________________

(1)- القيامة/ 20- 25.

نصوص في علوم القرآن، ص: 336

و أوّل ما يلحظ من ناحية التّناسق في السّياق هو تسمية الدّنيا بالعاجلة في هذا الموضع، ففضلا عن إيحاء اللّفظ بقصر هذه الحياة و سرعة انقضائها- و هو الإيحاء المقصود- فإنّ هناك تناسقا بين ظلّ اللّفظ و ظلّ الموقف السّابق المعترض في السّياق، و قول اللّه تعالى لرسوله صلّى اللّه عليه و سلم: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ فهذا التّحريك و هذه العجلة هي أحد ظلال السّمة البشريّة في الحياة الدّنيا، و هو تناسق في الحسّ لطيف دقيق، يلحظه التّعبير القرآنيّ في الطّريق! (6: 3767)

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى الأعلى/ 6- 7

بعدئذ يجي ء بتلك البشرى

العظيمة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أمّته من ورائه، و تبدأ البشرى برفع عناء الحفظ لهذا القرآن و الكدّ في إمساكه عن عاتق الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى فعليه القراءة يتلقّاها عن ربّه، و ربّه هو المتكفّل بعد ذلك بقلبه، فلا ينسى ما يقرئه ربّه.

و هي بشرى للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم تريحه و تطمئنّه على هذا القرآن العظيم الجميل الحبيب إلى قلبه الّذي كان يندفع بعاطفة الحبّ له و بشعور الحرص عليه، و بإحساس التّبعة العظمى فيه، إلى ترديده آية آية و جبريل يحمله إليه، و تحريك لسانه به خيفة أن ينسى حرفا منه.

حتّى جاءته هذه البشائر المطمئنّة بأنّ ربّه سيتكفّل بهذا الأمر عنه.

و هي بشرى لأمّته من ورائه، تطمئنّ بها إلى أصل هذه العقيدة، فهي من اللّه، و اللّه كافلها و حافظها في قلب نبيّها. و هذا من رعايته سبحانه، و من كرامة هذا الدّين عنده، و عظمة هذا الأمر في ميزانه.

و في هذا الموضع كما في كلّ موضع يرد فيه وعد جازم، أو ناموس دائم، يرد ما يفيد طلاقة المشيئة الإلهيّة من وراء ذلك، و عدم تقيّدها بقيد ما، و لو كان هذا القيد نابعا من وعدها و ناموسها. فهي طليقة وراء الوعد و النّاموس. و يحرص القرآن على تقرير هذه الحقيقة في كلّ موضع- كما سبق أنّ مثّلنا لهذا في الظّلال- و من ذلك ما جاء هنا.

إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، فهو الاحتراس الّذي يقرّر طلاقة المشيئة الإلهيّة، بعد الوعد

نصوص في علوم القرآن، ص: 337

الصّادق بأنّه لا ينسى ليظلّ الأمر في إطار المشيئة الكبرى، و يظلّ التّطلّع دائما إلى هذه المشيئة حتّى فيما

سلف فيه وعد منها، و يظلّ القلب معلّقا بمشيئة اللّه حيّا بهذا التّعلّق أبدا ..

إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى، و كان هذا تعليل لما مرّ في هذا المقطع من القرار و الحفظ و الاستثناء. فكلّها ترجع إلى حكمة يعلمها من يعلم الجهر و ما يخفى، و يطّلع على الأمر من جوانبه جميعا، فيقرّر فيه ما تقتضيه حكمته المستندة إلى علمه بأطراف الأمر جميعا. (6: 3889)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ... القدر/ 1- 5

الحديث في هذه السّورة عن تلك اللّيلة الموعودة المشهودة الّتي سجّلها الوجود كلّه في فرح و غبطة و ابتهال، ليلة الاتّصال المطلق بين الأرض و الملأ الأعلى. ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب محمّد صلّى اللّه عليه و سلم، ليلة ذلك الحدث العظيم الّذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته و في دلالته و في آثاره في حياة البشريّة جميعا، العظمة الّتي لا يحيط بها الإدراك البشريّ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.

النّصوص القرآنيّة الّتي تذكر هذا الحدث تكاد ترفّ و تنير. بل هي تفيض بالنّور الهادئ السّاري الرّائق الودود، نور اللّه المشرق في قرآنه،: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ و نور الملائكة و الرّوح و هم في غدوّهم و رواحهم طوال اللّيلة بين الأرض و الملأ الأعلى.

تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، و نور الفجر الّذي تعرضه النّصوص متناسقا مع نور الوحي و نور الملائكة، و روح السّلام المرفرف على الوجود و على الأرواح السّارية في هذا الوجود: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ.

و اللّيلة الّتي تتحدّث عنها السّورة هي اللّيلة الّتي جاء ذكرها في سورة الدّخان 3- 6 إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ

مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا

نصوص في علوم القرآن، ص: 338

كُنَّا مُرْسِلِينَ* رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.

و المعروف أنّها ليلة من ليالي رمضان، كما في سورة البقرة: 185 شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ أي التي بدء فيها نزول القرآن على قلب الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم ليبلّغه على النّاس. و في رواية ابن إسحاق: أنّ أوّل الوحي بمطلع سورة العلق كان في شهر رمضان، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يتحنّث في غار حراء. (6: 3944)

نصوص في علوم القرآن، ص: 339

الفصل الثّامن و الأربعون نصّ الزّرقانيّ في «مناهل العرفان»

النّزول:
اشارة

هذا مبحث مهمّ في علوم القرآن، بل هو أهمّ مباحثه جميعا؛ لأنّ العلم بنزول القرآن أساس للإيمان بالقرآن، و أساس للتّصديق بنبوّة الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم و أنّ الإسلام حقّ، ثمّ هو أصل لسائر المباحث الآتية بعد في علوم القرآن. فلا جرم أن يتصدّرها جمعاء؛ ليكون من تقريره، و تحقيقه سبيل إلى تقريرها و تحقيقها، و إلّا فكيف يقوم البناء على غير أساس و دعام؟

و لأجل الإحاطة بهذا المطلب العزيز نتكلّم إنشاء اللّه على نزول القرآن، ثمّ على مرّات هذا النّزول و دليل كلّ نزول، و كيفيّته و حكمته، ثمّ على الوحي و أدلّته العقليّة و العلميّة، مع دفع الشّبهات الواردة في ذلك المقام.

1- معنى نزول القرآن:

جاء التّعبير بمادّة نزول القرآن و ما تصرّف منها في الكتاب و السّنّة، و من أمثلته قوله سبحانه في سورة الإسراء: وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ «1».

______________________________

(1)- الإسراء/ 105.

نصوص في علوم القرآن، ص: 340

و قوله صلّى اللّه عليه و سلم: «إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف». و هو حديث مشهور، بل قيل فيه بالتّواتر كما سيأتي.

لكنّ النّزول في استعمال اللّغة يطلق و يراد به الحلول في مكان و الأويّ به، و منه قولهم: نزل الأمير المدينة. و المتعدّي منه و هو الإنزال يكون معناه إحلال الغير في مكان و إيواءه به، و منه قوله جلّ ذكره: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ «1»، و يطلق النّزول إطلاقا آخر في اللّغة على انحدار الشّي ء من علو إلى سفل، نحو «نزل فلان من الجبل» و المتعدّي منه يكون معناه تحريك الشّي ء من علو إلى سفل، و منه قوله سبحانه: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً «2».

و لا ريب

أنّ كلا هذين المعنيين لا يليق إرادته هنا في إنزال اللّه للقرآن، و لا في نزول القرآن من اللّه؛ لما يلزم هذين المعنيين من المكانيّة و الجسميّة. و القرآن ليس جسما حتّى يحلّ في مكان أو ينحدر من علو إلى سفل، سواء أردنا به الصّفة القديمة المتعلّقة بالكلمات الغيبيّة الأزليّة، أم أردنا به نفس تلك الكلمات، أم أردنا به اللّفظ المعجز؛ لما علمت من تنزّه الصّفة القديمة و متعلّقها، و هو الكلمات الغيبيّة عن الحوادث و أعراض الحوادث، و لما تعرفه من أنّ الألفاظ أعراض سيّالة تنقضي بمجرّد النّطق بها، كما يقولون.

إذن فنحن بحاجة إلى التّجوّز، و المجاز بابه واسع و ميدانه فسيح. و ليكن المعنى المجازيّ لإنزال القرآن هو الإعلام في جميع إطلاقاته. أمّا على أنّ المراد بالقرآن الصّفة القديمة أو متعلّقها، فإنزاله الإعلام به بواسطة ما يدلّ عليه من النّقوش بالنّسبة لإنزاله في اللّوح المحفوظ و في بيت العزّة من السّماء الدّنيا، و بواسطة ما يدلّ عليه من الألفاظ الحقيقيّة بالنّسبة لإنزاله على قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، و العلاقة بين المعنى الحقيقيّ و المعنى المجازيّ هو اللّزوم؛ لأنّ إنزال شي ء إلى شي ء يستلزم إعلام من أنزل إليه ذلك الشّي ء به إن كان عاقلا، و يستلزم إعلام من يطّلع عليه من الخلق به مطلقا، و إذن فالمجاز مرسل.

و أمّا على أنّ المراد بالقرآن اللّفظ المعجز، فمعنى إنزاله الإعلام به أيضا، و لكن

______________________________

(1)- المؤمنون/ 29.

(2)- البقرة/ 22.

نصوص في علوم القرآن، ص: 341

بوساطة إثباته هو أو إثبات دالّه، فإثباته هو بالنّسبة لإنزاله على قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، إثبات دالّه بالنّسبة إلى اللّوح المحفوظ و بيت العزّة، و العلاقة اللّزوم

كذلك، و المجاز مرسل كسابقه.

و يمكن أن يكون هذا التّجوّز من قبيل الاستعارة التّصريحيّة الأصليّة، بأن يشبّه إعلام السّيد لعبده بإنزال الشّي ء من علو إلى سفل، بجامع أنّ في كلّ من طرفي التّشبيه صدورا من جانب أعلى إلى جانب أسفل، و إن كان العلو و السّفل في وجه الشّبه حسّيّا بالنّسبة إلى المشبّه به، و معنويّا بالنّسبة إلى المشبّه.

و أنت خبير بأن النّزول مطاوع الإنزال، فما يجري من التّجوّز في أحدهما يجري نظيره في الآخر، و قلّ مثل ذلك في التّنزيل و التّنزّل.

و كأنّ وجه اختيار التّعبير بمادّة الإنزال و ما تصرّف منها أو التّقى معها هو التّنويه بشرف ذلك الكتاب، نظرا إلى ما تشير إليه هذه المادّة من علوّ صاحب هذا الكتاب المنزل علوّا كبيرا، كما قال تعالى في فاتحة سورة الزّخرف 2- 4: وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ.

ثمّ إنّ تأويل الإنزال بالإعلام على ما رأيت هو الأقرب و الأوفق بالمقام، و ذلك من وجوه ثلاثة؛

أحدها: أنّ تعلّق الكلام تعلّق دلالة و إفهام، و لا ريب أنّ القرآن كلام، فتأويل إنزاله بالإعلام رجوع إلى ما هو معلوم من تعلّقه، و مفهوم من تحقّقه.

ثانيها: أنّ المقصود من ثبوت القرآن في اللّوح و في سماء الدّنيا و في قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، هو إعلام الخلق في العالمين العلويّ و السّفليّ بما شاء اللّه دلالة البشر عليه من هذا الحقّ.

ثالثها: أنّ تفسير الإنزال بالإعلام ينسجم مع القرآن بأيّ إطلاق من إطلاقاته، و على أيّ تنزّل من تنزّلاته.

2- تنزّلات القرآن:

شرّف اللّه هذا القرآن بأن جعل له ثلاثة تنزّلات:

أ: التّنزّل الأوّل إلى اللّوح المحفوظ، و

دليله قول اللّه سبحانه: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي

نصوص في علوم القرآن، ص: 342

لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «1». و كان هذا الوجود في اللّوح بطريقة و في وقت لا يعلمها إلّا اللّه تعالى و من أطلعه على غيبه. و كان جملة لا مفرّقا؛ لأنّه الظّاهر من اللّفظ عند الإطلاق، و لا صارف عنه، و لأنّ أسرار تنجيم القرآن على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم لا يعقل تحقّقها في هذا التّنزّل.

و حكمة هذا النّزول ترجع إلى الحكمة العامّة من وجود اللّوح نفسه، و إقامته سجلّا جامعا لكلّ ما قضى اللّه و قدّر، و كلّ ما كان و ما يكون من عوالم الإيجاد و التّكوين. فهو شاهد ناطق، و مظهر من أروع المظاهر الدّالّة على عظمة اللّه و علمه و إرادته و حكمته و واسع سلطانه و قدرته. و لا ريب أنّ الإيمان به يقوّي إيمان العبد بربّه من هذه النّواحي، و يبعث الطّمأنينة إلى نفسه، و الثّقة بكلّ ما يظهره اللّه لخلقه، من ألوان هدايته و شرائعه و كتبه، و سائر أقضيته و شئونه في عباده، كما يحمل النّاس على السّكون و الرّضا، تحت سلطان القدر و القضاء، و من هنا تهون عليهم الحياة بضرّائها و سرّائها، كما قال جلّ شأنه:

ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها* إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ «2». و للإيمان باللّوح و بالكتابة فيه أثر صالح في استقامة المؤمن على الجادّة، و تفانيه في طاعة اللّه و مراضيه، و بعده عن مساخطه و معاصيه؛

لاعتقاده أنّها مسطورة عند اللّه في لوحه، مسجّلة لديه في كتابه كما قال جلّ ذكره: وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ «3».

ب: التّنزّل الثّاني للقرآن، كان هذا التّنزّل الثّاني إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا، و الدّليل عليه قوله تعالى في سورة الدّخان 3: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، و في سورة القدر 1: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. و في سورة البقرة 185: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ.

دلّت هذه الآيات الثّلاثة على أنّ القرآن أنزل في ليلة واحدة، توصف بأنّها مباركة

______________________________

(1)- البروج/ 22.

(2)- الحديد/ 22- 23.

(3)- القمر/ 53.

نصوص في علوم القرآن، ص: 343

أخذا من آية الدّخان، و تسمّى ليلة القدر أخذا من آية سورة القدر، و هي من ليالي شهر رمضان أخذا من آية البقرة. و إنّما قلنا ذلك جمعا بين هذه النّصوص في العمل بها، و دفعا للتّعارض فيما بينها. و معلوم بالأدلّة القاطعة- كما يأتي- أنّ القرآن أنزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم مفرّقا لا في ليلة واحدة، بل في مدى سنين عددا، فتعيّن أن يكون هذا النّزول الّذي نوّهت به هذه الآيات الثّلاثة نزولا آخر غير النّزول على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم. و قد جاءت الأخبار الصّحيحة مبيّنة لمكان هذا النّزول، و أنّه في بيت العزّة من السّماء الدّنيا، كما تدلّ الرّوايات الآتية:

[ثمّ نقل الرّوايات نقلا عن الحاكم و النّسائيّ و البيهقيّ و ابن مردويه بإسنادهم إلى ابن عبّاس، كما تقدّم عن أبي شامة، فقال:]

هذه أحاديث أربعة من جملة أحاديث ذكرت في هذا الباب، و كلّها صحيحة كما قال السّيوطيّ، و هي أحاديث موقوفة على ابن عبّاس، غير أنّ لها حكم المرفوع إلى النّبيّ صلّى

اللّه عليه و سلم، لما هو مقرّر من قول أنّ الصّحابيّ ما لا مجال للرّأي فيه، و لم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليّات، حكمه حكم المرفوع. و لا ريب أنّ نزول القرآن إلى بيت العزّة من أنباء الغيب الّتي لا تعرف إلّا من المعصوم، و ابن عبّاس لم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليّات، فثبت الاحتجاج بها.

و كان هذا النّزول جملة واحدة في ليلة واحدة هي ليلة القدر كما علمت؛ لأنّه المتبادر من نصوص الآيات الثّلاث السّابقة و للتّنصيص على ذلك في الأحاديث الّتي عرضناها عليك. بل ذكر السّيوطيّ: أنّ القرطبيّ نقل حكاية الإجماع على نزول القرآن جملة من اللّوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا.

و هناك قول ثان بنزول القرآن إلى السّماء الدّنيا في عشرين ليلة قدر، أو ثلاث و عشرين، أو خمس و عشرين ينزل في كلّ ليلة قدر منها ما يقدّر اللّه إنزاله في كلّ السّنة، ثمّ ينزل بعد ذلك منجّما في جميع السّنة على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم.

و ثمّة قول ثالث، أنّه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر، ثمّ نزل بعد ذلك منجّما في أوقات مختلفة من سائر الأزمان على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم. و كأنّ صاحب هذا القول ينفي النّزول جملة إلى بيت العزّة في ليلة القدر.

نصوص في علوم القرآن، ص: 344

و ذكروا قولا رابعا أيضا، هو أنّه نزل من اللّوح المحفوظ جملة واحدة، و أنّ الحفظة نجّمته على جبريل في عشرين ليلة و أنّ جبريل نجّمه على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم في عشرين سنة.

و لكنّ هذه الأقوال الثّلاثة الأخيرة بمعزل عن التّحقيق، و هي محجوجة بالأدلّة الّتي سقناها بين يديك تأييدا للقول الأوّل.

و الحكمة في

هذا النّزول، على ما ذكره السّيوطيّ نقلا عن أبي شامة هي تفخيم ...

[و ذكر كما تقدّم عنه، ثمّ قال:]

و ذكر بعضهم: أنّ النّزول إلى السّماء الدّنيا إلهابا لشوق النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم إليه، على حدّ قول القائل:

و أعظم ما يكون الشّوق يوماإذا دنت الخيام من الخيام أقول: و في تعدّد النّزول و أماكنه، مرّة في اللّوح و أخرى في بيت العزّة و ثالثة على قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، في ذلك التّعدّد مبالغة في نفي الشّكّ عن القرآن، و زيادة للإيمان به، و باعث على الثّقة فيه، لأنّ الكلام إذا سجّل في سجلّات متعدّدة، و صحّت له وجودات كثيرة، كان ذلك أنفى للرّيب عنه، و أدعى إلى تسليم ثبوته، و ادنى إلى وفرة الإيقان به، ممّا لو سجّل في سجلّ واحد، أو كان له وجود واحد.

ج: التّنزّل الثّالث للقرآن، هذا هو واسطة عقد التّنزّلات، لأنّه المرحلة الأخيرة الّتي منها شعّ النّور على العالم، و وصلت هداية اللّه إلى الخلق، و كان هذا النّزول بوساطة أمين الوحي جبريل يهبط به على قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم. و دليله قول اللّه تعالى مخاطبا لرسوله صلّى اللّه عليه و سلم:

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «1».

كيفيّة أخذ جبريل للقرآن و عمّن أخذ

هذا من أنباء الغيب، فلا يطمئنّ الإنسان إلى رأي فيه، إلّا إن ورد بدليل صحيح عن المعصوم، و كلّ ما عثرنا عليه أقوال منثورة هنا و هناك، نجمعها لك فيما يأتي مع إبداء رأينا في كلّ منه:

______________________________

(1)- الشّعراء/ 193- 195.

نصوص في علوم القرآن، ص: 345

أوّلها: قال الطّيّبيّ: لعلّ نزول القرآن على الملك أن يتلقّفه تلقّفا روحانيّا، أو يحفظه من

اللّوح المحفوظ، فينزل به على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم فيلقيه إليه.

و أنت خبير بأنّ كلمة «لعلّ» هنا لا تشفي غليلا، و لا تهدينا إلى المقصود سبيلا، و لا نستطيع أن نأخذ منها دليلا.

ثانيها: حكى الماورديّ أنّ الحفظة نجّمت القرآن على جبريل في عشرين ليلة، و أنّ جبريل نجّمه على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم في عشرين سنة. و معنى هذا أنّ جبريل أخذ القرآن عن الحفظة نجوما عشرين. و لكنّا لا نعرف لصاحب هذا الرّأي دليلا و لا شبه دليل.

ثالثها: قال البيهقيّ في معنى قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1» يريد- و اللّه أعلم- إنّا أسمعنا الملك و أفهمناه إيّاه و أنزلناه بما سمع. و معنى هذا أنّ جبريل أخذ القرآن عن اللّه سماعا. و ذلك فيما أرى أمثل الأقوال من ناحية أخذه جبريل عن اللّه، لا من ناحية تأويل النّزول في الآية بابتداء النّزول. و يؤيّده ما أخرجه الطّبرانيّ من حديث النّواس بن سمعان مرفوعا إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم: «إذا تكلّم اللّه بالوحي أخذت السّماء رجفة شديدة من خوف اللّه، فإذا سمع أهل السّماء صعقوا و خرّوا سجّدا، فيكون أوّلهم يرفع رأسه جبريل، فيكلّمه اللّه بوحيه بما أراد، فينتهي به إلى الملائكة، فكلّما مرّ بسماء سأله أهلها ما ذا قال ربّنا؟ قال: الحقّ، فينتهي به حيث أمر».

و أيّا ما تكن هذه الأقوال، فإنّ هذا الموضوع لا يتعلّق به كبير غرض، ما دمنا نقطع بأنّ مرجع التّنزيل هو اللّه تعالى وحده.

ما الّذي نزل به جبريل؟
اشارة

و لتعلم في هذا المقام، أنّ الّذي نزل به جبريل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم هو القرآن، باعتبار أنّه الألفاظ الحقيقيّة المعجزة من أوّل

الفاتحة إلى آخر سورة النّاس. و تلك الألفاظ هي كلام اللّه وحده، لا دخل لجبريل و لا لمحمّد في إنشائها و ترتيبها، بل الّذي رتّبها أوّلا هو اللّه سبحانه و تعالى، و لذلك تنسب له دون سواه، و إن نطق بها جبريل و محمّد و ملايين الخلق

______________________________

(1)- القدر/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 346

من بعد جبريل و محمّد صلّى اللّه عليه و سلم، من لدن نزول القرآن إلى يوم السّاعة. و ذلك كما ينسب الكلام البشريّ إلى من أنشأه و رتّبه في نفسه أوّلا دون غيره، و لو نطق به آلاف الخلائق في آلاف الأيّام و السّنين إلى يوم يقوم النّاس لربّ العالمين.

فاللّه- جلّت حكمته- هو الّذي أبرز ألفاظ القرآن و كلماته مرتّبة على وفق ترتيب كلماته النّفسيّة لأجل التّفهيم و التّفهّم، كما نبرز نحن كلامنا اللّفظيّ على وفق كلامنا النّفسيّ لأجل التّفهيم و التّفهّم، و لا ينسب الكلام بحال إلّا إلى من رتّبه في نفسه أوّلا، دون من اقتصر على حكايته و قراءته، و لذلك لا يجوز إضافة القرآن على سبيل الإنشاء إلى جبريل أو محمّد، و لا غير جبريل و محمّد، كما لا يجوز نسبة كلام أنشأه شخص و رتّبه في نفسه أوّلا إلى شخص آخر حكاه و قرأه حين اطّلع عليه أو سمعه.

و قد أسفّ بعض النّاس، فزعم أنّ جبريل كان ينزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بمعاني القرآن، و الرّسول يعبّر عنها بلغة العرب. و زعم آخرون أنّ اللّفظ لجبريل، و أنّ اللّه كان يوحي إليه المعنى فقط. و كلاهما قول باطل أثيم، مصادم لصريح الكتاب و السّنّة و الإجماع، و لا يساوي قيمة المداد الّذي يكتب به.

و عقيدتي أنّه مدسوس على المسلمين في كتبهم. و إلّا فكيف يكون القرآن حينئذ معجزا و اللّفظ لمحمّد أو لجبريل؟ ثمّ كيف تصحّ نسبته إلى اللّه و اللّفظ ليس للّه؟ مع أنّ اللّه يقول: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ «1»، إلى غير ذلك ممّا يطول بنا تفصيله.

و الحقّ أنّه ليس لجبريل في هذا القرآن سوى حكايته للرّسول و إيحائه إليه، و ليس للرّسول صلّى اللّه عليه و سلم في هذا القرآن سوى وعيه و حفظه، ثمّ حكايته و تبليغه، ثمّ بيانه و تفسيره، ثمّ تطبيقه و تنفيذه، نقرأ في القرآن نفسه أنّه ليس من إنشاء جبريل و لا محمّد نحو وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ «2»، و نحو وَ إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي «3»، و نحو وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا

______________________________

(1)- التّوبة/ 6.

(2)- النّمل/ 6.

(3)- الأعراف/ 203.

نصوص في علوم القرآن، ص: 347

يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ «1»، و نحو وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «2».

ثمّ ما ذكرناه هو تحقيق ما نزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم من القرآن، و إن كان قد نزل عليه أيضا غير القرآن. نقل السّيوطيّ عن الجوينيّ أنّه قال: كلام اللّه المنزل قسمان ... [و ذكر كما تقدّم عن السّيوطيّ، ثمّ قال:].

أقول: و هذا كلام نفيس، بيد أنّه لا دليل

أمامنا على أنّ جبريل كان يتصرّف في الألفاظ الموحاة إليه في غير القرآن. و ما ذكره الجوينيّ فهو احتمال عقليّ لا يكفي في هذا الباب. ثمّ إنّ هذا التّقسيم خلا من قسيم ثلاث للكتاب و السّنّة، و هو الحديث القدسيّ الّذي قاله الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم حاكيا عن اللّه تعالى، فهو كلام اللّه أيضا، غير أنّه ليست فيه خصائص القرآن الّتي امتاز بها عن كلّ ما سواه. و للّه تعالى حكمة في أن يجعل من كلامه المنزل معجزا و غير معجز، لمثل ما سبق في حكمة التّقسيم الآنف، من إقامة حجّة للرّسول و لدين الحقّ بكلام اللّه المعجز، و من التّخفيف على الأمّة بغير المعجز؛ لأنّه تصحّ روايته بالمعنى، و قراءة الجنب و حمله له و مسّه إيّاه، إلى غير ذلك.

و صفوة القول في هذا المقام أنّ القرآن أوحيت ألفاظه من اللّه اتّفاقا، و أنّ الحديث القدسيّ أوحيت ألفاظه من اللّه على المشهور، و الحديث النّبويّ أو حيت معانيه في غير ما اجتهد فيه الرّسول و الألفاظ من الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم. بيد أنّ القرآن له خصائصه من الإعجاز و التّعبّد به، و وجوب المحافظة على ادائه بلفظه و نحو ذلك، و ليس للحديث القدسيّ و النّبويّ شي ء من هذه الخصائص. و الحكمة في هذا التّفريق أنّ الإعجاز منوط بألفاظ القرآن، فلو أبيح اداؤه بالمعنى لذهب إعجازه، و كان مظنّة للتّغيير و التّبديل، و اختلاف النّاس في أصل التّشريع و التّنزيل. نصوص في علوم القرآن 347 ما الذي نزل به جبريل؟ ..... ص : 345

____________________________________________________________

(1)- يونس/ 15.

(2)- الحاقّة/ 44- 47.

نصوص في علوم القرآن، ص: 348

أمّا الحديث القدسيّ و الحديث النّبويّ

فليست ألفاظهما مناط إعجاز، و لهذا أباح اللّه روايتهما بالمعنى، و لم يمنحهما تلك الخصائص و القداسة الممتازة الّتي منحها القرآن الكريم تخفيفا على الأمّة، و رعاية لمصالح الخلق في الحالين من منح و منع، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ «1»

مدّة هذا النّزول

و ابتدأ هذا الإنزال من مبعثه صلّى اللّه عليه و سلم، و انتهى بقرب انتهاء حياته الشّريفة، و تقدّر هذه المدّة بعشرين أو ثلاثة و عشرين أو خمسة و عشرين عاما، تبعا للخلاف في مدّة إقامته صلّى اللّه عليه و سلم في مكّة بعد البعثة، أ كانت عشر سنين أم ثلاثة عشر أم خمس عشرة سنة، أمّا مدّة إقامته بالمدينة فعشر سنين اتّفاقا، كذلك قال السّيوطيّ.

و لكن بعض محقّقي تاريخ التّشريع الإسلاميّ يذكر أنّ مدّة مقامه صلّى اللّه عليه و سلم بمكّة اثنتا عشرة سنة و خمسة أشهر و ثلاثة عشر يوما، من «17» رمضان سنة «41» من مولده الشّريف إلى أوّل ربيع الأوّل سنة «54» منه. أمّا مدّة إقامته في المدينة بعد الهجرة فهي تسع سنوات و تسعة أشهر و تسعة أيّام من أوّل ربيع الأوّل سنة «54» من مولده إلى تاسع ذي الحجة سنة «63» منه، و يوافق ذلك سنة عشر من الهجرة. و هذا التّحقيق قريب من القول بأنّ مدّة إقامته صلّى اللّه عليه و سلم في مكّة ثلاث عشرة سنة و في المدينة عشر سنين، و أنّ مدّة الوحي بالقرآن ثلاثة و عشرون عاما.

لكنّ هذا التّحقيق لا يزال في حاجة إلى تحقيقات ثلاثة؛ ذلك لأنّه أهمل من حسابه باكورة الوحي إليه صلّى اللّه عليه و سلم عن طريق الرّؤيا الصّادقة ستّة أشهر، على حين أنّها ثابتة في الصّحيح. ثمّ جرى

فيه على أنّ ابتداء نزول القرآن كان ليلة السّابع عشر من رمضان، و هي ليلة القدر على بعض الآراء، غير أنّه يخالف المشهور الّذي يؤيّده الصّحيح. ثمّ ذهب فيه مذهب القائلين بأنّ آخر ما نزل من القرآن هو آية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «2»، و ذلك في

______________________________

(1)- البقرة/ 143.

(2)- المائدة/ 3.

نصوص في علوم القرآن، ص: 349

تاسع ذي الحجّة سنة عشر من الهجرة، و سترى في مبحث (آخر ما نزل من القرآن) أنّ هذا المذهب غير صحيح.

دليل تنجيم هذا النّزول

و الدّليل على تفرّق هذا النّزول و تنجيمه قول اللّه تعالت حكمته في سورة الإسراء 106: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا، و قوله في سورة الفرقان 32: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ... الآية روي أنّ الكفّار من يهود و مشركين عابوا على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم نزول القرآن مفرّقا، و اقترحوا عليه أن ينزل جملة فأنزل اللّه هاتين الآيتين ردّا عليهم، و هذا الرّدّ يدلّ على أمرين؛

أحدهما: أنّ القرآن نزل مفرّقا على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم. الثّاني: أنّ الكتب السّماويّة من قبله نزلت جملة، كما اشتهر ذلك بين جمهور العلماء حتّى كاد يكون إجماعا.

و وجه الدّلالة على هذين الأمرين؛ أنّ اللّه تعالى لم يكذّبهم فيما ادّعوا من نزول الكتب السّماوية جملة، بل أجابهم ببيان الحكمة في نزول القرآن مفرّقا، و لو كان نزول الكتب السّماوية مفرّقا كالقرآن لردّ عليهم بالتّكذيب، و بإعلان أنّ التّنجيم هو سنّة اللّه فيما أنزل على الأنبياء من قبل، كما ردّ عليهم بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ

«1»، حين طعنوا على الرّسول و قالوا: ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ «2».

الحكم و الأسرار في تنجيم القرآن
اشارة

لتنجيم نزول القرآن الكريم أسرار عدّة و حكم كثيرة، نستطيع أن نجملها في أربعة حكم رئيسيّة:

______________________________

(1)- الفرقان/ 20.

(2)- الفرقان/ 7.

نصوص في علوم القرآن، ص: 350

الحكمة الأولى

تثبيت فؤاد النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و تقوية قلبه، و ذلك من وجوه خمسة؛

الوجه الأوّل: أنّ في تجدّد الوحي، و تكرار نزول الملك به من جانب الحقّ إلى رسوله صلّى اللّه عليه و سلم، سرورا يملأ قلب الرّسول، و غبطة تشرح صدره، و كلاهما يتجدّد عليه بسب ما يشعر به من هذه العناية الإلهيّة، و تعهّد مولاه إيّاه في كلّ نوبة من نوبات هذا النّزول.

الوجه الثّاني: أنّ في التّنجيم تيسيرا عليه من اللّه في حفظه و فهمه، و معرفة أحكامه و حكمه، و ذلك مطمئنّ له على وعي ما يوحى إليه حفظا و فهما و أحكاما و حكما، كما أنّ فيه تقوية لنفسه الشّريفة على ضبط ذلك كلّه.

الوجه الثّالث: أنّ في كلّ نوبة من نوبات هذا النّزول المنجّم معجزة جديدا غالبا؛ حيث تحدّاهم كلّ مرّة أن يأتوا بمثل نوبة من نوب التّنزيل، فظهر عجزهم عن المعارضة، و ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، و لا شكّ أنّ المعجزة تشدّ أزره و ترهف عزمه، باعتبارها مؤيّدة له و لحزبه، خاذلة لأعدائه و لخصمه.

الوجه الرّابع: أنّ في تأييد حقّه و دحض باطل عدوه- المرّة بعد الأخرى- تكرارا للذّة فوزه و فلجه بالحقّ و الصّواب. و شهوده لضحايا الباطل في كلّ مهبط للوحي و الكتاب. و إن كلّ ذلك إلّا مشجّع للنّفس مقوّ للقلب و الفؤاد.

و الفرق بين هذا الوجه و الّذي قبله هو الفرق بين الشّي ء و أثره، أو الملزوم و لازمه، فالمعجزة من حيث أنّها قوّة للرّسول و مؤيّدة

له مطمئنّة له و مثبّتة لفؤاده، بقطع النّظر عن أثر انتصاره و هزيمة خصمه بها. ثمّ إنّ هذا الأثر العظيم وحده مطمئنّ لقلبه الكريم و مثبّت لفؤاده أيضا، أشبه شي ء بالسّلاح، وجوده في يد الإنسان مطمئنّ له و لو لم يستعمله في خصمه، ثمّ انتصار الإنسان و هزيمة خصمه به إذا أعمله فيه مطمئنّ للفؤاد مريح للقلب مرّة أخرى.

الوجه الخامس: تعهّد اللّه إيّاه عند اشتداد الخصام بينه و بين أعدائه بما يهوّن عليه هذه الشّدائد. و لا ريب أنّ تلك الشّدائد كانت تحدث في أوقات متعدّدة، فلا جرم كانت التّسلية تحدث هي الأخرى في مرّات متكافئة. فكلّما أحرجه خصمه سلّاه ربّه. و تجي ء

نصوص في علوم القرآن، ص: 351

تلك التّسلية تارة عن طريق قصص الأنبياء و المرسلين، الّتي لها في القرآن عرض طويل، و فيها يقول اللّه: وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ «1» و تارة تجي ء التّسلية عن طريق وعد اللّه لرسوله بالنّصر و التّأييد و الحفظ، كما في قوله سبحانه:

وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا «2» و قوله: وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «3» و نحو ما في سورتي الضّحى و أ لم نشرح من الوعود الكريمة و العطايا العظيمة. و طورا تأتيه التّسلية عن طريق إيعاد أعدائه و إنذارهم، نحو قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ «4»، و قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ «5». و طورا آخر ترد التّسلية في صورة الأمر الصّريح بالصّبر، نحو قوله جلّ شأنه: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «6»، أو في صورة النّهي عن التّفجّع عليهم و الحزن منهم، نحو قول اللّه

تعالى:

فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ «7»، و نحو قوله سبحانه:

وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ «8».

و من موارد تسلية اللّه لرسوله أن يخوّفه عواقب حزنه من كفر أعدائه، نحو لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «9» و منها أن يؤيسه منهم ليستريح و يتسلّى عنهم، نحو:

وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ* وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ* إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ الْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ «10»

______________________________

(1)- هود/ 120.

(2)- الطّور/ 48.

(3)- المائدة/ 67.

(4)- القمر/ 45.

(5)- فصّلت/ 13.

(6)- الأحقاف/ 13.

(7)- فاطر/ 8.

(8)- النّحل/ 127.

(9)- الشّعراء/ 3.

(10)- الأنعام/ 35- 36.

نصوص في علوم القرآن، ص: 352

و يمكن أن تندرج هذه الحكمة بوجوهها الخمسة تحت قول اللّه في بيان الحكمة من تنجيم القرآن كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ «1».

الحكمة الثّانية:

التّدرّج في تربية هذه الأمّة النّاشئة علما و عملا، و ينضوي تحت هذا الإجمال خمسة أيضا؛

أوّلها: تيسير حفظ القرآن على الأمّة العربيّة، و هي كما علمت كانت أمّة امّيّة.

و أدوات الكتابة لم تكن ميسورة لدى الكاتبين منهم على ندرتهم، و كانت مشتغلة بمصالحها المعاشية، و بالدّفاع عن دينها الجديد بالحديد و الدّم، فلو نزل القرآن جملة واحدة لعجزوا عن حفظه، فاقتضت الحكمة العليا أن ينزله اللّه إليهم مفرّقا ليسهل عليهم حفظه و يتهيّأ لهم استظهاره.

ثانيها: تسهيل فهمه عليهم كذلك، مثل ما سبق في توجيه التّيسير في حفظه.

ثالثها: التّمهيد لكمال تخلّيهم عن عقائدهم الباطلة، و عباداتهم الفاسدة، و عاداتهم المرذولة. و ذلك بأن يراضوا

على هذا التّخلّي شيئا فشيئا، بسبب نزول القرآن عليهم كذلك شيئا فشيئا، فكلّما نجح الإسلام معهم في هدم الباطل، انتقل بهم إلى هدم آخر، و هكذا يبدأ بالأهمّ ثمّ بالمهمّ، حتّى انتهى بهم آخر الأمر عن تلك الأرجاس كلّها، فطهّرهم منها و هم لا يشعرون بعنت و لا حرج، و فطمهم عنها دون أن يرتكسوا في سابق فتنة أو عادة.

و كانت هذه سياسة رشيدة، لا بدّ منها في تربية هذه الأمّة المجيدة، لا سيّما أنّها كانت أبيّة معاندة، تتحمّس لموروثاتها و تستميت في الدّفاع عمّا تعتقده من شرفها، و تتهوّر في سفك الدّماء و شنّ الغارات لأتفه الأسباب.

رابعها: التّمهيد لكمال تحلّيهم بالعقائد الحقّة، و العبادات الصّحيحة، و الأخلاق الفاضلة، بمثل تلك السّياسة الرّشيدة السّابقة. و لهذا بدأ الإسلام بفطامهم عن الشّرك و الإباحة، و إحياء قلوبهم بعقائد التّوحيد و الجزاء، من جرّاء ما فتح عيونهم عليه من أدلّة

______________________________

(1)- الفرقان/ 32.

نصوص في علوم القرآن، ص: 353

التّوحيد، و براهين البعث بعد الموت، و حجج الحساب و المسئوليّة و الجزاء.

ثمّ انتقل بهم بعد هذه المرحلة إلى العبادات فبدأهم بفريضة الصّلاة قبل الهجرة، و ثنّى بالزّكاة و بالصّوم في السّنة الثّانية من الهجرة، و ختم بالحجّ في السّنة السّادسة منها. و كذلك كان الشّأن في العادات، زجرهم عن الكبائر و شدّد النّكير عليهم فيها. ثمّ نهاهم عن الصّغائر في شي ء من الرّفق، و تدرّج بهم في تحريم ما كان مستأصلا فيهم كالخمر، تدرّجا حكيما حقّق الغاية، و أنقذهم من كابوسها في النّهاية. و كان الإسلام في انتهاج هذه الخطّة المثلى أبعد نظرا، و أهدى سبيلا، و أنجح تشريعا، و أنجح سياسة، من تلكم الأمم المتمدّنة المتحضّرة الّتي أفلست

في تحريم الخمر على شعوبها أفظع إفلاس، و فشلت أمرّ فشل، و ما عهد إمريكا في مهزلة تحريمها الخمر ببعيد.

أ ليس ذلك إعجازا للإسلام في سياسة الشّعوب، و تهذيب الجماعات، و تربية الأمم؟

بلى، و التّاريخ على ذلك من الشّاهدين.

خامسها: تثبيت قلوب المؤمنين و تسليحهم بعزيمة الصّبر و اليقين، بسبب ما كان يقصّه القرآن عليهم الفينة بعد الفينة و الحين بعد الحين، من قصص الأنبياء و المرسلين و ما كان لهم و لأتباعهم مع الأعداء و المخالفين، و ما وعد اللّه به عباده الصّالحين، من النّصر و الأجر و التّأييد و التّمكين. و الآيات في ذلك كثيرة، حسبك منها قول العليّ الكبير: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ، وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ «1». و قد صدق اللّه وعده، و نصر عبده، و أعزّ جنده، و هزم الأحزاب وحده، فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «2».

و يمكن أن تندرج هذه الحكمة الثّانية بما انضوى تحتها في قول اللّه تعالى: وَ قُرْآناً

______________________________

(1)- النّور/ 55.

(2)- الأنعام/ 45.

نصوص في علوم القرآن، ص: 354

فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ «1»، كما يمكن أن يفسّر بها قوله تعالى في بيان أسرار التّنجيم: وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «2»، باعتبار أنّ التّنوين للتّعظيم إشارة إلى المعاني المنطوية تحت هذا التّرتيل.

الحكمة الثّالثة:

مسايرة الحوادث و الطّوارئ في تجدّدها و تفرّقها، فكلّما جدّ منهم جديد، نزل من القرآن ما يناسبه، و فصّل اللّه لهم من أحكامه ما يوافقه. و تنتظم هذه

الحكمة أمورا أربعة؛

أوّلها: إجابة السّائلين على أسئلتهم عند ما يوجّهونها إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم، سواء أ كانت تلك الأسئلة لغرض التّثبّت من رسالته، كما قال اللّه في جواب سؤال أعدائه إيّاه:

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «3»، و قوله:

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً «4». أم كانت لغرض التّنوّر و معرفة حكم اللّه، كقوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ «5»، وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ «6».

و لا ريب أنّ تلك الأسئلة كانت ترفع إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم في أوقات مختلفة، و على نوبات متعدّدة، حاكية أنّهم سألوا و لا يزالون يسألون، فلا بدع أن ينزل الجواب عليها كذلك في أوقاتها المختلفة و نوباتها المتعدّدة.

ثانيها: مجاراة الأقضية و الوقائع في حينها ببيان حكم اللّه فيها عند حدوثها و وقوعها. و معلوم أنّ تلك الأقضية و الوقائع لم تقع جملة، بل وقعت تفصيلا و تدريجا. فلا مناص إذن من فصل اللّه فيها بنزول القرآن على طبقها تفصيلا و تدريجا. و الأمثلة على هذا

______________________________

(1)- الإسراء/ 106.

(2)- الفرقان/ 33.

(3)- الإسراء/ 85.

(4)- الكهف/ 83.

(5)- البقرة/ 219.

(6)- البقرة/ 220.

نصوص في علوم القرآن، ص: 355

كثيرة، منها قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ «1» إلى قوله سبحانه:

أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ «2»، و هنّ عشر آيات نزلن في حادث من أروع الحوادث، هو اتّهام السّيّدة الجليلة أمّ المؤمنين عائشة بالإفك. و فيها دروس اجتماعيّة لا تزال تقرأ على النّاس، كما لا تزال تسجّل براءة هذه الحصان

الطّاهرة من فوق سبع سماوات.

و من الأمثلة قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ إلى قوله تعالى: وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ «3». و هنّ ثلاث آيات نزلن عند ما رفعت خولة بنت ثعلبة شكواها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من أنّ زوجها أوس بن الصّامت ظاهر منها، و جادلت الرّسول بأنّ معها صبيّة صغارا إن ضمّتهم إلى زوجها ضاعوا، و إن ضمّتهم إليها جاعوا.

ثالثها: لفت أنظار المسلمين إلى تصحيح أغلاطهم الّتي يخطئون فيها، و إرشادهم إلى شاكلة الصّواب في الوقت نفسه. و لا ريب أنّ تلك الأغلاط كانت في أزمان متفرّقة، فمن الحكمة أن يكون القرآن النّازل في إصلاحها متكافئا معها في زمانها. اقرأ إن شئت قوله سبحانه في سورة آل عمران 121: وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ إلى آيات كثيرة بعدها، و كلّها نزلت في غزوة أحد إرشادا للمسلمين إلى مواضع أخطائهم في هذا الموقف الرّهيب و المأزق العصيب. و كذلك اقرأ قوله سبحانه: وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ عَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ* ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «4». و هي آيات تردع المؤمنين عن رذيلة الإعجاز و الاغترار في يوم

______________________________

(1)- النّور/ 11.

(2)- النّور/ 26.

(3)- المجادلة/ 1- 4.

(4)- التّوبة/ 25- 27.

نصوص في علوم القرآن، ص: 356

من أيّام

اللّه، و تلفت نظرهم إلى مقدار تدارك اللّه لهم في شدّتهم، و إلى وجوب أن يثوبوا إلى رشدهم، و يتوبوا إلى ربّهم.

رابعها: كشف حال أعداء اللّه المنافقين، و هتك أستارهم و سرائرهم للنّبيّ و المسلمين، كيما يأخذوا منهم حذرهم فيأمنوا شرّهم، و حتّى يتوب من شاء منهم. اقرأ- إن شئت- قوله تعالى في سورة البقرة/ 80: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ إلى قوله إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ، و هنّ ثلاث عشرة آية فضحت المنافقين، كما فضحتهم سورة التّوبة في كثير من الآيات، و كما كشف القرآن أستارهم في كثير من المناسبات. و يمكن أن تندرج هذه الحكمة الثّالثة بمضامينها الأربعة في قول اللّه تعالى في تلك الآية: وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً «1».

الحكمة الرّابعة:

الإرشاد إلى مصدر القرآن، و أنّه كلام اللّه وحده، و أنّه لا يمكن أن يكون كلامه صلّى اللّه عليه و سلم و لا كلام مخلوق سواه.

و بيان ذلك أنّ القرآن الكريم تقرأه من أوّله إلى آخره، فإذا هو محكم السّرد، دقيق السّبك، متين الأسلوب، قويّ الاتّصال، آخذ بعضه برقاب بعض في سورة و آياته و جمله، يجري دم الإعجاز فيه كلّه من ألفه إلى يائه كأنّه سبيكة واحدة، و لا يكاد يوجد بين أجزائه تفكّك و لا تخاذل كأنّه حلقة مفرغة! أو كأنّه سمط وحيد و عقد فريد يأخذ بالأبصار، نظّمت حروفه و كلماته، و نسّقت جمله و آياته، و جاء آخره مساوقا لأوّله، و بدا أوّله مواتيا لآخره!!

و هنا نتساءل: كيف اتّسق للقرآن هذا التّألّف المعجز؟ و كيف استقام له هذا التّناسق المدهش؟ على حين

أنّه يتنزّل جملة واحدة، بل تنزّل آحادا مفرّقة تفرّق الوقائع و الحوادث في أكثر من عشرين عاما!!.

الجواب: أنّنا نلمح هنا سرّا جديدا من أسرار الإعجاز، و يشهد سمة فذّة من سمات

______________________________

(1)- الفرقان/ 32.

نصوص في علوم القرآن، ص: 357

الرّبوبيّة، و نقرأ دليلا ساطعا على مصدر القرآن، و أنّه كلام الواحد الدّيّان، وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «1».

و إلّا فحدّثني- بربّك- كيف تستطيع أنت؟ أم كيف يستطيع الخلق جميعا أن يأتوا بكتاب محكم الاتّصال و التّرابط، متعيّن النّسج و السّرد، متآلف البدايات و النّهايات، مع خضوعه في التّأليف لعوامل خارجة عن مقدور البشر، و هي وقائع الزّمن و إحداثه الّتي يجي ء كلّ جزء من أجزاء هذا الكتاب تبعا لها، و متحدّثا عنها، سببا بعد سبب، و داعية إثر داعية، مع اختلاف ما بين هذه الدّواعي، و تغاير ما بين تلك الأسباب، و مع تراخي زمان هذا التّأليف، و تطاول آماد هذه النّجوم، إلى أكثر من عشرين عاما.

لا ريب أنّ هذا الانفصال الزّمانيّ، و ذاك الاختلاف الملحوظ بين هاتيك الدّواعي، يستلزمان في مجرى العادة التّفكّك و الانحلال، و لا يدعان مجالا للارتباط و الاتّصال بين نجوم هذا الكلام.

أمّا القرآن الكريم فقد خرق العادة في هذه النّاحية أيضا، نزل مفرّقا منجّما، و لكنّه تمّ مترابطا محكما، و تفرّقت نجومه تفرّق الأسباب، و لكن اجتمع نظمه اجتماع شمل الأحباب. و لم يتكامل نزوله إلّا بعد عشرين عاما، و لكن تكامل انسجامه بداية و ختاما!!.

أ ليس ذلك برهانا ساطعا على أنّه كلام خالق القوى و القدر، و مالك الأسباب و المسبّبات، و مدبّر الخلق و الكائنات، و قيّوم الأرض و السّماوات، العليم بما كان

و ما سيكون، الخبير بالزّمان و ما يحدث فيه من شئون؟

لاحظ فوق ما أسلفنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان إذا نزلت عليه آية أو آيات، قال: «ضعوها في مكان كذا من سورة كذا». و هو بشر لا يدري طبعا ما ستجي ء به الأيّام، و لا يعلم ما سيكون في مستقبل الزّمان، و لا يدرك ما سيحدث من الدّواعي و الأحداث فضلا عمّا سينزل من اللّه فيها. و هكذا يمضي العمر الطّويل و الرّسول على هذا العهد، يأتيه الوحي بالقرآن نجما بعد نجم،. و إذا القرآن كلّه بعد هذا العمر الطّويل يكمل و يتمّ، و ينتظم و يتآخى و يأتلف و يلتئم، و لا يؤخذ عليه أدنى تخاذل و لا تفاوت، بل يعجز الخلق طرّا بما فيه من

______________________________

(1)- النّساء/ 82.

نصوص في علوم القرآن، ص: 358

انسجام و وحدة و ترابط، كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ «1».

و إنّه ليستبين لك سرّ هذا الإعجاز، إذا ما علمت أنّ محاولة مثل هذا الاتّساق و الانسجام لن يمكن أن يأتي على هذا النّمط الّذي نزل به القرآن و لا على قريب من هذا النّمط، لا في كلام الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم و لا كلام غيره من البلغاء و غير البلغاء.

خذ مثلا حديث النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، و هو ما هو في روعته و بلاغته، و طهره و سموّه، لقد قاله الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم في مناسبات مختلفة لدواع متباينة، في أزمان متطاولة. فهل في مكنتك و مكنة البشر معك أن ينظّموا من هذا السّرد الشّتيت وحده كتابا واحدا يصقله الاسترسال و الوحدة، من غير أن ينقصوا

منه أو يتزيّدوا عليه أو يتصرّفوا فيه؟

ذلك ما لن يكون، و لا يمكن أن يكون، و من حاول ذلك فإنّما يحاول العبث، و يخرج للنّاس بثوب مرقّع، و كلام ملفّق ينقصه التّرابط و الانسجام، و تعوزه الوحدة و الاسترسال، و تمجّه الأسماع و الأفهام.

إذن فالقرآن الكريم ينطق نزوله منجّما بأنّه كلام اللّه وحده. و تلك حكمة جليلة الشّأن، تدلّ الخلق على الحقّ في مصدر القرآن، قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً «2». (1: 33- 55)

______________________________

(1)- هود/ 1.

(2)- الفرقان/ 6.

نصوص في علوم القرآن، ص: 359

الفصل التّاسع و الأربعون نصّ عزّة دروزة (1305- ..) في «التّفسير الحديث»

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ القدر/ 1

احتوت الآيات تقريرا تذكيريّا بإنزال القرآن في ليلة القدر، و تنبيها تنويهيّا بهذه اللّيلة و عظم شأنها و خيرها و شمولها ببركة اللّه و سلامه، و تنزّل الملائكة و الرّوح فيها بأوامره و تبليغاته. و الآيات لم تذكر القرآن، غير أنّ جمهور المفسّرين على أنّ ضمير الغائب في أَنْزَلْناهُ عائد إليه، و روح الآية تلهم ذلك، كما أنّ آيات سورة الدّخان: 1- 3 حم* وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ تؤيّد ذلك.

تعليق على روايات نزول القرآن جملة واحدة

و لقد أورد المفسّرون في سياق هذه السّورة رواياتا و أقوالا تتضمّن فيما تتضمّنه أنّ القرآن نزل دفعة واحدة إلى سماء الدّنيا ثمّ أخذ ينزّل منجّما، أي مفرّقا، و أنّ ما عنته هذه السّورة هو هذا، حيث قصدت جميع القرآن. و قد روى بعضهم عن الشّعبيّ أنّ الآية الأولى تعني أنّ ابتدأنا بإنزاله في ليلة القدر، و النّفس تطمئنّ بقول الشّعبيّ هذا، و بأنّ هذه السّورة و آيات سورة الدّخان الّتي أوردناها آنفا و آية سورة البقرة: 185 شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ قد عنت بدء نزول القرآن، و بأنّ

نصوص في علوم القرآن، ص: 360

سورة القدر قد احتوت تنويها بعظم حادث بدء نزول القرآن و جلالة قدره، و بخطورة اللّيلة الّتي شرّف اللّه قدرها، بحدوث هذا الحادث العظيم فيها. أمّا إنزال القرآن جميعه دفعة واحدة إلى سماء الدّنيا فليس عليه دليل من القرآن أو من الحديث الصّحيح. و لا يبدو له حكمة، كما لا يبدو أنّه منسجم مع طبيعة الأشياء؛ حيث احتوت معظم فصول القرآن صور السّيرة النّبويّة المتنوّعة في مكّة أوّلا ثمّ في المدينة و أحداثها أو

نزلت في مناسباتها. (1: 241)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً الفرقان/ 32

احتوت الآيات حكاية قول آخر من أقوال الكفّار؛ حيث قالوا على سبيل التّحدّي:

هلّا أنزل القرآن على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم دفعة واحدة، و قد ردّت عليهم ردّا قويّا فيه تثبيت و توضيح و إنذار. فاللّه تعالى إنّما أنزل القرآن مرتّلا قسما بعد قسم، لتثبيت قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و دعوته، و جعل النّاس يحسنون استيعابه، و أنّ الكفّار لا يأتون بمثل أو حجّة يظنّون فيها تعجيزا أو إشكالا أو إحراجا إلّا أنزل اللّه في صدده ما فيه الحقّ و التّفسير الأفضل و الحجّة الدّامغة المفحمة، و إنّ الّذين يظلّون على كفرهم و مكابرتهم بعد ذلك سيحشرون إلى جهنّم على وجوههم، و سيعلمون حينئذ أنّهم الأضلّ سبيلا و الأسوأ مصيرا. و الزّيادة الّتي ذكرناها في صدد تنزيل القرآن مقسّما مستمدّة من آية الإسراء: 106 وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا

و الآيات استمرار في السّياق الّذي احتوى منذ أوّل السّورة فصولا مماثلة من حيث حكاية مواقف الكفّار و أقوالهم و الرّدّ عليهم و إنذارهم.

تعليق على تحدّي الكفّار بإنزال القرآن جملة واحدة و قد قال المفسّرون في سياق الآيات: إنّ الكفّار كانوا يتحدّون النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بإنزال القرآن جملة واحدة، كما أنزلت الكتب السّماويّة التّوراة و الإنجيل و الزّبور جملة واحدة. و علّلوا نزول القرآن على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم مفرّقا بأنّه كان أمّيّا لا يقرأ و لا يكتب، فكان لا بدّ له من التّلقين

نصوص في علوم القرآن، ص: 361

و الحفظ اللّذين يقتضيان إنزال القرآن مفرّقا، في حين كان الأنبياء الأوّلون يقرءون و يكتبون، فنزلت عليهم جملة

واحدة و مكتوبة.

و قد يكون ما قاله المفسّرون عن سبب تحدّي الكفّار صحيحا، و أن يكون هؤلاء سمعوا من الكتابيّين أنّ التّوراة و الإنجيل و الزّبور نزلت على موسى و عيسى و داود: جملة واحدة. غير أنّنا لا نستطيع موافقتهم على أخذهم ذلك كقضيّة مسلّم بها، و تعليلهم إيّاه بأميّة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم. فباستثناء الألواح الّتي ذكرت آية الأعراف: 145، إنّ اللّه أنزلها مكتوبة على موسى لم يرد في القرآن صراحة أنّ اللّه أنزل الكتب الأخرى مكتوبة و دفعة واحدة.

و الأسفار المنسوبة إلى موسى و العائدة إلى عهده و حياته تذكر إنّ اللّه إنّما أمر موسى بإحضار لوحين. و تفيد الأسفار أنّ معظم ما احتوته من تعليمات و تشريعات نزل مفرّقا و في فترات و مناسبات عديدة وفق سير الظّروف بالنّسبة لموسى عليه السّلام و بالنّسبة لبني إسرائيل. و الزّبور الّذي هو على الأرجح سفر المزامير مقاطع متتالية فيها تسبيح و تقديس و ابتهال بلسان داود عليه السّلام. و يتبادر منها أنّها لم توح إلى داود مرّة واحدة. و ليس في اليد إنجيل منسوب إلى عيسى عليه السّلام، و لم يرو أحد أنّه أطلع على مثل ذلك. و الأناجيل المتداولة هي ترجمة لحياته، تضمّنت كثيرا من أقواله و تعاليمه الّتي عليها سمة الوحي. غير أنّها كانت تمثّل وقائع و مجالس مختلفة، فلا يمكن أن تكون نزلت دفعة واحدة. و كلّ هذا هو شأن القرآن بطبيعة الحال.

هذا، و مع أنّ تعبير «القرآن» أصبح علما على جميع ما أوحى اللّه تعالى للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم من الفصول و المجموعات القرآنيّة المحكمة و المتشابهة، فإنّ هذه الآية و أمثالها ممّا تكرّر في القرآن،

و من ذلك الآية السّابقة: 31، تؤيّد ما قلناه في سياق تفسير سورة المزّمّل من أنّ أصل مفهوم القرآن هو السّور و الفصول المحكمة الّتي احتوت مبادئ الدّعوة و تدعيماتها الرّئيسيّة، كما تؤيّد أنّ هذا هو الّذي فهمه العرب، و أنّ ما جاء في سياق التّدعيم و التّأييد من قصص و أمثال و حجج و جدل و ردود و حملات و حكاية أقوال الكفّار و تحدّياتهم و مشاهد الآخرة ممّا يصحّ أن يسمّى من المتشابهات، لم يكن في الأصل ممّا عناه التّعبير و فهمه العرب، و أنّ شمول التّعبير لكلّ ما احتواه المصحف من ذلك أيضا إنّما كان بسبب

نصوص في علوم القرآن، ص: 362

أنّه من وحي اللّه و تنزيله مثل ذلك الأصل، و هو ما عنته آية آل عمران 7: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ. (2: 261 262)

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ البقرة/ 185

و قد قالوا و رووا في صدد جملة شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ: إنّ القرآن أنزل جملة واحدة في شهر رمضان أو في أواخره إلى سماء الدّنيا، ثمّ أخذ ينزل منجّما على النّبيّ، و أنّ هذا ما عناه التّعبير. و هذا القول لا يبعث الطّمأنينة، كما أنّه غير مؤيّد بسند وثيق و لا يفهم له آية حكمة.

و قد قيل في سياق سورة القدر و في سياق الآيات الأولى من سورة الدّخان. و علّقنا على ذلك بما فيه الكفاية في تفسير السّورتين. و المجمع عليه تقريبا المؤيّد بحديث رواه البخاريّ عن عائشة، و أوردناه في سياق تفسير سورة العلق، إنّ الآيات الخمس الأولى من هذه السّورة هي أوّل ما نزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم

في ليلة القدر إحدى ليالي أواخر رمضان، على ما شرحناه في تفسير سورة القدر. و الّذي يتبادر لنا أنّ الآية الّتي نحن في صددها قد قصدت ذلك؛ للتّنويه ببركة شهر رمضان و فضله، لأنّه كان فيه أعظم الأحداث الإسلاميّة و أكثرها بركة و خيرا، و هو إعلان النّبيّ نبوّته و اتّصال الوحي الرّبانيّ به، و تلقّيه عنه أولى آيات القرآن الّذي فيه الهدى و البيّنات، و الفرقان الّذي يفرق بين الحقّ و الباطل.

و المتبادر أنّ فرض صيام هذا الشّهر المبارك على المسلمين متّصل من ناحية ما بذلك الحادث العظيم؛ حيث اقتضت حكمة التّنزيل فرض صيامه عليهم، ليكون لهم شهر عبادة خالصة للّه تعالى، يؤدّونها في مشارق الأرض و مغاربها سنويّا إلى ما شاء اللّه لهذه الدّنيا أن يدوم فيها معنى الشّكر و واجبه على رحمة اللّه و نعمته، و فيها معنى التّذكير المتجدّد بهذه الرّحمة و النّعمة.

و نستطرد إلى القول في صدد شهر رمضان فنقول: إنّنا ذكرنا في سياق تفسير سورة القدر أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم كان يعتكف اعتكافاته الرّوحية في غار حراء في شهر رمضان قبل نزول الوحي عليه، و أنّ التّحنّث- أي التّعبد و الاعتكاف في شهر رمضان- كان ممارسا من قبل

نصوص في علوم القرآن، ص: 363

بعض الورعين المتّقين في مكّة «1». فيسوغ القول و الحالة هذه أنّه كان لشهر رمضان خصوصية و إن لم يعرف كنهها بجزم فاقتضت الحكمة الرّبّانيّة اختصاصه بنزول القرآن، و الوحي على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم لأوّل مرّة، ثمّ بفرض صيامه على المسلمين. (7: 284- 285)

و نصّه أيضا، في كتابه: [تاريخ] القرآن المجيد روايات نزول القرآن جملة واحدة و أثرها

فأوّلا: من ذلك الآثار المرويّة بأنّ القرآن قد نزل جملة واحدة إلى سماء الدّنيا، ثمّ صار

ينزل على النّبيّ خلال مدّة حياته بعد بعثته. فالّذي يبدو لنا أنّه كان لهذه الآثار أثر قليل أو كثير في بعض الثّغرات الّتي ذكرناها أو بالأحرى في أكثرها، بحيث صارت عاملا بين حين و آخر، و بقصد و غير قصد في أغفال صلة الفصول القرآنيّة بالسّيرة و البيئة النّبويّة، و مفهوم الأساليب الخطابيّة العربيّة و مدارك سامعي القرآن و مألوفاتهم و متداولاتهم، و عاملا كذلك في إسباغ معان خاصّة أو مستقلّة على الألفاظ و الأساليب القرآنيّة، و استخراج معان خاصّة منها تباعد بينها و بين نزول القرآن و جوّ البيئة النّبويّة الّتي تتّصل بالقرآن و نزوله و أساليبه و ألفاظه اتّصالا مباشرا و وثيقا على ما شرحناه في مناسبة سابقة.

و مع أنّ من العلماء من توقّف في التّسليم بمدى هذه الآثار و رأى فيها تعارضا مع ما في القرآن من ناسخ و منسوخ و جدل، و قال: أنّ القرآن كان ينزل على قلب النّبيّ من عند اللّه منجّما حسب الحوادث، فإنّ كثيرا منهم أخذوا بها، كما يبدو من التّدقيق في مختلف الكتب و التّفاسير القديمة الّتي كانت عماد كتب التّفسير التّالية قليلا أو كثيرا، و منهم من جمع بين الأخذ بها و بين القول بنزول القرآن حسب الحوادث معا. و جلّ هذه الآثار- إن لم يكن كلّها- منسوب إلى ابن عبّاس مع اختلاف في النّصوص و الطّرق. [ثمّ ذكر روايات

______________________________

(1)- تاريخ الطّبريّ/ 2: 48.

نصوص في علوم القرآن، ص: 364

عن ابن عبّاس نقلا عن الحاكم الطّبرانيّ و ابن أبي شيبة كما تقدّم عن السّيوطيّ، فقال:].

و قد سبقت هذه الرّوايات في سياق هذه الآيات:

1- شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «1».

2- إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ

إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ «2».

3- إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «3».

و وردت متقاربة المدى مع بعض التّباين في الصّيغة في التّفسير المنسوب إلى ابن عبّاس، و في تفاسير عديدة مثل الطّبريّ و الكشّاف و الخازن و أبي السّعود و البيضاويّ، جريا على العادة من اتّخاذ المفسّرين الرّوايات الواردة في أغلب الأحيان عمادا للتّفسير مهما كان أمرها و رواتها على ما شرحناه في مناسبة سابقة.

و لم يقتصر الأمر على الرّوايات المعزوّة إلى ابن عبّاس، فإنّ بعض العلماء رووا روايات و قالوا أقوالا أخرى في الموضوع، فقال أبو شامة- و هو من علماء القرآن- باحتمال أن يكون القرآن قد أنزل إلى السّماء قبل نبوّة النّبيّ. و روي عن عكرمة أنّه قال: إنّ آية فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ «4» يعني نزول القرآن منجّما من السّماء الأولى.

و علّق بعض العلماء و المفسّرين على ما تضمّنته الرّوايات تعليقات تطبيقيّة و توفيقيّة على اعتبار أنّها قضيّة مسلّمة، فقال أبو شامة: أنّ السّرّ في إنزاله إلى السّماء تفخيم أمره .. [إلى آخر ما تقدّم عنه ثمّ قال:]

و جاء في تفسير الخازن في سياق سورة القدر و بعد إيراد الرّوايات المذكورة سابقا:

قيل: إنّما أنزله إلى السّماء الدّنيا لشرف الملائكة بذلك، و لأنّها كالمشترك بيننا و بين الملائكة، فهي لهم سكن و لنا سقف و زينة.

جاءت في سياق مشهد من مشاهد الآخرة، و فيه إنذار و تنديد بالكفّار، و حكي فيه

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- الدّخان/ 3.

(3)- القدر/ 1.

(4)- الواقعة/ 75.

نصوص في علوم القرآن، ص: 365

موقف من مواقف الجدل بينهم و بين النّبيّ، و لا صلة قطّ بينه و بين المعنى أو المشهد الّذي أورده النّيسابوريّ. و في هذا مثل آخر لأخذ المفسّرين الآيات آية أو

جملة من آية و عدم ملاحظتهم السّياق الّذي جاءت فيه ... و منهم من ناقش ما إذا كانت جملة إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1» من جملة القرآن الّذي نزل جملة واحدة أم لا؛ لأنّها تتضمّن إخبارا؛ و توهّم التّعارض، ثمّ خرجوها بأنّ معنى أَنْزَلْناهُ في الجملة قضيناه و قدّرناه «2».

كلّ هذا في حين أنّ هذه الأقوال- و خاصّة المعزوّة إلى ابن عبّاس و هي الأصل فيها- ليست مرفوعة إلى النّبيّ، و هي إخبار عن غيب متّصل بعلم اللّه و سرّ ملكوته و وجوده لا يمكن العلم بها إلّا عن طريق النّبيّ، و هو ما لم يثبت فيما اطّلعنا عليه، و نستبعد صدورها عن ابن عبّاس؛ لما فيها من تخمين في أمر لا يصحّ أن يلقى الكلام فيه جزافا و من غير سند نبويّ ثابت أو صراحة قرآنيّة.

و في الرّوايات الوثيقة الواردة: أنّ الوحي نزل لأوّل مرّة على النّبيّ بأوّل آيات القرآن في ليلة من ليالي رمضان، و هو معتكف في غار حراء على عادته من الاعتكاف في هذا الشّهر، و ما احتوته آيات البقرة و الدّخان و القدر هو فيما نعتقد إشارة إلى هذا الحادث، و قد جاءت كلمة القرآن في أوائل سورة المزّمّل الّتي هي من أوائل القرآن نزولا، ثمّ ظلّت تكرّر في السّور المكّية و المدنيّة، و كانت تعني بطبيعة الحال الجزء الّذي تمّ نزوله على قلب النّبيّ. و في هذا دليل على أنّ تعبير إِنَّا أَنْزَلْناهُ في آيتي الدّخان و القدر و جملة شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ في آية البقرة لا تقتضي أن تكون قصدت جميع القرآن ممّا يمكن أن يكون محلّ إشكاله، أريد تخريجه على الوجه الّذي خرج

به.

و لقد أورد السّيوطيّ في إتقانه حديثا نبويّا برواية واثلة ابن الأسقع .. [و ذكر كما تقدّم عنه، ثمّ قال:]

و سيق هذا الحديث في معرض تلك الآيات و الرّوايات و الأقوال، و مهما يكن من أمره فليس من شأنه على فرض صحتّه أن يؤيّد تلك الأقوال و الرّوايات، لأنّه ليس في

______________________________

(1)- القدر/ 1.

(2)- الأقوال الّتي أوردناها قد ورد جلّها في الإتقان للسّيوطيّ.

نصوص في علوم القرآن، ص: 366

صراحتها، و ليس من المستبعد أن يكون أريد به الإشارة إلى أوّل نزول الكتب السّماويّة بما فيها القرآن ما هو الواقع المرويّ في الأحاديث الصّحيحة بالنّسبة إلى القرآن.

و من الطّريف أنّ بعض المعلّقين استنبط على ما ذكره السّيوطيّ من عدم الرّدّ على الكفّار فيما تحدّوه من إنزال القرآن جملة واحدة صحّة ما قيل من أنّ الكتب السّماويّة نزلت جملة واحدة، و قال إنّها لو لم تكن نزلت جملة واحدة لكان القرآن ردّ على المتحدّين.

و إذا كان بعض العلماء توقّف في ما إذا كانت جملة إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ هي من جملة القرآن الّذي نزل جملة واحدة أم لا، لأنّها تتضمّن أخبارا و توهم التّعارض، فكم بالأحرى الآيات الكثيرة المماثلة ثمّ الفصول الكثيرة جدّا الواردة في مختلف السّور و الّتي تحكي حجاج الكفّار و جدلهم في القرآن و تحدّيه، أو تحكي مواقف الكفّار من الدّعوة النّبويّة و من إنذارات القرآن و تبشيراته باليوم الآخر و حسابه و ثوابه و عقابه، و هزؤهم بالنّبي و تحدّيه بإحداث المعجزات و إنزال الملائكة الخ، ثمّ الّتي تحكي وقع السّيرة الجهاديّة و التّشريعيّة، ثمّ الّتي تندّد بالكفّار و تصوّر عنادهم و تحتّم لهم الخلود بالنّار، و تلك الّتي تذكر إسلام كثير منهم،

و توبة اللّه عليهم و انتقالهم من صفّ الكفّار إلى صفّ المسلمين و من مصير الخلود في النّار إلى الخلود في الجنّة و أمثال ذلك ممّا كان يقع نتيجة لسير الدّعوة و ظروفها الطّارئة، و ممّا يغلب عليه طابع الوسائل التّدعيميّة لأهداف القرآن و أسسه و دعوته. و لا ندري كيف سوّغ القائلون لأنفسهم بعد هذا أن يقولوا: إنّ القرآن- و هو يعنون جميع ما بين الدّفّتين من أسس و وسائل- قد نزل جملة واحدة يوم بعثة النّبيّ أو قبله.

و على كلّ حال فإنّ ما ساقه القائلون في حكمة إنزال القرآن جملة واحدة إلى السّماء عند بدء النّبوّة أو قبلها، و كذلك ما علّقوا به من تعليقات هي الأخرى أقوال تخمينيّة، و فيها من التّكلّف و التّزيّد بل و التّهافت ما يستطيع أن يلمسه المدقّق الّذي ينعم النّظر، و أنّ القول في أصله يظلّ غير مفهوم الحكمة، و غير متّسق مع طبائع الأمور و حقائق الأشياء، و لقد غاب عنهم فيما يتراءى لنا أنّ القرآن بصفته وحي اللّه قد تحقّقت فيه جميع

نصوص في علوم القرآن، ص: 367

معاني التّعظيم و التّفخيم و التّكريم، و إنّه ليس في حاجة إلى المزيد بمثل هذه المظاهر، كما غاب عنهم، أنّهم يقرّرون ماهيات مادّية عن السّماء الأولى و بيت العزّة و الحفظة و السّفرة و التّوزيع على جبريل و تلقّي جبريل عنهم، و يصفون مشاهد أبصاريّة لا يصحّ إلقاء الكلام فيها جزافا، و ليس عندهم أيّ دليل نقليّ ثابت و صحيح صادر عن النّبيّ الّذي هو وحده صاحب الحقّ في الأخبار عن الغيبيّات.

و مهما يكن من أمر فإنّ هذه الأقوال تدلّ على أنّ كثيرا من النّاظرين في القرآن و

علمائه و مفسّريه اعتبروا، أو يقع الوهم بأنّهم اعتبروا القرآن- و من جملته الفصول الوسائليّة و التّدعيميّة و الوقائع الجهاديّة و الأسئلة و الأجوبة و مواقف التّحدّي و الجدل و الحجاج المتقابلة- مستقلا في أصله عن الأحداث الّتي نزل بمناسباتها، و كون هذه الأحداث ليست إلّا ظروفا عابرة لنزوله حتّى مع قولهم: إنّ القرآن قد نزل منجّما حسب الحوادث- لأنّ هذا يبدو غريبا إزاء القول: إنّ القرآن نزل في بدء نبوّة النّبيّ أو قبلها جملة واحدة إلى سماء الدّنيا- فقالوا ما قالوه و ولعوا بما ولعوا به من أسرار القرآن، و استقراء حروفه و رموزه و مغيّباته، و استغرقوا في ماهيّات ما جاء فيه من مشاهد كونيّة و قصص تاريخيّة، و حاولوا أن يستخرجوا حقائق ما كان و يكون من الوقائع و العلوم و نظرياتها، و في هذا ما فيه من التّكلّف و التّجاوز و التّشويش و تعريض القرآن للمغامز و المطاعن، في حين أنّه لا طائل من ورائه و لا ضرورة له و لا إسناد وثيقة تدعمه.

روايات نزول القرآن بالمعنى و أثرها

ثانيا: و من ذلك ما قاله بعض العلماء من نزول القرآن على قلب النّبيّ بالمعنى لا باللّفظ. فقد ذكر صاحب الإتقان هذا الموضوع في فصل كيفيّة نزول القرآن على قلب النّبيّ بالمعنى لا باللّفظ، و قال: إنّ هناك أربعة أقوال ... [و ذكر كما تقدّم عنه، و لكنّه أضاف قولا رابعا، لم يذكره السّيوطيّ و هو:]

إنّ الوحي نزل باللّفظ حينا و بالمعنى حينا، فما نزل باللّفظ فهو القرآن، و ما نزل بالمعنى فهو السّنّة، أي أنّ الأحاديث النّبويّة هي أيضا وحي ربّانيّ، و لكنّها نزلت بالمعنى.

نصوص في علوم القرآن، ص: 368

و علّل أصحاب هذا القول إنّه

كان يقصد التّخفيف عن الأمّة، و لذلك جازت رواية الأحاديث النّبويّة بالمعنى.

و يلاحظ أنّ هذه الأقوال تخمينيّة، و لم يورد قائلوها أسنادا موثّقة لها، في حين أنّ الموضوع متّصل بسرّ وحي اللّه و سرّ النّبوّة كذلك، فهو أمر غيبيّ إيمانيّ لا يصحّ قول شي ء فيه إلّا بنصّ صريح من قرآن أو حديث ثابت عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، و ما دام أنّه لم يرد شي ء من ذلك، و أنّ النّبيّ قد بلّغ القرآن الموحى به إليه بألفاظه العربيّة الّتي دوّنت و حفظت عنه بالتّواتر اليقينيّ، فليس من محلّ للقول: إنّ القرآن أوحي إليه بالمعنى، كما أنّه ليس من ورائه طائل، و أنّ الحقّ في هذا هو ما يتّسق مع الواقع و حسب، و هو أنّ ما بلّغه النّبيّ من ألفاظ القرآن هو ما نزل الوحي به على قلبه، و أنّه لا يصحّ أن يعدل عن هذا إلى غيره بالظّن و التّخمين.

على أنّ النّصوص القرآنيّة هي في جانب ما نقول أيضا أكثر منها في الجانب الآخر أو في جانب السّكوت. فآيات يوسف/ 2، و الزّخرف/ 3، و الزّمر/ 28، و فصّلت/ 3 و 44، الّتي تذكر تنزيل القرآن عربيّا و جعله عربيّا- و قد نقلناها في مناسبات سابقة- تحتوي قرائن بل دلائل قويّة على قصد تقرير كون الألفاظ العربيّة الّتي بلّغها النّبيّ هي ما نزل الوحي به على قلبه.

و من الغريب أنّ القائلين بنزول القرآن بالمعنى استندوا إلى آيتي الشّعراء: 193- 194 اللّتين نقلناهما و غفلوا عن ما بعدها بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ 195، كما هي العادة من أخذ آية دون آية و دون سياق؛ للتّدليل بهما على رأي ما، في حين أنّ بعدهما- أي

الآية:

195- تحتوي ما ينقص ذلك بصراحة، و من الغريب أكثر أن لا يحتجّ القائلون بنزول القرآن بألفاظه بهذا النّص القرآنيّ الصّريح القاطع.

و ممّا يجدر التّنبيه عليه في هذه المناسبة أنّ القول بأنّ الأحاديث النّبويّة ممّا كان ينزل به الوحي بالمعنى على إطلاقه لا يتّسق مع الواقع و النّصوص القرآنيّة. فقد احتوت آيات عديدة عتابا للنّبيّ على بعض الحوادث و الوقائع و المواقف و الأقوال الّتي صدرت منه، بل و على بعض الأفكار و الخطرات الّتي دارت في ذهنه في العهد المكّيّ و العهد

نصوص في علوم القرآن، ص: 369

المدنيّ على السّواء، ممّا تشير إليه آيات سورة عبس/ 1- 10، و الإسراء/ 73- 75، و هود/ 12، و الأنفال/ 67- 68، و التّوبة/ 43 و 113- 117، و الأحزاب/ 37، و التّحريم/ 1- 2، و النّساء/ 105- 113، فلو كان كلّ ما قاله النّبيّ و فعله و فكّر فيه وحيا على إطلاق القول لما كان محلّ لمعاتبته. و لقد أثر عن النّبيّ حوادث و أخبار و أحاديث كثيرة و وثيقة في تقرير كونه بشرا قد يخطئ و يصيب في اجتهاداته في أمور الدّنيا و سياستها، و في ما يبدو له من ظواهر الأمور الّتي لا يكون مطّلعا على بواطنها و ملابساتها، و أنّه لا يحلف على شي ء فيرى ما هو خير إلّا كفّر عن يمينه «1» و أتى الّذي هو خير الخ.

و لقد استند القائلون بالوحي العامّ الشّامل إلى آيتي: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «2»، مع أنّ روح الآيات و سياقها هما في صدد توكيد صحّة ما أخبر به النّبيّ عن اتّصال وحي اللّه به بصورة عامّة كما هو المتبادر

منها، و هو ما تكرّرت في صدده الآيات و استهدفته، و إنّ من التّجوّز تشميل مداها لكلّ قول صدر عن النّبيّ، لتعارض ذلك مع الوقائع و النّصوص.

و نريد أن ننبّه على نقطة هامّة، فنحن لا نعني بما نقرّره أن لا يكون النّبيّ في كثير ممّا قاله و فعله و أمر به و نهى عنه، و خاصّة ممّا لم ينزل فيه قرآن ناقض أو معذّل أو معاتب ملهما به من اللّه، ففي القرآن دلائل عديدة، على أنّ كثيرا ممّا وقع من النّبيّ قبل نزول القرآن به قد وقع بإلهام ربّانيّ، و أنّ القرآن الّذي نزل بذلك جاء مؤيّدا له فيه، كما أنّ جميع ما ثبت عن النّبيّ من سنن قوليّة و فعليّة، و أوامر و نواه مات عنها دون أن ينقضها هو أو القرآن هو تشريع واجب الاتّباع بنصّ القرآن، و إنّما الّذي نعنيه التّعليق على القول بأنّ جميع ما صدر عنه من قول و فعل إطلاقا، و بأنّ جميع السّنن النّبويّة القوليّة و الفعليّة وحي من جنس الوحي القرآنيّ مع فارق واحد و هو أنّ هذا باللّفظ و ذاك بالمعنى، ممّا لم يرد ما يؤيّده من حديث نبويّ ثابت أو نصّ قرآنيّ صريح، و ممّا لا يجوز الكلام فيه بالظّنّ

______________________________

(1)- هذا لا يصحّ على مذهبنا و عند المعتزلة أيضا.

(2)- النّجم/ 2- 4.

نصوص في علوم القرآن، ص: 370

و التّخمين و الاجتهاد. و في القرآن مشاهد كثيرة تدلّ على أنّ النّبيّ كان يجتهد في أمر، فينزل القرآن مؤيّدا له و مثبتا فيه و منددا بالّذين وقفوا منه موقف المخالفة أو التّردّد أو التّمرّد، فلو كان ذلك وحيا من جنس الوحي القرآنيّ مع ذلك الفارق لكان يقتضي

أن ينصّ عليه حين صدوره عن النّبيّ، أو حين تثبيت النّبيّ فيه قرآنيّا بعد صدوره أنّه كان وحيا ربّانيّا، و هذا لم يقع.

و لقد استهدف بعض الّذين قالوا ذلك تقرير العصمة النّبويّة. و ننبّه على أنّ ما نقرّره لا يمسّ هذه العصمة، عدا أنّه قائم على براهين حكمة قرآنيّة و واقعيّة. فالعصمة النّبويّة تتناول ما يبلّغه النّبيّ عن اللّه، و آيتا النّجم مصوّبتان على هذا المعنى، و المبلّغ عن اللّه بصراحة هو القرآن فقط. ثمّ تتناول امتناع النّبيّ عن اقتراف إثم أو جريمة أو فاحشة أو مخالفة للقرآن قولا و فعلا، و لا تتناول فيما تعتقد الأقوال و الأفعال و المواقف الاجتهاديّة و العادية الّتي لم تؤيّد بقرآن و ليس فيها نيّة الإثم و الضّرر و الشّرّ و المخالفة، و الّتي قد يكون فيها الخطأ و الصّواب و خلاف الأولى الّذي في علم اللّه و الّذي لا ينكشف للنّبيّ إلّا بوحي. و في القرآن مشاهد عديدة تدلّ على أنّ النّبيّ كان يجتهد في أمر، فيصدر عنه قولا أو فعلا فينزل القرآن معاتبا حينا، و منبّها أو مذكّرا حينا بما هو الأولى، كمشاهد أسرى بدر، و تحريم النّبيّ على نفسه زوجاته، و استغفاره لأقاربه من المشركين، و إذنه للمعتذرين عن الانضمام لحملة تبوك، و زواجه بمطلّقة متبنّيه، و حادث الأعمى، و خطرات نفسه في التّساهل مع المشركين، ممّا احتوت الإشارات إليه سورة الأنفال و التّحريم و التّوبة و الأحزاب و عبس و الإسراء، ممّا لا يمكن أن يحتمل القول معه أنّ ذلك كان إلهاما ربّانيّا في معنى الوحي البتّة. و نحن من المؤمنين بالعصمة النّبويّة، و لكن لا على ذلك المعنى الّذي يجعل النّبيّ يمتنع عليه

أن يصدر منه أيّ اجتهاد في خلاف الأولى المغيّب عنه علمه، أو أي خطأ مرئيّ، ممّا لا يمكن أن ينتفي عن الطّبيعة البشريّة النّبويّة المقرّرة في القرآن، و ممّا تنعدم به حكمة الثّناء العظيم الّذي أثناه اللّه في القرآن على أخلاقه، و حكمة اختصاصه من دون النّاس بالرّسالة، و لكن على المعنى الّذي يتحقّق في الكمال النّبويّ خلقا و روحا و عقلا و الّذي لم يصل النّبيّ إلى درجة الاصطفاء الرّبانيّ إلّا بعد أن وصل إليه

نصوص في علوم القرآن، ص: 371

فصار من سموّ الأخلاق و صفاء الرّوح و عظم القلب و رجاحة العقل إلى ما يرتفع به عن كلّ ما يشين، ثمّ على معنى عصمته من أيّ خطأ في تبليغ ما أوحي إليه و التزامه له بكلّ دقّة و أمانة و صدق و استغراق.

و مهما يكن من أمر، و مع أنّ كثيرا من العلماء على رأي أنّ القرآن نزل بألفاظ عربيّة، و أنّ ما بلّغه النّبيّ من ألفاظه هو ما ألقي إليه من الوحي، فالّذي يتبادر لنا أنّ لتلك الأقوال أثرا في الرّوايات الكثيرة عن خلافيّات القراءة، و خاصّة الخلافيّات اللّفظيّة و النّظميّة من بدل كلمة بكلمة و من تقديم و تأخير، ممّا أوردنا أمثلة عديدة عنه في مناسبة سابقة، أو أنّ الّذين تداولوا أو دوّنوا هذه الخلافيّات دون تمحيص و نقد قد تأثّروا بهذه الأقوال، أو أنّ الّذين اخترعوا و دسّوا هذه الخلافيّات أو بعضها بقصد التّشكيك قد استغلّوا و روّجوا هذا الأقوال، أو أنّ كلّ هذا قد وقع معا، كما أنّه ممّا يتبادر لنا أن تكون هذه الأقوال قد أثّرت أو تأثّرت بأحاديث الأحرف السّبعة و تأويلاتها العجيبة الّتي ذكرنا بعضها سابقا،

و خاصّة ما ورد في بعض وجوهها من أنّها بقصد تقرير أنّ القرآن قد نزل بمعان متّسق مفهومها، مختلف مسموعها، حيث يجوز التّغاير إذا لم تبدّل كلمة «عذاب» بكلمة «رحمة».

و لعلّ ما عزي إلى أبي حنيفة من تجويزه الصّلاة بقراءة القرآن بالتّرجمة الفارسيّة، و تقريره أنّ المهم في القرآن هو المعنى متّصل بهذه الأقوال.

و قد ذكر الزّمخشريّ: أنّ أبا حنيفة استند إلى ما روي عن ابن مسعود من إجازته لقارئ بقراءة «طعام الفاجر» بدلا من «طعام الأثيم «1»»، على شرط أن تؤدّي التّرجمة المعاني على كمالها. و علّق الزّمخشريّ على هذا بقوله: إنّ هذا الشّرط بمثابة المنع، لأنّ في كلام العرب- و خصوصا القرآن الّذي هو معجز بفصاحته و غرابة نظمه و أساليبه- من لطائف المعاني و الأعراض ما لا يستقلّ بأدائه لسان من فارسيّة و غيرها، و لم يكن أبو حنيفة يحسن الفارسيّة، فلم يكن ذلك التّقرير منه عن تحقيق و تبصّر، ثمّ قال: إنّ صاحبي أبي حنيفة أنكرا جواز الصّلاة بالقراءة الفارسيّة، و أنّ عليّ بن الجعد روى عن أبي يوسف:

أنّ أبا حنيفة هو على رأي صاحبيه في الإنكار.

______________________________

(1)- الدّخان/ 44.

نصوص في علوم القرآن، ص: 372

و ننبّه على أنّنا لسنا هنا في معرض منع ترجمة القرآن أو عدم جوازه، بل إنّنا نرى هذا مفيدا جدّا و واجبا لازما في سبيل نشر الدّعوة الإسلاميّة القرآنيّة العظمى، كما أنّ عموم الرّسالة النّبويّة و عموم الخطاب القرآنيّ لجميع النّاس من الدّلائل على هذا الوجوب، على أن يقوم بها الأكفاء في فهم القرآن و لغته و لغة ترجمته، و على أن يكون القصد منها النّشر و الدّعوة و التّبشير لا الصّلاة بها، حيث نعتقد بصواب رأي

أبي يوسف و الحسن صاحبي أبا حنيفة في إنكار الصّلاة بها، و عدم جوازها إلّا بالألفاظ القرآنيّة العربيّة الّتي نزل القرآن بها؛ لأنّ القرآن قد وصف فيه بأنّه قرآن عربيّ و لا يمكن أن يعتبر قرآنا تصحّ به صلاة إلّا بهذا الوصف. (ص: 281- 294)

نصوص في علوم القرآن، ص: 373

الفصل الخمسون نصّ الشّعرانيّ (م: 1393) في «نثر طوبى»

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً الفرقان/ 62

هذا اعتراض من الكفّار على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، فردّه اللّه بقوله: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ. هو إشارة إلى نهج التّعليم، فكما هو معروف أنّ من أراد أن يتعلّم علما يأخذه تدريجا؛ لكي يبقى في ذاكرته، و لكن إذا أخذه دفعة واحدة، و في مدّة قصيرة، فلا يسبر غوره، و لا يدرك سرّه، و لا يثبت في فكره. و كان طالب العلم قديما يكرّر ما تعلّمه عدّة مرّات و يتأنّى فيه، ليحيط به تماما. فالعلم الّذي يتطلّب تحصيله عشر سنوات بدقّة و إحاطة لا يمكن لمن يطلبه أن يكون مدركا له و مجتهدا فيه.

و أراد اللّه من النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يعلّم النّاس القرآن تدريجا، و أن يكرّر ما يلقي إليهم عدّة مرّات حتّى يرسخ في أذهانهم، فهو تعليم و تمرين، و كان الخطاب للنّبيّ، و النّاس هم المعنون به، و اللّه العالم. (1: 136)

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... القيامة/ 16

. كان النّبيّ حينما ينزل عليه الوحي يردّد ما يوحى إليه بلسانه؛ لحرصه على حفظ ما سمعه من كلمات، فوعده اللّه بتحفيظه القرآن، و عدم نسيانه لشي ء منه، و هذه معجزة من

نصوص في علوم القرآن، ص: 374

معاجز القرآن؛ لأنّ النّبيّ ما كان يعدّ القرآن في خلوته و فراغه، و لم يحضره، و ما كان تنزّل السّور و الآيات تناسبا مع الأوقات و الأحوال كغزوة بدر أو أحد أو غيرهما من الأمور الّتي تحدث، إذ كانت الآيات توحى إليه طبق تلك الأوقات، و إنّ كلّ كاتب و مؤلّف و شاعر لا يمكنه حفظ ما كتبه من الكلام إلّا بكتابته و تكراره. فكان النّبيّ لم يكتب و لم ينقل أحد من الصّحابة أو ممّن رآه بأنّه

كان يحفظ القرآن طبق ما كتبه الآخرون، بل كان يقرأ السّور الطّوال بعد نزولها كسورة الأنعام و المائدة، و كان الكتبة يكتبونها، ثمّ يقرأ مرّة أخرى في الصّلاة كما قرأها أوّل مرّة.

أجل إنّ حال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و القرآن و حفظه تعدّ من أغرب المعجزات، كما قال اللّه تعالى:

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى «1» (1: 167)

و نصّه أيضا في «هامش تفسير أبي الفتوح الرّازيّ»
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ البقرة/ 185.

أنّ القرآن كلام اللّه، و هو يدلّ على معان خاصّة، و أنّ من نزل عليه القرآن من بيت العزّة إلى سماء الدّنيا هو مخلوق عاقل يدرك ألفاظه و معانيه، و إنّه لملك في سماء الدّنيا، و هذه السّماء قريبة من العالم الماديّ المحسوس؛ لأنّ السّماوات كثيرة، و أنّ أقربها إلى عالمنا هذا هي سماء الدّنيا، و فيها ألقي القرآن إلى ذلك الملك دفعة واحدة، و منها أخذ يتنزّل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله نجما نجما، أي بصورة تدريجيّة حسب الحاجة.

و لكن ما هو السّرّ في نزوله أوّل الأمر في سماء الدّنيا؟ و لم لم ينزل من اللّوح المحفوظ على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله مباشرة؟ هذا ما لا نستطيع الخوض فيه، سوى الاحتمال أنّ قطع العالم الكائن بين العالم المادّيّ و عالم الملأ الأعلى لا يتأتّى إلّا لكلّ مخلوق من سكّان ذلك العالم. و هذا لا يعني بالضّرورة أن يكون ملك سماء الدّنيا أفضل من خاتم

______________________________

(1)- الأعلى/ 6.

نصوص في علوم القرآن، ص: 375

الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّ الإنسان الكامل هو خليفة اللّه، و هو أفضل المخلوقات قاطبة، و ما الملائكة إلّا أياديه في الملكوت. (2: 63)

سورة البراءة

[قال مشيرا إلى قول المبرّد نقلا عن سفيان بن عيينة حول سبب عدم كتابة البسملة في أوّل سورة البراءة كما نقله أبو الفتوح:] و هذه نكتة لطيفة، لو لا أنّ كثيرا من السّور الأخرى تفتتح بالتّهديد و الوعيد و لكنّها تزدان بالبسملة، كسورة القارعة و الحاقّة و سأل سائل.

و نرى أنّ عدم ذكر البسملة في هذه السّورة هو تعبّد، و دليل على أنّ القرآن لم تمسّه يد التّحريف، و أنّ الكتّاب كانوا يمتثلون

لأوامر الرّسول، و لم ينزعوا إلى القياس و الاجتهاد، فلم تلحق البسملة بهذه السّورة بالرّغم من كونها مستقلّة عن سورة الأنفال.

و ما يزعمه بعض بقوله: أنّ ترتيب سور القرآن و آياته المتفرّقة و تسمية سوره كان من فعل الصّحابة، لهو قول مجانب للصّواب؛ إذ أنّ النّبيّ هو الّذي رتّب السّور و وضع في أوائلها البسملة عدا هذه السّورة، كما وضع الحروف المقطّعة في أوائل بعض السّور و لم يضعها في بعض، و وضع أسماء لكلّ منها، كما قال اللّه تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ «1» و فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ «2»، و كقوله صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ سورة كذا، فله من الأجر كذا و كذا، و مثل ذلك كثير، ممّا يدلّ على أنّ السّور قد رتّبت و وضع لها أسماء في زمان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله. (5: 447)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ ... الفرقان/ 4.

إنّ هذا القول طبقا لقرائن تدلّ على ذلك تعسّف في الحقّ و لا طائل تحته. فمن المحال مثلا أن يطلب كاتب من خطيب أو شاعر أن يعيدا ما تفوّها به من نثر أو شعر دون

______________________________

(1)- البقرة/ 23.

(2)- هود/ 13.

نصوص في علوم القرآن، ص: 376

زيادة أو نقصان طبق ما دوّنه عنهما؛ لأنّهما لا يستطيعان تكرار ما قالاه في المرّة الأولى.

و قد قرأ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله آيات كثيرة و متّسقة بحسب ما يقتضيه المقام، كما في واقعتي بدر و أحد، فدوّن كتّاب الوحي ما تلاه. و كان يتلو عليهم أحيانا سورا طوالا كسورتي الأنعام و المائدة، فيدوّنها الكتّاب، ثمّ يقرأها مرّة أخرى على ظهر قلب، كما كان يقرأ السّور الطّوال كالبقرة و الأنعام في صلاة الآيات.

و لا يمكن القول

أبدا بأنّ هذه السّورة قد أعدّت و حرّرت و حفظت قبل قراءتها بمدّة؛ لأنّها تناسب المقام غالبا، و تطابق شأن نزولها. و لم يؤثر عن أحد الصّحابة أو عن كافر أو منافق أنّ النّبيّ عيّن وقتا لحفظ القرآن و اختلاقه، أو كان يستعين بالكتبة لحفظه. بل كان جبريل ينزّل عليه سورة كالأنعام، فتثبت في فؤاده كماء يثبت النّقش على الحجر، علاوة على سماع جميع ألفاظها. و حينما يريد تلاوتها يستذكرها من فؤاده كما لو كانت مرتسمة أمامه. و هذا الأمر لا يتأتّى لغيره، فكان صلّى اللّه عليه و آله يحفظ جميع القرآن دون أن يرجع إلى نصّ مكتوب. (8: 252)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً الفرقان/ 32.

عند ما كانت الآيات تنزّل على الرّسول الأكرم فإنّها تبقى راسخة في خاطره، ثمّ يتلوها بعد الوحي على أصحابه لفظا بلفظ، و تعدّ هذه معجزة من معاجزه صلّى اللّه عليه و آله، علاوة على معجزة ثبوتها في ذهنه دائما حتّى آخر عمره، و كان مؤيّد بالوحي طيلة نزوله عليه؛ لربط روحه بعالم الغيب.

و كان الكفّار يقولون تارة: لم لم ينزل عليه القرآن دفعة واحدة؟ و قالوا تارة أخرى حينما تأخّر عنه الوحي: لقد تركه ربّه و قلاه، لقد انقطع عنه الوحي. فنزل عليه الوحي بقوله تعالى: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى «1». و لو أنزل عليه القرآن دفعة واحدة لقالوا: لم لم ينزل عليه القرآن نجوما؟ و ما دام نزول الوحي مستمرّا، و ما دام القرآن كتاب اللّه فلا شكّ أنّهم يعترضون عليه أيضا. (8: 270)

______________________________

(1)- الضّحى/ 3.

نصوص في علوم القرآن، ص: 377

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ ... القيامة/ 16.

كان النّبيّ يسمع القرآن بلفظه حينما كان ينزل عليه الوحي، و كان يتلو ما يسمعه، و هذا دليل على أنّ القرآن نزل بلفظه و معناه معا. و يعتبر حفظه للآيات و السّور الطّوال معجزة عظيمة، كما أشرنا إلى ذلك آنفا. (11: 329)

و نصّه أيضا في «هامش شرح جامع الكافي الأصول و الرّوضة»

قوله صلّى اللّه عليه و آله: (كنت نبيّا و آدم بين الماء و الطّين)

كونه نبيّا في تلك الحالة بل و قبل ذلك لا ينافي نزول جبريل و الوحي إليه تدريجا و إظهاره صلّى اللّه عليه و آله عدم العلم بأمور قبل نزول الوحي عليه، فإنّ العلم البسيط الإجماليّ الثّابت للإنسان كالملكة مبدأ للعلوم التّفصيليّة، و لا ينافي تقدّم الأوّل حدوث الثّاني. و يعلم العارف البصير أنّه لو لا العلم البسيط الإجماليّ لم ينفع تلقين العلوم التّفصيليّة واحدا واحدا، فلو نزل جبريل بالوحي على بعض الأعراب البدويّ و قرأ عليه آيات القرآن لم يكن في استعداد هذا البدويّ أن يتلقّى إلّا ألفاظا لا يعرف حقائقها و لا يقدر على شرحها و تفصيلها و بيانها للنّاس، و الدّفاع عنها و ترويجها بين الأنام و لم يكن قرّاء القرآن في عصره صلّى اللّه عليه و آله مع حفظهم جميع القرآن مساوين له، و لو لم يكن للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله غير ما يتلقّى من ألفاظ الوحي كما توهّمه القاصرون لم يكن فرق بينه و بين أبيّ بن كعب و عبد اللّه بن مسعود. لأنّ الواسطة الواحدة لا يؤثّر في العلم شيئا.

و بالجملة، العلم الأوّل البسيط الكائن معه منذ أنّ خلقه اللّه شي ء و العلم التّفصيليّ الثّاني النّازل عليه تدريجا شي ء آخر، و لا ينافي ذلك أيضا كونه نبيّا في عالم الأرواح قبل خلقه الجسمانيّ

و استفادة أرواح الأنبياء من روحه، و نعم ما قال البوصيريّ:

و كلّ آي أتى الرّسل الكرام بهافإنّها اتّصلت من نوره بهم

فإنّه شمس فضل هم كواكبهايظهرن أنوارها للنّاس في الظّلم (7: 158)

نصوص في علوم القرآن، ص: 378

الفصل الحادي و الخمسون نصّ مالك بن نبيّ (1323- 1393) في كتابه: «الظّاهرة القرآنيّة»

الخصائص الظّاهريّة للوحي

الوحي من حيث كونه ظاهرة تمتدّ في حدود الزّمن يتميّز بخاصّتين ظاهريّتين هامّتين، و ذلك بصرف النّظر عن طبيعته في ذاته، و عن حامله النّفسيّ خلال الذّات المحمّديّة، هاتان الخاصّتان هما:

أ- تنجيم الوحي.

ب- وحدته الكميّة.

التّنجيم

يضمّ الوحي في مجموعه ثلاثة و عشرين عامّا، فهو لا يكون ظاهرة مؤقّتة أو خاطفة.

و لقد نزلت الآيات منجّمة بين كلّ وحي و ما يليه مدّة انقطاع تتفاوت طولا و قصرا.

و لقد ينقطع الوحي مدّة أطول ممّا ينتظره النّبيّ، و بخاصّة عند ما يلزمه أن يتّخذ قرارا يعتقد أنّ من الواجب ألّا يصدره قبل تصديق السّماء عليه. و أوضح مثال على ذلك موقفه إزاء قرار الهجرة، فلقد غادر أصحابه مكّة فارّين بدينهم، بينما كان يعتقد أنّه لا بدّ- فيما

نصوص في علوم القرآن، ص: 379

يتعلّق بشخصه- أن ينتظر أمرا صريحا من الوحي.

و مثال آخر عند ما كان الأمر بالنّسبة له يحتّم اتّخاذ قرار في موقف محيّر مريب، بينما ينتظر- على أحرّ من الجمّر- وحي اللّه الحاسم. و لقد تعرّض النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم لمثل هذه الحيرة في حادثة الإفك، الّتي لم يفصل فيها الوحي إلّا بعد شهر من الانتظار على مضض. كان هذا يبدو- في الظّاهر- تورّطا و حرجا لم يلبث المستهزءون أن وجّهوا من أجلهما نقدهم الجارح إلى النّبيّ، و كان هو يتألّم لذلك أحيانا.

و عليه فمهما كان الافتراض الّذي يوضع عن طبيعة القرآن، فإنّ هناك سؤالا كبيرا يتردّد حول هذا الموضوع، أ لم يكن من الممكن أن يتدفّق جملة واحدة من العبقريّة الإنسانيّة الّتي ربّما يكون قد صدر عنها؟

و لكنّا برجوعنا خلال الزّمن نستطيع أن نحكم بأهميّة هذا التّنجيم الفذّ للوحي، أهميّة قصوى لنجاح الدّعوة.

إذ بما

ذا كنّا نفسّر من الوجهات التّاريخيّة و الاجتماعيّة و الأدبيّة قرآنا يهبط كأنّما هو برق خاطف في ظلمات الجاهليّة؟

و ما ذا يعني هذا بالنّسبة لتاريخ النّبيّ، لو أنّه كان قد تلقّى وحيا كلّيّا فجائيّا، لو أنّه تلقّاه كوثيقة، أي نوعا من صحف التّفويض لدى بني الإنسان؟

أي أمل كان يمكن أن يلتمسه عنده قبيل بدر مثلا، لو أنّه- بدلا من أن يتوقّع إمداد الملائكة- ظلّ يكرّر آية سبق أن حفظها عن ظهر قلب؟

إنّنا ببحثنا مسألة تجزئة الوحي في ضوء هذه النّظرات نستطيع أن ندرك أوّلا قيمته التّربويّة.

فتلك في الواقع هي الطّريقة التّربويّة الوحيدة الممكنة في حقبة تتّسم بميلاد دين و بزوغ حضارة.

و سيهدي الوحي خلال ثلاثة و عشرين عاما سير النّبيّ و أصحابه خطوة خطوة نحو هذا الهدف البعيد، و هو يحوطهم في كلّ لحظة بالعناية الإلهيّة المناسبة. فهو يعزّز جهودهم العظيمة، و يدفع أرواحهم و إرادتهم نحو هدف الملحمة الفريد في التّاريخ، فيكرم بآية

نصوص في علوم القرآن، ص: 380

صريحة قضاء شهيد أو استشهاد بطل.

كيف كان القرآن يؤدّي دوره حيال طبيعة الإنسان الّتي جاء يصوغها في ذلك العصر، لو أنّه سبق بنزوله أحداث حنين و أحد؟ و ما ذا كان يكون، لو أنّه لم يأت لكلّ ألم بعزائه العاجل، و لو أنّه لم ينزل لكلّ تضحية جزاءها، و لكلّ هزيمة أملها و لكلّ نصر درسه في الاحتشام، و لكلّ عقبة إشارة إلى ما تقتضيه من جهد، و لكلّ خطر أدبيّ أو مادّي روح التّشجيع اللّازم لمواجهته؟ و كلّما كان الإسلام ينتشر في ربى الحجاز و نجد، كان الوحي يتنزّل بالدّرس الضّروريّ في المثابرة و الصّبر، و الإقدام و الإخلاص، يلقّنه أولئك الأبطال الأسطوريّين، أبطال الملحمة

الخارقة.

فهل كان لدرسه أن يجد طريقه إلى قلوبهم و ضمائرهم لو لم يكن نزوله تبعا لأمثلة الحياة نفسها، و الواقع المحيط بهم؟

و لو أنّ القرآن كان قد نزل جملة واحدة لتحوّل سريعا إلى كلمة مقدّسة خامدة، و إلى فكرة ميتة، و إلى مجرّد وثيقة دينيّة لا مصدرا يبعث الحياة في حضارة وليدة.

فالحركة التّاريخيّة و الاجتماعيّة و الرّوحيّة الّتي نهض بأعبائها الإسلام لا سرّ لها إلّا في هذا التّنجيم.

و القرآن يبرز هذه الخاصّة الخفيّة و هو يخاطب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بقوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «1».

فنزول القرآن على نجوم، و قد كان في اعتبار الجاهليّين نقصا شاذّا، يتجلّى لنا بمراجعتنا الزّمن و الأحداث شرطا أساسيّا ضروريّا لانتصار الدّعوة المحمّديّة.

و لن يشقّ علينا أن نجد في هذا النّهج التّربويّ- الّذي أثار سخريّة القوم، و أزاغ النّقد السّطحيّ في عصرنا عن الجادّة- طابع العلم العلويّ الّذي أملى «كلمة اللّه» بطريقة التّنجيم.

______________________________

(1)- الفرقان/ 32.

نصوص في علوم القرآن، ص: 381

الوحدة الكمّيّة

الوحي ظاهرة منجّمة، فهو في أساسه متفاصل، شأن مجموعة عدديّة، أي أنّه متكوّن من وحدات متتالية هي الآيات، و هذه الخاصية توحي إلينا بفكرة الوحدة الكمّيّة، فكلّ وحي مستقلّ يضمّ وحدة جديدة إلى المجموعة القرآنيّة. بيد أنّ هذه الوحدة القرآنيّة ليست ثابتة، فهي لا تماثل الوحدة الّتي تزيد في مجموعة الأعداد حين يضاف واحد إلى ثلاثة أو أربعة أو خمسة؛ ليؤدّي إلى الوحدة العددية التّالية.

فإنّ للوحي مقياسا متغيّرا هو كمّيّته أو سعته، تلك السّعة الّتي تتراوح بين حدّ أدنى هو الآية، و حدّ أقصى هو السّورة.

و تأمّل هذه الوحدة يتيح لنا

بعض الملاحظات المفيدة عن العلاقة بين الذّات المحمّديّة و الظّاهرة القرآنيّة؛ إذ هي تتناسب في الزّمن مع الحالة الخاصّة الّتي سمّيناها «حالة التّلقّي» عند النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم.

و لقد رأينا- بصفة خاصّة- أنّ إرادته تنعدم مؤقّتا؛ إذ هو عاجز في تلك اللّحظات عن أن يغطّي وجهه المحتقن، المتفصّد عرقا فعن هذه الذّات العاجزة فجأة- و للحظات- تصدر وحدة التّنزيل، و على هذه الذّات الخارقة في حالة لا شعوريّة تقريبا يطبع الوحي فجأة فقراته الوجيزة.

تلك هي وحدة «الظّاهرة القرآنيّة» من ناحية الكم، و هي الّتي ندرسها بالنّسبة لهذه الذّات العاجزة مؤقّتا، و الّتي هي «حامل الوحي».

هذه الوحدة تؤدّي بالضّرورة فكرة واحدة، و أحيانا مجموعة من الفكر المنتظمة في أسلوب منطقيّ يمكننا ملاحظته في آيات القرآن، و دراسة هذه الفكر في ذاتها، و في علاقتها ببقيّة حلقات السّلسلة، تكشف عن قدرة خالقة و منظّمة، لا يمكن أن تنطوي عليها الذّات المحمّديّة في تلك الظّروف النّفسيّة الخاصّة بحالة تلقّيها الوحي، بل حتّى في ظروفها الطّبيعيّة، بشرط أن نقرّ نتائج المقياس الأوّل.

و حقيقة، ما ذا نقول في فكرة لدى إنسان لم يفكّر فيها، و لا يمكنه أن يفكّر فيها في الحالة الخاصّة الّتي يعانيها؟

نصوص في علوم القرآن، ص: 382

و ما ذا نقول في هذا النّسق المتّصل لتعاليم تؤدّيها هذه الفكرة، حين لا يتأسّس هذا النّسق على إرادة و تفكير منظّم؟

إنّ من الجليّ أنّنا لا يمكن أن نتصوّر ذلك في النّظرة الأولى، و فضلا عن ذلك، فلو افترضنا أنّ التّفكير يمكن أن يحدث لا شعوريّا و لا إراديّا لدى فرد ما، فإنّ النّبيّ رغم هذا لم يكن لديه الزّمن المادّيّ كيما يتصوّر و ينظّم تعاليمه في البرهة

الخاطفة للوحي.

و لسوف نرى أنّ هذه التّعاليم تعبّر أحيانا عن أفكار خارج حدود الفكر تماما في العصر المحمّديّ، بل لا يمكن أن تخطر في فكر إنسانيّ، و سنورد نحن لذلك أمثلة فيما بعد في فصل «موضوعات و مواقف قرآنيّة».

أمّا الآن، فنحن نكوّن مقياسا لنحكم على صلة وحدة الوحي بالذّات المحمّديّة.

و لسنا للأسف مطمئنّين إلى أنّ الأمثلة الّتي درسناها هنا تمثّل تماما هذه الوحدة أو شطرا منها.

و لكن من المستطاع أن نتخلّص من هذه الصّعوبة، حين نجعل وحدة التّنزيل مجموع الآيات المتتابعة الّتي تسهم في اكتمال فكرة واحدة، و هذا العدد يمكن أن يهبط إلى الحدّ الأدنى في آية واحدة، و يمكن أن يرتفع إلى الحدّ الأقصى في سورة كاملة.

(ص: 173- 177)

نصوص في علوم القرآن، ص: 383

الفصل الثّاني و الخمسون نصّ الشّيخ أبي زهرة في «المعجزة الكبرى»

نزول القرآن

أوّل آية نزلت كانت الخطاب من اللّه تعالى بالتّكليف الّذي كلّفه تعالى لنبيّه عليه الصّلاة و السّلام بحمل الرّسالة إلى خلقه. فقد نزلت أوّل آية، و هي اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «1».

فكان هذا إيذانا بأنّ دين العلم قد وجب تبليغه، و أنّ كتاب العلم قد ثبت تنزيله، و أنّ إعلاء شأن الفكر قد جاء به خاتم النّبيّين و سيّد المرسلين، و فيه إيماء إلى أنّ الإسلام و العلم يجتمعان، و لا يتناقضان أبدا.

توالى نزول القرآن منجّما في مدّة الرّسالة المحمّديّة الّتي استمرّت ثلاثا و عشرين سنة، يدعو فيها بالحقّ و إلى صراط مستقيم، ينير السّبيل و يهدي للّتي هي أقوم.

فكانت الآيات القرآنيّة تنزل وقتا بعد آخر، و كان التّحدّي بما نزل، و إن لم يكن ما نزل كلّ القرآن، لأنّ كلّ

جزء منه ينطبق عليه اسم الكتاب، بل القرآن، إذ أنّ التّحدّي يقع به، و المعجزة تتحقّق فيه، فقد تحدّى أهل مكّة أن يأتوا بمثله، و لم يكن قد نزل كلّه، فقد

______________________________

(1)- العلق/ 1- 5.

نصوص في علوم القرآن، ص: 384

قال تعالى في سورة يونس: 16 و 17، و هي مكّية: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ* فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ.

و جاء التّحدّي في هذه السّورة أيضا فقال تعالى: وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ* وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «1». و جاء في سورة هود: 13، و هي مكّية: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.

و من هذا كلّه يتبيّن أنّ بعض القرآن قرآن يتحدّى فيه، فهو الكتاب الكامل في كلّه، و الكامل في جزئه، و هو معجز في أجزائه، كما هو معجز في ذاته، و إن شئت فقل: إنّه معجزات متضافرة، و إذا كان لموسى تسع آيات بيّنات فلمحمّد مئات من المعجزات البيّنات.

حكمة نزوله منجّما

و قد يسأل سائل: لما ذا نزل القرآن منجّما، و لم ينزل دفعة واحدة، كما نزلت الألواح العشر على موسى (عليه السّلام)، و كما نزل الزّبور على داود و إنّ مثل هذا السّؤال جاء على ألسنة المشركين معترضين، متّخذين منه سبيلا للجاجتهم، و قد

نقل القرآن الكريم عنهم ذلك و ردّه، فقد قال تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «2».

و نرى أنّ النّص الكريم قد نقل اعتراض المشركين، و ردّه سبحانه تعالى عليهم، و قد تضمّن الرّدّ ثلاثة أمور تومئ إلى السّبب في نزوله منجّما؛

أوّلها: تثبيت فؤاد الرّسول بموالاة الوحي بالقرآن، فإنّ موالاته فيها أنس للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم،

______________________________

(1)- يونس/ 37 و 38.

(2)- الفرقان/ 32.

نصوص في علوم القرآن، ص: 385

و تثبيت لعزيمته، و تأييد مستمرّ له فيقوم بحقّ الدّعوة بالجهاد في سبيلها، و إذا كان المرء يستأنس بوليّه إذا والى الاتّصال به فكيف لا يستأنس رسول اللّه تعالى بلقاء الرّوح الأمين الّذي يجيئه بكلام ربّ العالمين، في موالاة مستمرّة.

ثانيها: أنّ تثبيت الفؤاد بنزول القرآن يكون بحفظ ما ينزل عليه جزءا جزءا، ذلك أنّ هذا القرآن نزل ليحفظ في الأجيال كلّها جيلا بعد جيل، و ما يحفظ في الصّدور لا يعتريه التّغيير و لا التّبديل، و ما يكتب في السّطور قد يعتريه المحو و الإثبات و التّحريف و التّصحيف، و لأنّ اللّه تعالى كتب للقرآن أن يحفظ، كان يحفظ جزءا جزءا، و كان ينزل مجزّأ ليسهل ذلك الحفظ، و كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم حريصا على أن يحفظه عند نزوله، فكان يردّد ما يتلوه عليه جبريل و يتعجّل حفظه و قد قال اللّه سبحانه و تعالى لنبيّه في ذلك: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ «1». و ترى من هذا النّص حرص النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم على

أن يحفظ ما يوحى إليه، فيحرّك به لسانه، مستعجلا الحفظ فينبّهه اللّه تعالى إلى أنّه يتولّى جمعه و إقراءه له، و أنّه بيّنه و حافظه، كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «2».

الأمر الثّالث: هو ترتيل القرآن، بتعليم تلاوته، و إنّ هذا النّص يستفاد منه أنّ تلاوة القرآن و طريق ترتيله هي من تعليم اللّه تعالى، إذ أنّه سبحانه و تعالى ينسب التّرتيل إليه تعالت قدرته و كلماته، و عظم بيانه. فنحن بقراءتنا و ترتيلنا إن أحكمناه، إنّما نتّبع ما علّم اللّه تعالى نبيّه من ترتيل محكم، جاء به التّنزيل، و أمر به النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم في قوله تعالى: وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا «3»، و ما كان تعليم هذا التّرتيل المنزّل من عند اللّه تعالى ليتوافر إذا لم ينزل القرآن منجّما، فلو نزل جملة واحدة ما تمكّن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم من تعلّم التّرتيل، و لو علّمه اللّه تعالى بغير تنجيمه ما كان في الإمكان أن يعلّمه قومه، و هم حملته إلى الأجيال من بعده.

هذا ما يستفاد من النّص الكريم المتلوّ، و عبارته السّامية فيه واضحة بيّنة تشرق

______________________________

(1)- القيامة/ 16- 19.

(2)- الحجر/ 9.

(3)- المزّمّل/ 4.

نصوص في علوم القرآن، ص: 386

بمعانيه العالية الهادية الموجّهة المرشدة. و هناك سبب آخر لنزول القرآن منجّما نلمسه من حال العرب و من شئونهم، ذلك أنّ العرب كانوا أمّة أمّيّة، و الكتابة فيهم ليست رائجة، بل يندر فيهم من يعرفها، و أندر منه من يتقنها، فما كان في استطاعتهم أن يكتبوا القرآن كلّه إذا نزل جملة واحدة؛ إذ يكون بسورة و آياته عسيرا عليهم أن يكتبوه، و إن كتبوه لا يعدموا

الخطأ و التّصحيف و التّحريف.

و لقد كان من فائدة إنزال القرآن منجّما أنّه كان ينزل لمناسبات و لأحداث، فيكون في هذه الأحداث بعض البيان لأحكامه، و المبيّن الأوّل هو النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم كما قال تعالى:

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ «1». (ص: 21- 24)

______________________________

(1)- النّحل/ 44.

نصوص في علوم القرآن، ص: 387

الفصل الثّالث و الخمسون نصّ العلّامة الطّباطبائيّ (م: 1402) في «تفسير الميزان»

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ البقرة/ 185

و النّزول هو الورود على المحلّ من العلوّ، و الفرق بين الإنزال و التّنزيل أنّ الإنزال دفعيّ و التّنزيل تدريجيّ. و القرآن: اسم للكتاب المنزّل على نبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله باعتبار كونه مقروءا، كما قال تعالى: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «1»، و يطلق على مجموع الكتاب و على أبعاضه.

و الآية تدلّ على نزول القرآن في شهر رمضان، و قد قال تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «2». و هو ظاهر في نزوله تدريجا في مجموع مدّة الدّعوة، و هي ثلاث و عشرون سنة تقريبا، و المتواتر من التّاريخ يدلّ على ذلك، و لذلك ربّما استشكل عليه بالتّنافي بين الآيتين.

و ربّما أجيب عنه: بأنّه نزل دفعة على سماء الدّنيا في شهر رمضان، ثمّ نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نجوما، و على مكث في مدّة ثلاث و عشرين سنة- مجموع مدّة الدّعوة- و هذا جواب مأخوذ من الرّوايات الّتي سننقل بعضها في البحث عن الرّوايات و قد أورد

______________________________

(1)- الزّخرف/ 3.

(2)- الإسراء/ 106.

نصوص في علوم القرآن، ص: 388

عليه بأنّ تعقيب قوله تعالى: أنزل فيه القرآن بقوله: هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ لا يساعد على ذلك؛ إذ لا معنى لبقائه على وصف

الهداية و الفرقان في السّماء مدّة سنين.

و أجيب: بأنّ كونه هاديا من شأنه أن يهدي من يحتاج إلى هدايته من الضّلال، و فارقا إذا التبس حقّ بباطل لا ينافي بقائه مدّة على حال الشّأنية من غير فعلية التّأثير حتّى يحلّ أجله و يحين حينه، و لهذا نظائر و أمثال في القوانين المدنيّة المنتظمة الّتي كلّما حان حين مادّة من موادّها أجريت و أخرجت من القوّة إلى الفعل.

و الحقّ أنّ حكم القوانين و الدّساتير غير حكم الخطابات الّتي لا يستقيم أن تتقدّم على مقام التّخاطب و لو زمانا يسيرا، و في القرآن آيات كثيرة من هذا القبيل كقوله تعالى:

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما «1»، و قوله تعالى: وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً «2»، و قوله تعالى: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا «3»، على أنّ القرآن ناسخا و منسوخا، و لا معنى لاجتماعهما في زمان بحسب النّزول.

و ربّما أجيب عن الإشكال: أنّ المراد من نزول القرآن في شهر رمضان أنّ أوّل ما نزل منه نزل فيه، و يرد عليه أنّ المشهور عندهم أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّما بعث بالقرآن، و قد بعث في اليوم السّابع و العشرين من شهر رجب، و بينه و بين رمضان أكثر من ثلاثين يوما، و كيف يخلو البعثة في هذه المدّة من نزول القرآن؟ على أنّ أوّل سورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ يشهد على أنّها أوّل سورة نزلت، و أنّها نزلت بمصاحبة البعثة، و كذا سورة المدّثر تشهد أنّها نزلت

في أوّل الدّعوة، و كيف كان فمن المستبعد جدّا أن تكون أوّل آية نزلت في شهر رمضان، على أنّ قوله تعالى: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ غير صحيح الدّلالة على أنّ المراد بالقرآن أوّل نازل منه، و لا قرينة تدلّ عليه في الكلام، فحمله عليه تفسير من غير دليل. و نظير هذه

______________________________

(1)- المجادلة/ 1.

(2)- الجمعة/ 11.

(3)- الأحزاب/ 23.

نصوص في علوم القرآن، ص: 389

الآية قوله تعالى: وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ «1» و قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2». فإنّ ظاهر هذه الآيات لا يلائم كون المراد من إنزال القرآن أوّل إنزاله أو إنزال أوّل بعض من أبعاضه، و لا قرينة في الكلام تدلّ على ذلك.

و الّذي يعطيه التّدبّر في آيات الكتاب أمر آخر، فإنّ الآيات النّاطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة منه إنّما عبّرت عن ذلك بلفظ الإنزال الدّالّ على الدّفعة دون التّنزيل، كقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «3»، و قوله تعالى: حم* وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، و قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.

و اعتبار الدّفعة إمّا بلحاظ اعتبار المجموع في الكتاب أو البعض النّازل منه، كقوله تعالى:

كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ «4»، فإنّ المطر إنّما ينزل تدريجا، لكنّ النّظر هاهنا معطوف إلى أخذه مجموعا واحدا، و لذلك عبّر عنه بالإنزال دون التّنزيل، و كقوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ «5»، و إمّا لكون الكتاب ذا حقيقة أخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي الّذي يقضى فيه بالتّفرّق و التّفصيل و الانبساط و التّدريج هو المصحّح؛ لكونه واحدا غير تدريجيّ و نازلا بالإنزال دون التّنزيل. و هذا

الاحتمال الثّاني هو اللائح من الآيات الكريمة، كقوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ «6».

فإنّ هذا الإحكام مقابل التّفصيل، و التّفصيل هو جعله فصلا فصلا و قطعة قطعة، فالإحكام كونه بحيث لا يتفصّل فيه جزء من جزء و لا يتميّز بعض من بعض؛ لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء و لا فصول فيه، و الآية ناطقة بأنّ هذا التّفصيل المشاهد في القرآن إنّما طرأ عليه بعد كونه محكما غير مفصّل.

و أوضح منه قوله تعالى: وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً

______________________________

(1)- الدّخان/ 2- 3.

(2)- القدر/ 1.

(3)- البقرة/ 185.

(4)- يونس/ 23.

(5)- ص/ 29.

(6)- هود/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 390

لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ* هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ «1»، و قوله تعالى: وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ إلى أن قال:

بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ «2».

فإنّ الآيات الشّريفة و خاصّة ما في سورة يونس ظاهرة الدّلالة على أنّ التّفصيل أمر طارئ على الكتاب، فنفس الكتاب شي ء و التّفصيل الّذي يعرضه شي ء آخر، و إنّهم إنّما كذّبوا بالتّفصيل من الكتاب، لكونهم ناسين لشي ء يؤول إليه هذا التّفصيل و غافلين عنه، و سيظهر لهم يوم القيامة و يضطرّون إلى علمه، فلا ينفعهم النّدم و لات حين مناص، و فيها إشعار بأنّ أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب.

و أوضح منه قوله تعالى: حم* وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا

لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ «3». فإنّه ظاهر في أنّ هناك كتابا مبينا عرض عليه جعله مقروء عربيّا، و إنّما ألبس لباس القراءة و العربيّة ليعقله النّاس، و إلّا فإنّه- و هو في أمّ الكتاب- عند اللّه عليّ لا يصعد إليه العقول، حكيم لا يوجد فيه فصل و فصل.

و في الآية تعريف للكتاب المبين، و أنّه أصل القرآن العربيّ المبين، و في هذا المساق أيضا قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ* وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ «4»، فإنّه ظاهر في أنّ للقرآن موقعا هو في الكتاب المكنون، لا يمسّه هناك أحد إلّا المطهّرون من عباد اللّه، و أنّ التّنزيل بعده، و أمّا قبل التّنزيل فله موقع في كتاب مكنون عن الأغيار، و هو الّذي عبّر عنه في آيات الزّخرف بأمّ الكتاب، و في سورة البروج باللّوح المحفوظ؛ حيث قال تعالى:

بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «5»، و هذا اللّوح إنّما كان محفوظا؛ لحفظه من ورود

______________________________

(1)- الأعراف/ 52- 53.

(2)- يونس/ 37- 39.

(3)- الزّخرف/ 1- 4.

(4)- الواقعة/ 75- 80.

(5)- البروج/ 22.

نصوص في علوم القرآن، ص: 391

التّغيّر عليه، و من المعلوم أنّ القرآن المنزّل تدريجا لا يخلو عن ناسخ و منسوخ، و عن التّدريج الّذي هو نحو من التّبدّل، فالكتاب المبين الّذي هو أصل القرآن و حكمه الخالي عن التّفصيل أمر وراء هذا المنزّل، و إنّما هذا بمنزلة اللّباس لذاك.

ثمّ إنّ هذا المعنى، أعني كون القرآن في مرتبة التّنزيل بالنّسبة إلى الكتاب المبين- و نحن نسمّيه بحقيقة الكتاب- بمنزلة اللّباس من المتلبّس، و بمنزلة المثال من الحقيقة و بمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام

هو المصحّح؛ لأن يطلق القرآن أحيانا على أصل الكتاب، كما في قوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ، إلى غير ذلك. و هذا الّذي ذكرنا هو الموجب لأن يحمل قوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، و قوله:

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، و قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ على إنزال حقيقة الكتاب و الكتاب المبين إلى قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دفعة، كما أنزل القرآن المفصّل على قلبه تدريجا في مدّة الدّعوة النّبويّة.

و هذا هو الّذي يلوح من نحو قوله تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ «1»، و قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ «2».

فإنّ الآيات ظاهرة في أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان له علم بما سينزل عليه، فنهي عن الاستعجال بالقراءة قبل قضاء الوحي.

و بالجملة فإنّ المتدبّر في الآيات القرآنيّة لا يجد مناصا عن الاعتراف بدلالتها على كون هذا القرآن المنزّل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله تدريجا متّكئا على حقيقة متعالية عن أن تدركها أبصار العقول العامّة، أو يتناولها أيدي الأفكار المتلوّثة بألواث الهوسات و قذارات المادّة، و أنّ تلك الحقيقة أنزلت على النّبيّ إنزالا، فعلّمه اللّه بذلك حقيقة ما عناه بكتابه.

فهذا ما يهدي إليه التدبّر و يدلّ عليه الآيات، نعم، أرباب الحديث- و الغالب من المتكلّمين و الحسّيون من باحثي هذا العصر- لمّا أنكروا إصالة ما وراء المادّة المحسوسة

______________________________

(1)- طه/ 114.

(2)- القيامة/ 16- 19.

نصوص في علوم القرآن، ص: 392

اضطرّوا إلى حمل هذه الآيات و نظائرها كالدّالّة على كون القرآن هدى

و رحمة و نورا و روحا و مواقع النّجوم و كتابا مبينا، و في لوح محفوظ، و نازلا من عند اللّه، و في صحف مطهّرة، إلى غير ذلك من الحقائق على أقسام الاستعارة و المجاز، فعاد بذلك القرآن شعرا منثورا.

و لبعض الباحثين كلام في معنى نزول القرآن في شهر رمضان؛ قال ما محصّله: إنّه لا ريب أنّ بعثة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان مقارنا لنزول أوّل ما نزل من القرآن و أمره صلّى اللّه عليه و آله بالتّبليغ و الإنذار، و لا ريب أنّ هذه الواقعة إنّما وقعت باللّيل؛ لقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ «1»، و لا ريب أنّ اللّيلة كانت من ليالي شهر رمضان؛ لقوله تعالى:

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2».

و جملة القرآن و إن لم تنزّل في تلك اللّيلة لكن لمّا نزلت سورة الحمد فيها- و هي تشتمل على جلّ معارف القرآن- فكان كأنّ القرآن نزل فيها جميعا، فيصحّ أن يقال:

أنزلناه في ليلة، على أنّ القرآن يطلق على البعض كما يطلق على الكلّ، بل يطلق القرآن على سائر الكتب السّماويّة أيضا، كالتّوراة و الإنجيل و الزّبور باصطلاح القرآن.

قال: و ذلك أنّ أوّل ما نزل من القرآن قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الخ، نزل ليلة الخامس و العشرين من شهر رمضان نزل، و النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قاصد دار خديجة في وسط الواديّ يشاهد جبريل، فأوحى إليه قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ الخ. و لمّا تلقّى الوحي خطر بباله أن يسأله: كيف يذكر اسم ربّه، فتراءى له و علّمه بقوله: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إلى آخر سورة الحمد،

ثمّ علّمه كيفيّة الصّلاة، ثمّ غاب عن نظره، فصحا النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لم يجد ممّا كان يشاهده أثرا، إلّا ما كان عليه من التّعب الّذي عرضه من ضغطة جبريل حين الوحي، فأخذ في طريقه و هو لا يعلم أنّه رسول من اللّه إلى النّاس، مأمور بهدايتهم، ثمّ لمّا دخل البيت نام ليلته من شدّة التّعب، فعاد

______________________________

(1)- الدّخان/ 3.

(2)- البقرة/ 185.

نصوص في علوم القرآن، ص: 393

إليه ملك الوحي صبيحة تلك اللّيلة، و أوحى إليه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ «1» الآيات.

قال: فهذا هو معنى نزول القرآن في شهر رمضان و مصادفة بعثته لليلة القدر، و أمّا ما يوجد في بعض كتب الشّيعة من أنّ البعثة كانت يوم السّابع و العشرين من شهر رجب، فهذه الأخبار على كونها لا توجد إلّا في بعض كتب الشّيعة الّتي لا يسبق تاريخ تأليفها أوائل القرن الرّابع من الهجرة، مخالفة للكتاب كما عرفت.

قال: و هناك روايات أخرى في تأييد هذه الأخبار، تدلّ على أنّ معنى نزول القرآن في شهر رمضان، أنّه نزل فيه قبل بعثة النّبيّ من اللّوح المحفوظ إلى البيت المعمور، و أملاه جبريل هناك على الملائكة حتّى ينزل بعد البعثة على رسول اللّه، و هذه أوهام خرافيّة دسّت في الأخبار، مردودة أوّلا: بمخالفة الكتاب. و ثانيا: أنّ مراد القرآن باللّوح المحفوظ هو عالم الطّبيعة، و بالبيت المعمور هو كرة الأرض؛ لعمرانه بسكون الإنسان فيه، انتهى ملخّصا.

و لست أدري أيّ جملة من جمل كلامه- على فساده بتمام أجزائه- تقبل الإصلاح حتّى تنطبق على الحقّ و الحقّيّة بوجه؟ فقد اتّسع الخرق على الرّاتق ففيه:

أوّلا: أنّ هذا التّقوّل العجيب الّذي تقوّله في البعثة و نزول

القرآن أوّل ما نزل، و أنّه صلّى اللّه عليه و آله نزل عليه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ و هو في الطّريق، ثمّ نزلت عليه سورة الحمد، ثمّ علّم الصّلاة، ثمّ دخل البيت و نام تعبانا، ثمّ نزلت عليه سورة المدّثّر صبيحة اللّيلة فأمر بالتّبليغ، كلّ ذلك تقوّل لا دليل عليه لا آية محكمة و لا سنّة قائمة، و إنّما هي قصّة تخيّليّة لا توافق الكتاب و لا النّقل.

و ثانيا: أنّه ذكر أنّ من المسلّم أنّ البعثة و نزول القرآن و الأمر بالتّبليغ مقارنة زمانا، ثمّ فسّر ذلك بأنّ النّبوّة ابتدأت بنزول القرآن، و كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله نبيّا غير رسول ليلة واحدة فقط، ثمّ في صبيحة اللّيلة أعطي الرّسالة بنزول سورة المدّثّر، و لا يسعه أن يستند في ذلك إلى كتاب و لا سنّة، و ليس من المسلّم ذلك. أمّا السّنّة فلأنّ لازم ما طعن به في جوامع

______________________________

(1)- المدّثر/ 1- 2.

نصوص في علوم القرآن، ص: 394

الشّيعة بتأخّر تأليفها عن وقوع الواقعة عدم الاعتماد على شي ء من جوامع الحديث مطلقا؛ إذ لا شي ء من كتب الحديث ممّا ألّفته العامّة أو الخاصّة إلّا و تأليفه متأخّر عن عصر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قرنين فصاعدا، فهذا في السّنّة، و التّاريخ- على خلوّه من هذه التّفاصيل- حاله أسوأ و الدّس الّذي رمي به الحديث متطرّق إليه أيضا.

و أمّا الكتاب فقصور دلالته على ما ذكره أوضح و أجلى، بل دلالته على خلاف ما ذكره و تكذيب ما تقوّله ظاهرة، فإنّ سورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ- و هي أوّل سورة نزلت على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله على ما ذكره أهل النّقل، و يشهد به الآيات

الخمس الّتي في صدرها، و لم يذكر أحد أنّها نزلت قطعات، و لا أقلّ من احتمال نزولها دفعة- مشتملة على أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يصلّي بمرأى من القوم، و أنّه كان منهم من ينهاه عن الصّلاة، و يذكر أمره في نادي القوم و لا ندري كيف كانت هذه الصّلاة الّتي كان صلّى اللّه عليه و آله يتقرّب بها إلى ربّه في بادئ أمره، إلّا ما تشتمل عليه هذه السّورة من أمر السّجدة؛ قال تعالى فيها: أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى* أَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى* أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى* أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى* أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى* كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ* ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ* فَلْيَدْعُ نادِيَهُ* سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «1».

فالآيات كما ترى ظاهرة في أنّه كان هناك من ينهى مصلّيا عن الصّلاة، و يذكر أمره في النّادي، و لا ينتهي عن فعاله، و قد كان هذا المصلّي هو النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: كَلَّا لا تُطِعْهُ.

فقد دلّت السّورة على أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يصلّي قبل نزول أوّل سورة من القرآن، و قد كان على الهدى، و ربّما أمر بالتّقوى، و هذا هو النّبوّة، و لم يسمّ أمره ذلك إنذارا، فكان صلّى اللّه عليه و آله نبيّا، و كان يصلّي و لمّا ينزل عليه قرآن، و لا نزلت بعد عليه سورة الحمد، و لمّا يؤمر بالتّبليغ.

و أمّا سورة الحمد فإنّها نزلت بعد ذلك بزمان، و لو كان نزولها عقيب نزول سورة العلق بلا فصل عن خطور في قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كما

ذكره هذا الباحث لكان حقّ الكلام أن

______________________________

(1)- العلق/ 9- 18.

نصوص في علوم القرآن، ص: 395

يقال: (قل بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. الحمد للّه ربّ العالمين، إلخ، أو يقال: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. قل: الحمد للّه ربّ العالمين، إلخ) و لكان من الواجب أن يختم الكلام في قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ؛ لخروج بقيّة الآيات عن الغرض، كما هو الأليق ببلاغة القرآن الشّريف.

نعم، وقع في سورة الحجر- و هي من السّور المكّية كما تدلّ عليه مضامين آياتها، و سيجي ء بيانه- قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ «1» و المراد بالسّبع المثاني سورة الحمد، و قد قوبل بها القرآن العظيم، و فيه تمام التّجليل لشأنها و التّعظيم لخطرها، لكنّها لم تعدّ قرآنا بل سبعا من آيات القرآن و جزأ منه، بدليل قوله تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ «2».

و مع ذلك فاشتمال السّورة على ذكر سورة الحمد يدلّ على سبق نزولها نزول سورة الحجر، و السّورة مشتملة أيضا على قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ «3» الآيات. و يدلّ ذلك على أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان قد كفّ عن الإنذار مدّة، ثمّ أمر به ثانيا بقوله تعالى: فَاصْدَعْ.

و أمّا سورة المدّثّر و ما تشتمل عليه من قوله: قُمْ فَأَنْذِرْ، فإن كانت السّورة نازلة بتمامها دفعة، كان حال هذه الآية قُمْ فَأَنْذِرْ حال قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ الآية، لاشتمال هذه السّورة أيضا على قوله تعالى: ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً إلى آخر الآيات «4»، و هي قريبة المضمون من قوله في سورة الحجر: وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إلخ، و إن كانت السّورة نازلة نجوما

فظاهر السّياق أنّ صدرها قد نزل في بدء الرّسالة.

و ثالثا: أنّ قوله: إنّ الرّوايات الدّالّة على نزول القرآن في ليلة القدر من اللّوح المحفوظ إلى البيت المعمور جملة واحدة قبل البعثة، ثمّ نزول الآيات نجوما على

______________________________

(1)- الحجر/ 87.

(2)- الزّمر/ 23.

(3)- الحجر/ 94- 95.

(4)- المدّثّر/ 11.

نصوص في علوم القرآن، ص: 396

رسول اللّه أخبار مجعولة خرافيّة؛ لمخالفتها الكتاب و عدم استقامة مضمونها، و أنّ المراد باللّوح المحفوظ هو عالم الطّبيعة، و البيت المعمور كرة الأرض، خطأ و فرية.

أمّا أوّلا: فلأنّه لا شي ء من ظاهر الكتاب يخالف هذه الأخبار على ما عرفت.

و أمّا ثانيا: فلأنّ الأخبار خالية عن كون النّزول الجمليّ قبل البعثة، بل الكلمة ممّا أضافها هو إلى مضمونها من غير تثبّت.

و أمّا ثالثا: فلأنّ قوله: إنّ اللّوح المحفوظ هو عالم الطّبيعة، تفسير شنيع، و إنّه أضحوكة، و ليت شعري ما هو الوجه المصحّح- على قوله- لتسمية عالم الطّبيعة في كلامه تعالى لوحا محفوظا؟ أ ذلك لكون هذا العالم محفوظا عن التّغيّر و التّحوّل؟ فهو عالم الحركات، سيّال الذّات، متغيّر الصّفات! أو لكونه محفوظا عن الفساد تكوينا أو تشريعا؟

فالواقع خلافه! أو لكونه محفوظا عن اطّلاع غير أهله عليه؟ كما يدلّ عليه قوله تعالى:

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «1»، فإدراك المدركين فيه على السّواء!

و بعد اللّتيا و الّتي، لم يأت هذا الباحث في توجيه نزول القرآن في شهر رمضان بوجه محصّل يقبله لفظ الآية، فإنّ حاصل توجيهه أنّ معنى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2» كأنّما أنزل فيه القرآن، و معنى إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «3» كأنّا أنزلناه فى ليلة القدر، و هذا شي ء لا يحتمله اللّغة و العرف لهذا السّياق! و لو

جاز لقائل أن يقول: نزل القرآن ليلة القدر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؛ لنزول سورة الفاتحة المشتملة على جمل معارف القرآن، جاز أن يقال: إنّ معنى نزول القرآن نزوله جملة واحدة، أي نزول إجمال معارفه على قلب رسول اللّه من غير مانع يمنع، كما مرّ بيانه سابقا. و في كلامه جهات أخرى من الفساد تركنا البحث عنها؛ لخروجه عن غرضنا في المقام. (2: 15- 32)

______________________________

(1)- الواقعة/ 77- 79.

(2)- البقرة/ 185.

(3)- القدر/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 397

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ هود/ 1.

المقابلة بين الإحكام و التّفصيل الّذي هو إيجاد الفصل بين أجزاء الشّي ء المتّصل بعضها ببعض، و التّفرقة بين الأمور المندمجة كلّ منها في آخر تدلّ على أنّ المراد بالإحكام ربط بعض الشّي ء ببعضه الآخر، و إرجاع طرف منه إلى طرف آخر؛ بحيث يعود الجميع شيئا واحدا بسيطا غير ذي أجزاء و أبعاض.

و من المعلوم أنّ الكتاب إذا اتّصف بالإحكام و التّفصيل بهذا المعنى الّذي مرّ فإنّما يتّصف بهما من جهة ما يشتمل عليه من المعنى و المضمون، لا من جهة ألفاظه أو غير ذلك، و أنّ حال المعاني في الإحكام و التّفصيل و الاتّحاد و الاختلاف غير حال الأعيان، فالمعاني المتكثّرة إذا رجعت إلى معنى واحد كان هذا الواحد هو الأصل المحفوظ في الجميع، و هو بعينه على إجماله هذه التّفاصيل، و هي بعينها على تفاصيلها ذاك الإجمال، و هذا كلّه ظاهر لا ريب فيه.

و على هذا فكون آيات الكتاب محكمة أوّلا، ثمّ مفصّلة ثانيا، معناه أنّ الآيات الكريمة القرآنيّة على اختلاف مضامينها و تشتّت مقاصدها و أغراضها ترجع إلى معنى واحد بسيط، و غرض فارد أصليّ لا تكثّر فيه و لا تشتّت، بحيث

لا تروم آية من الآيات الكريمة مقصدا من المقاصد، و لا ترمي إلى هدف إلّا و الغرض الأصليّ هو الرّوح السّاري في جثمانه و الحقيقة المطلوبة منه.

فلا غرض لهذا الكتاب الكريم على تشتّت آياته و تفرّق أبعاضه إلّا غرض واحد متوحّد، إذا فصّل كان في مورد أصلا دينيّا، و في آخر أمرا خلقيّا، و في ثالث حكما شرعيّا، و هكذا كلّما تنزّل من الأصول إلى فروعها، و من الفروع إلى فروع الفروع لم يخرج من معناه الواحد المحفوظ، و لا يخطئ غرضه، فهذا الأصل الواحد بتركّبه يصير كلّ واحد واحد من أجزاء تفاصيل العقائد و الأخلاق و الأعمال، و هي بتحليلها و إرجاعها إلى الرّوح السّاري فيها الحاكم على أجسادها تعود إلى ذاك الأصل الواحد.

فتوحيده تعالى بما يليق بساحة عزّه و كبريائه مثلا في مقام الاعتقاد هو إثبات أسمائه الحسنى و صفاته العليا، و في مقام الأخلاق هو التّخلّق بالأخلاق الكريمة من

نصوص في علوم القرآن، ص: 398

الرّضا و التّسليم و الشّجاعة و العفّة و السّخاء، و نحو ذلك، و الاجتناب عن الصّفات الرّذيلة، و في مقام الأعمال و الأفعال الإتيان بالأعمال الصّالحة و الورع عن محارم اللّه.

و إن شئت فقل: إنّ التّوحيد الخالص يوجب في كلّ من مراتب العقائد و الأخلاق و الأعمال ما يبيّنه الكتاب الإلهيّ من ذلك، كما أنّ كلّا من هذه المراتب و كذلك أجزاؤها لا تتمّ من دون توحيد خالص.

فقد تبيّن أنّ الآية في مقام بيان رجوع تفاصيل المعارف و الشّرائع القرآنيّة إلى أصل واحد، هو بحيث إذا ركّب في كلّ مورد من موارد العقائد و الأوصاف و الأعمال مع خصوصيّة ذلك المورد أنتج حكما يخصّه من الأحكام القرآنيّة، و

بذلك يظهر.

أوّلا: أنّ قوله: كِتابٌ خبر لمبتدإ محذوف، و التّقدير هذا كتاب، و المراد بالكتاب هو ما بأيدينا من القرآن المقسّم إلى السّور و الآيات. و لا ينافي ذلك ما ربّما يذكر أنّ المراد بالكتاب اللّوح المحفوظ، أو القرآن بما هو في اللّوح، فإنّ هذا الكتاب المقروء متّحد مع ما في اللّوح اتّحاد التّنزيل مع التّأويل.

و ثانيا: أنّ لفظة (ثمّ) في قوله ثُمَّ فُصِّلَتْ إلخ، لإفادة التّراخيّ بحسب ترتيب الكلام دون التّراخيّ الزّمانيّ؛ إذ لا معنى للتّقدّم و التّأخّر الزّمانيّ بين المعاني المختلفة بحسب الأصليّة و الفرعيّة، أو بالإجمال و التّفصيل.

و يظهر أيضا ما في بعض ما ذكره أرباب التّفاسير في معنى الآية، كقول بعضهم: إنّ معناها أُحْكِمَتْ آياتُهُ، فلم تنسخ منها كما نسخت الكتب و الشّرائع، ثمّ فصّلت ببيان الحلال و الحرام و سائر الأحكام.

و فيه: أنّ الواجب على هذا المعنى أن يقيّد عدم النّسخ بعدم النّسخ بكتاب غير القرآن، ينسخ القرآن بعده كما نسخ القرآن غيره، فإنّ وجود النّسخ بين الآيات القرآنيّة نفسها ممّا لا ينبغي الارتياب فيه. و التّقييد المذكور لا دلالة عليه من جهة لفظ الآية.

و كقول بعضهم: إنّ المراد أُحْكِمَتْ آياتُهُ بالأمر و النّهي، ثمّ فصّلت بالوعد و الوعيد و الثّواب و العقاب. و فيه أنّه تحكّم لا دليل عليه أصلا.

و كقول بعضهم: إنّ المراد إحكام لفظها بجعلها على أبلغ وجوه الفصاحة حتّى صار

نصوص في علوم القرآن، ص: 399

معجزا، و تفصيلها بالشّرح و البيان. و الكلام في هذا الوجه كسابقه.

و كقول بعضهم: المراد بإحكام آياته جعلها محكمة متقنة لا خلل فيها و لا باطل، و المراد بتفصيلها جعلها متتابعة بعضها إثر بعض. و فيه: أنّ التّفصيل بهذا المعنى غير

معهود لغة، إلّا أن يفسّر بمعنى التّفرقة و التّكثير، و يرجع حينئذ إلى ما قدّمناه من المعنى.

و كقول بعضهم: إنّ المراد أُحْكِمَتْ آياتُهُ جملة، ثمّ فرقت في الإنزال آية بعد آية؛ ليكون المكلّف أمكن من النّظر و التّأمّل. و فيه: أنّ الأحرى بهذا الوجه أن يذكر في مثل قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «1»، و قوله: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «2» و ما في هذا المعنى من الآيات ممّا يدلّ على أنّ للقرآن مرتبة عند اللّه هي أعلى من سطح الأفهام، ثمّ نزل إلى مرتبة تقبل التّفهّم و التّفقّه، رعاية لحال الأفهام العادية، كما يشير إليه أيضا قوله: وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ «3»

و أمّا آيتنا الّتي نحن فيها كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ إلخ، فقد علّق فيها الإحكام و التّفصيل معا على الآيات، و ليس ذلك إلّا من جهة معانيها، فتفيد أنّ الإحكام و التّفصيل هما في معاني هذه الآيات المتكثّرة، فلها جهة وحدة و بساطة و جهة كثرة و تركّب، و ينطبق على ما قدّمناه من المعنى لا على ما ذكره الرّاجع إلى مسألة التّأويل و التّنزيل، فافهم ذلك.

و كقول بعضهم: إنّ المراد بالإحكام و التّفصيل إجمال بعض الآيات و تبيين البعض الآخر، و قد مثّل لذلك بقوله تعالى في هذه السّورة «4» مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَ الْأَصَمِّ وَ الْبَصِيرِ وَ السَّمِيعِ، فإنّه مجمل محكم يتبيّن بما ورد فيها من قصّة نوح و هود و صالح، و هكذا.

______________________________

(1)- الدّخان/ 3.

(2)- الإسراء/ 106.

(3)- الزّخرف/ 2- 4.

(4)- أي سورة هود/ 24.

نصوص في علوم القرآن،

ص: 400

و فيه: أنّ ظاهر الآية أنّ الإحكام و التّفصيل متّحدان من حيث المورد، بمعنى أنّ الآيات الّتي ورد عليها الإحكام بعينها هي الّتي ورد عليها التّفصيل، لا أنّ الإحكام وصف لبعض آياته و التّفصيل وصف بعضها الآخر، كما هو لازم ما ذكره.

و قوله تعالى: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ الحكيم: من أسمائه الحسنى الفعليّة، يدلّ على إتقان الصّنع، و كذا الخبير: من أسمائه الحسنى، يدلّ على علمه بجزئيّات أحوال الأمور الكائنة و مصالحها، و إسناد إحكام الآيات و تفصيلها إلى كونه تعالى حكيما خبيرا، لما بينهما من النّسبة. (10: 136- 139)

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ... آل عمران/ 3

قد مرّ أنّ التّنزيل يدلّ على التّدريج كما أنّ النّزول يدلّ على الدّفعة.

و ربّما ينقض ذلك بقوله: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «1»، و بقوله تعالى: أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً «2»، و قوله: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ «3»، و قوله تعالى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً «4»، و لذلك ذكر بعض المفسّرين: أنّ الأولى أن يقال: أنّ معنى نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ أنزله إنزالا بعد إنزال، دفعا للنّقض.

و الجواب: أنّ المراد بالتّدريج في النّزول ليس هو تخلّل زمان معتدّ به بين نزول كلّ جزء من أجزاء الشّي ء و بين جزئه الآخر، بل الأشياء المركّبة الّتي توجد بوجود أجزائها؛ لوجودها نسبة إلى مجموع الأجزاء، و بذلك يصير الشّي ء أمرا واحدا غير منقسم. و التّعبير عنه من هذه الجهة بالنّزول كقوله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً «5»، و هو الغيث، و نسبته من حيث وجوده بوجود أجزائه واحدا بعد واحد، سواء تخلّل بينهما زمان معتدّ به أو لم

______________________________

(1)- الفرقان/ 32.

(2)- المائدة/ 112.

(3)- الأنعام/ 37.

(4)- الأنعام/ 37.

(5)- الرّعد/ 17.

نصوص في علوم

القرآن، ص: 401

يتخلّل، و هو التّدريج، و التّعبير عنه بالتّنزيل كقوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ «1».

و من هنا يظهر أنّ الآيات المذكورة للنّقض غير ناقضة، فإنّ المراد بقوله لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «2» الآية، أن ينزّل عليه القرآن آية بعد آية في زمان متّصل واحد، من غير تخلّل زمان معتدّ به، كما كان عليه الأمر في نزول القرآن في الشّئون و الحوادث و الأوقات المختلفة، و بذلك يظهر الجواب عن بقيّة الآيات المذكورة.

و أمّا ما ذكره البعض المزبور فهو على أنّه استحسان غير جائز في اللّغة البتّة، لا يدفع شيئا من النّقض بالآيات المذكورة، بل هي بحالها و هو ظاهر. و قد جرى كلامه تعالى أن يعبّر عن إفاضة الكتاب على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالتّنزيل و النّزول، و النّزول يستلزم مقاما أو مكانا عاليا رفيعا يخرج منه الشّي ء نوعا من الخروج، و يقصد مقاما أو مكانا آخر أسفل فيستقرّ فيه، و قد وصف نفسه تعالت ذاته بالعلوّ و رفعة الدّرجات، و قد وصف كتابه أنّه من عنده، قال تعالى: إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ «3»، و قال تعالى: وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ «4»، فيصحّ بذلك استعمال لفظ النّزول في موارد استقرار الوحي في قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. (3: 7- 8)

وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً الإسراء/ 105

لمّا فرغ من التّنظير رجع إلى ما كان عليه من بيان حال القرآن و ذكر أوصافه، فذكر أنّه أنزله إنزالا مصاحبا للحقّ، و قد نزل هو من عنده نزولا مصاحبا للحقّ، فهو مصون من الباطل من جهة من أنزله، فليس من لغو القول و هذره، و لا داخله

شي ء يمكن أن يفسده يوما، و لا شاركه فيه أحد حتّى ينسخه في وقت من الأوقات، و ليس النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلّا رسولا منه تعالى يبشّر به و ينذر، و ليس له أن يتصرّف فيه بزيادة أو نقيصة، أو بتركه كلّا أو بعضا

______________________________

(1)- الشّورى/ 28.

(2)- الفرقان/ 32.

(3)- الشّورى/ 51.

(4)- البقرة/ 89.

نصوص في علوم القرآن، ص: 402

باقتراح من النّاس أو هوى من نفسه، أو يعرض عنه فيسأل اللّه آية أخرى فيها هواه أو هوى النّاس، أو يداهنهم فيه، أو يسامحهم في شي ء من معارفه و أحكامه، كلّ ذلك لأنّه حقّ صادر عن مصدر حقّ، و ما ذا بعد الحقّ إلّا الضّلال.

فقوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ إلخ متمّم للكلام السّابق، و محصّله: أنّ القرآن آية حقّة، ليس لأحد أن يتصرّف فيه شيئا من التّصرّف، و النّبيّ و غيره في ذلك سواء.

قوله تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «1»

معطوف على ما قبله، أي أنزلناه بالحقّ و فرقناه قرآنا. قال في المجمع: معنى فَرَقْناهُ فصّلناه و نزّلناه آية آية و سورة سورة، و يدلّ عليه قوله: عَلى مُكْثٍ، و المكث- بضمّ الميم- و المكث- بفتحها- لغتان، انتهى.

فاللّفظ بحسب نفسه يعمّ نزول المعارف القرآنيّة الّتي هي عند اللّه في قالب الألفاظ و العبارات الّتي لا تتلقّى إلّا بالتّدريج، و لا تتعاطى إلّا بالمكث و التّؤدة؛ ليسهل على النّاس تعقّله و حفظه، على حدّ قوله: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ «2»

و نزول الآيات القرآنيّة نجوما مفرّقة سورة سورة و آية آية، بحسب بلوغ النّاس في استعداد تلقّي المعارف الأصليّة للاعتقاد، و الأحكام الفرعيّة

للعمل، و اقتضاء المصالح ذلك ليقارن العلم العمل، و لا يجمح عنه طباع النّاس بأخذ معارفه و أحكامه واحدا بعد واحد كما لو نزل دفعة، و قد نزلت التّوراة دفعة، فلم يتلقّها اليهود بالقبول إلّا بعد نتق الجبل فوقهم كأنّه ظلّة.

لكنّ الأوفق بسياق الآيات السّابقة و فيها مثل قولهم المحكيّ: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ «3» الظّاهر في اقتراح نزول القرآن دفعة هو أن يكون المراد بتفريق القرآن إنزاله سورة سورة و آية آية، حسب تحقّق أسباب النّزول تدريجا، و قد تكرّر من النّاس اقتراح

______________________________

(1)- الإسراء/ 106.

(2)- الزّخرف/ 3- 4.

(3)- الإسراء/ 93.

نصوص في علوم القرآن، ص: 403

أن ينزّل القرآن جملة واحدة كما في: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «1» و قوله حكاية عن أهل الكتاب: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ «2».

و يؤيّده تذييل الآية بقوله: وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا، فإنّ التّنزيل- و هو إنزال الشّي ء تدريجا- أمس بالاعتبار الثّاني منه بالأوّل.

و مع ذلك فالاعتبار الثّاني- و هو تفصيل القرآن و تفريقه بحسب النّزول بإنزال بعضه بعد بعض من دون أن ينزل جملة واحدة- يستلزم الاعتبار الأوّل، و هو تفصيله و تفريقه إلى معارف و أحكام متبوعة مختلفة، بعد ما كان الجميع مندمجة في حقيقة واحدة، منطوية مجتمعة الأعراق في أصل واحد فارد.

و لذلك فصّل اللّه سبحانه، كتابه سورا و آيات بعد ما ألبسه لباس اللّفظ العربيّ، ليسهل على النّاس فهمه، كما قال: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ثمّ نوّعها أنواعا و رتّبها ترتيبا فنزّلها واحدة بعد واحدة عند قيام الحاجة إلى ذلك، و على حسب حصول استعدادات النّاس المختلفة، و تمام قابليّتهم بكلّ واحد منها، و ذلك في

تمام ثلاث و عشرين سنة، ليشفع التّعليم بالتّربية، و يقرن العلم بالعمل. (13: 220- 221)

وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ طه/ 114

السّياق يشهد بأنّ في الكلام تعرّضا لتلقّي النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله وحي القرآن، فضمير وَحْيُهُ للقرآن، و قوله: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ نهي عن العجل بقراءته، و معنى قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ من قبل أن يتمّ وحيه من ملك الوحي.

فيفيد أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان إذا جاءه الوحي بالقرآن يعجل بقراءة ما يوحى إليه قبل أن يتمّ الوحي، فنهي عن أن يعجل في قراءته قبل انقضاء الوحي و تمامه، فيكون الآية في معنى قوله تعالى في موضع آخر: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ

______________________________

(1)- الفرقان/ 32.

(2)- النّساء/ 153.

نصوص في علوم القرآن، ص: 404

وَ قُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ «1»

و يؤيّد هذا المعنى قوله بعد: وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً، فإنّ سياق قوله: لا تعجل به و قُلْ رَبِّ زِدْنِي يفيد أنّ المراد هو الاستبدال، أي بدل الاستعجال في قراءة ما لم ينزل بعد، طلبك زيادة العلم، و يؤول المعنى إلى أنّك تعجل بقراءة ما لم ينزل بعد، لأنّ عندك علما به في الجملة، لكن لا تكتف به، و اطلب من اللّه علما جديدا بالصّبر و استماع بقيّة الوحي.

و هذه الآية ممّا يؤيّد ما ورد من الرّوايات أنّ للقرآن نزولا دفعة واحدة غير نزوله نجوما على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فلو لا علم ما منه بالقرآن قبل ذلك لم يكن لعجله بقراءة ما لم ينزل منه بعد معنى.

و قيل: المراد بالآية و لا تعجل بقراءة القرآن لأصحابك و إملائه عليهم من قبل أن يتبيّن لك معانيه، و

أنت خبير بأنّ لفظ الآية لا تعلّق له بهذا المعنى.

و قيل: المراد و لا تسأل إنزال القرآن قبل أن يقضي اللّه وحيه إليك، و هو كسابقه غير منطبق على لفظ الآية. (14: 214)

لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً .. الفرقان/ 32

قد تقدّم أنّ الإنزال و التّنزيل إنّما يفترقان في أنّ الإنزال يفيد الدّفعة، و التّنزيل يفيد التّدريج، لكن ذكر بعضهم: أنّ التّنزيل في هذه الآية منسلخ عن معنى التّدريج، لأدائه إلى التّدافع، إذ يكون المعنى على تقدير إرادة التّدريج لو لا فرّق القرآن جملة واحدة، و التّفريق ينافي الجمليّة، بل المعنى هلّا أنزل القرآن عليه دفعة غير مفرّق كما أنزل التّوراة و الإنجيل و الزّبور.

لكن ينبغي أن يعلم أنّ نزول التّوراة مثلا كما هو الظّاهر المستفاد من القرآن كانت دفعة في كتاب مكتوب في ألواح، و القرآن إنّما كان ينزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالتّلقّي من عند اللّه بتوسّط الرّوح الأمين، كما يتلقّى السّامع الكلام من المتكلّم، و الدّفعة في إيتاء كتاب

______________________________

(1)- القيامة/ 16- 18.

نصوص في علوم القرآن، ص: 405

مكتوب و تلقّيه تستلزم المعيّة بين أوّله و آخره، لكنّه إذا كان بقراءة و سماع لم يناف التّدريج بين أجزائه و أبعاضه، بل من الضّروريّ أن يؤتاه القارئ و يتلقّاه السّامع آخذا من أوّله إلى آخره شيئا فشيئا.

و هؤلاء إنّما كانوا يقترحون نزول القرآن جملة واحدة على ما كانوا يشاهدون، أو يسمعون من كيفيّة نزول الوحي على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و هو تلقّي الآيات بألفاظها من لسان ملك الوحي، فكان اقتراحهم أنّ الّذي يتلوه ملك الوحي على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله سورة بعد سورة و آية بعد آية، و يتلقّاه هو كذلك، فليقرأ جميع

ذلك مرّة واحدة، و ليتلقّه هو مرّة واحدة، و لو دامت القراءة و التّلقّي مدّة من الزّمان، و هذا المعنى أوفق بالتّنزيل الدّال على التّدريج.

و أمّا كون مرادهم من اقتراح نزوله جملة واحدة أن ينزل كتابا مكتوبا دفعة كما نزلت التّوراة، و كذا الإنجيل و الزّبور على ما هو المعروف عندهم، فلا دلالة في الكلام المنقول عنهم على ذلك، على أنّهم ما كانوا مؤمنين بهذه الكتب السّماويّة حتّى يسلموا نزولها دفعة.

و كيف كان، فقولهم: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً اعتراض منهم على القرآن من جهة نحو نزوله، يريدون به أنّه ليس بكتاب سماويّ نازل من عند اللّه سبحانه، إذ لو كان كتابا سماويّا متضمّنا لدين سماويّ يريده اللّه من النّاس، و قد بعث رسولا يبلّغه النّاس لكان الدّين المضمّن فيه المراد من النّاس دينا تامّة أجزاؤه، معلومة أصوله و فروعه، مجموعة فرائضه و سننه، و كان الكتاب المشتمل عليه منظّمة أجزاؤه، مركّبة بعضه على بعض.

و ليس كذلك، بل هو أقوال متفرّقة يأتي بها في وقائع مختلفة و حوادث متشتّة، ربّما وقع واقع فأتى عند ذلك بشي ء من الكلام مرتبط به، يسمّى جملها المنضودة آيات إلهيّة ينسبها إلى اللّه، و يدّعي أنّها قرآن منزّل إليه من عند اللّه سبحانه، و ليس إلّا أنّه يتعمّل حينا بعد حين عند وقوع وقائع، فيختلق قولا يفتريه على اللّه، و ليس إلّا رجلا صابئا ضلّ عن السّبيل هذا تقرير اعتراضهم على ما يستفاد من مجموع الاعتراض و الجواب.

قوله تعالى: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا* وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ

نصوص في علوم القرآن، ص: 406

بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً الثّبات: ضدّ الزّوال، و الإثبات و التّثبيت

بمعنى واحد، و الفرق بينهما بالدّفعة و التّدريج، و الفؤاد: القلب، و المراد به كما مرّ غير مرّة الأمر المدرك من الإنسان و هو نفسه، و التّرتيل:- كما قالوا- التّرسيل و الإتيان بالشّي ء عقيب الشّي ء، و التّفسير- كما قال الرّاغب- المبالغة في إظهار المعنى المعقول، كما أنّ الفسر- بالفتح فالسّكون- إظهار المعنى المعقول.

و ظاهر السّياق أنّ قوله: كَذلِكَ متعلّق بفعل مقدّر يعلّله قوله: لِنُثَبِّتَ، و يعطف عليه قوله: وَ رَتَّلْناهُ، و التّقدير نزّلناه- أي القرآن- أي نجوما متفرّقة لا جملة واحدة؛ لنثبّت به فؤادك، و قول بعضهم: إنّ كَذلِكَ من تمام قول الّذين كفروا، سخيف جدّا.

فقوله: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ بيان تامّ لسبب تنزيل القرآن نجوما متفرّقة، و بيان ذلك أنّ تعليم علم من العلوم- و خاصّة ما كان منها مرتبطا بالعمل بإلقاء المعلّم مسائله واحدة بعد واحدة إلى المتعلّم حتّى تتمّ فصوله و أبوابه- إنّما يفيد حصولا ما لصور مسائله عند المتعلّم، و كونها مذخورة بوجه ما عنده، يراجعها عند مسيس الحاجة إليها، و أمّا استقرارها في النّفس بحيث تنمو النّفس عليها و تترتّب عليها آثارها المطلوبة منها فيحتاج إلى مسيس الحاجة و الإشراف على العمل و حضور وقته. ففرق بين أن يلقي الطّبيب المعلّم مثلا مسألة طبّية إلى متعلّم الطّب إلقاء فحسب، و بين أن يلقيها إليه و عنده مريض مبتلى بما يبحث عنه من الدّاء و هو يعالجه، فيطابق بين ما يقول و ما يفعل.

و من هنا يظهر أنّ إلقاء أي نظرة علميّة عند مسيس الحاجة و حضور وقت العمل إلى من يراد تعليمه و تربيته أثبت في النّفس، و أوقع في القلب، و أشدّ استقرارا، و أكمل رسوخا في الذّهن، و

خاصّة في المعارف الّتي تهدي إليها الفطرة، فإنّ الفطرة إنّما تستعدّ للقبول، و تتهيّأ للإذعان إذا أحسّت بالحاجة.

ثمّ إنّ المعارف الّتي تتضمّنها الدّعوة الإسلاميّة النّاطق بها القرآن إنّما هي شرائع و أحكام عمليّة و قوانين فرديّة و اجتماعيّة، تسعد الحياة الإنسانيّة مبنيّة على الأخلاق الفاضلة المرتبطة بالمعارف الكلّية الإلهيّة الّتي تنتهي بالتّحليل إلى التّوحيد، كما أنّ التّوحيد ينتهي بالتّركيب إليها، ثمّ إلى الأخلاق و الأحكام العمليّة.

نصوص في علوم القرآن، ص: 407

فأحسن التّعليم و أكمل التّربية أن تلقى هذه المعارف العالية بالتّدريج موزّعة على الحوادث الواقعة المتضمّنة لمساس أنواع الحاجات، مبيّنة لما يرتبط بها من الاعتقاد الحقّ و الخلق الفاضل، و الحكم العمليّ المشروع مع ما يتعلّق بها من أسباب الاعتبار، و الاتّعاظ بين قصص الماضين و عاقبة أمر المسرفين و عتوّ الطّاغين و المستكبرين.

و هذه سبيل البيانات القرآنيّة المودعة في آياته النّازلة، كما قال تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «1»، و هذا هو المراد بقوله تعالى: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ، و اللّه أعلم.

نعم، يبقى عليه شي ء، و هو أنّ تفرّق أجزاء التّعليم و إلقاءها إلى المتعلّم على التّمهّل و التّؤدة يفسد غرض التّعليم؛ لانقطاع أثر السّابق إلى أن يلحق به اللّاحق، و سقوط الهمّة و العزيمة عن ضبط المطالب، ففي اتّصال أجزاء العلم الواحد بعضها ببعض إمداد للذّهن، و تهيئة للفهم على التّفقّه، و الضّبط لا يحصل بدونه البتّة.

و قد أجاب تعالى عنه بقوله: وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا، فمعناه على ما يعطيه السّياق أنّ هذه التّعليمات على نزولها نجوما متفرّقة عقّبنا بعضها ببعض، و نزّلنا بعضها إثر بعض؛ بحيث لا تبطل الرّوابط و لا تنقطع آثار الأبعاض، فلا

يفسد بذلك غرض التّعليم، بل هي سور و آيات نازلة بعضها إثر بعض مترتّبة مرتّلة.

على أنّ هناك أمر آخر، و هو أنّ القرآن كتاب بيان و احتجاج يحتجّ على المؤالف و المخالف فيما أشكل عليهم، أو استشكلوه على الحقّ و الحقيقة بالتّشكيك و الاعتراض، و يبيّن لهم ما التبس عليهم أمره من المعارف و الحكم الواقعة في الملل و الأديان السّابقة، و ما فسّرها به علماؤهم بتحريف الكلم عن مواضعه، كما يظهر بقياس ما كان يعتقده الوثنيون في اللّه تعالى و الملائكة و الجنّ و قدّيسي البشر، و ما وقع في العهدين من أخبار الأنبياء و ما بثّوه من معارف المبدإ و المعاد، إلى ما بيّنه القرآن في ذلك.

و هذا النّوع من الاحتجاج و البيان لا يستوفي حقّه إلّا بالتّنزيل التّدريجيّ على حسب ما كان يبدو من شبههم، و يرد على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله من مسائلهم تدريجا، و يورد على

______________________________

(1)- الإسراء/ 106.

نصوص في علوم القرآن، ص: 408

المؤمنين أو على قومهم من تسويلاتهم شيئا بعد شي ء و حينا بعد حين.

و إلى هذا يشير قوله تعالى: وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً «1»، و المثل: الوصف، أي لا يأتونك بوصف فيك أو في غيرك حادوا به عن الحقّ، أو أسائوا تفسيره إلّا جئناك بما هو الحقّ فيه، أو ما هو أحسن الوجوه في تفسيره، فإنّ ما أتوا به إمّا باطل محض، فالحقّ يدفعه، أو حقّ محرّف عن موضعه، فالتّفسير الأحسن يردّه إلى مستواه و يقوّمه.

فتبيّن بما تقدّم أنّ قوله: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ إلى قوله: وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً جواب عن قولهم: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً، بوجهين؛

أحدهما:

بيان السّبب الرّاجع إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و هو تثبيت فؤاده بالتّنزيل التّدريجيّ.

و ثانيهما: بيان السّبب الرّاجع إلى النّاس، و هو بيان الحقّ فيما يوردون على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله من المثل و الوصف الباطل، و التّفسير بأحسن الوجوه فيما يوردون عليه من الحقّ المغيّر عن وجهه المحرّف عن موضعه.

و يلحق بهذا الجواب قوله تلوا: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ سَبِيلًا «2»، فهو كالمتمّم للجواب على ما سيجي ء بيانه.

و تبيّن أيضا أنّ الآيات الثّلاث مسوّقة جميعا لغرض واحد، و هو الجواب عمّا أوردوه من القدح في القرآن هذا، و المفسّرون فرّقوا بين مضامين الآيات الثّلاث، فجعلوا قوله:

كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ جوابا عن قولهم: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً و قوله:

وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا خبرا عن ترسيله في النّزول، أو في القراءة على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، من غير ارتباط بما تقدّمه.

و جعلوا قوله: وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ الخ، كالبيان لقوله: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ، و إيضاحا لكيفيّة تثبيت فؤاده صلّى اللّه عليه و آله، و جعله بعضهم ناظرا إلى خصوص المثل الّذي ضربوه للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ اللّه بيّن الحقّ فيه و جاء بأحسن التّفسير، و قيل غير ذلك، و جعلوا قوله:

______________________________

(1)- الفرقان/ 33.

(2)- الفرقان/ 34.

نصوص في علوم القرآن، ص: 409

الَّذِينَ يُحْشَرُونَ الآية أجنبيّا عن غرض الآيتين السّابقتين بالكلّية.

و التّأمّل فيما قدّمناه في توجيه مضمون الآيتين الأوّليين و ما سيأتي من معنى الآية الثّالثة يوضح فساد جميع ذلك، و يظهر أنّ الآيات الثّلاث جميعا ذات غرض واحد، و هو الجواب عمّا أوردوه من الطّعن في القرآن

من جهة نزوله التّدريجيّ.

و ذكروا أيضا أنّ الجواب عن قدحهم و اقتراحهم بقوله: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ جواب بذكر بعض ما لتفريق النّزول من الفوائد، و أنّ هناك فوائد أخرى غير ما ذكره اللّه تعالى، و قد أوردوا فوائد أخرى أضافوها إلى ما وقع في الآية؛

منها: أنّ الكتب السّماويّة السّابقة على القرآن إنّما أنزلت جملة واحدة، لأنّها أنزلت على أنبياء يكتبون و يقرءون، فنزلت عليهم جملة واحدة مكتوبة، و القرآن إنّما نزل على نبيّ أمّيّ لا يكتب و لا يقرأ، و لذلك نزل متفرّقا.

و منها: أنّ الكتب المتقدّمة لم يكن لها شاهد صحّتها و دليل كونها من عند اللّه تعالى إعجازها، و أمّا القرآن فبيّنة صحّته و آية كونه من عند اللّه تعالى نظمه المعجز الباقي على مرّ الدّهور المتحقّق في كلّ جزء من أجزائه المقدّر بمقدار أقصر السّور حسبما وقع به التّحدّي.

و لا ريب أنّ مدار الإعجاز هو المطابقة لما تقتضيه الأحوال، و من ضرورة تجدّدها تجدّد ما يطابقها.

و منها: أنّ في القرآن ناسخا و منسوخا، و لا يتيسّر الجمع بينهما، لمكان المضادّة و المنافاة، و فيه ما هو جواب لمسائل سألوا النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله عنها، و فيه ما هو إنكار لبعض ما كان، و فيه ما هو حكاية لبعض ما جرى، و فيه إخبار عمّا سيأتي في زمن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كالإخبار عن فتح مكّة و دخول المسجد الحرام، و الإخبار عن غلبة الرّوم على الفرس، إلى غير ذلك من الفوائد، فاقتضت الحكمة تنزيله متفرّقا. و هذه وجوه ضعيفة لا تقتضي امتناع النّزول جملة واحدة.

أمّا الوجه الأوّل: فكون النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمّيّا لا يقرأ

و لا يكتب لا يمنع النّزول جملة واحدة، و قد كان معه من يكتبه و يحفظه. على أنّ اللّه سبحانه وعده أن يعصمه من النّسيان

نصوص في علوم القرآن، ص: 410

و يحفظ الذّكر النّازل عليه، كما قال سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى «1»، و قال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «2»، و قال: إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ «3» و قدرته تعالى على حفظ كتابه مع نزوله دفعة أو تدريجا سواء.

و أمّا الوجه الثّاني: فكما أنّ الكلام المفرّق يقارنه أحوال تقتضي في نظمه أمورا إن اشتمل عليها الكلام كان بليغا و إلّا فلا، كذلك الكلام الجملي و إن كان كتابا يقارنه بحسب فصوله و أجزائه أحوال لها اقتضاءات، إن طابقها كان بليغا و إلّا فلا، فالبلاغة غير موقوفة على غير الكتاب النّازل دفعة و الكلام المجموع جملة واحدة.

و أمّا الوجه الثّالث: فالنّسخ ليس إبطالا للحكم السّابق، و إنّما هو بيان انتهاء أمده، فمن الممكن الجمع بين الحكمين و المنسوخ و النّاسخ بالإشارة إلى أنّ الحكم الأوّل محدود موقّت إن اقتضت المصلحة ذلك.

و من الممكن أيضا أن يقدّم بيان المسائل الّتي سيسألون عنها حتّى لا يحتاجوا فيها إلى سؤال، و لو سألوا عن شي ء منها ارجعوا إلى سابق البيان، و كذا من الممكن أن يقدّم ذكر ما هو إنكار لما كان، أو حكاية لما جرى، أو إخبار عن بعض المغيبات، فشي ء من ذلك لا يمتنع تقديمه كما هو ظاهر.

على أنّ تفريق النّزول لبعض هذه الحكم و المصالح من تثبيت الفؤاد، فليست هذه الوجوه المذكورة وجوها على حدتها. فالحقّ أنّ البيان الواقع في الآية بيان تامّ جامع لا

حاجة معه إلى شي ء من هذه الوجوه البتّة. (15: 209- 214)

______________________________

(1)- الأعلى/ 6.

(2)- الحجر/ 9.

(3)- السّجدة/ 42.

نصوص في علوم القرآن، ص: 411

[الفرق بين الإنزال و التّنزيل]

التّنزيل و الإنزال بمعنى واحد، غير أنّ الغالب على باب الإفعال الدّفعة، و على باب التّفعيل التّدريج، و أصل النّزول في الأجسام انتقال الجسم من مكان عال إلى ما هو دونه و في غير الأجسام بما يناسبه.

و تنزيله تعالى إخراجه الشّي ء من عنده إلى موطن الخلق و التّقدير، و قد سمّى نفسه بالعليّ العظيم، و الكبير المتعال، و رفيع الدّرجات، و القاهر فوق عباده، فيكون خروج الشّي ء بإيجاده من عنده إلى عالم الخلق و التّقدير- و إن شئت فقل: إخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشّهادة- تنزيلا منه تعالى له.

و قد استعمل الإنزال و التّنزيل في كلامه تعالى في أشياء بهذه العناية، كقوله تعالى:

يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ «1» و قوله تعالى: وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «2» و قوله: وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ «3» و قوله: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ «4»، و قد أطلق القول في قوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ «5»

و من الآيات الدّالّة على اعتبار هذا المعنى في خصوص القرآن قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ «6»

و قد أضيف التّنزيل إلى ربّ العالمين للدّلالة على توحيد الرّبّ تعالى؛ لما تكرّر مرارا أنّ المشركين إنّما كانوا يعترفون به تعالى بما أنّه ربّ الأرباب، و لا يرون أنّه ربّ العالمين. (15:

316) نصوص في علوم القرآن 411 [الفرق بين الإنزال و التنزيل] ..... ص : 411

____________________________________________________________

(1)- الأعراف/ 26.

(2)- الزّمر/ 6.

(3)- الحديد/ 25.

(4)- البقرة/ 105.

(5)- الحجر/ 21.

(6)- الزّخرف/ 3- 4.

نصوص في علوم القرآن، ص: 412

و ظاهر اللّفظ أنّها إحدى اللّيالي الّتي تدور على الأرض، و ظاهر قوله: فِيها يُفْرَقُ الدّال على الاستمرار أنّها تتكرّر، و ظاهر قوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، أنّها تتكرّر بتكرّر شهر رمضان، فهي تتكرّر بتكرّر السّنين القمريّة، و تقع في كلّ سنة قمريّة مرّة واحدة في شهر رمضان. و أمّا أنّها أيّ ليلة هي؟ فلا إشعار في كلامه تعالى بذلك.

و المراد بنزول الكتاب في ليلة مباركة على ما هو ظاهر قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، و قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1»، و قوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ «2»، أنّ النّازل هو القرآن كلّه.

و لا يدفع ذلك قوله: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «3»، و قوله: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «4»، الظّاهرين في نزوله تدريجا، و يؤيّد ذلك آيات أخر كقوله: فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ «5»، و قوله: وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ «6» و غير ذلك، و يؤيّد ذلك أيضا ما لا يحصى من الأخبار المتضمّنة لأسباب النّزول.

و ذلك أنّه يمكن أن يحمل على نزول القرآن مرّتين: مرّة مجموعا و جملة في ليلة واحدة من ليالي شهر رمضان، و مرّة تدريجا و نجوما في مدّة ثلاث و عشرين سنة، و هي مدّة دعوته

صلّى اللّه عليه و آله.

لكنّ الّذي لا ينبغي الارتياب فيه أنّ هذا القرآن المؤلّف من السّور و الآيات بما فيه من السّياقات المختلفة المنطبقة على موارد النّزول المختلفة الشّخصيّة لا يقبل النّزول دفعة، فإنّ الآيات النّازلة في وقائع شخصيّة و حوادث جزئيّة مرتبطة بأزمنة و أمكنة

______________________________

(1)- القدر/ 1.

(2)- البقرة/ 185.

(3)- الإسراء/ 106.

(4)- الفرقان/ 32.

(5)- محمّد/ 20.

(6)- التّوبة/ 127.

نصوص في علوم القرآن، ص: 413

و أشخاص و أحوال خاصّة لا تصدق إلّا مع تحقّق مواردها المتفرّقة زمانا و مكانا و غير ذلك، بحيث لو اجتمعت زمانا و مكانا و غير ذلك انقلبت عن تلك الموارد و صارت غيرها، فلا يمكن احتمال نزول القرآن و هو على هيئته و حاله بعينها مرّة جملة و مرّة نجوما. فلو قيل بنزوله مرّتين كان من الواجب أن يفرّق بين المرّتين بالإجمال و التّفصيل، فيكون نازلا مرّة إجمالا و مرّة تفصيلا، و نعني بهذا الإجمال و التّفصيل ما يشير إليه قوله تعالى:

كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ «1» و قوله: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ «2»

و قد مرّ الكلام في معنى الإحكام و التّفصيل في تفسير سورتي هود و الزّخرف.

و قيل: المراد بنزول الكتاب في ليلة مباركة افتتاح نزوله التّدريجيّ في ليلة القدر من شهر رمضان، فأوّل ما نزل من آيات القرآن- و هو سورة العلق أو سورة الحمد- نزل في ليلة القدر.

و هذا القول مبنيّ على استشعار منافاة نزول الكتاب كلّه في ليلة، و نزوله التّدريجيّ الّذي تدلّ عليه الآيات السّابقة، و قد عرفت أن لا منافاة بين الآيات. على أنّك خبير بأنّه خلاف ظاهر الآيات.

و قيل: إنّه

نزل أوّلا جملة على السّماء الدّنيا في ليلة القدر، ثمّ نزل من السّماء الدّنيا على الأرض تدريجا في ثلاث و عشرين سنة مدّة الدّعوة النّبويّة.

و هذا القول مأخوذ من الأخبار الواردة في تفسير الآيات الظّاهرة في نزوله جملة.

و قوله: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ واقع موقع التّعليل، و هو يدلّ على استمرار الإنذار منه تعالى قبل هذا الإنذار، فيدلّ على أنّ نزول القرآن من عنده تعالى ليس ببدع، فإنّما هو إنذار، و الإنذار سنّة جارية له تعالى لم تزل تجري في السّابقين من طريق الوحي إلى الأنبياء و الرّسل و بعثهم لإنذار النّاس.

قوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ضمير فِيها لليلة، و الفرق: فصل الشّي ء

______________________________

(1)- هود/ 1.

(2)- الزّخرف/ 3- 4.

نصوص في علوم القرآن، ص: 414

من الشّي ء بحيث يتمايزان، و يقابله الإحكام، فالأمر الحكيم ما لا يتميّز بعض أجزائه من بعض، و لا يتعيّن خصوصيّاته و أحواله، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ «1».

فللأمور بحسب القضاء الإلهيّ مرحلتان: مرحلة الإجمال و الإبهام و مرحلة التّفصيل، و ليلة القدر- على ما يدلّ عليه قوله: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ- ليلة يخرج فيها الأمور من مرحلة الإحكام إلى مرحلة الفرق و التّفصيل، و قد نزل فيها القرآن، و هو أمر من الأمور المحكمة فرق في ليلة القدر. و لعلّ اللّه سبحانه اطّلع نبيّه على جزئيّات الحوادث الّتي ستقع في زمان دعوته، و ما يقارن منها نزول كلّ آية أو آيات أو سورة من كتابه، فيستدعي نزولها و اطّلعه على ما ينزل منها، فيكون القرآن نازلا عليه دفعة و جملة قبل نزوله تدريجا و مفرّقا.

و مآل

هذا الوجه اطّلاع النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله على القرآن في مرحلة نزوله إلى القضاء التّفصيليّ قبل نزوله على الأرض و استقراره في مرحلة العين، و على هذا الوجه لا حاجة إلى تفريق المرّتين بالإجمال و التّفصيل كما تقدّم في الوجه الأوّل.

و ظاهر كلام بعضهم أنّ المراد بقوله: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ تفصيل الأمور المبيّنة في القرآن من معارف و أحكام و غير ذلك. و يدفعه أنّ ظاهر قوله: فِيها يُفْرَقُ الاستمرار، و الّذي يستمرّ في هذه اللّيلة بتكرّرها تفصيل الأمور الكونيّة بعد إحكامها، و أمّا المعارف و الأحكام الإلهيّة فلا استمرار في تفصيلها، فلو كان المراد فرقها كان الأنسب أن يقال: فيها فرق.

و قيل: المراد يكون الأمر حكيما إحكامه بعد الفرق، لا الإحكام الّذي قبل التّفصيل، و المعنى يقضى في اللّيلة كلّ أمر محكم لا يتغيّر بزيادة أو نقصان أو غير ذلك. هذا، و إلّا ظهر ما قدّمناه من المعنى. (18: 130- 132)

______________________________

(1)- الحجر/ 21.

نصوص في علوم القرآن، ص: 415

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... القيامة/ 16- 19

الّذي يعطيه سياق الآيات الأربع بما يحفّها من الآيات المتقدّمة و المتأخّرة الواصفة ليوم القيامة أنّها معترضة، متضمّن أدبا إلهيّا كلّف النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يتأدّب به حينما يتلقّى ما يوحى إليه من القرآن الكريم، فلا يبادر إلى قراءة ما لم يقرئ بعد، و لا يحرّك به لسانه، و ينصت حتّى يتمّ الوحي.

فالآيات الأربع في معنى قوله تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ «1».

فالكلام في هذه الآيات يجري مجرى قول المتكلّم منّا أثناء حديثه لمخاطبه إذا بادر إلى تتميم بعض كلام المتكلّم باللّفظة و اللّفظتين قبل أن يلفظ بها المتكلّم، و ذلك يشغله

عن التّجرّد للإنصات، فيقطع المتكلّم حديثه و يعترض و يقول: لا تعجل بكلامي، و انصت لتفقّه ما أقول لك، ثمّ يمضي في حديثه.

فقوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ الخطاب فيه للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و الضّميران للقرآن الّذي يوحى إليه أو للوحي، و المعنى لا تحرّك بالوحي لسانك لتأخذه عاجلا، فتسبقنا إلى قراءة ما لم نقرئ بعد، فهو كما مرّ في معنى قوله: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ.

و قوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ القرآن هاهنا: مصدر كالفرقان و الرّجحان، و الضّميران للوحي، و المعنى لا تعجل به؛ إذ علينا أن نجمع ما نوحيه إليك بضمّ بعض أجزائه إلى بعض و قراءته عليك، فلا يفوتنا شي ء منه حتّى يحتاج إلى أن تسبقنا إلى القراءة ما لم نوحه بعد.

و قيل: المعنى إنّ علينا أن نجمعه في صدرك؛ بحيث لا يذهب عليك شي ء من معانيه، و أن نثبّت قراءته في لسانك، بحيث تقرأه متى شئت، و لا يخلو من بعد.

و قوله: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، أي فإذا أتممنا قراءته عليك وحيا فاتّبع قراءتنا

______________________________

(1)- طه/ 114.

نصوص في علوم القرآن، ص: 416

له و اقرأ بعد تمامها.

و قيل: المراد باتّباع قرآنه اتّباعه ذهنا، بالإنصات و التّوجّه التّام إليه، و هو معنى لا بأس به.

و قيل المراد فاتّبع في الأوامر و النّواهي قرآنه، و قيل: المراد اتّباع قراءته بالتّكرار حتّى يرسخ في الذّهن، و هما معنيان بعيدان.

و قوله: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ، أي علينا إيضاحه عليك بعد ما كان علينا جمعه و قرآنه، فثمّ للتّأخير الرّتبيّ؛ لأنّ البيان مترتّب على الجمع، و القراءة رتبة.

و قيل: المعنى ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ للنّاس بلسانك،

تحفظه في ذهنك عن التّغيّر و الزّوال حتّى تقرأه على النّاس.

و قال بعضهم في معنى هذه الآيات: إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يحرّك لسانه عند الوحي بما ألقي إليه من القرآن مخافة أن ينساه، فنهي عن ذلك بالآيات، و أمر بالإنصات حتّى يتمّ الوحي، فضمير لا تُحَرِّكْ بِهِ للقرآن أو الوحي، باعتبار ما قرئ عليه منه، لاعتبار ما لم يقرأ بعد.

و فيه أنّه لا يلائم سياق الآيات تلك الملاءمة؛ نظرا إلى ما فيها من النّهي عن العجل، و الأمر باتّباع قرآنه تعالى بعد ما قرأ، و كذا قوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ، فذلك كلّه أظهر فيما تقدّم منها في هذا المعنى.

و عن بعضهم في معنى هذه الآيات: الّذي اختاره أنّه لم يرد القرآن، و إنّما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة، يدلّ على ذلك ما قبله و ما بعده، و ليس في شي ء يدلّ على أنّه القرآن، و لا شي ء من أحكام الدّنيا.

و في ذلك تقريع و توبيخ له، حين لا تنفعه العجلة يقول: لا تحرّك لسانك بما تقرأه من صحيفتك الّتي فيها أعمالك، يعني اقرأ كتابك. لا تعجل، فإنّ هذا الّذي هو على نفسه بصيرة إذا رأى سيّئاته ضجر و استعجل، فيقال له توبيخا: لا تعجل و تثبّت؛ لتعلم الحجّة عليك، فإنّا نجمعها لك، فإذا جمعناه فاتّبع ما جمع عليك بالانقياد لحكمه و الاستسلام للتّبعة فيه، فإنّه لا يمكنك إنكاره، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ لو أنكرت، انتهى.

نصوص في علوم القرآن، ص: 417

و يدفعه أنّ المعترضة لا تحتاج في تمام معناها إلى دلالة ممّا قبلها و ما بعدها عليه، على أنّ مشاكلة قوله: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ

يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ في سياقه لهذه الآيات تؤيّد مشاكلتها له في المعنى.

و عن بعضهم: إنّ الآيات الأربع متّصلة بما تقدّم من حديث يوم القيامة، و خطاب لا تُحَرِّكْ للنّبي صلّى اللّه عليه و آله، و ضمير بِهِ ليوم القيامة، و المعنى لا تتفوّه بالسّؤال عن وقت القيامة أصلا، و لو كنت غير مكذّب و لا مستهزئ لِتَعْجَلَ بِهِ أي بالعلم به، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ أي من الواجب في الحكمة أن نجمع من نجمعه فيه، و نوحي شرح وصفه إليك في القرآن، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، أي إذا قرأنا ما يتعلّق به فاتّبع ذلك بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ، أي إظهار ذلك بالنّفخ في الصّور، انتهى ملخّصا، و هو كما ترى.

و قد تقدّم في تفسير قوله: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ أنّ هذا النّهي عن العجل بالقرآن يؤيّد ما ورد في الرّوايات إنّ للقرآن نزولا على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله دفعة غير نزوله تدريجا.

(20: 109- 111)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ القدر/ 1

ضمير أَنْزَلْناهُ للقرآن، و ظاهره جملة الكتاب العزيز لا بعض آياته، و يؤيّده التّعبير بالإنزال الظّاهر في اعتبار الدّفعة دون التّنزيل الظّاهر في التّدريج.

و في معنى الآية قوله تعالى: وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «1» و ظاهره الإقسام بجملة الكتاب المبين، ثمّ الإخبار عن إنزال ما أقسم به جملة.

فمدلول الآيات أنّ للقرآن نزولا جمليا على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله غير نزوله التّدريجيّ الّذي تمّ في مدّة ثلاث و عشرين سنة، كما يشير إليه قوله: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «2»، و قوله: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ

جُمْلَةً واحِدَةً

______________________________

(1)- الدّخان/ 3- 4.

(2)- الإسراء/ 106.

نصوص في علوم القرآن، ص: 418

كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «1»

فلا يعبأ بما قيل: إنّ معنى قوله: أَنْزَلْناهُ ابتدائنا بإنزاله، و المراد إنزال بعض القرآن.

و ليس في كلامه تعالى ما يبيّن أنّ اللّيلة أيّة ليلة؟ هي غير ما في قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2».

فإنّ الآية بانضمامها إلى آية القدر تدلّ على أنّ اللّيلة من ليالي شهر رمضان. و أمّا تعيينها أزيد من ذلك فمستفاد من الأخبار. (20: 330)

______________________________

(1)- الفرقان/ 32.

(2)- البقرة/ 185.

نصوص في علوم القرآن، ص: 419

الفصل الرّابع و الخمسون نصّ الشّهيد مطهّريّ (م: 1399) في «دروس من القرآن»

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ البقرة/ 185

فهو يصف شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن. إذن ليلة القدر هي إحدى ليالي شهر رمضان، بدلالة الآية الأولى من سورة القدر، و هذه الآية من سورة البقرة.

هنالك آية أخرى من سورة الدّخان، فيها توضيح آخر للّيلة الّتي نزل فيها القرآن، و تلك الآية هي:

حم وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ ... «1» أي أنّ ليلة نزول القرآن ليلة مباركة، و إنّنا نحذّر و ننذر بالخطر، و هي ليلة تحدث فيها أمور.

و عليه فإنّ اللّيلة الّتي نزل فيها القرآن- بحسب آية سورة البقرة- هي من ليالي شهر رمضان، و بحسب هذه الآية هي ليلة مباركة تجري فيها أمور. أي أنّها ليلة التّقدير، ليلة توضع فيها سلسلة من التّقديرات. و بأخذ آية تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ «2» بهذا الخصوص يتّضح أنّ اللّيلة من ليالي اللّه الّتي تجري فيها الأمور.

______________________________

(1)- الدّخان/ 1- 4.

(2)- القدر/ 4.

نصوص في علوم القرآن، ص: 420

و يتبادر إلى الذّهن هنا سؤال، فإذا كان نزول القرآن في

ليلة القدر، و ليلة القدر من ليالي شهر رمضان، أ فلا يعني هذا أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد بعث في ليلة القدر؟ فلما ذا نحتفل بالمبعث في يوم السّابع و العشرين من رجب، مع أنّ القرآن يصرّح بنزوله في رمضان؟

هنا لا بدّ أن نشير إلى موضوع، و إن لم يكن جوابا على هذا السّؤال، إلّا أنّنا لا بدّ أن نشير إليه، و هو أنّ للقرآن نزولين: النّزول الإجماليّ، و النّزول التّدريجيّ أو التّفصيليّ.

فالنّزول الإجماليّ هو النّزول غير الزّمانيّ، و النّزول التّدريجيّ هو النّزول التّفصيليّ الزّمانيّ.

و كلمة «نزول» بحسب اللّغة العربيّة ترد في موضعين اثنين؛ الأوّل: من باب الإفعال (إنزال) إِنَّا أَنْزَلْناهُ، و الآخر: من باب تفعيل «تنزيل». علماء اللّغة العربيّة يقولون: إنّ هناك فرقا بين هاتين الصّيغتين من حيث المعنى، فأنزلناه ترد حيث يقصد النّزول الكلّيّ دفعة واحدة، و تنزيل ترد حيث يكون التّنزيل تدريجيّا. فالقرآن إذن إنزال و تنزيل.

ففي هذه الآيات: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ و شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ و حم وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ يأتي الفعل من إفعال، و هي كلّها تشير إلى نزول إجماليّ دفعة واحدة غير مشروط بزمان، نزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله قبل تنزيله عليه بهيئة روح، لا بهيئة آيات و كلمات و ألفاظ و سور. و بعد أن استقرّت تلك الرّوح في الرّسول الكريم، و هي روح القرآن، نزل القرآن مرّة أخرى بهيئة ألفاظ و كلمات و سور هذه المرّة.

إنّ لدينا بهذا الشّأن روايات كثيرة، فقد ورد عن الأئمّة الأطهار مرارا أنّ القرآن قد نزل على الرّسول الكريم بهيئتين: بهيئة إجماليّة واسعة و دفعة واحدة،

و بهيئة تفصيليّة تدريجيّة زمانيّة. فذالك النّزول الإجماليّ الّذي نزل على الرّسول دفعة واحدة هو النّزول الّذي حدث في شهر رمضان. في ذلك الوقت لم يكن الرّسول قد بعث بعد، بعثة الرّسول تبدأ منذ أن نزل جبريل يحمل إلى الرّسول القرآن و الرّوح و الحقيقة في صورة ألفاظ و كلمات. ذلك هو زمان بعثة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و هو ما حصل في شهر رجب، و دام 23 سنة.

هنالك لفظتان لكتاب اللّه: القرآن و الفرقان، كما جاء في سورة الفرقان تَبارَكَ الَّذِي

نصوص في علوم القرآن، ص: 421

نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً «1» الفرقان: من مادّة «فرق» أي الفصل و التّفريق. و المقصود هنا أنّنا أنزلنا القرآن مفرّقا مجزّأ؛ لكي تقرأه على النّاس تدريجيّا.

يرى بعضهم أنّ لفظة «قرآن» تطلق على كتاب اللّه مجموعا، و تطلق عليه لفظة «فرقان» إذا قصدت أجزاؤه و تفاصيله، كما نزلت آياته و سوره. إنّ ما ذكرناه يتعلّق بنزول القرآن، إن كان في شهر رمضان أم في شهر رجب. (ص: 34- 35)

و نصّه أيضا في «تفسير سورة الفجر و القيامة» «2»

إنزال القرآن على قسمين:

أنزل القرآن على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في مرحلتين؛

إحداهما: بصورة إجماليّة و كلّيّة، فكان جملة واحدة، أنزل في ليلة القدر من شهر رمضان، و قد أصبح النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في حالة روحيّة خاصّة، و إنّ تلك الحالة الرّوحيّة في الواقع هي نفس الحقيقة القرآنيّة، فالقرآن نزل بنحو الإجمال ابتداء لا بصورة آية آية أو كلمة كلمة حتّى استقرّ في الرّوح المقدّسة للنّبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه و آله.

و ثانيهما: مرحلة الانفتاح، و هي نزوله آية آية، طيلة ثلاث و عشرين سنة، و كان هذا بمثابة نزول تفصيليّ.

فلذلك كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله له القدرة أحيانا على بيان جملة واحدة ممّا يوحى إليه قبل نزوله؛ لأنّ القرآن كان موجودا في روحه و حافظته بصورة إجماليّة من قبل، إذ كان نازلا إليه، فلذا قال اللّه تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... «3»، أي تأدّب و لا تحرّك لسانك متعجّلا عند أخذ الوحي، حتّى لا يأتي على لسانك ممّا لم يوح إليك بعد، و هذا كلّه ناشئ عن اضطرابه في أن يفوته شي ء من الوحي، و الأمر ليس كذلك، فلا تخف أنّ هذا في عهدتنا إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ، أي جمع ما أنزل بصورة متفرّقة و متشتّتة، هو علينا، و قراءته أيضا كلّه علينا و ما أنت إلّا آخذ. تمهّل حتّى نقرأ عليك أوّلا،

______________________________

(1)- الفرقان/ 1.

(2)- ترجم من الفارسيّة.

(3)- القيامة/ 16.

نصوص في علوم القرآن، ص: 422

ثمّ تقرأ أنت بعدنا. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ، أي توضيحه و تفسيره علينا، فإنّا نبيّن عليك هذه الحقائق، و أنت تبيّنها للنّاس بعد ذلك

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... القيامة/ 16- 19

جاءت أربع آيات مستأنفة من هذه السّورة «1»، كأنّها جمل معترضة كما يصطلح عليها المفسّرون، و الجملة المعترضة هي جملة تأتي في جميع الكلام، فمثلا يتحدّث رجل بحديث، و كان ينبغي عليه الاسترسال فيه، إلّا أنّه يتفوّه ببضع جمل تتعلّق بموضوع آخر، لأنّ الضّرورة تقتضي ذلك.

وهب أنّ خطيبا يتكلّم و في أثناء الكلام أيقن أنّ قولا خارج نطاق البحث ينبغي ذكره، فيقول مثلا: يا هذا! أنجز هذا الأمر على هذا المنوال، ثمّ يواصل حديثه السّابق ثانية.

لقد أوعز اللّه تعالى إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في أواسط هذه السّورة في كيفيّة تلقّي الوحي، و قد وردت ثلاث آيات

حول ذلك، و هي تدلّ على أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يعتريه الارتباك و القلق حين يتلقّى قلبه الوحي، خوفا من أن يتلقّاه ناقصا فيردّده بسرعة، يردّد ما يلقي إليه الوحي فورا، ليتلقّاه جيّدا، حتّى لا تفوته كلمة منه.

قال في سورة الأعلى/ 6: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى، فقد تكفّل القرآن الكريم ذلك قائلا: إنّ ذلك لا يعنيك، فنحن لا ندعه ينسى، و جمعه منوط بنا، و ما عليك إلّا أن تتأهّب لتلقّي الوحي.

و قال في سورة طه/ 114: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي لا تعجل بالقراءة قبل انتهاء الوحي.

هب أنّ أحدا يملي عليك كلاما و أنت تريد أن تعيه بدقّة، فإنّك تخطر أوّله في بالك أو تردّده في لسانك و هو لم يتمّ كلامه بعد. و قال هنا- في سورة القيامة- أيضا: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ أي لا تحرّك لسانك أثناء الوحي لتعجل به، و هي كأنّها جملة معترضة، و قد قلنا سابقا: إنّ اللّه أوعز إلى النّبيّ في كيفيّة تلقّي الوحي وسط سورة القيامة.

إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ أي أنّ جمع ما يوحى إليك و قراءته منوط بنا.

______________________________

(1)- أي سورة القيامة.

نصوص في علوم القرآن، ص: 423

فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي دعنا نقرأه عليك أوّلا، ثمّ اقرأه أنت.

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أي ثمّ إنّ بيان الوحي و تفسيره منوط بنا.

[ما هي تلك العجلة في أثناء الوحي؟]

و لكن ما هي تلك العجلة الّتي كان يتّصف النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أثناء تلقّي الوحي؟ للمفسّرين هنا قولان:

[1] فبعض قال: يوحى إليه أحيانا سورة بكاملها، أو خمس آيات أو ستّ أو عشر آيات متوالية، فتنزّل على قلب رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله، فيردّدها مبتدئا بأوّلها، و الوحي لا زال نازلا.

[2] و قال بعض آخر كصاحب تفسير الميزان في هذا المضمار: لم يكن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله يردّد الآيات من أوّلها بينه و بين نفسه و الوحي لا زال نازلا، بل كأنّه ينزل عليه الوحي و باله مشغول بالتّكرار و الوحي لا زال نازلا عليه.

و خلاصة كلامهم؛ أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله نتيجة أنسه بالوحي و شدّة تلقّيه منه، و كذلك نزول الآيات عليه تدريجيّا، كان كثيرا ما أوحي إليه بعض الكلام إلّا أنّه لتعلّق قلبه بالوحي و ولعه به يذكره قبل أن يتفوّه به جبرئيل و يلقيه إليه، و لم يزل بعض آخر لم ينزّله على قلبه فيذكره. و لذا قيل له: لا تفعل ذلك، دع الملك يلقي إليك الوحي أوّلا، ثمّ اذكره بعد ذلك.

و لا يخفى أنّ القرآن أوحي إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بنمطين؛ الأوّل إجماليّ، و الثّاني تفصيليّ، فالإجماليّ قد أنزل دفعة واحدة و في ليلة واحدة، و التّفصيليّ أنّه قد أعطيت للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله حالة روحيّة و كانت في الحقيقة بمنزلة حقيقة القرآن بشكل خفيّ، و ليس بشكل آية آية و سورة سورة.

و قد نزل الوحي الثّانويّ الّذي كان على شكل آية آية و سورة سورة مدّة ثلاث و عشرين سنة، و هو وحي تفصيليّ أيضا. فالعلّة إذا في أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يستطيع أحيانا ترديد جملة لا زال جبرئيل لم يتفوّه بها، و قد أوحيت إليه لأوّل مرّة بنحو تفصيليّ، هي أنّها كانت بنحو إجماليّ في روحه و حافظته سابقا. (ص: 65- 68)

نصوص في علوم القرآن،

ص: 424

الفصل الخامس و الخمسون نصّ السّبكي في «رياض القرآن»

تنزيله

كان محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله يجنح في بعض أحيانه إلى الخلوة بنفسه بعيدا عن النّاس، بل بعيدا عن الأماكن الآهلة.

و كانت خلوته هذه تكثر في رمضان، و في غار برأس جبل حراء على بعد من مكّة؛ إذ كان رمضان شهرا يعظّمه العرب قديما، و يكثرون فيه من المكارم المحمودة، نظرا لما كان لهذا الشّهر من خصوصيّة في الشّرائع الأولى، فطاب لمحمّد أن يكثر من الخلوة الّتي يتجرّد فيها للتّفكير و الاهتداء بعقله، إلى ما يستطيع الاطمئنان إليه من مظاهر الوجود فيستأذن زوجته خديجة و يأخذ زاده، و يمكث هناك اللّيالي و الأيّام؛ يفكّر في عجائب هذا الكون، و في قدرة خالقه، و يلتمس بعقله ما يهتدي إليه من حكم اللّه، و يهيم بما وراء هذا الإبداع من معالم الحقيقة المكنونة، و من أسرار في ملكوت اللّه الّتي لا يحيط بها غير اللّه.

و كان هذا الاتّجاه نفسه تجاوبا مع ما تكنّه الأقدار من سرّ يتعلّق بمحمّد بالذّات، و هو لا يدري في دخيلة نفسه أنّ وراء هذا الاتّجاه ما وراءه من تدبير اللّه.

و إنّما هي أحداث تتوارد، و تجري لمستقرّها، ثمّ تلتقي في حينها على ما شاء اللّه

نصوص في علوم القرآن، ص: 425

و قدره.

و قد شاءت حكمة اللّه أن تفصح عن هذا كلّه في ليلة من ليالي رمضان في السّنة الأربعين من عمر محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و هي ليلة القدر؛ إذ نزل عليه جبريل ملك الوحي لأوّل مرّة في اليقظة، يخاطبه بما أمره اللّه: اقْرَأْ. و كيف يقرأ إنسان أمّيّ لا يقرأ، و لم يتعلّم القراءة؟

هذا تكليف مهيب، يقابل بالاعتذار من جانب محمّد: «ما

أنا بقارئ»، يتكرّر الأمر، و يتكرّر الاعتذار ثلاث مرّات، كما أثبت ذلك السّنّة الصّحيحة فيما تحدّث به الرّسول بعد، و أخيرا يقرأ جبريل أمامه، و يقرأ هو بعده: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «1».

و كيف تكون الرّوعة لهذه المفاجأة!

أوّل إشراقة حيّة من إشراقات الوحي في حياتنا الجديدة، و على غير ألف بمثلها، إلّا ما كان من أحلام صادقة يراها محمّد في منامه، و تتحقّق يقظة كما رآها، فيكون فيها بعض الاستئناس، بأنّ للّه توجيها خاصّا يعلم اللّه مداه و سيكون.

أوّل إشراقة يتلقّاها فتأخذ مأخذها من نفسه رهبة و إجلالا، و يهتزّ لها وجدانه خشية و إيمانا، و تبتهج لها روحه تعلّقا بما أوحي إليه. و تستأثر بمشاعره تقديرا لما يناط به، و تتهيّأ عزيمته لحمل ما يلقى عليه.

و في هذه الإشراقة الأولى توجيه إلى أنّ رسالة محمّد- منذ بدايتها و في أخصّ ملامحها- رسالة العلم و التّعليم في الجانب الرّوحيّ، و رسالة البحث في جوانب الحياة كلّها.

و توجيه كذلك إلى أنّ الحياة الجديدة حياة العقل و المعرفة و الاهتداء، أكثر من أن تكون حياة الملذّات و المتعة بالشّهوات.

أو هي حياة الوعي، و حسن الاختيار. أو هي في خلاصتها حياة الإسلام و كفى.

حكمة التّكرار للأمر و الاعتذار

أثبتت لنا السّنّة الصّحيحة الّتي تحدّث بها الرّسول لأمّته، أنّ الأمر بالقراءة، و الاعتذار

______________________________

(1)- العلق/ 1- 3.

نصوص في علوم القرآن، ص: 426

تكرّر ثلاث مرّات

و هل يكون تكرار الأمر من جبريل، و تكرار الاعتذار من محمّد ممّا يحصل اعتباطا و صدفة؟

أمّا الاعتذار فكان طبيعيّا؛ لأنّه الاعتذار بالأمر الواقع، و جبريل يعرف- لا محالة- إنّ محمّدا أمّي، و

أنّه يكرّر عليه الأمر عالما بعجزه القراءة.

ثمّ هو في أمره أوّلا و ثانيا و ثالثا لم يعيّن له ما يقرأه، كما عيّنه في الرّابعة أخيرا، و تلا أمامه. الّذي أفهمه من ذلك التّكرار حكمة، إذا فهمت على وجهها لا يقال: إنّ ذلك كان تكليفا بما لا يطاق، و لا يقال: كيف تطلب القراءة ممّن لا يقرأ؟ و لا يقال: كيف قرأ من لم يتعلّم؟.

تلك الحكمة: 1- ليركز- منذ البداية- في وعي محمّد أنّ هذه رسالة حتميّة، لا مفرّ عن تحمّلها.

2- و ليزيد في وعيه أن ينتبه لتلقّيها، و يفتح قلبه لها، و يطمئنّ إلى اختياره لتبليغها، و أهليّته للقيام عليها.

و إنّ شأنا خطيرا كشأن الرّسالة ليحتاج عقلا إلى المزيد في التّنبيه عليه، و على التّفرّغ له، و ليكون المختار للرّسالة على بيّنة ممّا عهد اللّه إليه، و على يقظة دائمة نحو صلته الخاصّة باللّه، إلى أن ينتهي من تبليغ رسالته، و يقضي اللّه أمرا كان مفعولا. فيكون التّهيّب من جانب الرّسول طبيعة إنسانيّة.

و يكون تكرار الأمر من جبريل وسيلة للمزيد في التّنبيه، و الحرص على شأن قدسيّ جدير بذلك. على أنّ رهبة محمّد لنزول الوحي في فرصته الأولى، لم تزايله بانصراف الوحي عنه الآن.

بل يرجع إلى زوجته خديجة مأخوذا بتلك المشاعر الّتي تغمره، و يقصّ عليها ما لقيه في عزلته، و يتدثّر في فراشه، و يأخذ مضجعه ليستقرّ من روعه.

ثمّ كان بعد ذلك ما كان من شئون متتابعة، تسير في أفقها المرسوم، إلى أن انتهى

نصوص في علوم القرآن، ص: 427

الرّسول من تبليغ رسالته، و انتهت حياته بعد تمام ثلاثة و ستّين عاما (عليه الصّلاة و السّلام).

إنزال القرآن و تنزيله
اشارة

في القرآن آيات صريحة في أنّه أنزل في

رمضان، و أنّ إنزاله كان في ليلة مباركة، و أنّه أنزل في ليلة القدر.

و تلك النّصوص على ترتيبها في المصحف رقم (185) من سورة (2) البقرة، و رقم (2) من سورة (12) يوسف، و رقم (44) من سورة (16) النّحل، و رقم (1) من سورة (20) طه، و رقم (3) من سورة (44) الدّخان، و رقم (1) من سورة (97) القدر.

و التّعبير في هذه المواطن و نحوها بلفظ أنزلنا، يفيد في اللّغة أنّ القرآن هبط به جبريل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله جملة واحدة، لا نجوما مقسّطة. و في القرآن كذلك آيات كثيرة صريحة التّعبير في أنّه كان تنزيلا، و التّنزيل يفيد في اللّغة، أنّه كان مفرّقا على أقساط في نزوله على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله.

منها آية (196) سورة (7) الأعراف، و آية (9) من سورة (15) الحجر، و آية (44) من سورة (16) النّحل، فقد ذكر فيها الإنزال و التّنزيل، كما صرّحت بمثل ذلك آية (106) سورة (17) الإسراء، بل منها تصريح بالتّفريق.

فنحن أمام آيات قطيعة الثّبوت و الدّلالة على أنّ نزول القرآن موصوف بالإنزال و بالتّنزيل، و كلا الوصفين حقّ، و لا تعارض بينهما. فإنّه أنزل جملة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى سماء الدّنيا في اللّيلة المباركة من شهر رمضان و هي ليلة القدر، كما هو مصرّح به في آية البقرة و الدّخان و القدر.

ثمّ نزل بعد ذلك مفرّقا على محمّد (صلوات اللّه عليه) و في أوقات متعدّدة منذ ابتدأ نزوله في غار حراء، و في ليلة القدر من رمضان، و هي أوّل عهد الرّسالة، مبدوءا بسورة العلق.

و بهذا تتلاقى الآيات كلّها في وضح من الحقّ على أنّ القرآن

أنزل جملة، ثمّ كان

نصوص في علوم القرآن، ص: 428

تنزيله إلى الدّنيا مفرّقا طول عهد الرّسالة في ثلاث و عشرين سنة. و مع أنّ التّوراة أنزلت دفعة واحدة في ألواح مكتوبة، و أنّ الإنجيل أنزل كذلك دفعة واحدة من طريق الوحي على عيسى عليه السّلام فقد شاء اللّه أن يجمع للقرآن بين صفتي الإنزال جملة واحدة إلى سماء الدّنيا، و التّنزيل مفرّقا على رسوله صلّى اللّه عليه و آله. و حكمة التّفريق في تنزيله مقسطا تتّضح من وجوه:

1- أن يتمشّى- غالبا- مع المناسبات الدّاعية إلى التّنزيل، كحادثة تحتاج إلى بيان الحكم الشّرعيّ فيها، أو سؤال يتقدّم به بعض النّاس إلى الرّسول عن أمر ما، فيكون التّنزيل عند المقتضي أوقع في النّفس.

2- أن يكون تفصيله في نجومه أخفّ على الأفهام في وعيه و حفظه، و اللّه سبحانه يريد للقرآن أن يكون ميسّرا على عباده من جهة التّنزيل و من جهة الوعي، و الإلمام لقوم أمّيّين.

3- أن يكون تقسيطه وسيلة رتيبة، في تربية بيئة تحتاج إلى تدرّج في العلاج، كما يحتاج المريض إلى الدّواء شيئا فشيئا فإنّ العلّة لا تستأصل دفعة واحدة، و أنّ العافية لا تعاود البدن مرّة واحدة، فيكون التّدرّج مسايرا للفطرة.

4- و أن يكون التّقسيط سبيلا إلى التّدرّج في تشريع الأحكام شيئا فشيئا، و إذا كانت نفوس العرب طليقة في دنياها، و سائبة في جهالتها، يكون التّدرّج معهم في التّشريع أجدى عليهم من التّكليف جملة واحدة، و هذا ما نحسّه نحن في أساليب تربيتنا.

على أنّ في تقسيط القرآن نجوما متفرّقة فرصة تتيح للنّاس يومذاك أن يتفقّدوا ما في الآيات من مقاصد، و أن يأخذوا بها عن فهم و موازنة، و خاصّة العرب. فهم من

بداوتهم أمّة منطق و حجاج بلاغيّ، و التّريّث في التّنزيل يساعد الجميع على النّقاش، و عرض الشّبه و سماع البيان، و يحبّب إلى العقلاء أخذهم بهذا الدّين البيّن عن اختيار منهم، و عن إيمان به يقتضيهم الغيرة عليه و الدّفاع عنه. و العربيّ معروف بالوفاء بعهده، و بالتّضحية في سبيل ما يلتزمه، فكيف إذا كان دينا؟

و كيف إذا كان هذا الدّين يراد للخلود و الاستقرار، و جمع النّاس تحت رايته إن

نصوص في علوم القرآن، ص: 429

حسن اختيارهم لأنفسهم و استجابوا؟

لهذه المقاصد السّالفة كان نزول القرآن مفرّقا من تمام الحكمة فيه، و من مباهج ميزاته و محاسنه، و من مجاراة الطّبائع في التّريّث عند الإقدام على شي ء جديد لم يألفوه من قبل.

شبهة أولى

هذا و ربّ سائل تخالجه شبهات يقول:

إذا كان التّدرّج في نزول الكتاب مقسطا رحمة بالنّاس، و تسهيلا عليهم، فلما ذا كانت الكتب السّالفة كالتّوراة و الإنجيل تنزل دفعة واحدة، و لم تكن تفريقا؟ و يجاب عن هذا بما ننقله عن بعض العلماء، و بما نستنتجه نحن من جوّ الموضوع.

فأوّلا- كانت تلك الأمم الكتابية على شي ء من تعلّم، فيكون استعدادهم للمعرفة أرجح ممّا كان عليه العرب حين واجههم القرآن قبل سواهم. فحاجة هؤلاء العرب إلى التّدرّج أوضح، و أنت تعلم أنّ أهل الكتاب يقرّرون ذلك، و يعيّرون العرب بأنّهم أمّيّون و ليسوا على علم.

و ثانيا- تلك أمم يعلم اللّه من أمرها مع صلتها بالعلم و بالرّسالات من قبل أنّها سوف لا تقلع أكثريّتها عمّا ألفت، و سوف يكون شأنها إزاء كتبها مذبذبا، و ستمدّ يدها إلى كتبها بتصرّفات من عندها؛ ليطابق أهواءهم. و لن يتغيّر حالهم عن ذلك بتنزيل الكتاب عليهم مفرّقا، أو جملة

واحدة.

فكأنّهم في تقدير اللّه- سبحانه- و في قصارى أمرهم سيظلّون جامحين، لا يحتكمون إلى عقل و لا موازنة، و إنّما يصطنعون محاولات زائفة؛ ليبرّروا دائما ما هم عليه.

فخصائص الشّعوب لها اعتبار في رعاية التّشريع، و قد روعيت في تفريق القرآن خصائص العرب الّتي يمتازون بها في الجملة، و الّتي يشاركهم في بعضها سواهم، من ملائمة التّريّث، و الإمهال، لإقناعهم بالقرآن، و ليدخلوا في حوزته على بصيرة و تعقّل، كما يدعوهم القرآن نفسه.

نصوص في علوم القرآن، ص: 430

و كذلك روعيت خصائص أهل الكتاب في المراوغة و التّفلّت من الحقّ على نحو ما نراهم إلى اليوم، فنزلت كتبهم جملة واحدة؛ لاستواء الوجهين في شأنهم الدّينيّ، و لئن كان من عيوب العرب تقليد الكثير منهم لما كان عليه آباؤهم، فأهل الكتاب أشدّ منهم تقليدا و تشبّثا حتّى مع العلم بالحقّ، و حاضرهم يشهد عليهم بذلك مع ما بلغوا من حضارة.

ثمّ تنعكس الشّبهة منهم، فيتمدّحون بأنّ كتبهم نزلت جملة، و هذا عندهم أمارة على صدقها من عند اللّه، و لو كان القرآن حقّا مثلها لما تغيّرت صفة تنزيله عن إنزال كتبهم جملة واحدة، هذا زعمهم!.

و مع ما سبق لنا في تعليل ذلك التّفريق، نرى أنّ القرآن نفسه يبيّن الحكمة المعقولة، و يحتاج تلك الشّبهة الهزيلة منهم في سورة الإسراء رقم (17) آية (106)، و في سورة الفرقان (25) آية (32) «1».

ففي المقامين تصريح بالقصد من التّفريق، و تلويح واضح بأنّه كتاب خالد يراد به التّمهّل، و المكث في تبليغه، و تلاوته على النّاس، و يراد تثبيت قلب النّبيّ و تمكينه من وعيه، و الإحاطة بما فيه، و كذا بالنّسبة لأمّته.

و إلى جانب هذين المقصدين تصريح بأنّ كلّ شبهة

يعرضونها، و كلّ مثل يضربونه لتعزيز الشّبهة- كمسألة التّنزيل- فاللّه تعالى كفيل في ذلك كلّه ببيان الحقّ، و تفسير الحكمة و تعزيز القرآن بما يحبط شبهاتهم، فلو كانت وجهتهم إلى الحقّ في ذاته لآمنوا بكتاب لا تعلق به شبهة إلّا بطلت، و هو لا يناقض كتبهم فيما عرفوا عنها من أصول أخلاقيّة أو اعتقاديّة صحيحة لم تشبها الأراجيف، و لا مسّتها نزعة الابتداع، و لا دعاهم لغير اللّه، و لا جردهم من العقليّة و حقّ المناقشة، و لا رضي لأتباعه الاستسلام للتّقليد.

كما وافق كتبهم في بعض آياتها، و في كثير من أحكامها البريئة عن التّحوير، كما شهد كثير من علمائهم، و هو كتاب أنصفهم، فاعترف بموافقته لتلك الكتب في شي ء من

______________________________

(1)- وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا،- وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا* وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً.

نصوص في علوم القرآن، ص: 431

آياتها، آية (18) و (19) من سورة الأعلى (87) «1»، فلو كان الحقّ رائدهم لما أطالوا في اللّجاج على أنفسهم.

شبهة ثانية

و نعرض شبهة علميّة- لا اعتقاديّة- لبعض الكتّاب؛ إذ يقولون: إنّ القرآن نزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في أوّل الأمر مناما لا يقظة.

و منشأ هذه الشّبهة، أنّ بعض الأحاديث جاءت صريحة في نزول القرآن عليه مناما، فانقدح في أذهانهم أنّ سورة العلق- و هي أوّل ما نزل- كانت مناما لا يقظة.

و التّحقيق العلميّ في ذلك أنّ بدء الوحي عامّة كان من طريق المنام قبل نزول القرآن بعدّة أشهر سابقة على رمضان الّذي نزل فيه القرآن علانية.

فما كان

النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله يرى مناما إلّا تحقّق على وفق ما رآه، و ليس هذا كثيرا على من شاء اللّه إعداده لرسالته الخاتمة، و نشأ نشأة محمّد خاصّة، فضلا عن أنّها سنّة اللّه مع أنبيائه، فإنّ رؤياهم وحي، كما حدث لإبراهيم في ذبح ولده إسماعيل عليهما السّلام، ثمّ قام بالتّنفيذ و همّ به، لو لا أنّ اللّه تعالى فدى إسماعيل بذبح من الضّأن، و حقّق حكمته في اختبار إبراهيم.

فلمّا قرب نزول القرآن كانت للنّبيّ تباشير تصادفه، و هو لا يدري ما وراءها، كالمناداة عليه و هو سائر في طريقة، ثمّ لا يرى أحدا، كما تحدّث بذلك التّاريخ، و كاعتزاله النّاس على غير ما عهد بينهم، و كاندفاعه في لهفة إلى إطالة الخلوة بعيدا عن النّاس ممعنا في تفكيره في هذا الملكوت الرّبانيّ الواسع.

و كان من هذه التّباشير أن رأى الرّؤيا المنامية بما نزل عليه بعد من سورة العلق، و ذلك من رفق اللّه به؛ ليدرّبه على استقبال رسالته و لقاء جبريل بها، ثمّ نزل عليه الوحي عيانا في ليلة القدر تحقيقا لما مرّ به من رؤيا منامية.

فلمّا نزل القرآن الكريم، و ورث النّاس عن النّبيّ أحاديثه في هذا و في كلّ شأن من

______________________________

(1)- إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى.

نصوص في علوم القرآن، ص: 432

شئون الرّسالة، و حفظ النّاس ما رووه منثورا بينهم، و جاء عهد الجمع و التّدوين الواسع للسّنّة النّبويّة في آخر القرن الأوّل الهجريّ، لم يكن من الصّحابة إلّا الرّواية للأحاديث على ما ثبت لديهم، و لم يتردّدوا في الأخذ بها مطمئنّين إلى صحيحها، و فاهمين لتوجيهها، و التّوفيق بين ما يبدو من ظاهرها متعارضا. ففهم البعض

فيما بعد أنّ نزول القرآن كان مناما.

و من البعيد في نظر العقل أن يكون المنام مع التّصديق به و تحقّقه و اعتباره وحيا صادقا، مصدر نزول القرآن الّذي قصد به أن يكون دستور الحياة إلى نهايتها، و قصد به أن تكون تلاوته عبادة مشروعة، و أن يكون التّدبّر فيه كذلك عبادة، و قصد به مع هذا كلّه تحدّي خصومه، أن يأتوا بسورة مثله.

بعيد في نظر العقل، أن يكون المنام مصدرا لكلام أخّاذ يتأثّر به غلاظ القلوب، بل يتأثّر به الجنّ و يؤمنون، و يعلنون لقومهم إعجابهم بما سمعوا منه، و يدعونهم إلى التّصديق به مطمئنّين إلى أنّه كلام اللّه و لا جرم.

و في ذلك آيات كثيرة لم تعلق بواحدة منها شبهة. آية 29- 32 سورة الأحقاف، و آية 1- 2 سورة الجنّ.

و عجيب هذا؛ لأنّنا لم نسمع عن رسول سابق أنّه تلقّى رسالته مناما، و كثيرا ما يصرّح القرآن بأنّ سنّة اللّه في إرسال رسله واحدة، و لكنّ النّاس في شبهاتهم يجادلون في الأمر العياني المشاهد، و إذا كانوا يجحدون المعجزة المشاهدة لهم، فهل كان يقنعهم المنام مهما كان أكيدا؟.

و ما كانت حكمة اللّه تأذن ببعث رسله مناما؛ ليفتح بها باب المنازعة و الشّبهة على أنبيائه المبعوثين ليقرعوا الباطل بالحقّ الصّراح؟ لم يبق غير أنّها شبهة واهية، نشأت من أساليب الرّواية للأحاديث، و عدم تمحيصها بعقول المجادلين.

ثمّ هي لا تستحقّ أن تكون رأيا نركن إليه، أو نقيم له أيّ اعتبار.

على أنّ الله سبحانه أعفانا من نقاشها بما بيّنه في آيات كثيرة من إنزاله في ليلة كذا و في شهر كذا على نحو ما سلف.

نصوص في علوم القرآن، ص: 433

شبهة ثالثة

زعم قائلون: أنّ القرآن نزل

بمعناه لا بلفظه، و أنّ النّبيّ عليه الصّلاة و السّلام عبّر عن المعنى بلفظ من عنده.

و كلّ ما قامت عليه تلك الشّبهة العمياء جملة واحدة نزلت في القرآن تفيد نزول جبريل بالقرآن على قلب محمّد صلوات اللّه عليه و سلامه آية 193- 195 الشّعراء «1».

فهم يقولون: إنّ النّزول على القلب لا يعدو أن يكون وحيا بالمعنى لا باللّفظ، مع أنّ الآية نفسها تصرّح بأنّ النّزول كان بلسان عربيّ مبين، فعجيب أن يتلمّسوا الشّبهة في جملة محتملة لا نصّا، ثمّ يتعاموا عن بقيّة الآية، و عن عشرات من الآيات الأخرى الصّريحة في التّنصيص القطعيّ على أنّه قرآن عربيّ بلسان عربيّ. الخ.

فهل اللّسان معنى نزل به الوحي على القلب؟ أو هل اللّغة الّتي تجري على جارحة اللّسان في منطقه؟

كثرت الآيات النّاطقة بعربيّة القرآن في أسلوبه المنزل به حتّى بلغت عشر آيات أو أكثر، و أكثر ما ترى هذا الوصف في فواتح السّور.

و لعلّ حكمة الإكثار منه في الفواتح تنبيه القارئ و السّامع و النّاس جميعا عند البدء في تلاوة السّورة على نزول القرآن بلفظه المعجز، كما تلاه عليهم الرّسول و بلّغه، و تواتر عنه تواترا لم يدع أثارة للاشتباه في ذلك. و ممّا يعزّز هذا الفهم أنّ تلك الفواتح مقرونة بذكر الكتاب، أو القرآن غالبا للإشادة به.

و لو لا وضوحها و كثرتها في أوائل السّور و في ثنايا القرآن، لذكرنا شيئا منها للاستشهاد به، و لكن هذا شأن بلغ من الوضوح و اليقين مبلغ ما تراه العين و تلمسه اليد.

أمّا نزول القرآن على قلب محمّد فمعناه تمكينه من وعيه و من تعقّله، و التّثبّت عليه لا مجرّد إخبار به، ثمّ تركه للنّسيان، كما هو الشّأن غالبا في

أحوال الإنسان.

و في القرآن نفسه ما يقرّر هذا التّوجيه في سورة الفرقان رقم (25) آية (32) ثمّ في

______________________________

(1)- نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ.

نصوص في علوم القرآن، ص: 434

سورة الأعلى رقم (87) آية (6) «1».

و لو كانت هذه الشّبهة من غير المسلمين لقلنا: أنّها نفثة الحقد و الخصومة، و لكنّ العجيب أنّ المتحدّثين بها أفراد منّا، يقرءون القرآن و لا يعجبهم إلّا أن يطالعونا بالجديد الغريب تقليدا للملاحدة.

أمّا نزول الوحي على قلب محمّد، و تعبيره عنه بلفظه هو، فذلك شأن السّنّة فقط، و نعني بها الأحاديث النّبويّة، فإنّها وحي لا ينطق فيها النّبيّ عن الهوى و التّعبير من عنده، و لذلك لم تكن ألفاظها للتّلاوة كألفاظ القرآن، و لذلك أيضا جازت رواية الحديث بمعناه لا بلفظه. و هذا غير جائز في القرآن، فإنّ لفظه لا يروى إلّا بنصّه القرآنيّ، و طبعا هذا بالنّسبة لعباراته، أمّا في معانيه و تفسيراته فلا مانع إطلاقا من سوقها بكلام من عندنا؛ لأنّ ذلك غير قرآن.

و هناك أحاديث قدسيّة- و هي ما ينزل بها الوحي عن اللّه بلفظها و معناها- فالتّعبير عنها كذلك لا يكون بلفظ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، بل بلفظها النّازل عن طريق الوحي، و من أجل هذا ميّزوها باسمها الخاصّ «أحاديث قدسيّة»، و مثالها: «يا عبادي إنّي قد حرّمت الظّلم على نفسي، فلا تظالموا ...».

و فوق ما تقدّم لو كان القرآن بلفظ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم لما تكرّر وصفه بأنّه آيات مفصّلات و آيات بيّنات، و لا وقع العجز من خصومه عن مضاهاته و لو بقليل مثله، فإنّ محمّدا عربيّ منهم، و إذا عجز بعضهم لأمكن لجمع منهم أن

يتضافروا على شي ء ليسقطوا حجّته عليهم، و يشفوا أنفسهم بالقليل ممّا أتوا به.

و لكنّ العجز لازمهم قديما و حديثا، حتّى شهدت الدّنيا في عصورها المترادفة، بأنّ القرآن لا يزال معجزا لقومه، و ذلك حجّة عليهم و على سواهم ستظلّ قائمة.

و سيظلّ كذلك كما تحدّث اللّه و قرّر سبحانه، أنّ الإنس و الجنّ عاجزون عن مضاهاته و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

و كما بلغ القرآن شأوه في الكمال في أسلوبه و موضوعاته، كان مبلغه من القوّة

______________________________

(1)- كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ، سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى.

نصوص في علوم القرآن، ص: 435

و الرّوعة في التّحدّي؛ إذ لم يستغرق التّحدّي سورة مطوّلة من سوره، و لم يكن في مقام فسيح من آياته، بل تحدّاهم في أربعة مواضع موجزة؛

الأوّل: في سورة الإسراء آية (88): قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً.

لم تكن هذه آخر آية نزلت من القرآن، حتّى يكون التّحدّي بالقرآن كلّه، فضلا عن كون السّورة مكّيّة، و التّحدّي بها كان في عنفوان الخصومة من قريش في مكّة، فيكون ظاهرا أنّ المراد من القرآن في هذا الأوان هو ما كان قد نزل و تسامعوا به لا كلّه.

فإذا لوحظ أنّ هذا التّحدّي مقصود منه التّحدّي بشي ء من جنس هذا القرآن الّذي ينزل، و بهذا القدر المحدود الّذي نزل، و أنّه كان موجّها إلى الإنس و الجنّ متعاونين في تضامن مفروض، تبيّن ما هنا من شموخ للقرآن، و استهانة بخصومه، و ازدراء بقولهم.

و تركهم أمام هذه السّخريّة الفاضحة لشأنهم.

الثّاني: في سورة هود عليه السّلام آية (13): أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ، تكون أشبه به في

خصائصه الّتي تسمعونها، و تدركونها بفطرتكم العربيّة.

و لكم أن تستعينوا في محاولتكم بمن يتاح لكم جمعه من خلق اللّه جميعا. و هو لم يشترط عليهم سورا طوالا تشبه بالقرآن، و حسبهم أن يأتوا بسور و لو من قصاره؛ لتصدق دعواهم أنّه من عمل محمّد.

و واضح أنّ التّحدّي هنا شديد؛ لأنّه اقتصد في العدد إلى عشر سور فقط، و لم يجعله متعلّقا بأكثر، و لأنّه أفسح مجال الاستعانة بكلّ مخلوق من إنس و جنّ و سواهما، و كان في الأوّل يتحدّى الإنس و الجنّ فقط.

الثّالث: في سورة يونس عليه السّلام آية (38): أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ .. و هذا أشدّ من سابقة؛ لأنّه نزل في العدد إلى سورة واحدة و لو قصيرة، و يترك لهم الفسحة في الاستعانة بمن يستطيعون كذلك من خلق اللّه جميعا، و لو من غير الإنس و الجنّ من عجماوات و جماد، ممّن لم يتعلّق بهم تكليف إن فرض ذلك.

نصوص في علوم القرآن، ص: 436

الرّابع: في سورة البقرة آية (23): وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. و كان هذا الأخير في المدينة، و فيه إيحاء بأنّ عجزهم دائم، فإنّهم لم يستطيعوا ذلك أيّام صولتهم في مكّة، فهل يطمعون في ذلك بعد أن وهنت قواهم، و ساورهم اليأس من مغالبة الدّعوة، و قد أصبح لها في المدينة أنصار أقوياء و أوفياء بالعهد للّه و لرسوله؟ و لئن كان في المدينة من يكذّب من أهل الكتاب و المنافقين، فإنّ التّحدّي يواجههم كذلك؛ إذ عجزت

قريش صاحبة اللّسان العربيّ الّذي نزل به القرآن، فهل يطمع في ذلك من دونهم لسانا و صلابة في العناد؟

ثمّ إنّ الإيحاء بالعجز الدّائم يجي ء صريحا في الآية ناعيا عليهم ما مضى، و مؤيسا لهم ممّا يأتي، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ «1»، أي لم تفعلوا من قبل، و لن تستطيعوا أن تفعلوا بعد فمصيركم إلى خلود في النّار.

و يلاحظ أنّ التّحدّي أوّلا كان على لسان محمّد صلّى اللّه عليه و سلم: قُلْ فَأْتُوا. أمّا في البقرة فإنّه من جانب اللّه تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا، فانظر إلى التّعبير مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فهذا غاية التّأييد لمحمّد و كتابه، و غاية التّحقير و الإقناط لأولئك:

و لن يفعلوا، و بهذا تمّت كلمة ربّك في التّحدّي، و صدق اللّه وعده.

و لقد اشتمل القرآن كذلك في سياقه العام للتّحدّي على كلمات قصار لم يفهمها أهل اللّغة و فحولها، و هي من صميم الحروف الّتي تدين لألسنتهم و بلاغتهم، و لديك أوائل السّور الم، طسم، حم و هكذا.

فلو كان القرآن من تعبير محمّد لكان فهم هذا المتشابه في مقدورهم، و لكنّهم عجزوا عن مجرّد الفهم، كما عجزوا عن الإتيان بشي ء مثله. و مع هذا كلّه يطلع علينا- و من بيننا- من يسفّه بأنّ القرآن من لفظ محمّد و تعبيره، و هو إرجاف أشبه بقول الكافرين: إنّ القرآن كلّه من وضع محمّد، أو يقول نفر منهم: إنّ محمّدا تعلّم القرآن من ذلك الصّانع اليهوديّ أو النّصرانيّ، الّذي كان محمّد في صباه يقف أحيانا لدى مصنعة؛ ليرى صناعته للسّلاح في

______________________________

(1)- البقرة/ 24.

نصوص في علوم القرآن، ص: 437

مكّة، و هي الشّبهة الّتي حكاها القرآن عن قولهم: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ثمّ نفاها اللّه تعالى:

لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ «1».

فإن يكن هذا من الكافرين تكذيبا صراحا لسماويّة القرآن، فقريب منه و أشبه به ذلك التّشكيك الّذي لا يلوكه لسان يتحرّج من الخطأ و الافتراء على اللّه و كتابه و رسوله.

شبهة رابعة

تعلّقت حكمة اللّه بالقرآن أن يكون بلسان عربيّ، و أن تكون الدّعوة به للنّاس كافّة.

و قديما تحدّث فريق من المعاندين لدعوة الإسلام، فقالوا: كيف تكون دعوة الإسلام عامّة، و تكون لغة القرآن عربيّة فقط، من أنّ في النّاس جماهير لا يعرفون لغته، و لا يمكنهم أن يعرفوا دعوة الإسلام إلّا إذا كان القرآن بلغة أعجميّة؟

و اللّه تعالى يدحض هذه الشّبهة، و يكشف لأولئك المعارضين ما يعلمه من خباياهم، فيقول سبحانه: وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ؟ يعني لو نزل القرآن بلغة أعجميّة لاعترض هؤلاء العرب المعترضون، و قالوا: ليته نزل بآيات مفصّلة على لغتنا لنستطيع فهمه حقّا. فالضّلالة عالقة بهم، سواء أ كان القرآن بلغته العربيّة كما جاء مفصّلا أم كان بلغة أعجميّة أخرى، كما يتعلّلون في إعراضهم عنه.

و هذا شأن يعلمه اللّه في خلقه المعاندين، و إن لم يعلموه عن أنفسهم، أو يعلمونه و يحاولون تجاهله و التّستّر بالمعاذير المكشوفة. فضلا عن أنّه لا يتأتّى في تنسيق الحكمة الإلهيّة، و لا يكون مستساغا عقلا، و لا ممكنا عادة، أن يكون الرّسول عربيّا و كتابه بلغة أعجميّة غير لغته و لغة قومه المبعوث فيهم أوّلا.

ثمّ لو جاز في تقدير اللّه أن يكون القرآن أو بعضه أعجميّا لكانت لهم محاولة جدليّة أخرى و هي قولهم: (أ

أعجميّ و عربيّ)، يعني أ يكون القرآن أعجميّ اللّغة و الرّسول المبعوث به عربيّا؟

و هذا فضلا عن استحالته، فإنّ مجرّد تصوّره و لو فرضا مخالف لسنن اللّه في رسالاته

______________________________

(1)- النّمل/ 103.

نصوص في علوم القرآن، ص: 438

الأولى، و لما تقضي به الفطرة من تمام التّجانس بين الرّسول و قومه؛ ليتوافر الألف، و ليكون الرّسول معروف المناقب فيهم أكثر ممّا لو كان غريبا عليهم. كما أنّ اللّه لم يجعل الملائكة رسلا إلى النّاس؛ لعدم التّجانس بين الجانبين.

فالمسألة من جانبهم مسألة معارضة، و ما كانت معارضتهم مقطوعة لو نزل القرآن أعجميّا، كما أعلمنا اللّه من شأنهم.

ثمّ ما هي اللّغة الأعجميّة الّتي كان يختارها اللّه للقرآن مفردة، أو مع العربيّة؟ اللّغات الأعجميّة لا حصر لها، و هي متباينة في مفاهيمها و ضوابطها، فأيّة لغة تكون أولى من سواها مع الاضطراب بينها جميعا؟

هذا تفنيد لما يدور، و هو متوقّع من أباطيلهم، أو من أباطيل غيرهم بعد، فالقرآن عربيّ، و حكمة اللّه لا تخضع لأمانيّ النّاس و تخيّلاتهم. و إنّما النّاس هم المأخوذون بالاقتناع، و الاطمئنان إلى الحقّ إن أرادوا بأنفسهم خيرا وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَ «1».

و عروبة القرآن في لفظه لا تمنع من بلوغ دعوته بأيّ لسان آخر، كما عاش النّاس على التّفاهم بالوسائط الأخرى في تجارتهم و تجاورهم، و في شئونهم الاجتماعيّة عامّة.

و لغة العرب ليست شرطا للدّخول في الإسلام، و قد دخلته أمم غير عربيّة دون أن تعوقها لغة، و بقيت و ستبقى لغة الكتاب واحدة؛ ليجمع النّاس تحت رايته في عقيدة واحدة، و لتكون وحدة اللّغة هاتفة بالمسلمين أن يتكتّلوا حول القرآن الّذي هو إمامهم جميعا، و منبع

حياتهم و عبادتهم دون تعريضه لهزات عنصريّة. و سنعرض لهذا التّوجيه عند الكلام على التّرجمة أخيرا.

و في الحقّ، أنّ هذه الشّبهات كان يتّخذها الحانقون على الإسلام معاول في هدمه أو الخدش من بنيانه الشّامخ الّذي يتصاعد يوما فيوما. و ما ندري سببا جدّيّا يحمل نفرا من المعاصرين المنتمين لهذا الدّين في عداد أهله، على إثارة هذه الشّبهات باسم البحث العلميّ. و ما هي- في اعتبارنا- إلّا محاولات يتقرّبون بها إلى جهات معادية لدين اللّه

______________________________

(1)- المؤمنون/ 71.

نصوص في علوم القرآن، ص: 439

الحقّ. و كأنّ في يدها من العطاء ما يرضي أصحاب الشّهوات و الأهواء على حساب القرآن.

و لكن يشاء ربّك أنّ كلّ بادرة من بوادر العداء للإسلام و كتابه و رسوله تكون في نهايتها وسيلة من وسائل الهزيمة على أصحابها، و تكون في حقيقتها سلاحا في أيدي المؤمنين يهدمون به باطل المبطلين. و ستظلّ راية الإسلام خفّاقة، و رسالته محرجة لصدور أعدائها، و سيدوم القرآن في سلطانه مزعجا لهم، و لو كانوا أصحاب قوّة ماديّة.

و حكمة اللّه قائمة على أنّ الباطل يخدم الحقّ عن غير قصد و لا رغبة، بل على النّقيض من رغبته و قصده، وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ «1».

و القرآن بعد ذلك كلّه في غير حاجة إلى تنويهنا عنه، أو الإشادة به، فقد تكفّل اللّه بصيانته و غلبته، و جعل قوته من ذاته و حقيقته، لا من دفاعنا عنه- و إن كان الدّفاع فرضا- و سيبقى القرآن شاهدا لنفسه بأنّه كتاب اللّه الحقّ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ «2».

تهافت النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم على نزول القرآن و على تلقّيه حين الوحي

1- كان النّبيّ (صلوات اللّه عليه و سلامه) يتشوّق كثيرا إلى

نزول القرآن في غير إمهال؛ لما يشوّقه من الصّلة بربّه، و من تجلّيات فضله على عبده، و لما يزداد به من علم و هداية، حتّى أنّ الوحي بعد نزوله بسورة العلق تريّث في النّزول مدّة استطالها النّبيّ، و خشي من طول انقطاعه، خصوصا أنّ قريشا شمتت فيه، و زعمت أنّ إله محمّد الّذي أوحى إليه قد هجره.

فكان لله تعالى توجيه لرسوله إزاء ما يخشاه من فترة الوحي، و ردّ على قريش في شماتتها؛ إذ أنزل اللّه على عبده سورة الضّحى يقسم اللّه فيها لرسوله بأنّ ربّه ما ودعه و لا

______________________________

(1)- الصّف/ 8.

(2)- فصّلت/ 42.

نصوص في علوم القرآن، ص: 440

هجره، و أنزل عليه في سورة أخرى أن يتأنى في انتظار الوحي، و لا يخشى تريّثه، لأنّ إنزاله منوط بحكمة اللّه في اختيار المناسبة و الزّمن و ما يشاء اللّه تنزيله من آيات، و غرس فيه الأمل بأنّ الوحي موصول إلى مداه، و كلّفه أن يدعو ربّه؛ ليزيده من العلم «1».

2- كذلك كان النّبيّ (عليه الصّلاة و السّلام) يحرص الحرص الشّديد على تلقّي الوحي بسرعة من جبريل حين يتلوه عليه، مخافة أن يفلت منه شي ء لا يعيه، أو ينساه إذا تريّث، أو ينسى ترتيبه في النّسق، خصوصا أنّه يعتمد على السّماع و الحفظ دون كتابة.

فعلّمه اللّه كذلك أن يظلّ مصغيا إلى نهاية جبريل من تبليغه ما يبلغه، و وعده اللّه أن يثبّته على الحفظ، و أنّه سيجمع له القرآن إلى بعضه دون تشتيت لشي ء منه، و أمره أن يقرأ بعد قراءة جبريل.

و وعده بجانب ذلك كلّه أن يبيّن له ما في الكتاب من أحكام و توجيهات «2»

و في التّوجيه إلى التّأنّي في انتظار الوحي، و في

التّلاوة بعد جبريل ملاءمة لما رسم اللّه في نزول القرآن على نجوم متفرّقة، لا دفعة واحدة، و لما رسم اللّه في تدرّج التّشريع رويدا رويدا.

فضلا عن تكفّل اللّه لرسوله بأنّه سيجمع له القرآن إلى بعضه، دون إجهاد لنفسه، ففي ذلك تعزيز لمقام الرّسول أمام خصومه، و تأييد له في كلّ ما هو بسبيله. و لعلّ في ذلك التّوجيه كلّه تعليما لنا أن نأخذ الأمر بالحكمة، و إلّا نتعجّل القدر في شئوننا.

هذا، و قد صدق اللّه وعده لرسوله فجمع له القرآن، و ثبّته على حفظه، و بيّن له أحكامه، و اللّه تعالى لا يخلف وعده. (ص: 21- 42)

______________________________

(1)- وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً طه: 114.

(2)- لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ القيامة: 16- 19.

نصوص في علوم القرآن، ص: 441

الفصل السّادس و الخمسون نصّ الأشيقر في «لمحات من تاريخ القرآن»

نزول القرآن

نزل القرآن الكريم على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله نجوما «منجّما» في مدّة (23) سنة؛ استنادا على بقاء و إقامة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله في مكّة قبل البعثة مدّة (13) سنة «1»، و إقامته بالمدينة (10) سنوات. و قيل نزل في أقلّ من ذلك، و في مدّة (22) سنة و (6) أشهر و (22) يوم «2» ... [إلى أن قال:]

أشرنا في مطلع هذا الفصل إلى أنّ القرآن نزل نجوما، أي متفرّقا و دفعة، فكيف يمكن يا ترى أن نوفّق بين ذلك القول و بين ما جاء بقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ «3»، و قوله سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ

الْقَدْرِ «4»؟

______________________________

(1)- و في هذا المعنى قال الشّاعر:

ثوى في قريش بضع عشرة حجّةيذكر لو يلقى صديقا مواتيا

(2)- «الإتقان في علوم القرآن»- جلال الدّين السّيوطيّ.

(3)- البقرة/ 185.

(4)- القدر/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 442

إنّ الجواب على هذا التّساؤل هو أنّ المقصود من الآيات الكريمة المتقدّمة الذّكر هو أنّ اللّه سبحانه كان قد أنزل القرآن جملة واحدة و في ليلة القدر من شهر رمضان المبارك، أنزله من اللّوح المحفوظ إلى بيت العزّة من السّماء الدّنيا، ثمّ نزلت الآيات من المكان الأخير تباعا و متفرّقة على صدر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و بحسب الحاجة و الطّلب و طيلة مدّة بعثته صلّى اللّه عليه و آله، و بالكيفيّة الّتي سنشير إليها في الأسطر التّالية.

قلنا آنفا و نكرّره هنا بإسهاب بأنّ القرآن الكريم لم ينزّل على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله من السّماء الدّنيا جملة واحدة و دفعة واحدة، لأنّه لو فرضنا جدلا أنّه نزّل على هذا الشّكل (جملة واحدة) لتحوّل عاجلا إلى كلمة مقدّسة ساكنة، و فكرة هادئة و مجرّد وثيقة دينيّة، و ليس مصدر و سبب لبعث الأمل و الحياة في الفكرة النّاشئة و الدّعوة الجديدة.

أجل، لم ينزّل القرآن جملة واحدة على صدر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و إنّما نزوله هذا كان متفرّقا و دفعة دفعة؛ لأسباب عديدة سنشير إليها بالتّعاقب، منها تسهيل حفظ القرآن، و ليكون أقرب للفهم و القبول، و كان نزوله نجوما حسب مقتضيات حوادث المجتمع الإسلاميّ، لذا سمّيت هذه الحوادث بأسباب النّزول «1»، نحو جواب على بعض الأسئلة و الاستفسارات الّتي يسأل عنها الرّسول الأمين، أو بيان لأنواع التّكاليف الدّينيّة، و الإخبار عن الحوادث و الأحداث السّابقة،

أو الإشعار عن المغيبات و الوقائع القادمة، مضاف إلى ذلك أنّ نزوله كان يراعى فيه الحاجات المتجدّدة، و وفق النّموّ المطّرد في الأفكار و التّصوّرات، و النّموّ المطّرد في المجتمع و الحياة، و وفق المشكلات العمليّة الّتي تواجهها الجماعة المسلمة في حياتها الواقعيّة. «2» فضلا عن أنّ نزوله بهذا الطّريق كان يبتغي منه العزاء العاجل لكلّ ألم أو مصيبة تلمّ بالرّسول و آله و أصحابه، و الجزاء لكلّ تضحية، و الأمل لكلّ هزيمة، و الدّرس لكلّ نصر، و الجهد لكلّ عقبة، و أسباب التّشجيع لكلّ خطر أو عقبة.

و نشير هنا إلى أنّ قليلا ما كانت تنزل الأحكام مبتدئة بغير سؤال من أحد المسلمين،

______________________________

(1)- تاريخ التّشريع الإسلاميّ- الشّيخ محمّد الخضريّ.

(2)- معالم في الطّريق- سيّد قطب.

نصوص في علوم القرآن، ص: 443

أمّا الأحكام الّتي أنزلت بدون حادث أو سؤال فهي آيات تقلّ كثيرا جدّا عمّا جاء إجابات على أسئلة متّصلة بأحداث معيّنة.

هذا و لو لا أنّ الحكمة الإلهيّة و الرّغبة الرّبانيّة آثرت نزول القرآن إلى الأرض منجّما بحسب الوقائع و المناسبات، لأهبطه اللّه على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله جملة واحدة كأغلب الكتب الدّينيّة المنزلة من قبل، و لكنّ اللّه تعالى اختص و ميّز القرآن عنها، فجعل له الحسنيين في إنزاله جملة واحدة إلى سماء الدّنيا، ثمّ إنزاله من الأخيرة إلى الأرض مفرّقا، و كلّ ذلك تشريفا و تكريما منه تعالى للمنزّل عليه و المنزّل به.

و يمكّننا بعد كلّ هذا من إجمال و حصر كافّة الأسباب الحقيقة في نزول القرآن منجّما على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله في نقاط معدودة؛ ليتاح للقرّاء حفظهما عند اللّزوم، و هذه الأسباب هي:

1- إنّ نزول القرآن منجّما هو من

أجل أن يقوى قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند محاجّة قومه و تحدّيهم بأن يأتوا بمثله؛ لأنّ الوحي إذا كان يتجدّد في كلّ حادثة و في كلّ واقعة كان أقوى و أثبت للقلب، و أشدّ عناية و رعاية بالمرسل إليه.

2- إنّ نزوله مفرّقا و شيئا فشيئا هو أقرب و أسهل للحفظ و الاستظهار و التّدوين فيما إذ أهبط جملة واحدة.

3- آثر اللّه سبحانه أن يكون هناك ناسخ و منسوخ، و لا يمكن أن يتصوّر وجود و حصول هذا الشّي ء بدون أن ينزّل القرآن متفرّقا.

4- تطلّبت الحكمة و أساليب الدّعوة بأن يكون من القرآن أجوبة لاستفسارات، و بيان لحوادث و وقائع، و إنكار على قول؛ ليكون أقرب للقبول و أبعث لليقين، و لا يكون ذلك إلّا إذا جاء القرآن دفعة دفعة، و أثر كلّ استفسار، و بعد كلّ قول و طلب.

5- إنّ في التّفريق رحمة و لطفا بالعباد، فلو نزل القرآن دفعة واحدة لثقلت عليهم التّكاليف و الأعباء، فتنفر لذلك قلوبهم، و ترفض نفوسهم عن قبول كافّة الأوامر و النّواهي في آن واحد و دفعة واحدة؛ لذا جاء التّشريع متدرّجا تبعا لنزول القرآن و هبوطه متفرّقا و نجوما.

نصوص في علوم القرآن، ص: 444

و بصدد عدد و كمّية الآيات الّتي كانت تنزل في كلّ دفعة على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله فالحقّ أنّها كانت تنزل نجوما الآية الواحدة و الاثنان و الأكثر، و تارة قد تنزل سورة بجملتها كما في سورة الفاتحة و المدّثّر و الأنعام، و الأخيرة يقال عنها: إنّها نزلت كلّها في مكّة دفعة واحدة، عدا ثلاث آيات منها نزلت في المدينة المنوّرة.

و القاعدة العامّة هنا بخصوص نزول السّور كاملة هو

أنّ كلّ سورة يتّحد موضوعها أو تتداعى موضوعاتها تداعيا كبيرا، و يستلزم فيها فسق معيّن، فيرجح أنّها نزلت جملة واحدة، بينما نجد أنّ السّور الّتي تختلف موضوعاتها و تتباعد و لا تتداعى، و لا تلتزم بآياتها نسق معيّن فيرجح نزولها منجّمة.

و سور القرآن بالنّظر إلى اختلاف عدد آياتها ثلاثة أقسام: «1»

1- قسم لم يختلف فيه إجمالا و لا تفصيلا.

2- قسم اختلف فيه تفصيلا لا إجمالا.

3- قسم اختلف فيه تفصيلا و إجمالا.

كما و قيل بصدد عدد و كمّيّة الآيات المنزلة أنّه صحّ نزول بعض آية على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله «2»، كما في قوله تعالى: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ «3»، و كذلك قوله: وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً «4»

و هكذا على التّرتيب المتقدّم كان نزول الآيات على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، حتّى كملت الشّريعة الغرّاء بتمام نزول القرآن.

و قد استعمل القرآن في أسلوبه و بيانه الحقيقة و المجاز، و العموم و الخصوص، و الإطلاق و التّقييد، و التّصريح و الكناية، و الإيجاز و الإسهاب، على نمط العرب في لغتهم، مع علوّه على اللّغة العربيّة بفنونه و بلاغته و علومه و قصصه. (ص: 43 و 49- 53)

______________________________

(1)- تاريخ القرآن- إبراهيم الأبياريّ.

(2)- مباحث في علوم القرآن- الدّكتور صبحي الصّالح.

(3)- النّساء/ 95.

(4)- التّوبة/ 28.

نصوص في علوم القرآن، ص: 445

الفصل السّابع و الخمسون نصّ الشّيخ خليل ياسين (م: 1405 ه) في «أضواء على متشابهات القرآن»

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ... البقرة/ 23

لما ذا قال نَزَّلْنا و لم يقل «انزلنا»؟

لأنّ المراد نزوله تدريجا و نجوما؛ لأنّهم كانوا يقولون: لو كان هذا من عند اللّه مخالفا لما يكون من عند النّاس، لم ينزّل هكذا نجوما، سورة بعد سورة و آيات بعد آيات؟

و الإنزال إنّما يكون جملة واحدة، و المقصود منه إنزاله عن مقرّه الأولي من اللّوح المحفوظ إلى سماء الدّنيا،

ثمّ نزّله على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله نجوما و دفعات و لذا قال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، معناه أنزلناه دفعة واحدة لا نجوما. (1: 31)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً الفرقان/ 32

هلّا أنزل القرآن الكريم جملة واحدة و دفعة واحدة كما أنزل التّوراة و الإنجيل و الزّبور؟

إذا كان الوحي يأتي متجدّدا في كلّ حادثة و كلّ أمر و كلّ مناسبة، كان ذلك أقوى لقلب الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و أزيد في بصيرته، و ذلك معنى قوله: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ. و أيضا

نصوص في علوم القرآن، ص: 446

فإنّ في القرآن النّاسخ و المنسوخ، و فيه ما هو جواب لمن سأله عن أمور، و فيه ما هو إنكار لما كان، و فيه ما هو حكاية شي ء جرى، فاقتضت الحكمة إنزاله متفرّقا.

كيف تقول نزل متفرّقا تبعا للظّروف و المناسبات، و آية إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ تكذّب ذلك، فإنّها يظهر منها أنّه نزل جملة واحدة؛ لأنّ الهاء في قوله: أَنْزَلْناهُ كناية عن القرآن؟

أنزل اللّه سبحانه القرآن جملة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر، و تسلّمته الكتبة من الملائكة في السّماء، ثمّ أخذ ينزّله جبرئيل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله نجوما و مدّة إنزاله نجوما ثلاث و عشرون سنة.

ما معنى قوله تعالى لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ، أ كان يخشى اللّه على قلب الرّسول صلّى اللّه عليه و آله أن يدخله الرّيب و الشّك، فأنزل القرآن متفرّقا ليزول ذلك عن قلبه؟

معنى ذلك لتزداد تثبيتا و اعتقادا، فإنّك تقول للرّجل الصّالح: أصلحك اللّه، و للمهتدي: هداك اللّه، أي زادك صلاحا و زادك هدى. (2: 67)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ .. الدّخان: 2
كيف أنزل القرآن الكريم؟

أنزل جملة واحدة من السّماء السّابعة إلى السّماء الدّنيا، و أمر السّفرة الكرام بانتساخه في ليلة القدر، و كان جبرئيل ينزّله على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله نجوما نجوما. (2: 200)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ القدر: 1

هذه الآية تدلّ على أنّ القرآن أنزل جملة واحدة، إلّا أنّ الآية (32) من سورة الفرقان وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً تدلّ على أنّه لم ينزل جملة واحدة.

يراجع كلامنا المفصّل حول الآية (32) من سورة الفرقان، [نقلناه آنفا].

نصوص في علوم القرآن، ص: 447

كيف كان ينزّل القرآن؟ و لما ذا أنزل في ليلة القدر دون غيرها؟

أنزل اللّه القرآن جملة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الرّابعة في ليلة القدر، ثمّ كان ينزّله جبرئيل إلى البيت المعمور على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله نجوما، و كانت مدّة إنزاله ثلاثا و عشرين سنة. و في الحديث الصّحيح أنّه نزل القرآن جملة واحدة إلى السّماء الرّابعة، ثمّ نزل في طوال ثلاث و عشرين سنة، و أنزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من شهر رمضان، و أنزلت التّوراة لستّ مضين من شهر رمضان، و أنزلت الزّبور لثماني عشرة خلون من شهر رمضان، و الإنجيل لثلاث عشرة منه، و أنزل القرآن ليلة ثلاث و عشرين منه. و إنّما أنزل في ليلة القدر، إظهارا لشأنها بإنزاله فيها، و إعلامه منه سبحانه بما لها عنده من مكانة، و للعاملين فيها من كرامة. (2: 330)

نصوص في علوم القرآن، ص: 448

الفصل الثّامن و الخمسون نصّ الدّكتور صبحيّ الصّالح (م: 1407 ه) في كتابه: «مباحث في علوم القرآن»

تنجيم القرآن و أسراره

لقد شاءت الحكمة الإلهيّة أن يظلّ الوحي متجاوبا مع الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم يعلّمه كلّ يوم شيئا جديدا، و يرشده و يهديه، و يثبّته و يزيده اطمئنانا، و متجاوبا مع الصّحابة يربّيهم و يصلح عاداتهم و يجيب عن وقائعهم، و لا يفاجئهم بتعاليمه و تشريعاته،

فكان مظهر هذا التّجاوب نزوله منجّما «بحسب الحاجة»؛ خمس آيات، و عشر آيات و أكثر و أقلّ «1». و

قد صحّ نزوله عشر آيات في قصّة الإفك «2» جملة، و صحّ نزوله عشر

______________________________

(1)- و يقتصر بعضهم- كما يفهم من الرّوايات شتّى- على نزول القرآن نجوما خمس آيات خمس آيات، لتيسير حفظه على المؤمنين في كلّ جيل، أخرج البيهقيّ عن خالد بن دينار، قال: قال لنا أبو العالية: تعلّموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم كان يأخذه من جبريل خمسا خمسا. و يقرب من هذا ما أخرجه ابن عساكر من طريق أبي نضرة. بل ينسب إلى عليّ (كرّم اللّه وجهه) أنّه كان يقول: «أنزل القرآن خمسا خمسا إلّا سورة الأنعام، و من حفظ خمسا خمسا لم ينسه». لكنّ السّيوطيّ يصف القول الأخير بضعف طريقه، و يرى أنّ معناه- إن صحّ- إلقاؤه إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم هذا القدر حتّى يحفظه، ثمّ يلقي إليه الباقي، لا إنزاله بهذا القدر خاصّة، النّبيّ. (الإتقان 1: 73)

(2)- هذه الآيات العشر في سورة النّور: 11- 21 و قصّة الإفك مشهورة في كتب السّيرة و التّفسير.

نصوص في علوم القرآن، ص: 449

آيات من أوّل المؤمنين «1» جملة، و صحّ نزول غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ «2» وحدها،- و هي بعض آية- و كذا قوله: وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً «3» إلى آخر الآية، نزلت بعد نزول أوّل الآية «4».

على هذا المنوال ظلّ القرآن ينزّل نجوما؛ ليقرأه النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم على مكث، و يقرأه الصّحابة شيئا بعد شي ء، يتدرّج مع الأحداث و الوقائع و المناسبات الفرديّة و الاجتماعيّة الّتي تعاقبت في حياة الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم خلال ثلاثة و عشرين عاما على الأصحّ، تبعا للقول بأنّ مدّة إقامته عليه السّلام في مكّة

بعد البعثة ثلاث عشرة سنة، أمّا إقامته بالمدينة فهي عشر سنين اتّفاقا، فعن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لأربعين سنة، فمكث بمكّة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثمّ أمر بالهجرة عشر سنين، و مات و هو ابن ثلاث و ستّين «5». و قدّر بعضهم مدّة نزول القرآن بعشرين سنة، و بعضهم بخمس و عشرين، و بنوا هذا على أنّ إقامته عليه السّلام بمكّة بعد البعثة كانت عشر سنين أو خمس عشرة سنة «6».

و قد بدء نزول القرآن- كما قال الشّعبيّ:- في ليلة القدر، ثمّ نزل بعد ذلك منجّما في أوقات مختلفة من سائر الأوقات «7». و الشّعبيّ يجمع في هذا الرّأي بين قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «8»، و قوله: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ «9»، و هو فهم سديد لا يتضارب مع إخبار اللّه بإنزال كتابه في ليلة مباركة، و في شهر رمضان؛ إذ يكون المراد أنّه تعالى ابتدأ إنزاله في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «10»، و وصف هذه اللّيلة بأنّها لَيْلَةِ الْقَدْرِ، و هي إحدى ليالي رمضان، كما في قوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ

______________________________

(1)- من أوّل قوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إلى قوله: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ المؤمنون: 1- 11.

(2)- النّساء: 95، و أوّل الآية: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

(3)- التّوبة: 28، و أوّل الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا.

(4)- الإتقان 1: 73.

(5)- صحيح البخاريّ 4: 57.

(6)- قارن بين «البرهان 1: 332» و «الإتقان 1: 68».

(7)- البرهان 1: 228.

(8)- القدر/ 1.

(9)-

الإسراء/ 106.

(10)- الدّخان/ 3.

نصوص في علوم القرآن، ص: 450

هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ «1»، ثمّ استمرّ نزوله نجوما بعد ذلك، متدرّجا مع الوقائع و الأحداث.

و لسنا نميل إلى الرّأي القائل: إنّ للقرآن تنزّلات ثلاثة؛ الأوّل: إلى اللّوح المحفوظ، و الثّاني: إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا، و الثّالث: تفريقه منجّما بحسب الحوادث، و إن كانت أسانيد هذا الرّأي كلّها صحيحة «2»؛ لأنّ هذه التّنزّلات المذكورة من عالم الغيب الّذي لا يؤخذ فيه إلّا بما تواتر يقينا في الكتاب و السّنّة، فصحّة الأسانيد في هذا القول لا تكفي وحدها لوجوب اعتقاده، فكيف و قد نطق القرآن بخلافه؟ إنّ كتاب اللّه لم يصرّح إلّا بتفريق الوحي و تنجيمه، و منه يفهم بوضوح أنّ هذا التّدرّج كان مثار اعتراض المشركين الّذين ألفوا أن تلقى القصيدة جملة واحدة، و سمع بعضهم من اليهود أنّ التّوراة نزلت جملة واحدة، فأخذوا يتساءلون عن نزول القرآن نجوما، و ودّوا لو ينزّل كلّه مرّة واحدة. و قد ذكر اللّه اعتراضهم في سورة الفرقان، و ردّ عليه: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «3»

على أنّ القائلين بتنزيلات القرآن الثّلاثّة لا يفوتهم- بعد بيان حكمة هذا التّعدّد في أماكن النّزول «4»- أن يشيروا إلى أسرار تنزّله الثّالث الأخير منجّما بحسب الوقائع. و هذه الأسرار قد بلغت من الوضوح حدّا لا تخفى معه على أحد، و لو لا أنّ الحكمة الإلهيّة ... [و ذكر كما تقدّم عن أبي شامة، ثمّ قال:].

______________________________

(1)- سورة البقرة/ 185.

(2)- انظر الإتقان 1: 68. و يظهر أنّ الجمهور كان يجنح إلى هذا الرّأي، فالزّركشيّ في البرهان (1: 229) يقول في هذا الرّأي: أنّه

أشهر و أصحّ، و إليه ذهب الأكثرون. و ابن حجر في «فتح الباريّ» يصفه بالرّأي «الصّحيح المعتمد». و نحن مع ذلك لم نأخذ به؛ لمخالفته صريح القرآن، كما أوضحناه أعلاه.

(3)- الفرقان/ 32- 33.

(4)- و خلاصة هذه الحكمة أنّ في تعدّد النّزول و أماكنه مبالغة في نفي الشّك عن القرآن، و زيادة للإيمان به و باعثا على الثّقة فيه؛ لأنّ الكلام إذا سجّل في سجلّات متعدّدة، و صحّت له وجودات كثيرة كان ذلك أنفى للرّيب عنه و أدعى إلى تسليم ثبوته، و أدنى إلى وفرة الإيمان به ممّا لو سجّل في سجل واحد أو كان له وجود واحد. الزّرقانيّ: مناهل العرفان (1: 39- 40).

نصوص في علوم القرآن، ص: 451

و يعنينا من أقوالهم تطلّعهم إلى أسرار التّدرّج في نزول القرآن، فقد أوشكوا عند بلوغ هذه النّاحية من البحث ألّا يتركوا مجالا لقائل بعدهم؛ إذ لاحظوا في التّدرّج الحكمتين اللّتين أشرنا إليهما، و هما تجاوب الوحي مع الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم، و تجاوبه مع المؤمنين، و إن كان تعبيرهم عن ذلك يختلف قليلا عن تعبيرنا.

و لتجاوب الوحي مع الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم صورتان؛ إحداهما: تثبيت فؤاده بما يتجدّد نزوله من القرآن بعد كلّ حادثة، و الثّانية: تيسير حفظ القرآن عليه. و قد أشار إلى الصّورة الأولى أبو شامة في قوله: فإن قيل: ما السّرّ في نزوله منجّما؟ .. [و ذكر كما تقدّم عنه، ثمّ قال:]

و لقد راع القرآن خيال العرب و أخذ أسماعهم بما فيه من أنباء الرّسل مع أقوامهم، تتكرّر بصور مختلفة، و أساليب متنوّعة، فتزداد حلاوة كلّما تكرّرت، و لا غرض لها في أكثر المواطن الّتي ذكرت فيها إلّا تثبيت قلب

الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم و قلوب المؤمنين. و نطق القرآن بذلك فقال: وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ «1»، ففي ذكر قصص الرّسل و تفريقه و تنويعه تقوية لقلب الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم و عزاء له على ما يلقاه من أذى قومه، و ما كان محمّد بدعا من الرّسل، فهم جميعا عذّبوا و كذبوا و اضطهدوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ «2».

و هكذا ما انفكّ القرآن يتجدّد نزوله مهوّنا على الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم الشّدائد، مسلّيا له مرّة بعد مرّة، محبّبا إليه التّأسّي بمن قبله من الرّسل، يأمره تارة بالصّبر أمرا صريحا فيقول: وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا «3»، و يقول: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «4».

و ينهاه تارة أخرى عن الحزن نهيا صريحا، كما في قوله: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ «5»،

______________________________

(1)- هود/ 120.

(2)- البقرة/ 214.

(3)- المزّمّل/ 10.

(4)- الأحقاف/ 35.

(5)- يس/ 75.

نصوص في علوم القرآن، ص: 452

و قوله: وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «1». و يعلّمه أحيانا أنّ الكافرين لا يجرحون شخصه في نفسه، و لا يتّهمونه بالكذب لذاته، و إنّما يعاندون الحقّ بغيا من عند أنفسهم؛ لأنّهم شرذمة من الجاحدين تكرّر في كلّ عصر و جيل، كما في قوله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ «2». و في تفسير هذه الآية يقول الحافظ ابن كثير: يقول تعالى مسلّيا لنبيّه صلّى اللّه عليه و سلم في تكذيب قومه له و مخالفتهم

إيّاه: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ، أي قد احطنا علما بتكذيبهم لك و حزنك و تأسّفك عليهم، كقوله تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ «3»، كما قال تعالى في الآية الأخرى: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «4»، فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً «5»، و قوله: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ، أي لا يتّهمونك بالكذب في نفس الأمر، وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي و لكنّهم يعاندون الحقّ و يدفعونه بصدورهم «6».

و تكرار نزول هذه الآيات المسلّية المعزّية المرشدة إلى الصّبر الجميل و الأسوة الحسنة، هو الحكمة المقصودة من إيراد أنباء الرّسل و قصّ قصصهم. و لو استمرّ اضطهاد المشركين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و انقطع عنه الوحي المثبّت لقلبه، فلم يتجدّد نزول الآيات المسلّية له، لشعر عليه السّلام بما يشعر به البشر في هذه الحالات من استيلاء الحزن على قلبه، و استبداد اليأس بنفسه، و اللّه لم ينهه عن الحزن و الحسرات و بخع النّفس و ضيق الصدر- كما رأينا- إلّا لأنّه بشر مثل سائر البشر، في طبيعته استعداد لجميع هذه الانفعالات النّفسيّة، و قد انتبه إلى هذا المعنى السّيد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ

______________________________

(1)- يونس/ 65. و قد ينهى اللّه رسوله عن الحزن على الكافرين؛ لجحودهم و عدم إيمانهم، فيقول له: وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ كما في سورة الحجر/ 88 و النّحل/ 126 و النّمل/ 72.

(2)- الأنعام/ 33.

(3)- فاطر/ 8.

(4)- الشّعراء/ 3.

(5)- الكهف/ 6.

(6)- ابن كثير 2: 129. و قد ذكر هذه العبارة السّيد رشيد رضا في تفسير المنار/ 7: 72 م.

نصوص في علوم

القرآن، ص: 453

رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا «1»، فقال: و الآية تسلية للرّسول صلّى اللّه عليه و سلم بعد تسلية، و إرشاد إلى سنّته تعالى في الرّسل و الأمم، أو هي تذكير بهذه السّنّة و ما تتضمّنه من حسن الأسوة؛ إذ لم تكن هذه الآية أوّل ما نزل في هذا المعنى. ثمّ زاد هذه الفكرة وضوحا بقوله: و لو لا أنّ دفع الأسى بالأسى من مقتضى الطّبع البشريّ لما ظهرت حكمة تكرار التّسلية بأمثال هذه الآية، فإنّ النّبي صلّى اللّه عليه و سلم كان يتلو القرآن في الصّلاة و لا سيّما صلاة اللّيل، فربّما يقرأ السّورة و لا يعود إليها إلّا بعد أيّام يفرغ فيها من قراءة ما نزل من سائر السّور، فاحتيج إلى تكرار تسليته و أمره بالصّبر المرّة بعد المرّة؛ لأنّ الحزن و الأسف اللّذين كانا يعرضان له صلّى اللّه عليه و سلم من شأنهما أن يتكرّرا بتكرّر سببهما و بتذكّره عند تلاوة الآيات الواردة في بيان حال الكفّار و محاجّتهم و إنذارهم «2».

و الصّورة الثّانية لتجاوب الوحي مع الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم هي- كما ذكرنا- تيسير حفظ القرآن عليه. و من العلماء من يرى أنّ «تثبيت فؤاده» المذكور في آية الفرقان السّابقة لا يراد منه إلّا جمع القرآن حفظا في قلبه، فإنّه عليه السّلام كان أمّيّا لا يقرأ و لا يكتب، ففرّق عليه لييسّر عليه حفظه، بخلاف غيره من الأنبياء، فإنّه كان كاتبا قارئا، فيمكنه حفظ الجميع إذا نزل جملة ... [ثمّ ذكر قول ابن فورك كما تقدّم عن الزّركشيّ، فقال:]

و أمّا تجاوب الوحي مع المؤمنين على عهد رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و سلم ففي القرآن منه صور متنوّعة، و ألوان متباينة، تلتقي كلّها عند غاية واحدة، و هي رعاية حال المخاطبين، و تلبية حاجاتهم في مجتمعهم الجديد الآخذ في الازدهار، و عدم مفاجأتهم بتشريعات و عادات و أخلاق لا عهد لهم بمثلها، و قد أشار إلى هذا مكّيّ «3» في «النّاسخ و المنسوخ»، حين لاحظ أنّ نزول القرآن أدعى إلى قبوله إذا نزل على التّدريج، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة، فإنّه كان ينفر من قبوله كثير من النّاس؛ لكثرة ما فيه من الفرائض و المناهي.

______________________________

(1)- سورة الأنعام/ 34.

(2)- تفسير المنار 7: 377- 378.

(3)- هو مكيّ بن أبي طالب حموش بن محمّد القيسيّ المقرئ، و أصله من القيروان، سكن قرطبة، كثير التّأليف في علوم القرآن و العربيّة. و توفّي سنة 437، ينسب إليه السّيوطيّ كتابا في «النّاسخ و المنسوخ». (م)

نصوص في علوم القرآن، ص: 454

و يوضّح ذلك ما أخرجه البخاريّ عن عائشة قالت: إنّما نزل أوّل ما نزل ... [و ذكر كما تقدّم عن السّيوطيّ، ثمّ قال:]

و ظاهر كلام عائشة في قولها هذا أنّها جمعت بين تحريم الخمر و تحريم الزّنى بالتّدريج، فيخيّل إلى السّامع أنّ تحريم الزّنى لم يتمّ إلّا على مراحل كالخمر، و ليس ذلك بصحيح و لا هو مراد بنت الصّديق، فإنّها كانت تعلم أنّ الزّنى حرّم دفعة واحدة، في خطوة واحدة جازمة بمثل قوله تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا «1»، و إنّما أرادت بيان أوائل ما نزل من القرآن، و أنّ تلك الأوائل ما كانت بمقتضى حكمة اللّه لتتناول الحلال و الحرام، بل تناولت أصول الإيمان باللّه و اليوم الآخر. فعدم تحريم الزّنى في

أوّل ما نزل من الوحي لا يعني أنّ هذا التّحريم تأخّر كثيرا؛ إذ وقع تحريمه في مكّة على كلّ حال، و هو لا يعني تدرّج هذا التّحريم على مراحل؛ إذ لم نعلم في كتاب اللّه و لا سنّة رسوله إثبات منفعة للزّنا إلى جانب إثمه الكبير كما علمناه في تحريم الخمر و الميسر، و لم نر لونا من الألوان الزّنى و السّفاح يقرّ في الإسلام بأيّة صورة، و إنّما الّذي عرفناه أنّ الإسلام أمضى أمره بتحريم الزّنى بأسلوب صارم و لهجة قاطعة، كما حرّم سائر الفواحش ما ظهر منها و ما بطن، و الإثم و البغي بغير الحقّ.

و ما من ريب في أنّ الإسلام فرّق بين الأعماق و السّطحيات في أنفس الأفراد و المجتمعات، فكلّ قضيّة عميقة الجذور في نفس الفرد اتّخذت شكل عادة شعوريّة، و كلّ قضيّة عميقة الجذور في نفس المجتمع اتّخذت شكل تقليد اجتماعي أو عرف دوليّ، فللإسلام فيها موقف المتمهّل المتريّث الّذي يؤمن بأنّ البطء مع التّنظيم خير من العجلة مع الفوضى.

و كلّ قضيّة سطحيّة تنزلق إلى نفس الفرد أو إلى نفس الجماعة فتفسد عليها فطرتها الزّكيّة النّقيّة، فهي جريمة في الحياة الإنسانيّة لا يجوز السّكوت عنها، فليقطع الإسلام فيها برأيه، و لتكن حدوده فيها غير قابلة للنّقاش، فما يناقش في أمر هذه الحدود إلّا

______________________________

(1)- الإسراء/ 32.

نصوص في علوم القرآن، ص: 455

الخارج على مقتضى الفطرة، المنسلخ من الكرامة الإنسانيّة «1».

و في ضوء هذه التّفرقة بين الأعماق و السّطحيات في الأنفس و الآفاق، و في الأفراد و المجتمعات، نظر الإسلام إلى القتل و السّرقة و الغصب و أكل أموال النّاس بالباطل و مختلف ضروب الغشّ في المعاملات نظرته إلى الزّنى، فحرّمها

مرّة واحدة تحريما قاطعا لا تساهل فيه. و إذا صحّ أنّ التّعبير عن تحريم أكثر هذه الأشياء إنّما ورد في الكتاب متأخّرا، و أنّ أكثرها وقع تحريمه في المدينة بعد هجرة الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم إليها، فلا يصحّ القول- على وجه الإطلاق و التّعميم- بتدرّج التّحريم على مراحل في هذه الشّئون، فكما حرّم اللّه الزّنى في لهجة قاطعة فقال: وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا «2» حرّم القتل في خطوة جازمة فقال: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً «3»، و حرّم السّرقة يوم قضت حكمته أن يعبّر عن تحريمها في أسلوب صارم فقال: وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ «4».

و بمثل هذه الصّرامة حرّم اغتصاب أموال النّاس بغير حقّ فقال: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ «5». و كلّ لون من ألوان الغشّ في المعاملات إنّما جاء تحريمه في الكتاب بهذه الصّيغ الجازمة، فإن لم يكن في الكتاب ففي السّنة المطهّرة.

و الإسلام مهما يبدو حريصا على تدرّج التّشريع و تنجيم النّوازل القرآنيّة لا يسمح قطّ بالخلط بين تأخير البيان لوقت الحاجة و بين تدرّج التّشريع، فلقد أخّر اللّه بيان أحكام كثيرة من حلال و حرام، و من أوامر و نواه، و لكنّه حين أراد بيانها أمضى أمره فيها مرّة واحدة، و لم يدع فيها للتّدريج مجالا، و علّم المؤمنين بهذا سرعة الاستجابة للأوامر

______________________________

(1)- قارن بضلال القرآن 2: 60- 61.

(2)- الإسراء/ 32.

(3)- النّساء/ 92.

(4)- المائدة/ 38.

(5)-

البقرة/ 188.

نصوص في علوم القرآن، ص: 456

الدّينيّة و أعدّهم به لتحمّل التّكاليف الشّرعيّة، ففي أوّل أمرهم كلّفهم بالصّلاة و الصّدقة و الصّيام، إلّا أنّ الصّلاة كانت في البداية صلاة مطلقة بالغداة و العشيّ، فما فرضت عليهم بعددها في اليوم و اللّيلة و ركعاتها و أشكالها إلّا قبل الهجرة بسنة. و عرف المسلمون في أوّل أمرهم أنواعا من الصّدقة و الصّيام، و لكن مقادير الزّكاة و شروط الصّيام لم تفرض إلّا بعد الهجرة بسنة، فهذا كلّه من مرانة الإسلام و يسره و سماحته، إذ قال اللّه: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «1»، و قال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «2»، فما يريد اللّه أن يشقّ على عباده و إنّما يأخذهم بالرّفق، و ينهاهم عن كثرة السّؤال، لئلّا يبدوا لهم ما يكرهون من جديد التّكاليف يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها «3».

و إذا سلك هذا كلّه في باب تأخير البيان لوقت الحاجة و لم يكن من التّدريج في شي ء، فإنّ انطباق هذا الحكم على السّطحيات المنزلقة إلى أنفس الأفراد أو إلى أنفس المجتمعات أولى و أجدر. و من هنا لم يدع داع إلى التّدرّج في تحريم الزّنى و لا القتل و لا السّرقة و لا أكل أموال النّاس بالباطل.

إنّما يكون التّدرّج في النّوازل القرآنيّة إذن في مثل الخمر و الميسر من العادات الشّعوريّة أو الأمراض النّفسيّة، و في مثل استرقاق الأسرى من التّقاليد الاجتماعيّة و الأعراف الدّوليّة.

و حسبنا- على سبيل المثال- أن نمرّ مرورا خاطفا بالتّحريم القرآنيّ المتدرّج للعادة الشّعوريّة الخطيرة المسمّاة

بإدمان المسكرات، فقد نزل في أمرها أوّل ما نزل قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما «4»، فوجّه أنظار السّكارى إلى أنّ الحرمة إنّما تقوم على غلبة الشّرّ، فمهما يكن في

______________________________

(1)- الحج/ 78.

(2)- البقرة/ 185.

(3)- المائدة/ 101. و قارن بأسباب النّزول للواحديّ: 157.

(4)- البقرة/ 219. و انظر في تفسير المنار 2: 219 و 49، الحكمة في تحريم الخمر على مراحل.

نصوص في علوم القرآن، ص: 457

الخمر من منافع اقتصاديّة في المتاجرة بها، و من منافع ظاهريّة في حمرة الخدّ الّتي توهم الصّحة الحسنة، و من منافع اجتماعيّة فيما تدفع إليه من السّخاء و الجود في حالة السّكر و العربدة، أو من الشّجاعة الّتي تبلغ أحيانا حدّ التّهوّر في ساحة الحرب، فإنّ إثمها أكبر من نفعها، فتلك علّة كافية لتحريمها. فكانت الخطوة الأولى تحريكا للمنطق التّشريعيّ في نفوس المسلمين، ثمّ تبعتها الخطوة الثّانية بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ «1». فضيّق عليهم الفرصة لمزاولة السّكر؛ لأنّ الصّلوات الخمس كانت قد شرّعت في أوقات متقاربة لا يكفي ما بينها للإفاقة من نشوة الخمر، حتّى إذا أصبحت فرص السّكر نادرة بطبيعة الحال حرّم اللّه عليهم الخمر في لهجة قاطعة جازمة فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «2»، فقالوا: انتهينا، و انتهوا حقيقة، و أصبحوا ينتظرون حدود اللّه في

شارب الخمر، و يخجلون أن يصل الأمر بأحد المسلمين إلى أن تقام عليه هذه الحدود.

و هكذا تدرّج الوحي مع النّبيّ يربّيه و يعلّمه و يهديه حتّى «كان خلقه القرآن» كما تقول عائشة أمّ المؤمنين، و تدرّج في تربية المؤمنين، فلم يزيّن قلوبهم بحلية الإيمان الصّادق، و العبادة الخالصة، و الخلق السّمح، إلّا بعد أن مهّد لذلك بتقبيح تقاليدهم الباطلة و عقائدهم الفاسدة شيئا فشيئا، و ساعدهم نزوله المنجّم على حفظ آياته في الصّدور، كما قوّى من عزائمهم في الشّدائد، فكان دستور حياتهم علما و عملا، و كان المدرسة الصّالحة الّتي جعلت منهم رجالا و أبطالا. و لعلّ ابن عبّاس في قوله: نزّله جبريل بجواب كلام العباد و أعمالهم «3»، عند تفسير قوله تعالى: وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ «4»، إنّما كان

______________________________

(1)- سورة النّساء/ 42.

(2)- المائدة/ 91.

(3)- أخرجه الطّبرانيّ و البزار من وجه، و ابن أبي حاتم من وجه آخر. انظر الإتقان 1: 18 و 1: 71.

(4)- الفرقان/ 33.

نصوص في علوم القرآن، ص: 458

يومئ إلى هذا النّوع من التّربية السّامية الّتي أتاحها للمؤمنين نزول كتابهم منجّما بحسب الحاجة، متدرّجا مع الوقائع و الأحداث.

أراد القرآن مثلا- على الصّعيد التّربويّ- أن يحطّم العصبيّة الجاهليّة الرّعناء، و أن يستبدل التّقوى بتفاخرها بالآباء، فمهّد لذلك برفع العبيد الأرقّاء إلى مقام السّادة الأحرار، إنّ بلالا الحبشيّ الأسود ليرقى ظهر الكعبة، و يؤذّن يوم الفتح، فيقول المشركون مستنكرين: أ هذا العبد الأسود يؤذّن على ظهر الكعبة؟ فتنزل على قلب النّبيّ آية تضع الموازين القسط للأشخاص و القيم و الأشياء: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ «1»

و على الصّعيد الاجتماعيّ أراد الإسلام أن يحفظ على هذه الأمّة اعتدالها و توازنها، و أن يجعلها وسطا في عقائدها و أخلاقها و عباداتها و معاملاتها، فمهّد لذلك بتصحيح مقاييسها و دعوتها إلى ما يحييها. فلمّا اتّفقت جماعة من الصّحابة على أن يجبّوا أنفسهم، و يعتزلوا النّساء، و لا يأكلوا لحما و لا دسما، و يلبسوا المسوخ، و لا يأكلوا من الطّعام إلّا قوتا، و يسيحوا في الأرض كهيئة الرّهبان أنزل اللّه لتقويم هذا الانحراف عن دواعي الفطرة قوله الكريم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ «2». و من عجائب الإيحاء التّعبيريّ في القرآن أنّ انحراف أولئك الصّحابة شبّه في الآية بالاعتداء و العدوان!.

أمّا الصّعيد النّفسيّ فيكاد القرآن فيه يخاطب كلّ نفس على حدة، متناولا بنظرته الشّاملة أسرارها كلّها و خفاياها، و إنّما نجتزئ هنا بتنزّل قرآنيّ واحد على سبيل المثال، لقد كلّف اللّه الصّحابة الأوّلين ضروب المشقّات و ألوانها فتحمّلوها مختارين، و لكنّه في آية واحدة حمّل عليهم إصرا كبيرا، و حمّلهم ما لا طاقة لهم به، حتّى جثوا على ركبهم دهشة و ذهولا، حين أنزل قوله الكريم: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ

______________________________

(1)- الحجرات/ 13. و قارن بأسباب النّزول للسّيوطيّ/ 122.

(2)- المائدة/ 87- 88. و قارن بأسباب النّزول: 57.

نصوص في علوم القرآن، ص: 459

اللَّهُ «1». فعجبوا كيف يحاسبهم اللّه على ما همّت به أنفسهم و لم يعملوه، و أتوا رسول اللّه يقولون: قد أنزل اللّه عليك هذه الآية و لا نطيقها. و إذا الوحي يتنزّل بالتّخفيف و التّيسير، و يعلن مبدأه

السّمح الصّريح: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ «2».

و بعد، لئن كان تصوير الوحي لشخص الرّسول دليلا وجدانيّا على صدقه عليه السّلام، لعمري إنّه في تدرّج نزوله برهان منطقيّ دامغ على أنّ هذا الكتاب المجيد كلام اللّه العليم الحكيم، أنزله على رسوله هدى و موعظة و تبيانا لكلّ شي ء. (ص: 49- 62)

______________________________

(1)- البقرة/ 284.

(2)- البقرة/ 286. و قارن بأسباب النّزول: 26. و قد ظنّ السّيوطيّ هنا أنّ هذه الآية نسخت الآية السّابقة. و إنّما نمدّ هذا ضربا من تزيّد العلماء في باب النّسخ. و سنوضّح في فصل «النّاسخ و المنسوخ» بعض ما أقحمه المفسّرون فيه.

نصوص في علوم القرآن، ص: 460

الفصل التّاسع و الخمسون نصّ الدّكتور حجازيّ (ت: 1338 ه) في كتابه: «الوحدة الموضوعيّة»

للقرآن الكريم تنزّلات ثلاثة

(أ) مسجّل في اللّوح المحفوظ.

(ب) أنزل إلى السّماء الدّنيا في ليلة مباركة من ليالي شهر رمضان.

(ج) أنزل منجّما على النّبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و سلم في ثلاث و عشرين سنة.

اقتضت حكمة اللّه جلّ جلاله أن يكون لهذا الوجود سجلّ عامّ يسجّل فيه كلّ ما كان و ما سيكون، و القرآن المجيد و هو دستور الشّريعة المحمّديّة شريعة الحقّ و العدل، الشّريعة الخالدة الصّالحة لكلّ زمان و مكان، و هو مصدّق لكلّ كتاب، و بيان لكلّ تنزيل أولى بأن يسجّل في هذا السّجلّ.

و يدلّنا على ذلك قول الحقّ تبارك و تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «1».

على أنّ اللّوح المحفوظ نؤمن به كما أخبر الحقّ، و ليس علينا أن نبحث أين هو؟ و لا متى كتب فيه، و لا كيف سجّل؟ و لا بأيّ لغة كان؟ فذلك من أسرار الغيب الّتي لم يطّلعنا اللّه

______________________________

(1)- البروج/ 22.

نصوص في علوم القرآن، ص: 461

عليها، و ستظلّ كذلك

في أستار الغيب.

و يعجبني قول أبي حيّان في تفسير قوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ: اللّوح المحفوظ هو الّذي فيه جميع الأشياء. و قول الآلوسيّ في هذا الموضع:

و نحن نؤمن به، و لا يلزمنا البحث عن ماهيّته و كيفيّة كتابته و نحو ذلك و ممّن ذهب مذهب التّأويل في ذلك بعض العلماء في تفسيره اللّوح المحفوظ بأنّه لوح الوجود و الحقّ. و لكنّ الأولى عدم التّأويل، و تفويض علم ذلك للّه. و الظّاهر أنّ القرآن أثبت في اللّوح المحفوظ جملة واحدة، و لم يكن مفرّقا حيث لا داعي إلى ذلك. تلك هي المرحلة الأولى، و يلاحظ أنّه لم يستخدم فيها كلمة (النّزول) أصلا.

المرحلة الثّانية: أو النّزول الثّاني «1»: من الحقّ أنّ ما ليس في دائرة علمنا، و ما لا يقع

______________________________

(1)- بحث نزول القرآن في اللّغة: من مفردات الرّاغب الأصبهانيّ. النّزول في الأصل هو انحطاط من علوّ؛ يقال: نزل عن دابّته، و نزل في المكان: حطّ رحله فيه، و أنزله غيره، و نزل بكذا، و أنزله بمعنى. و عليه أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ الكهف/ 1، وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ الحديد/ 25، وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ الحديد 25، وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ الزّمر/ 6، و الفرق بين الإنزال و التّنزيل بالنّسبة للقرآن أنّ التّنزيل يختصّ بالموضع الّذي يشير إليه إنزاله مفرّقا مرّة بعد أخرى، و الإنزال عامّ، و عليه قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ الحجر/ 9، وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا الإسراء/ 106، وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ الشّعراء/ 198.

و حكى اللّه عن المنافقين: لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ محمّد/

20، ذكر في الأولى نزّل و في الثّانية أنزل؛ تنبيها إلى أنّ المنافقين يقترحون أن ينزّل شيئا فشيئا من الحثّ على القتال ليتولّوه، و إذا أمروا بذلك مرّة واحدة تحاشوا منه، و عليه جاء قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ الدّخان/ 3، إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ القدر 1؛ لأنّه نزل جملة واحدة إلى سماء الدّنيا، و النّزول بمعنى الهبوط من علوّ إلى أسفل، و الانتقال من مكان إلى مكان، لا يتأتّيان في جانب القرآن؛ لأنّهما يستلزمان الحركة و الجسميّة، و القرآن ليس كذلك؛ إذ هو بالمعنى الشّرعيّ العامّ يطلق على الكلام المعجز المنزّل على النّبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و سلم، و هو في عرف المتكلّمين يطلق على الصّفة القديمة، باعتبار تعلّقها بالكلمات النّفسيّة القديمة من أوّل سورة الحمد إلى آخر سورة النّاس، و يطلق على تلك الكلمات أيضا. و ليس شي ء من هذه المعاني يجسّم حتّى يهبط من أعلى إلى أسفل، أو ينتقل من مكان و يحلّ في آخر، لذلك كان وصف القرآن بالنّزول وصفا مجازيّا باعتبار المعاني:

(أ) هو الصّفة القديمة باعتبار تعلّقها بالكلام النّفسيّ.

(ب) هو الكلام النّفسيّ القديم. فالمراد بالإنزال إيجاد ما يدلّ عليه، و إن أريد به الألفاظ المنزلة فإنزاله هو الإيصال و الإعلام، و نزوله وصوله و العلم به، فإنّ من أنزل شيئا إلى مكان فقد أوصله إليه و أعلم به كلّ من يراه.

نصوص في علوم القرآن، ص: 462

تحت حسّنا من الأمور الدّينيّة، إنّما نستقي معلوماتنا من مصدرين لا ثالث لهما: الكتاب و السّنّة. أمّا الاستنباط أو القياس أو استخدام الفروض و الظّنون فتلك من باب الحدس و التّخمين، و ضرب من قصور العقل و التّفكير. و مسألتنا هذه

و هي نزول القرآن إلى سماء الدّنيا في بيت العزّة ترى ما ذا قال عنها القرآن؟ و ما ذا قالت السّنّة الصّحيحة؟

يقول اللّه تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «1».

يقول اللّه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ «2».

يقول اللّه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ «3»

هذه الآيات الثّلاث- كما هو أساس بحثنا الموضعي في القرآن- تفيد معنى: أنّ اللّه جلّ جلاله أنزل القرآن في ليلة مباركة هي ليلة القدر الّتي هي خير من ألف شهر، و هي إحدى ليالي رمضان. و لقد صرّح القرآن الكريم بأنّه أنزل في تلك اللّيلة المباركة من رمضان. فالأقرب إلى الصّواب أن نفهم أنّه كلّه أنزل جملة واحدة في هذه اللّيلة، و هذا هو الرّأي الصّحيح السّليم. و يرى بعضهم خروجا من تصادم حقيقة نزول القرآن منجّما مع هذه الآيات، فيؤوّل أنّه بدى نزوله في تلك اللّيلة، ثمّ تتابع نزوله في ثلاث و عشرين سنة.

و يرى فريق ثالث أنّه كان ينزل جملة، أي ما خصّص من القرآن في السّنة ينزل في ليلة القدر منها. أ ليس هذا تعسّفا و تأويلا و ارتكاب شطط؟ و لما ذا؟ اللّه يقول: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فكيف نقول ابتدأ نزوله، أي نزلت آية منه- على الرّأي الثّاني- في تلك اللّيلة المباركة. و كيف نقول: لم ينزل بعضه في ليلة قدر واحدة، بل في كلّ ليلة من ليالي القدر في مدّة ثلاث و عشرين سنة؟ الحقّ أحقّ بالاتّباع، و الرّأي الأوّل هو السّديد، و أنا أرجع عمّا كتبته في التّفسير الواضح، فإنّي كنت أرجّح الرّأي الثّاني، هدانا اللّه إلى

الصّواب دائما. [ثمّ ذكر روايتي ابن عبّاس نقلا عن الحاكم و النّسائيّ كما تقدّم عن السّيوطيّ، فقال:]

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- الدّخان/ 3.

(3)- القدر/ 1- 2.

نصوص في علوم القرآن، ص: 463

و لقد أيّد الرّأي الأوّل العلّامة الزّركشيّ بعد أن ذكر الرّأيين الأخيرين، و كذلك فعل السّيوطيّ في الإتقان، و أيّد الرّأي الأوّل بهاتين الرّوايتين و زاد رواية أخرى عن ابن عبّاس.

و الحقّ أنّ ذلك سرّ من أسرار الغيب، و إن جاز لنا أن نفهم شيئا فإنّا نقول: مسألة الاحتفاء به، و العناية بشأنه، و يتّبع ذلك تفخيم المنزل عليه و تكريمه، أو أنّ للملائكة الّذين هم سكّان السّماء الدّنيا مصلحة، أو للرّسول عليه السّلام مصلحة في توقّع الوحي من أقرب الجهات، أو كان فيه مصلحة لجبريل عليه السّلام، ذلك كلام لا يشفي الغليل و إنّني أرى أنّ المسألة أعلى من ذلك كلّه و أدقّ، فإنّا قد قلنا: إنّ هناك سرّا يعجز عن تحقيقه قوى البشر جميعا، هذه السّر يدور حول ترتيب القرآن في النّزول، و ترتيبه في المصحف، ثمّ ظهور الدّقّة الكاملة و الأحكام الإلهيّ الواسع في النّزول و ترتيب المصحف.

أظنّ أنّ نزول القرآن جملة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى سماء الدّنيا؛ حيث ينظره جبريل و هو على ترتيب المصحف، ثمّ يتنزّل بآياته تباعا على حسب الحوادث، فتوضع كلّ آية في مكانها لا تختلّ أبدا قيد شعرة، فكأنّ جبريل ينقل من سجلّ ثابت، بيّن فيه كلّ شي ء. و أظنّ هذا من باب تقريب الفهم للبشر، و تحقيق ما أراد اللّه لهذا القرآن من الضّخامة و الإعجاز حتّى في كتابته في المصحف، فكان نزوله إلى سماء الدّنيا جملة. قلت قبل هذا:

إن هذا سرّ، و إنّما نحن نطوف

حوله، و اللّه يهدي من يشاء إلى صراطه، و هو أعلم بكتابه.

هل نزل القرآن على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بلفظه و معناه؟

نزول القرآن على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بواسطة جبريل الرّوح الأمين ثبت بالتّواتر الّذي لا يقبل شكّا و لا جدلا، اللّهمّ إلّا ممّن ألغيت عقولهم و ضلّ رشدهم، و هؤلاء لا حساب لهم. و لكن هل نزل جبريل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم باللّفظ و المعنى من عند اللّه، أو بالمعنى فقط و اللّفظ من عنده، أو من عند النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم؟

كما قلت: يجب أن نضع أمام أعيننا قبل الحكم دعائم البحث من الكتاب و السّنّة، و لقد جاء القرآن في هذا بقوله تعالى: وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا

نصوص في علوم القرآن، ص: 464

يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً «1»

وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها «2»

وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ «3»

فهذه الآيات الثّلاث تفيد كلّها أنّ القرآن و آياته شي ء يقرأ و يسمع و يتلى، و لا شكّ أنّ هذه أغراض الألفاظ لا المعاني، فإنّ ما يسمع و يتلى و يقرأ إنّما هو اللّفظ لا المعنى و قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ «4» إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «5» و الكتاب الّذي يكتب هو اللّفظ، و المقروء العربيّ هو اللّفظ. و قال تعالى: وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ «6».

فدلّت هذه النّصوص كلّها على أنّ القرآن يتلى و يسمع و يكتب و هو بلسان عربيّ مبين، ثمّ هذا كلّه إنّما يتلقّى مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ.

أظنّ بعد هذه النّصوص لا يمكن

أن تقول: إنّ القرآن نزل من عند اللّه بالمعنى فقط، و أمّا اللّفظ فمن جبريل أو من محمّد صلّى اللّه عليه و سلم و من العجيب أنّ الإمام الزّركشيّ حكى القولين الآخرين، و بيّن أنّ الرّأي الأوّل قائل بأنّ التّنزيل نزل باللّفظ و المعنى، و أنّه حفظه من اللّوح المحفوظ، و نزل به أو هو تلقّاه مشافهة من اللّه أو تلقّاه كذلك من بيت العزّة، و هو الرّاجح عندي كما قلنا. و لقد ذكر كذلك السّيوطيّ، إلّا أنّه لم يرجّح و لم يبيّن أنّ الرّأيين الآخرين خطأ، و إذا كان كذلك فما خطأهما؟

بعد نقل الآيات السّابقة الدّالّة صراحة على أنّ القرآن نزل باللّفظ و المعنى لا يمكن أن نقول إلّا بالتّناقض بين هذا الرّأي و بين تلك النّصوص القرآنيّة. و إذا قلنا بما قالوا فكيف تتحقّق المعجزة و هي الأمر الخارق للعادة، و كانت من أحسن صنع اللّه؟ الآن وقفنا على

______________________________

(1)- الإسراء/ 47.

(2)- الجاثية/ 7- 8.

(3)- البراءة/ 6.

(4)- الكهف/ 1.

(5)- يوسف/ 2.

(6)- النّمل/ 6.

نصوص في علوم القرآن، ص: 465

خطأهما، و لكن أ ليس لهما سند أم أنّ هذا كلام بلا سند؟

أمّا من يقول: إنّ المعنى من اللّه، و اللّفظ من عند جبريل، فلا سند له، و إنّما هو هوس و تخريف، و كان يجب على أئمّة علوم القرآن كالزّركشيّ و السّيوطيّ ألّا يذكرا هذا الرّأي، و إن ذكرا لا بدّ من التّعقيب عليه بما يدحضه حتّى لا يغترّ بذكره أحد. أمّا من يقول: إنّ اللّفظ من عند محمّد، فيستدلّ على كلامه بقوله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «1».

فالقرآن نزل على قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و

سلم، و ما ينزل على القلب إنّما هو معنى لا اللّفظ، و على ذلك فالمعنى من اللّه و اللّفظ من عند محمّد. و الّذي دفعهم إلى ذلك أنّه لم يستطع أن يفهم كيف نزل اللّفظ على قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، و لكن أ لا يعلم أنّ السّفير ملك؟ و أنّ المنزل عليه قلب النّبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و سلم؟

و اللّه أعلم حيث يجعل رسالته، فهذا المحيط الّذي فيه عمل الملائكة الأبرار مع قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و هو سيّد الأخيار يجب أن نقف عند ذلك و نؤمن بما قال القرآن.

فهذه بعض مظاهر العلم عندنا اليوم: الحديث بالرّادار، و بالتّلفزيون، لا يعرفه إلّا المتخصّصون الدّارسون و هو خاف على غيرهم. على أنّ العقل المجرّد لا يحيل هذا اللّون من تلقّي القلب للّفظ و المعنى.

و هناك آية أخرى ترفع عنّا هذا الحرج، هي قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ «2»، أي إنّ علينا جمعه في قلبك و قراءته على لسانك، جمع القرآن في القلب، و القرآن هو اللّفظ و المعنى، ثمّ تقرأه بعد ذلك بلسانك على أنّ نفس الآية الّتي استدلّوا بها لا تشهد لهم، فإنّ قوله تعالى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ متعلّق ب (نزل)، و قدّم عليها لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ للاهتمام بهذا التّعليم، و إلّا لو جعلنا قوله بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ متعلّقا بقوله الْمُنْذِرِينَ لكان المعنى لتكون من المنذرين الّذين أنذروا بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ كهود و صالح

______________________________

(1)- الشّعراء/ 193- 195.

(2)- القيامة/ 16- 19.

نصوص في علوم القرآن، ص: 466

معي في أنّ الآية أوسع من هذا

بكثير على أنّ الآلوسيّ في تفسيره عند ما ذكر هذا الرّأي تعلّق قوله: بِلِسانٍ بقوله الْمُنْذِرِينَ؛ قال: إنّه غير سديد. و تعقّب بأنّه يؤدّي إلى أنّ غاية الإنذار كونه عليه السّلام من جملة المنذرين باللّغة العربيّة فقط من هود و صالح و شعيب، و لا يخفى فساد هذا الرّأي.

على أنّ هناك آية لنا هي قوله تعالى: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ «1».

فقد ردّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم أنّه لا يملك فيه تغييرا كلّيّا و لا جزئيّا، أمّا التّغيير الكلّيّ فظاهر لم يرد عليه، و أمّا التّغيير الجزئيّ فقال عنه: أنّه لا يملك فيه تبديلا و لا تعديلا، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ ... فهذا دليل صريح على أنّ اللّفظ موحى به من عند اللّه، و لا يملك فيه النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم تغييرا و لا تبديلا.

السّرّ في نزول القرآن منجّما

نزل القرآن الكريم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في بضع و عشرين سنة، و كان هذا التّفريق في النّزول و التّنجيم على دفعات لحكم و أسرار إلهيّة؛

1- الحكمة الأولى: تثبيت قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم ليتحمّل ثقل الدّعوة و أعباء الرّسالة، و لقد صرّح بهذا القرآن الكريم، حيث قال: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «2». أمّا مظاهر هذا التّثبيت فكان في:

(أ) إنّ لقاء الحبيب المصطفى مع الرّوح الأمين كلّما ادلهمّ الأمر، أو نزل الخطب ممّا يثلج النّفس، و يشرح

الصّدر، و يقوّي العزم، و يجدّد الأمل، كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ.

(ب) و في التّنجيم و التّفريق ما يساعد على الحفظ، و يعين على الإدراك و الفهم، و يعمّق في نفس النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و صحبه الألفاظ مصحوبة بمعانيها مشروحة بأحداثها، و لا شكّ أنّ هذا ممّا يثبّت فؤاد النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و المسلمين، فتنقش في قلوبهم الآيات و أحداثها و أبعادها.

______________________________

(1)- يونس/ 15.

(2)- الفرقان/ 32.

نصوص في علوم القرآن، ص: 467

(ج) إنّ هذا اللّقاء، لقاء الرّوح الأمين جبريل بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلم حاملا القرآن الكريم، المعجزة الباقية الدّالّة على صدق الرّسول على دفعات و نجوم ممّا يقوّي القلب و يدعم الحقّ، و يشدّ الأزر.

(د) و كثرة النّزول بدفعات التّحدّي و الإعجاز، ثمّ ظهور العجز و القصور ممّا يجدّد اللّذّة، و يبعث الهمّة، و ينكي الأعداء، و يردّ كيدهم في نحورهم المرّة بعد المرّة.

(ه) و كأنّ جبريل واقف بالمرصاد يشرع سهم القرآن في صدور المشركين، كلّما جمعوا أمرهم، و ألقوا سؤالهم، أو أظهروا عنتهم أو أفتنوا في ضرب الأمثال للّدد و الخصام، فيقولون: يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها «1»، و كلّما جئنا بمثل جاءنا بردّه و تفسيره، و هكذا كانوا مع النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم كلّما تحزّبوا ضدّه و أجمعوا أمرهم لكيده أتتهم الصّاعقة تلو الصّاعقة، ممّا جعلهم يجعلون أصابعهم في آذانهم.

و أمّا النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم فيرى أنّ اللّه ما ودّعه و ما قلاه، فهو إذن بلا شكّ يقبل على عمله ثابتا ثبوت الجبال أمام العواصف الهوج؛ مقتديا بإخوانه من الأنبياء و الرّسل في قصصهم،

و في وعد القرآن بالنّصر لأوليائه، و وعيده بهزيمة الشّرك و أنصاره و لقد صدق اللّه وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً «2»

2- الحكمة الثّانية: تعهّد هذه الأمّة الّتي أنزل عليها القرآن و تربيتها تربية سليمة صحيحة، و قد ترجم عنها القرآن، فقال وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «3». أمّا مظاهر تلك الحكمة و هذه العناية و التّربية فتظهر في:

(أ) تيسير حفظه: فهم أمّة أمّيّة، أساليب الكتابة فيها و التّدوين غير ميسّرة، لم تكن بمعنى الكلمة إلّا بعد الإسلام. و لهذا اعتمدت على الذّاكرة القويّة و الحفظ السّريع، و هم مع ذلك قوم تشغلهم الحروب و أمور المعيشة في السّلم، و هم بعد الإسلام قد شغلوا بالمحافظة على الدّعوة الجديدة، و تثبيت أركان الدّين، فكانت حروب و منازعات

______________________________

(1)- الكهف/ 49.

(2)- الفرقان/ 33.

(3)- الإسراء/ 106.

نصوص في علوم القرآن، ص: 468

للدّفاع عن عقيدتهم الجديدة.

فأنت تراهم قوما أمّيّين مشغولين في السّلم و الحرب، فكانت العناية الإلهيّة ترعاهم و تتعهّدهم، فأنزل اللّه قرآنه مفرّقا منجّما؛ ليقرأه الرّسول عليهم على مكث و تمهّل، كلّ حادثة مع ما نزل فيها من قرآن. و لا شكّ أنّ هذا أدعى للحفظ الواعي و الفهم الرّاسخ، و صدق اللّه وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ.

(ب) و في هذا التّنجيم و التّفريق مع المعاونة على الحفظ تيسير الفهم للأحداث و آياتها، و للأسئلة و إجاباتها، و للاعتراضات و دفع شبهها بالقرآن الكريم.

(ج) هذه الأمّة العربيّة الّتي تلقّت القرآن أوّلا أمّة كانت لها عقائد راسخة، و عادات متأصّلة، و أخلاق موروثة، و صفات مأثورة، ثمّ هي مع ذلك تعتزّ بها و تدين، و

ترى أنّها من مفاخرها و دين آبائها و أجدادها، فليس انتزاعها بالأمر السّهل. الهيّن.

لهذا سلك القرآن معها مسلك الحكيم العليم، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى «1» الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ «2» سلك معها مسلك التّدرّج، و الانتقال من حال إلى حال مع التّمهّل و اليسر، حتّى استطاع الإسلام أن يزحزحهم عن عقائدهم، و أن يجعلهم يتخلّون عن عاداتهم شيئا فشيئا. كلّ هذا بما أنزل عليهم من القرآن بالتّنجيم و التّفريق، و صدق اللّه إذ يقول: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا. انظر إلى مسلك القرآن في تحريم الخمر و الرّبا أو الحثّ على الإنفاق و البذل، فأنت ترى أنّ الحكمة الأولى ترجع إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، و الثّانية ترجع إلى أمّته.

3- الحكمة الثّالثة: و هي ترجع إلى تسجيل الأحداث و الوقائع الّتي وقعت متفرّقة مع رأي القرآن فيها، و مظاهر هذه الحكمة تظهر في ما يأتي:

(أ) لقد سأل النّاس أسئلة كثيرة، أسئلة بريئة و أخرى غير بريئة، فمثلا سألوا عن الرّوح، عن ذي القرنين، عن السّاعة، عن الفتية الّذين آمنوا، سألوا عن النّفقة، عن الأهلّة، عن الخمر، عن الحيض، و غير ذلك كثير.

______________________________

(1)- الأعلى/ 2- 3.

(2)- السّجدة/ 7.

نصوص في علوم القرآن، ص: 469

و لا شكّ أنّ الأسئلة لم تكن في وقت واحد بل كانت في أوقات متعدّدة مختلفة، و كانت الإجابة عن كلّ سؤال بما يوافقه ثمّ يوضع في السّورة الّتي يتلائم مع هدفها العامّ.

(ب) متابعة الأقضية و الوقائع و أحداثها في وقتها ببيان حكم اللّه فيها. و هذا طبعا يكون في أوقات متعدّدة. انظر في حادثة الإفك و ظروفها و ما تبعها،

آيات اللّعان، حكم الزّنى، الظّهار، المواريث، العدّة.

(ج) لم يكن أبدا من الممكن أن يتحدّث القرآن مرّة واحدة عن أشياء لا بدّ منها في الدّين و ستقع في ظروف مستقبلة. و كان من الحكمة التّعليق عليها و شرحها و بيان أسبابها و نتائجها، و بيان ما دبّر للمسلمين في الخفاء، و إظهار العدوّ من الصّديق ساعة وقوعها؛ لتتمّ الفائدة المرجوّة، و في هذا نزل الكثير من القرآن. و لنتتبّع غزوات النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم. غزوة بدر، أحد، تبوك، حنين، الأحداث الّتي وقعت لسرايا الرّسول. فلو لم يكشف ستر المنافقين ساعة ما دبّروا بليل وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَ اللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ... «1»

و حادثة طعمة بن ابيرق، و صدق اللّه إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ «2»، و قال: وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ «3»

4- الحكمة الرّابعة: نزول القرآن منجّما ثمّ ترتيبه في المصحف على خلاف ما نزل، و أنت إذا نظرت إلى القرآن الكريم في المصحف، كيف بدئت السّورة المكّية و كيف انتهت، و كيف بدئت السّورة المدنيّة و كيف انتهت، و رأيت أنّ لكلّ أسلوب خاصّية تميّزه، و ما في كلّ من الآيات و الأحكام، و الأحداث و القصص و المواعظ و الزّواجر، إذا نظرت إلى القرآن المجموع في المصحف و أنت تعلم أنّه نزل مفرّقا تبعا لأحداث لم تأت تباعا، و لم تكن على ترتيب أو نظام لعلمت علم اليقين أنّ هذا القرآن لا يمكن أن يكون من وضع محمّد صلّى اللّه عليه و سلم فضلا عن كونه من وضع غيره من البشر

قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ

______________________________

(1)- النّساء/ 81.

(2)- النّساء/ 105.

(3)- الإسراء/ 105.

نصوص في علوم القرآن، ص: 470

وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً «1». فهذا النّسق البياني، و تلك الصّورة الرّائعة الدّقيقة، و هذا التّصوير الدّقيق المحكم، و تلك المناسبات القويّة المحكمة بين كلّ آية و آية، كلّ هذا دليل على أنّه تنزيل من حكيم عليم، و صدق اللّه أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «2».

يا عجبا كلّ العجب من كتاب نزل مرتبطا بالأحداث و الحوادث منجّما تبعا للظّروف و الأحوال، ثمّ هو يجمع مرّة ثانية على شكل آخر و بوضع آخر، و في السّورة المقروءة تجد المدهش المعجز في بيانه و تصويره، و تجد الرّباط المحكم في سوره و آياته. نصوص في علوم القرآن 470 السر في نزول القرآن منجما ..... ص : 466

ليس ذلك برهانا ساطعا على أنّه كلام خالق القوى و القدر، إليه يرجع الأمر كلّه؟

انظر معي إلى حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و هو كما تعرف آية في البلاغة و الرّوعة، و لقد قاله في مناسبات عدّة لدواع متباينة في أزمان متطاولة، فهل في الإمكان لو اجتمع الإنس و الجانّ على أن يصوغوا منه كتابا مرتّبا محكما ذا بيان و قوّة و سلطان يملك عليك قلبك، و يجبر الخصم الألدّ على أن يقول: و اللّه إنّ أعلاه لمثمر و إنّ أسفله لمغدق، و ما هو بقول البشر. أظنّ ذلك ليس في الإمكان بل و لا في الحسبان، و لقد كان معذورا ذلك العربيّ الجاهليّ الّذي سجد لبلاغة القرآن و روعته، و نحن لا نقول فيه إلّا ما قاله

اللّه فيه: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ «3».

لقد تكلّمت عن تنزّلات القرآن الأوّل إلى اللّوح المحفوظ، و الثّاني إلى بيت العزّة في سماء الدّنيا، و الثّالث نزوله منجّما على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و لقد ذكرت الحكمة في كلّ بالإجمال تارة و بالتّفصيل تارة أخرى.

هذا صحيح، و لكن ما علاقة هذا بتلك الدّعامة «ذكر الموضوع غير تامّ في السّورة» إنّ هذا يذكّرني بقوله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها «4»

______________________________

(1)- الفرقان/ 6.

(2)- النّساء/ 82.

(3)- هود/ 1.

(4)- الرّعد/ 17.

نصوص في علوم القرآن، ص: 471

فاللّه جعله قرآنا مجيدا و جعله في لوح محفوظ، ثمّ أنزله إلى سماء الدّنيا في ليلة مباركة من ليالي رمضان هي ليلة القدر ثمّ أنزله على عبده و رسوله منجّما في ثلاث و عشرين سنة تبعا للأحداث و الحوادث؛ لحكم و أسرار بيّنّا بعضها، و اللّه أعلم بأسرار كتابه، و صدق اللّه فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها ....

فالحكمة تقتضي تنزيله مفرّقا على هذا الوضع المناسب للأحداث، لا ينقص فيما قدّره اللّه أو يزاد؛ لأنّه أنزله بالحقّ و بالحقّ نزل، فذكر الموضوع غير تامّ في السّورة بتقدير العزيز العليم، إذ كلّ شي ء عنده بمقدار، و لكي نفهم لما ذا لم يذكر الموضوع تامّا في السّورة، لا بدّ أن نقف على تنزّلات القرآن، و نحاول أن نفهم بعض الحكم و الأسرار، و ألصق شي ء بتلك الدّعامة الوقوف على تنزّلات القرآن.

لما ذا لم يذكر الموضوع الواحد تامّا في سورة واحدة؟

الوحي الإلهيّ المنزّل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم باعتباره ظاهرة تمتدّ في حدود الزّمن و تؤثّر فيه تمتاز بخصيصتين هامّتين بقطع النّظر عن طبيعته الذّاتية، هاتان الخصيصتان هما:

1- تنجيم الوحي في ثلاث و عشرين سنة.

2- وحدته

الكاملة في التّاريخ و التّشريع و التّربية السّليمة.

أمّا تنجيم الوحي و أنّه ضرورة محكمة له فظاهر، و له دواع و حكم قد تعرّضنا لبعضها بما يشفي صدور القوم المؤمنين، و بما يلقم الأحجار في أفواه الجاحدين المعترضين، أمّا وحدته التّامة في كلّ شي ء فهذا ما نعرض له الآن، و قد نصل فيه بعون اللّه إلى ما نريد.

لقد بدأ الوحي في غار حراء بهذا الحوار المسموع الّذي دقّ سمع الوجود، ففتح قلبه لكلّ ما يأتي. لقد بدأ اقْرَأْ .. «ما أنا بقارئ» و هذا يدلّ من أوّل الأمر على أنّ ذلك الوحي ليس من باب الهذيان أو الاختلاط، فقد تقرّر بالقراءة مع الضّمّ ثلاث مرّات في حوار جادّ ليس بالهازل، و هذا ممّا لا يمكن أن يكون بعد هذه الصّدمات الصّوتيّة، و الحركات العنيفة في الضّمّ الّذي بلغ منه صلّى اللّه عليه و سلم الجهد أن يقال: إنّ هذا من باب الهذيان أو الاختلاط، و لقد بلغ الجهد من النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم مبلغه حتّى رجع إلى خديجة زوجته الطّاهرة الحنون يرجف فؤاده خوفا ممّا لاقى. فتقوم الملاك الطّاهر، و تأخذ بيديه، و تهدّئ من روعه، و تبشّره بالخير، ثمّ

نصوص في علوم القرآن، ص: 472

تذهب به إلى ورقة بن نوفل، و كان امرأ قد تنصّر في الجاهليّة، و قرأ من الكتاب ما شاء اللّه له أن يقرأ.

لقد استغرق نزول الوحي هذا- الّذي ذكرنا بدأه- بضعا و عشرين سنة. و لكنّ الوحي مع النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم كان عجيبا حقّا، إذ قد يأتي تباعا من غير انتظار، و قد ينقطع عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم مدّة رغم انتظاره له، و

طلبه بإلحاح ليدفع عنه الحرج الّذي هو فيه، و الّذي دعا بعضهم لأن يقول: إنّ ربّ محمّد قد ودّعه و قلاه. أما ترى إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و قد اشتدّ عليه إيذاء المشركين بعد موت عمّه أبي طالب و زوجته خديجة، و قد بقي وحيدا فريدا. و النّبيّ لهذا يأمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، أمّا هو فبقي منتظرا الوحي مع شدّة الحاجة إليه، و قد كان كذلك في المدينة في حادثة الإفك، يتطلّع إلى السّماء، و يترقّب الوحي الّذي يقطع همّه و يفرّج كربه. و يبرئ أهله، و يقطع ألسنة المنافقين، و قد كان ألمه كثيرا من هذا. و مع كلّ هذا فقد ظلّ الوحي شهرا كاملا أمضاه الرّسول على أحرّ من الجمر، و لكنّه وحي السّماء ينزل حيث أراد اللّه وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا «1».

و هنا يبرز سؤال هامّ: أ لم يكن من الممكن أن ينزّل القرآن مرّة واحدة كما نزّل غيره من الكتب، أو على الأقلّ كلّ موضوع قرآنيّ ينزل دفعة واحدة؟

ذلك سؤال قديم قاله الجاهليّون المشركون قديما، و ردّده الملاحدة المحدّثون على أنّه مطعن في الوحي و قصور في القرآن، و قد سجّل القرآن هذا في قوله: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «2».

و لكنّ الواقع التّاريخيّ و الواقع الحقيقيّ لتلك الرّسالة الخالدة، مع ذلك الكتاب الّذي أنزله عالم السّرّ و النّجوى في السّماوات و الأرض، يؤيّد هذا التّنجيم في النّزول، و التّنجيم في الموضوع الواحد بصورة قاطعة كما

ستعرف الآن.

بل أصبح لهذا التّنجيم أهمّية قصوى في نجاح هذه الدّعوة؛ إذ بما ذا كنّا نفسّر من

______________________________

(1)- مريم/ 64.

(2)- الفرقان/ 32.

نصوص في علوم القرآن، ص: 473

الوجهة التّاريخيّة و الاجتماعيّة و التّشريعيّة قرآنا يقود العالم كلّه من الظّلمات إلى النّور، و من الشّر إلى الخير، و من الضّلال إلى الصّراط المستقيم، ثمّ كان هذا القرآن يهبط كأنّما هو برق خاطف؟ ثمّ يصبح أشبه بالوثيقة الّتي تلقى إلى الإنسان، أو التّفويض له من جهة أخرى، ثمّ تراه يتحوّل سريعا إلى كلمة مقدّسة خالدة.

و لقد تحدّث العالم الجزائريّ مالك بن نبيّ عن تنجيم الوحي، فقال في كتابه «الظّاهرة القرآنيّة»: إنّنا نبحث مسألة تجزئة الوحي في ضوء هذه النّظرات، و نستطيع أن ندرك أوّلا قيمته التّربويّة، فتلك في الواقع هي الطّريقة التّربويّة الوحيدة الممكنة في حقبة تتّسم بميلاد دين و بزوغ حضارة. (ص: 166)

أنا أطالب كلّ من يدور بخلده مثل هذا السّؤال أن يتصوّر الحال لو أنزلت آيات القتال دفعة واحدة، و هي في موضوع واحد بلا شكّ، بما ذا كان يفهم قوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «1»، لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ «2»، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا «3». مع قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً «4»، وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ «5»، وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ «6»، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ «7»، مع قوله: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ «8».

فلو لم يكن

تنجيم و ترتيب في النّزول، و دراسة تاريخيّة لكلّ آية لكان ذلك من

______________________________

(1)- المؤمنون/ 96.

(2)- الكافرون/ 6.

(3)- آل عمران/ 200.

(4)- التّوبة/ 123.

(5)- الأنفال/ 39.

(6)- البقرة/ 191.

(7)- الأنفال/ 65.

(8)- الأنفال/ 66.

نصوص في علوم القرآن، ص: 474

التّناقض الّذي يتنزّه عنه كلّ كتاب بشريّ فما بالكم بالكتاب المحكم؟

و دراسة آيات التّشريع في الخمر و الرّبا و غيرهما على ما سندرسه ترشدنا إلى أنّ التّنجيم في القرآن ظاهرة لا يمكن أن يسير بدونها، و اجتماع مراحل التّشريع في آيات متلاحقة يعطيك فكرة أنّ هذا القرآن لا يصدر إلّا من حكيم عليم. و القصّة و ما أدراك ما القصّة، إنّ أمرها في التّنجيم عجيب! و أيّ عجب؛ إذ ذكرت في أماكن متعدّدة و بأساليب مختلفة، و صورت المشهد الواحد عدّة صور، أ ترى لو أنّها جمعت في مكان واحد أ كانت تعطي أيّ مبدأ من مبادئ الإعجاز في البيان؟ لا أنّها كانت مدعاة للسأم و الملل.

فإن قيل: يكفينا صورة واحدة كاملة بأسلوب واحد و تصوير واحد، هذا كلام من لم يدرس القصّة في القرآن، و لم يعلم أنّ المصوّر إذا أراد أن يعطيك الصّورة الكاملة لشي ء لا بدّ أن يصوّره في عدّة أوضاع، و في عدد من الاتّجاهات حتّى تستطيع أن تدركه، إذا التّكرار لازم و تنجيمه ألزم، و سبحان من هذا كلامه.

و إذا اتّجهت إلى الكلام على العقيدة هل يتصوّر أن ينزع كتاب أيّا كان عقيدة خالطت الدّم و العقل بجرّة قلم، بدقّة واحدة، بلغة واحدة، بدليل واحد، بخطّة واحدة، بتشريع واحد، بتصوير واحد، كلّ هذا لا يمكن أبدا. فلا بدّ من التّنجيم و التّنويع و اختلاف المكان و الزّمان.

انظر إلى حادثة بدر أو أحد، كيف كان الحال

لو نزل القرآن كلّه مرّة واحدة عن هاتين الحادثتين دفعة واحدة قبلها أو بعدها؟ أمّا قبلها فلا وقع له في النّفوس، و أمّا ما بعدها فسيكون حديثا عمّا مضى حديثا باهتا لا قوّة فيه. و لكن انظر إلى القرآن و هو يتتبّع الحوادث أوّلا بأوّل، و لا يدع فرصة إلّا تكلّم عنها، و لا يدع موقفا متأزّما إلّا قال كلمته فيه. اقرأ معي قوله تعالى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ* بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ* وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ «1».

______________________________

(1)- آل عمران/ 124- 126.

نصوص في علوم القرآن، ص: 475

تدبّر هذه الآيات و تعمّق في الصّورة الّتي رسمها التّنزيل للأزمنة العنيفة، و الحيرة الشّديدة الّتي كان فيها المسلمون، ثمّ هذه البشارة و كيف كان وقعها على الجيش المحارب، ثمّ إذا تحقّق شرطها- الصّبر و التّقوى و مهاجمة الأعداء- تدرك عند ذلك كيف كانت البشرى و البشارة، و كيف كان وقع النّصر و الظّفر على قلوب المسلمين و قلوب الكافرين؟ و صدق اللّه وعده وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ «1».

أ رأيت لو أنّ القرآن تكلّم عن غزوة بدر مرّة واحدة في سورة واحدة، أ كان ذلك يعطينا تلك الصّورة الرّائعة؟ لقد كان تسلسل الوحي في النّزول العامّ للقرآن الكريم، و النّزول الجزئيّ في الموضوع الواحد خلال ثلاثة و عشرين سنة يبيّن لنا بيانا شافيا سيرة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و صحبه خطوة خطوة، و هو يحوطهم

بالعناية و الرّعاية، و يشدّ عزمهم، و يثبّت أقدامهم، و ينفي القذى عن أعينهم، و يزيح الدّخان من أمامهم. ثمّ هو يكرّم شهداءهم، و ينذر أعداءهم، ثمّ هو يراقبهم بعين مفتوحة واعية، فإذا ما بيّتوا أمرا بليل فضحهم اللّه في الصّباح الباكر؛ يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ «2».

و هكذا القرآن الكريم لا يترك حادثة وقعت بلا تعقيب عليها و توجيه سليم من أجلها، و لذلك تراه واقفا للمنافقين بالمرصاد، يكشف سترهم حتّى يعرفهم الرّسول، و قد كانوا من قبل في غمار القوم غير معروفين؛ وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ «3». أ رأيت إلى الوحي الكريم في تنجيمه و توقيته كان يقوم بدور المعلّم المرشد، و الهادي إلى الّتي هي أقوم؟ أ رأيت إلى القرآن الكريم و هو يأخذ في دعوته و تشريعه و قصصه و أحكامه مأخذ التّدرّج و التّطوّر؟ أ رأيت لو أنّ القرآن سلك غير هذا السّبيل فجاء في دعوته و تشريعه و قصصه بكلّ ما عنده من بيان و تفصيل دفعة واحدة

______________________________

(1)- الرّوم/ 47.

(2)- التّوبة/ 64.

(3)- التّوبة/ 101.

نصوص في علوم القرآن، ص: 476

و كان يقع من النّاس هذا الموقع؟ و ما ذا كان الأمر لو لم يأت لكلّ ألم بعزاء، و لكلّ تضحية بجزاء، و لكلّ هزيمة بسبب و علاج، و لكلّ عقبة في الطّريق بتوجيه حاسم؟ إن لم يكن كذلك لما كان لقوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ «1» موقع. أ لست معي في أنّ القرآن و

قد تنزّل منجّما كتاب محكم الآيات؟ بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ «2».

فتنجيمه قد ظنّه الجاهلون عيبا، فإذا هو أقصى ما يتصوّر في الدّقة و الحكمة و البلوغ إلى الهدف الأعلى، عرفنا أنّ القرآن نزل منجّما، و كلّ وحدة في النّزول ضمّت لأخواتها في مجموعة واحدة (السّور القرآنيّة)، هذه الوحدة إذا ضمّت إلى وحدات أخرى لم تكن كالوحدة الحسابيّة إذا ضمّت لزميلتها، و إنّما هي وحدة ضمّت إلى وحدة كما يضمّ العضو في الجسم إلى العضو الآخر. أ رأيت إلى السّاق و قد يضمّ إلى الذّراع؟ إن كنت درست علم الطّب أو التّشريح تدرك تماما كيف يكون الرّباط القويّ المحكم، إنّ الّذي ربط هذه الأعضاء بهذه القوّة حتّى كان منها جسم كامل هو الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى «3»، هو الّذي ربط الآيات، الوحدة في النّزول مع الوحدات الأخرى في السّورة، فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «4». و أعجب العجب أنّ هذه الوحدة الّتي نزلت في موضوع خاصّ؛ إذا أخذتها و ضممتها إلى الوحدات الأخرى الّتي نزلت في هذا الموضوع نفسه لرأيت العجب، تماسكا و تكاملا و ارتباطا و وحدة في الموضوع! و هذا هو الهدف الأوّل للرّسالة. (ص: 68- 91)

______________________________

(1)- الأنعام 38.

(2)- العنكبوت/ 49.

(3)- الأعلى/ 2- 3.

(4)- المؤمنون/ 14.

نصوص في علوم القرآن، ص: 477

و نصّه أيضا في «التّفسير الواضح»
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ .. الدّخان: 3

أقسم ربّك بالقرآن الكريم الّذي هو الكتاب المبين على أنّه أنزل القرآن في ليلة مباركة كثيرة الخيرات، و هذا النّسق من الكلام يدلّ على أنّ اللّه يعظّم القرآن غاية التّعظيم؛ حيث أقسم به على أنّه أنزل في ليلة مباركة، و هذا شبيه بقولك لصديق لك: أقسم بحقّك عليك.

و اللّه

سبحانه يقول: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «1» و يقول: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ... «2» و يقول هنا: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ. و من هذه النّصوص الصّريحة يتبيّن لنا أنّ القرآن نزل في ليلة مباركة هي ليلة القدر، و هذه اللّيلة إحدى ليالي شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن، حتّى تتوافق جميع النّصوص القرآنيّة، و لعلّ إبهامها ليترقّبها النّاس في ثلاثين ليلة، وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ إنّا أنزلنا هذا القرآن في ليلة مباركة- هي ليلة القدر لا ليلة نصف شعبان كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء- إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ النّاس بهذا القرآن. و القرآن الكريم نزل منجّما تبعا للحوادث في ثلاث و عشرين سنة بين مكّة و المدينة المنوّرة. و المعروف أنّ بدء نزوله كان في ليلة القدر الّتي هي اللّيلة المباركة، و قيل: إنّ معنى نزوله فيها أنّه نزل إلى السّماء الدّنيا في تلك اللّيلة، و اللّه أعلم بذلك.

(25: 54)

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- القدر/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 478

الفصل السّتّون نصّ الخطيب في «التّفسير القرآنيّ للقرآن»

قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ... النّحل/ 102

و هذه الظّاهرة في القرآن الكريم، من تبادل الآيات أماكنها خلال الفترة الّتي نزل فيها، تقابلها ظاهرة أخرى، و هي نزول القرآن منجّما خلال ثلاث و عشرين سنة؛ حيث لم ينزّل جملة واحدة، و إنّما نزل آية آية و آيات آيات، حتّى كمل و تمّ بناؤه على الصّورة الّتي أراده عليها سبحانه و تعالى، كما تلقّاه النّبيّ الكريم من جبريل في العرضة الأخيرة الّتي كانت بينهما، بعد أن تمّ نزول القرآن قبيل وفاة النّبيّ بزمن قليل. فهناك إذن عمليّتان قام عليهما بناء القرآن الكريم، و هما:

أوّلا: نزوله منجّما، أي مفرّقا.

و ثانيا: نزوله غير مرتّب الآيات في السّور. و قد كشف اللّه

سبحانه و تعالى عن السّبب الّذي من أجله كان بناء القرآن على هذا الأسلوب.

أمّا عن نزول القرآن مفرّقا، فاللّه سبحانه و تعالى يقول ردّا على المشركين الّذين أنكروا أن يجي ء القرآن على هذا الأسلوب: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا* وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ

نصوص في علوم القرآن، ص: 479

وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً «1». فتثبيت فؤاد النّبيّ هو من بعض ما في نزول القرآن على تلك الصّورة من حكمة.

و أمّا عن نزول القرآن غير مرتّب الآي، فقد رأينا أنّ من حكمته تثبيت قلوب المؤمنين، بما تحمل إليهم الآيات الّتي تسبق سورها من بشريّات، كما يقول اللّه سبحانه و تعالى: وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ* قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ «2».

ففي هذا التّدبير، من نزول القرآن الكريم غير مرتّب الآي،- في هذا ما يسمح بنزول بعض الآيات متقدّمة زمنا على سورها الّتي ستلتقي بها، و تأخذ مكانها فيها، بعد أن يتمّ نزول القرآن كلّه.

و في هذه الآيات الّتي كانت تنزل متقدّمة زمنا على سورها، تثبيت لقلوب المؤمنين، و هدى لهم، و بشرى بالمستقبل المسعد الّذي ينتظر الإسلام، و ينتظرهم معه.

و لو كان معنى قوله تعالى: إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ نسخ آية بآية، لما كان من المناسب أن يكون التّعقيب على ذلك قوله تعالى: لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ، إذ أنّ النّسخ للآيات القرآنيّة، ليس من شأنه أن يثبت قلوب المؤمنين، بل أنّه يكون داعية

من دواعي الإزعاج النّفسيّ، بسبب تلك الآيات الّتي يعيش معها المسلمون زمنا، ثمّ يتخلّون عنها. ثمّ أنّه من جهة أخرى لا يحمل النّسخ على إطلاقه بشريات للمسلمين، إذ أنّ أكثر ما وقع النّسخ- كما يقول القائلون به- على أحكام مخفّفة نسخت بغيرها، ممّا هو أثقل منها، كما يقال في الآيات المنسوخة في الخمر و في الرّبا، و في حدّ الزّنى.

ثمّ- قبل هذا كلّه- إنّ هذه الآية: وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ هي مكّية النّزول، بل من أوائل القرآن المكّي؛ حيث لم تكن قد شرّعت

______________________________

(1)- الفرقان/ 32- 33.

(2)- النّحل/ 101- 102.

نصوص في علوم القرآن، ص: 480

الأحكام بعد، في العبادات و المعاملات و في القتال، و ما يتّصل به من غنائم و أسرى، و غير ذلك ممّا يمكن أن يرد عليه النّسخ، إن كان هناك نسخ، إذ أنّ النّسخ إنّما تناول الأحكام الشّرعيّة وحدها. هذا، و قد استدلّ القائلون بالنّسخ في القرآن بآية أخرى، هي قوله تعالى:

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ «1».

و سنعرض لهذه الآية في موضعها إن شاء اللّه، و حسبنا أن نقول هنا: إنّ النّسخ وارد على ما يلقي الشّيطان، لا على آيات اللّه، و أنّ اللّه سبحانه و تعالى يحكم آياته و لا ينسخها، و إذن فلا نسخ في آيات اللّه.

و لعلّ في قوله تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ

قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ «2» هذا ما يشير إلى شي ء من هذا التّدبير السّماويّ في نزول القرآن غير مرتّب الآي؛ إذ ربّما كان صلّى اللّه عليه و سلم تتنزّل عليه الآية من القرآن، غير منسوبة إلى سورة من السّور الّتي نزلت، فيبادر إلى وصلها بما سبقها أو لحقها، حتّى لا تظلّ في عزلة بين سور القرآن الّتي تتلى في الصّلاة، أو ترتّل في غير الصّلاة، فجاء قوله تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ليدفع عن النّبيّ هذا الشّعور من القلق على تلك الآيات المفردة أن ينظر إليها غير تلك النّظرة الّتي للقرآن الّذي جمعت آياته و تمّت سوره! فتلك دعوة للنّبيّ إلّا يعجل ببناء القرآن قبل أن يتمّ وحيه إليه به، إذ ما زال هناك قرآن كثير لم ينزل بعد، و في هذا القرآن الّذي سينزل علم كثير، يزداد به النّبيّ علما إلى علم.

و يؤنسنا في هذا الفهم لتلك الآية الكريمة ما نجده في قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ «3».

______________________________

(1)- الحجّ/ 52- 53.

(2)- طه/ 114.

(3)- القيامة/ 16- 17.

نصوص في علوم القرآن، ص: 481

ففي هذه الآيات ما يكشف عن مشاعر النّبيّ نحو تلك الآيات الّتي كانت تتنزّل مفردة غير منسوبة إلى سورة من السّور، و إشفاقه من أن تفلت منه، حيث لم ترتبط بغيرها من آيات القرآن و السّورة.

و في قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ تطمين للنّبيّ بهذا الوعد الكريم من اللّه سبحانه، بأنّه جلّ شأنه هو الّذي سيتولّى جمع هذا القرآن المفرّق، و بناءه على

الصّورة الّتي أراده اللّه سبحانه أن يقرأ عليها. و ذلك ما كان بعد أن تمّ نزول القرآن و انقطع الوحي، فكان القرآن على تلك الصّورة الّتي تلقّاها النّبيّ من جبريل في العرضة الأخيرة للقرآن، ثمّ تلقّاها من النّبيّ الصّحابة و كتّاب الوحي، ثمّ تلقّاها المسلمون جيلا بعد جيل إلى يومنا هذا و إلى يوم الدّين. (7: 367- 371)

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ .. الإسراء/ 106

و الواو في قوله تعالى: وَ قُرْآناً هي واو العطف، و ما بعدها معطوف على الآية قبلها. ليثبت وصفا آخر للقرآن، فكما أنّه نزل بالحقّ، و بالحقّ استقرّ و ثبت، و لم يلحقه تبديل أو تحريف، هو كذلك نزل قرآنا منجّما، و لم ينزل مرّة واحدة. و في تنكير قُرْآناً تنويه به، و رفع لقدمه، و أنّه لتفرّده بهذا الوصف مستغن عن كلّ تعريف، إذ كان هو وحده المستأهل لأن يقرأ، و أن يؤثر بالقراءة من كلّ قارئ.

و فَرَقْناهُ، أي نزّلناه مفرّقا، و لم ينزّل كلّا واحدا، كما نزلت الكتب قبله، و أصله من الفرق، و هو الفصل بين الشّيئين، كما يقول سبحانه و تعالى: فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ «1» أي أنّ موسى حين ضرب البحر بعصاه انفلق و انشقّ، فكان كلّ فرق، أي جانب، كالجبل العظيم. و قد قرئ (فرّقناه) بتشديد الرّاء، و هذا يؤيّد المعنى الّذي أشرنا إليه، كما يؤيّده قوله تعالى بعد ذلك: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ. فهذا تعليل للسّبب الّذي من أجله أنزل اللّه سبحانه و تعالى القرآن عَلى مُكْثٍ، أي على زمن متطاول، فنزّل منجّما، أي مفرّقا في نحو ثلاث و عشرين سنة و ذلك ليعيش النّبيّ و المؤمنون معه على هذا

______________________________

(1)- الشّعراء/ 63.

نصوص في علوم القرآن، ص: 482

الزّاد الكريم المختلف الألوان و الطّعوم، طوال تلك المدّة الّتي كان القرآن يتنزّل فيها، و هم يرصدون مطلع كلّ آية، و يشهدون بزوغ كلّ كلمة. و بهذا ظلّ النّبيّ و المؤمنون معه خلال هذه السّنين الثّلاث و العشرين في مقام الانتظار لهذا الضّيف العظيم، تطلع عليهم مواكبه موكبا موكبا، و تلقاهم أضواؤه شعاعة شعاعة، حتّى إذا كان آخر كوكبة في مواكبه، و آخر ضوءة بين السّماء و الأرض أذّن مؤذّن الحقّ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «1».

و عندها صافح النّبيّ هذا الوافد الكريم في موكبه الحافل، و سناه المشرق، ثمّ ودّعه؛ لينتقل هو صلّى اللّه عليه و سلم إلى الرّفيق الأعلى، و ليقيم القرآن في النّاس مقامه، حيث يجتمع عليه المسلمون، و يستقبلون من آياته و كلماته إشارات الهدى، إلى حيث الفلاح و النّجاة في الدّنيا و الآخرة جميعا.

و في قوله تعالى: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ، و في تعدية الفعل «قرأ» بحرف الجرّ (على): عَلَى النَّاسِ بدلا من اللّام: (للنّاس) إشارة إلى علوّ هذا القرآن، و أنّه بحيث يشرف عليهم من عليائه، فيملأ وجودهم نورا و ألقا، و بحيث يكشف لهم كلّ خفيّة، إذا هم جعلوا أبصارهم إليه، و وجّهوا عقولهم و قلوبهم له، فلا تعمى عليهم المسالك، و لا تتفرّق بهم السّبل، و في هذا يقول الرّسول الكريم: «تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أبدا: كتاب اللّه و سنّتي».

و في قوله تعالى: وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا بيان للأسلوب الّذي نزل به القرآن خلال هذا الزّمن الّذي نزل فيه، و أنّه نزّل تنزيلا، أي نزل شيئا فشيئا، و هذا يعني أنّ القرآن الكريم و

إن تلقّاه النّبيّ آية آية و آيات آيات و سورة سورة فإنّه في جميع أحواله تلك هو القرآن الكريم كلّه. ففي الآية الواحدة أو الآيات يعرف القرآن الكريم، و يعرف أنّه كلام ربّ العالمين، و أنّه المعجزة القاهرة المتحدّية الّتي تقصر دونها أيدي البلغاء، و تخضع لجلالها رقاب الفحول من الشّعراء و الخطباء!

فالآيات القليلة الّتي تلقّاها النّبيّ في صدر دعوته، كانت صورة مصغّرة للقرآن

______________________________

(1)- المائدة/ 3.

نصوص في علوم القرآن، ص: 483

الكريم كلّه، بها تحدّى قريشا، و بها أفحمهم و أعجزهم! و إذا كان لنا أن نمثّل الصّورة الّتي تنزّل بها القرآن، فإنّه يمكن أن نرى في القمر و في مطالعه و منازله أقرب صورة له، حيث القمر هو القمر في جميع مطالعه، و إن لم ينكشف من وجهه هلالا، ما انكشف منه بدرا. إنّه في جميع أحواله آية من آيات اللّه، و إنّ آية لمعة بارقة منه هي إشارة مبيّنة عنه، و نبأ عظيم يحدّث عن بهائه و جلاله و روعته و مع هذا، فإنّ العيون الكليلة لا تنبهر به، و القلوب المريضة لا يروعها ما يروع القلوب من هذا الجلال و الجمال المطلّ به على الوجود، تماما كالقرآن الكريم الّذي لم تتفتّح له قلوب المستكبرين الضّالّين، حتّى بعد أن تمّ و كمل، على حين انجذب إليه المهتدون المؤمنون مع أوّل آية من آياته، و لأوّل إشارة من إشاراته.

(8: 567- 569)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً الفرقان/ 32

و هذه مقولة أخرى من مقولات المشركين في القرآن، و من مماحكاتهم

الغثّة الباردة حوله. لقد أخزاهم قولهم فيه: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ، و قولهم: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا «1»، لقد أخزاهم هذا

القول، و لم يجدوا له بينهم أذنا تسمع، أو إنسانا يصدّق، فجاءوا إلى ما حول القرآن، لا إلى القرآن نفسه، إذ لم يجدوا للزّور فيه مقالا، و بدا لهم أنّ الصّورة الّتي ينزل عليها القرآن، يمكن أن ينظروا إليها على أنّها دليل على العجز و القصور، و على معاودة النّظر و معاناة البحث، حتّى يقع النّبيّ على الكلمات المناسبة و الظّرف المناسب، ثمّ يطلع على النّاس بها، هذا، و إلّا لما ذا جاء هذا القرآن منجّما هكذا، تتنزّل آياته قطرات قطرات، و لا تنزّل جملة واحدة؟ إنّه لو كان هذا القرآن من عند اللّه لأنزله اللّه جملة واحدة؛ إذ أنّ قدرة اللّه لا يكون منها هذا العجز البادي في نزول القرآن قطعا متناثرة! هكذا فكّروا و هكذا قدّروا، و إنّه لبئس التّفكير و لبئس التّقدير! و في قولهم: نُزِّلَ بدل أنزل، الّذي يناسب قولهم:

______________________________

(1)- الفرقان/ 4- 5.

نصوص في علوم القرآن، ص: 484

جُمْلَةً واحِدَةً؛ لأنّ نُزِّلَ يفيد تقطيع الفعل، و وقوع النّزول حالا بعد حال، في قولهم هذا تعريض بالتّهمة الّتي يتّهم بها القرآن عندهم، و هو أنّه نزّل لا أنزل، فهم يحكون الصّورة الّتي نزل عليها القرآن، ثمّ ينكرونها بقولهم: جُمْلَةً واحِدَةً.

و قد ردّ سبحانه و تعالى عليهم هذا الإنكار، مبيّنا الحكمة من نزول القرآن منجّما، على هذا الأسلوب، بقوله سبحانه: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا* وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً.

فقوله تعالى: كَذلِكَ إشارة إلى الصّورة الّتي نزل عليها القرآن، أي أنزلناه على هذا الأسلوب المنجّم: لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ، و ذلك التّثبيت هو بهذا الاتّصال الدّائم بالسّماء، و بتلقّي ما ينزل منها حالا بعد حال، على مدى

ثلاث و عشرين سنة، تنتظم مسيرة الدّعوة، من مبدأ الرّسالة إلى خاتمتها، فعلى كلّ خطوة في هذه المسيرة، و عند كلّ موقف من مواقفها، كان الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم يتلقّى إمداد السّماء، و يفتح قلبه و سمعه لنداء الحقّ جلّ و علا، فيما يحمل إليه الملك من كلمات ربّه، فيجد الرّوح لروحه، و الأنس لنفسه، و العزاء الجميل لكلّ ما يلقى من ضرّ و أذى، كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ. و لو نزّل القرآن جملة واحدة، لما وجد الرّسول هذا الّذي كان يجده منه، من أنس دائم، و مدد ممتدّ من تلك الثّمرات الطّيّبة، الّتي ينال غذاءه الرّوحيّ منها كلّما أحسّ جوعا، و هفت روحه إلى زاد من مائدة السّماء!.

إنّه لو نزّل القرآن جملة واحدة، لكان على النّبيّ أن يحمل هذا الزّاد الكثير معه على كاهله، ثمّ كان عليه- كلّما أحسّ جوعا- أن يتخيّر من هذا الزّاد طعامه، ثمّ كان عليه أن يعدّ هذا الطّعام، و أن يهيّئه، ثمّ كان عليه أيضا أن يحدّد القدر المناسب لحاجته، و هذه كلّها عمليّات تستنفد جهدا كبيرا من النّبيّ، و تذهب بكثير من طاقاته الرّوحيّة في البحث و الإعداد، و هذا على خلاف نزول القرآن منجّما حسب الحاجة، و عند الظّروف الدّاعية؛ حيث يجد النّبيّ في تلك الحال وجوده كلّه مع آيات اللّه المنزلة عليه، فتشتمل عليه، و تنسكب في مشاعره و وجدانه، و تملأ عقله، و تلبس روحه، و شتّان بين طعام محفوظ في علب، و بين هذا الطّعام المجتنى من مغارسه لساعته!. (10: 16- 18)

نصوص في علوم القرآن، ص: 485

و نصّه أيضا في «إعجاز القرآن»
كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا ... الفرقان/ 32

فهذه ثلاثة أمور اقتضتها حكمة الحكيم العليم لمجي ء القرآن منجّما على تلك المدّة الّتي

نزل فيها. و ننظر فيها واحدا واحدا.

تثبيت فؤاد النّبيّ

و هذا الأمر بالمقام الأوّل، فإنّ النّبيّ هو حامل هذا المشعل السّماويّ، فلا بدّ من حساب و تقدير معه، ليظلّ قويّا قادرا محتفظا بقوّته و قدرته على حمل هذا المشعل الّذي بين يديه، فإنّ أيّ ضعف أو وهن يعرض لحامل هذا المشعل يجعل الشّعلة تهتزّ في يده، فلا تأخذ الوجه الّذي ينبغي أن تأخذه بين النّاس.

و ننظر فيما يكون لو نزل القرآن الكريم على النّبيّ جملة واحدة، كما كان هو المقترح من الكفّار.

فأوّلا: النّبيّ- كبشر- لا يستطيع أن يحتفظ بالقرآن في صدره لو أنّه استمع إليه مرّة واحدة، و لو تحمّله عن هذا الاستماع لتفلّت كثير منه من صدره؛ إذ القرآن على قربه من القلوب، و مخالطته للنّفوس شديد التّفلّت من الصّدور، أشبه بالنّور يملأ العين ما دامت مفتوحة، فإذا غمضت امتلأت ظلاما، و قد وصف النّبيّ الكريم هذه الحال من القرآن فقال:

«استذكروا القرآن فهو أشدّ تفصّيا «1» من صدور الرّجال من النّعم بعقلها» «2».

و قد يعترض هنا معترض فيقول: أ ليس في قدرة اللّه أن يحمل عن النّبيّ عب الحفظ، فيلقي إليه القرآن في صدره، و يقذفه في قلبه، و يقيمه فيه كلّه في لحظة خاطفة، فلا يفلت منه شي ء بعد هذا أبدا؟

______________________________

(1)- تفصّيا، أي تفلّتا، و النّعم: الإبل، العقل: جمع عقال، و هو ما تمسك به النّاقة في مركبها.

(2)- صحيح مسلم: 1: 191.

نصوص في علوم القرآن، ص: 486

و نقول: إنّ قدرة اللّه لا يعجزها شي ء، و لو كان هذا الأمر المقترح وقع على تلك الصّورة لما كان للنّبيّ جهاده و بلاؤه، و لما كان له فضل ذاتيّ يضاف إلى حسابه، و يجزى به الجزاء الأوفى.

و لقد أمره اللّه سبحانه و تعالى أن يهيّئ نفسه لحمل هذا العب، و أن يلقاه صابرا فيقول له: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا «1»، و يقول له سبحانه: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ جاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً «2».

و ثانيا: لو نزّل القرآن جملة واحدة بأوامره و نواهيه و وعده و وعيده و إرشاداته و نصائحه و جدله و زواجره، و غير ذلك من مقاصد الكتاب العزيز. فكيف كان يمسك النّبيّ بكلّ هذه الاتّجاهات؟ و كيف كان يستقيم عليها خطوه و يجتمع إليها رأيه؟ و ما ذا كان يقدّم منها أو يؤخّر؟

لقد رأينا في المبحث السّابق في باب «القرآن في منطق الأحداث» أنّ القرآن كان يدير المعركة الممتدّة بينه و بين كفّار قريش في مكّة، ثمّ بينه و بينهم، و معهم اليهود في المدينة، كان يدير هذه المعركة في سلسلة من المعارك، يدخل في كلّ معركة منها بالسّلاح المناسب لظروفها و أحوالها، و بهذا غلب و انتصر!

و انظر كيف كان الأمر لو أنّ القرآن المدنيّ نزل في مكّة قبل الهجرة، و واجه به النّبيّ قريشا، ثمّ لمّا هاجر إلى المدينة واجههم بالقرآن المكّيّ؟ هذه جزئيّة صغيرة من جزئيّات الموقف؛ لأنّها تقسم القرآن قسمين، فكيف يكون الحال لو تغايرت الآيات كلّها و اختلط بعضها ببعض، ثمّ كان على النّبيّ أن يتخيّر ما يشاء منها؟ أ كان ذلك يجي ء على الوجه الّذي نزل عليه القرآن؟ ثمّ لو كان ذلك ممكنا، أ كان للنّبيّ أن يمسك بعض الآيات و يرسل بعضها إلى أجل مسمّى؟ و إذن فهو التّنجيم الّذي يعترض عليه من الكفّار، و من في قلوبهم مرض.

و إذن فقد كان على النّبيّ أن يبلّغ هذا القرآن الّذي نزل

عليه، و أن يؤذّن به في النّاس مرّة واحدة، و بغير هذه الصّورة يظلّ على هذا الاعتراض- السّفيه- قائما. و اذكر هنا كفّار قريش، و استحضر أبا جهل و أبا لهب و أميّة بن خلف، و غيرهم من رءوس الكفر، و انظر

______________________________

(1)- المزّمّل/ 5.

(2)- الفرقان/ 52.

نصوص في علوم القرآن، ص: 487

كيف يكون الحال لو تلي عليهم القرآن هكذا مرّة واحدة في يوم أو يومين مثلا؟ و انظر بأيّ قلوب، و بأيّة آذان كانوا يستمعون إلى ما في القرآن عن بدر و أحد و الأحزاب و حنين؟ ما ذا يكون قول القرآن في تلك الأحداث الّتي لم تقع بعد؟ و ما ذا كان يمكن أن يقول في حديث الإفك مثلا؟ أو في تلك الأحداث الّتي أمسك بها بعد أن وقعت، و ناقشها مناقشة كاشفة، و حاسب أصحابها حساب العليم الحكيم العادل؟ ما ذا كان يمكن أن يقول القرآن في هذا و نحوه؟ كان لا بدّ أن يكون القرآن المقترح غير هذا القرآن، حتّى يجد من يسمع له، و لو مجرّد سماع! إنّ نزول القرآن نجوما على تلك الصّفة الّتي نزل بها قد مكّن له من أن يظلّ دائما على أحداث دعوته، مدافعا عنها، فاضحا أعداءه حين يضبطهم متلبّسين بما يدبّرون من زور و بهتان، و بما يبيّتون ما لا يرضى من القول! و في هذا ما فيه من مؤانسة للنّبيّ، و تثبيت لقلبه، و تطييب لخاطره، و إنعاش لروحه كلّما نسم أنسام السّماء، و وجد شميمها في غدوات جبريل و روحاته إليه. فعندئذ تتقشّع من نفسه سحب الهمّ و الضّيق الّتي كانت تسوقها إليه قريش، و غير قريش من المشركين و المنافقين، بما يدبّرون من

مكايد، و ما يبيّتون من ضرّ و أذى. كما أنّه كان النّاس دائما في ترقّب لما سينزل من قرآن يفضح ما في الصّدور، و يكشف ما في النّفوس من مضمرات السّوء.

ترتيل القرآن ترتيلا:

و ثاني الأمرين اللّذين كشف فيهما القرآن عن السّبب في نزوله منجّما هو ترتيل القرآن نفسه، فهذا التّرتيل ممّا أوجب اللّه تلاوة القرآن عليه و صحبته به، فقال تعالى مخاطبا نبيّه- و هو خطاب لأصحاب القرآن جميعا-: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا* نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا «1»

و قال سبحانه: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «2».

فهذا التّرتيل يقتضي زمنا طويلا ليتلى فيه القرآن عَلى مُكْثٍ، و لهذا فقد نزّله اللّه تنزيلا، أي شيئا شيئا، و حالا بعد حال، كأنّما ينزل كلمة كلمة، أو قطرة قطرة!

______________________________

(1)- المزّمّل/ 1- 4

(2)- الإسراء/ 106

نصوص في علوم القرآن، ص: 488

و تدبّر قوله تعالى: وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا، وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا، تجد في هذا النّغم المتقطّع مراحل زمنيّة، يأخذ القرآن فيها طريقه من السّماء إلى الرّسول الكريم، و إلى النّاس، و أنّ هذه المراحل بعضها طويل، و بعضها قصير، و بعضها أقصر، و هكذا، كما يشهد لذلك تاريخ القرآن، و كما تلمح هذا في مقاطع هاتين الفاصلتين.

و لعلّ لعلم الموسيقى و علمائها نظر في مقاطع هاتين الفاصلتين، و قياس المسافات الزّمنيّة فيها، ثمّ مراجعة ذلك على تاريخ النّزول القرآنيّ!

نقول هذا لا للبحث العلميّ و تقرير النّظريّات، و إنّما لمطالعة وجه من وجوه الرّوعة و الجلال في القرآن، فإن استبان لنا أخذنا حظّ النّفس و الرّوح من جلاله و روعته و جماله، و إلّا وجّهنا أنظارنا

إلى آفاق أخرى من القرآن الكريم، نطالع فيها وجوه الجمال و الجلال و الرّوعة من قريب!

و نعود إلى ما كنّا فيه من النّظر في قوله تعالى: وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا لما ذا يرتّل القرآن ترتيلا؟ و ما ذا لو سرد سردا؟ أ ينقص ذلك من معانيه؟ أو يذهب ببعض الدّلالات و المفاهيم لما فيه؟

و الجواب على هذه الأسئلة يحتاج إلى أن ننظر إلى أكثر من اتّجاه.

فأوّلا: القرآن الكريم ليس كتاب علم يقرّر الحقائق الّتي حملها إلى النّاس تقريرا علميّا، و لو كان ذلك من مقاصده لما طال هذا الطّول، و لما امتدّ هذا الامتداد، و لكان في الإمكان عرض حقائقه كلّها في آيات قليلة، لا تتجاوز سورة من سور المفصّل، أو من طوال السّور على أكثر تقدير.

و لكنّ القرآن كتاب تربية و تهذيب قبل كلّ شي ء، فهو يمهّد الطّريق إلى العقول و القلوب، قبل أن يغرس فيها ما يغرس من حقائق، شأن المربّي الّذي يقدّم وسائل الإيضاح بين يدي الحقائق الّتي يريد عرضها على الطّالبين.

إنّ أكثر الحقائق القرآنيّة معروفة للنّاس قبل أن ينزل القرآن بها، قد جاءت بها الأديان السّماويّة و غير السّماويّة ممّا اهتدى إليه النّاس بفطرتهم و بتجربتهم. و إنّما الّذي في القرآن هو هذا الأسلوب المعجز في عرضها و تجليتها، و تأليف العقول و القلوب لها،

نصوص في علوم القرآن، ص: 489

و خلط النّفوس و الأرواح بها.

و ترتيل القرآن داعية من أقوى الدّواعي لشرح الصّدور له، و تأليف القلوب عليه، و جذب النّفوس إلى تقبّل الحقائق الّتي حملها و الأخذ بها و التّجاوب معها. ذلك أنّ هذا التّرتيل يعرض الحقائق عرضا مشبعا بالجوّ العاطفيّ المناسب لها، فتجد مساربها إلى العقول و القلوب، و

تنفذ إليها في تدفّق و قوّة، فيستيقظ لها الكيان الإنسانيّ كلّه، و تصحو لها المشاعر و المدارك، و تتلقّاها في نشوة غامرة، و في روح و راحة و رضى.

إنّ هذا التّرتيل هو الموسيقى السّماويّة الّتي صحبت القرآن؛ كي تؤدّي بها الحقائق القرآنيّة لتبلغ غايتها المقدّرة لها من التّأثير و الإقناع، و بغير هذا التّرتيل تتعرّى هذه الحقائق من تلك الهزّة الرّوحيّة الّتي تلمس قرارة النّفس، و تمسّ صميم الوجدان. و من أجل هذا كان هذا التّوجيه الإلهيّ الّذي حمل إلى النّبيّ الكريم في صورة الأمر: وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا.

و قد امتثل النّبيّ هذا الأمر، و أخذ نفسه بهذا التّوجيه الحكيم في قراءة القرآن، و دعا أصحابه و من دخل في دعوته أن يتابعوه فيه، و في هذا يقول صلّى اللّه عليه و سلم: «ما أذن اللّه لشي ء ما أذن لنبيّ يتغنّى بالقرآن». و يقول النّبيّ الكريم أيضا: «زيّنوا القرآن بأصواتكم».

هذا و النّغم الموسيقى الّذي يشعّ من تلاوة القرآن نغم مصفّى من كلّ شائبة من تلك الشّوائب الّتي تصحب بعض الألحان الّتي تثير الغرائز الخسيسة، أو تهيج المشاعر النّازلة، و إنّما هو الجلال المهيب، و الرّوعة الآخذة، تحفّان بتلاوة القرآن، و تستوليان على كلّ من هو بمحضر أو مسمع من مجلس تلاوته.

و ثانيا: من حساب النّاس مع كلّ طيّب، من قول أو عمل، و من كلّ مادّي أو معنويّ من شئونهم أن يحرصوا على طول صحبتهم له، و أن يتوسّلوا بكلّ وسيلة تبقى على هذه الصّحبة أطول زمن ممكن.

و القرآن الكريم خير ما وقع للنّاس في هذه الحياة من طيّبات، تنعم بها الأرواح، و تسعد في ظلّها القلوب. و لهذا فقد كان من تمام هذه النّعمة

الكريمة الّتي أنعم بها على نبيّه و على الإنسانيّة كلّها أن ينزل القرآن منجّما مرتّلا. و بهذا يتضاعف الفضل، و تتزاوج النّعمة

نصوص في علوم القرآن، ص: 490

على النّبيّ و على أتباع النّبيّ جميعا؛ إذ يظلّ هذا الخير الغدق غاديا على النّبيّ و على صحابته ثلاثا و عشرين سنة، يتلقّون كلّ وقت جديدا من النّعم و مزيدا من الخير، حتّى إذا تمّ تمامه، و كمل بدره صحبوه على أسلوب أشبه بهذا الأسلوب الّذي نزل به، فرتّلوه هذا التّرتيل الّذي يطيل صحبتهم لكلماته و آياته، فلا يقطعون ما بين عبريه إلّا في أضعاف الزّمن الّذي يعبر به ما بين دفّتي المصحف، من يعدو عدوّا أو يجري جريا.

مواجهة الأحداث:

و الأمر الثّالث الّذي جاء بسببه القرآن منجّما هو مواجهة الأحداث الّتي تلتقي بالدّعوة الّتي يقوم عليها الرّسول الكريم، أو مشاركة الرّسول و مساندته في الصّراع الّذي يقع بينه و بين المعارضين و المعاندين، و ذلك ما يشير إليه قوله تعالى: وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً.

و قد أشرنا إلى شي ء من ذلك من قبل و قلنا: إنّه لو نزل القرآن جملة واحدة لما كان له مجال يتحرّك فيه مع الأحداث الّتي تواجه الرّسول، و لما كان في الإمكان أن يكون حديث عن مجادلات الكفّار و محاوراتهم و ردّ القرآن عليهم و إفحامه لهم، كما لا يمكن أن يكون فيه حديث عن تلك الأمور الّتي وقعت أثناء الدّعوة، كالإسراء، و استماع الجنّ إلى القرآن من النّبيّ و إيمانهم به، و هكذا ممّا ورد في القرآن من صور الواقع الّذي كانت تعيش فيه الدّعوة بين أوليائها و أعدائها، و هو قدر كبير من القرآن، كان ذا

أثر قويّ في التّمكين للدّعوة، و تثبيت قلوب المؤمنين بها، و كبت أعدائها في كلّ مجال تصدّوا لها فيه، سواء في مجال الجدل و الحجاج باللّسان، أو المصاولة و المضاربة في ميادين القتال.

(ص: 141- 147)

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ... آل عمران: 3

فهذه مقامات ثلاثة:

فالقرآن الكريم كان نزوله منجّما، فناسبه التّعبير بقوله تعالى: نُزِّلَ الّتي تفيد في صورتها النّطقيّة و السّمعيّة تقطيعا يدلّ على تكرار الحدث مرّة بعد مرّة. أمّا التّوراة

نصوص في علوم القرآن، ص: 491

و الإنجيل فقد نزلا دفعة واحدة، فناسبهما الفعل (انزل) الّذي يدلّ في صورتيه اللّفظيّة و السّمعيّة على مجرّد حدوث الفعل من غير تكرار الحدث مرّة بعد مرّة. ثمّ كان القرآن قد كاد يتكمّل حقيقته بهذا القدر الكبير الّذي نزل منه، إذ كانت سورة آل عمران- الّتي فيها هذه الآية- من أواسط السّور المدنيّة و بهذا ناسب أن يعبّر عن القرآن مرّة أخرى بالفعل (انزل) الّذي يدلّ على مجرّد النّزول. و يفهم من هذا أنّ القرآن نزل على صورة غير الصّورة الّتي نزلت عليها التّوراة و الإنجيل؛ إذ نزل نجوما مفرّقة، على حين أنّهما نزلا دفعة واحدة.

ثمّ لكي يكون هناك ما ينفى عن نزول القرآن على تلك الصّورة أنّه لم يكمل، و أنّه قد نزل بعضه و لم ينزل جميعه، قال: وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ، أي أنّه كمل أو في طريق الكمال، شأن الكتب السّماويّة الّتي نزلت جملة واحدة. و نزول القرآن على تلك الصّفة منجّما قد أكسبه خاصّيّة لا يمكن أن تتحقّق لو أنّه نزل جملة واحدة، و قد استطاع بنزوله نجوما هكذا أن يكون قائما على إحداث دعوته مدافعا عنها، فاضحا أعداءه حين يضبطهم متلبّسين بالإفك و البهتان و تبيّت ما لا يرضى من القول، ثمّ

لم يفقده ذلك شيئا ممّا ينبغي له من تمام و كمال، فلم تسقط منه كلمة، و لم ينخرم منه حرف. (ص: 307)

نصوص في علوم القرآن، ص: 492

الفصل الحادي و السّتّون نصّ الدّكتور العطّار (م: 1403 ه) في «موجز علوم القرآن»

نزول القرآن و تنزيله

تنزّلات القرآن: بعض آيات القرآن الكريم قرّرت نزول القرآن في شهر رمضان

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ ... «1»

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2».

و بعضها قرّرت تنزيله منجّما (خلال ما يقرب من ثلاث و عشرين سنة): وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «3».

في حين أنا نعلم أنّ الرّسول الأمين صلّى اللّه عليه و آله بعث بالرّسالة في السّابع و العشرين من شهر رجب- على أقوى الرّوايات- و إنّ أوّل ما نزل من القرآن هو ما صاحب البعثة الشّريفة، و هو قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ «4» و بعدها نزلت سورة المدّثّر.

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- القدر/ 1.

(3)- الإسراء/ 106.

(4)- العلق/ 1- 2.

نصوص في علوم القرآن، ص: 493

و منها يتبيّن أنّ القرآن أنزل في ليلة القدر، و تمّ تنزيله طيلة البعثة النّبويّة، و إنّ أوّل ما نزل من القرآن هو في شهر رجب، فكيف يمكن التّوفيق بين ما يبدو من تعارض؟

لا بدّ من التّفريق بين معنى الإنزال و التّنزيل، و الأصل في النّزول هو الورود على المحلّ من علوّ، و العلوّ كما يكون مكانيّا؛ فيقال: علا الطّائر، إذا ارتفع عن مستوى الأرض، فقد يكون شأنيّا؛ فيقال: علا مستوى الطّلبة- مثلا- حين تزداد معارفهم و يرتفع مستوى معلوماتهم.

فللإشارة إلى أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تلقّى القرآن الكريم من جهة عليا هي اللّه تعالى، جاء التّعبير عن وحيه بالنّزول.

على أنّ هنا

فرقا بين (الإنزال) و (التّنزيل) رغم دلالتيهما على الورود التّدريجيّ.

و حين يتّضح معنى كلّ من الإنزال و التّنزيل فلا يبقى تعارض، و يكون معنى قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ و قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ في رأي عدد من العلماء، هو النّزول الدّفعيّ للقرآن الكريم، أو الإجماليّ، بمعنى أنّه نزل إلى سماء الدّنيا ليلة القدر جملة واحدة، ثمّ نزل بعدها منجّما [ثمّ ذكر قول الزّركشيّ و القسطلانيّ، كما تقدّم عنهما، فقال:]

و يبدو أنّ الهدف من إنزال القرآن دفعة واحدة للمرّة الأولى هو تنوير النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالمعارف الإلهيّة الكبرى، و أسرار الكون العظيمة، ليمتلئ قلبه صلّى اللّه عليه و آله بالعلوم القرآنيّة، و الحقائق الكونيّة الجليلة؛ قال الزّنجانيّ: على أنّه يمكن أن نقول: بأنّ روح القرآن، و هي أغراضه الكلّيّة الّتي يرمي إليها تجلّت لقلبه الشّريف في تلك اللّيلة، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «1»

فيكون معنى قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا «2»

و قوله سبحانه: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «3»،

______________________________

(1)- الشّعراء/ 194.

(2)- الإنسان/ 23.

(3)- الإسراء/ 106.

نصوص في علوم القرآن، ص: 494

و نظائرها من الآيات يفيد (التّنزيل) لا (الإنزال)، و هو تنزيل القرآن منجّما و بصورة تدريجيّة.

قال ابن عبّاس: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدّنيا في ليلة القدر، ثمّ نزل بعد ذلك في عشرين سنة «1»، و عنده أيضا أنّه قال: الّذي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ: جبريل بالقرآن جملة إلى سماء الدّنيا، ثمّ نزل بعد ذلك على محمّد صلّى اللّه عليه و آله يوما بيوم، آية و آيتين و ثلاثا، و سورة «2».

و لعلّ

تنزيل القرآن تمّ لعلل؛ منها: تربية الأمّة و ترويضها و هدايتها و تمكينها من التّطبيق و الالتزام بالأحكام، و ما إليه ممّا سنذكره فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

و يتبيّن أنّ القرآن الكريم قد أنزل دفعة إجماليّة على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله أو إلى السّماء الدّنيا، ثمّ تدرّج نزوله طيلة حياته بعد البعثة. و من هذا البيان نفهم قوله تعالى: الر* كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ «3» فإنّها تشير إلى القرآن حالة كونه محكما، و قد أنزله اللّه تعالى على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله دفعة واحدة، ثمّ فصّل تفصيلا حين تنزّل عليه آيات متفرّقات خلال مدّة الدّعوة النّبويّة.

و منه يظهر أنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله حين تنزّل عليه الآيات و السّور كان على علم سابق بمحكم القرآن، لنزوله عليه جملة و دفعة واحدة. و هذا المعنى هو ما يلوح من قوله تعالى:

وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «4». فإنّها و أمثالها من الآيات ظاهرة في أنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله كان له علم بما سينزل عليه فنهي عن الاستعجال بالقراءة قبل قضاء الوحي.

و ممّا يؤيّد ما ذهبنا إليه، من بيان تنزّلات القرآن، ما ورد عن ابن عبّاس أنّه سأله ابن عطيّة .. [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ].

______________________________

(1)- فضائل القرآن/ 2.

(2)- تنوير المقباس (تفسير ابن عبّاس) 1: 86.

(3)- هود/ 1

(4)- طه/ 114.

نصوص في علوم القرآن، ص: 495

التّدرّج في تنزيل القرآن الكريم
اشارة

تمّ تنزيل القرآن الكريم وفق منهج الإسلام في تغيير المجتمع البشريّ، و طبقا لفطرة الإنسان. و إنّ هذا التّوافق بين تنزيل القرآن منجّما من جهة، و

بين طريقة الإسلام التّدرّجيّة في تغيير المجتمعات من جهة ثانية، و بين سنّة اللّه تعالى في تغيير المجتمعات التّدريجيّ، لهو آية من آيات وحدة مصدر الكون و الحياة و الإنسان، كما في دلالة قطعيّة على أنّ مصدر القرآن هو خالق الإنسان، و إلّا كيف حدث هذا التّوافق، و تمّ نقل المجتمع البشريّ من حضيض ما آل إليه أمره إلى المستوى الإنسانيّ اللّائق الّذي شهده العالم في ظلّ سيادة الإسلام العظيم.

لقد كان لتدرّج تنزيل القرآن أثر بالغ في نشر الدّعوة الإسلاميّة، و سنبحثه في المطلب الأوّل، كما أنّ هذا التّدرّج في التّنزيل تمّ لحكم تخصّ القرآن و الرّسول و المكلّفين من النّاس، و سنبحثها في المطلب الثّاني.

المطلب الأوّل- أثر تدرّج تنزيل القرآن في نشر الدّعوة الإسلاميّة
اشارة

إنّ التّغييرات الاجتماعيّة ليست عمليّة (ميكانيكيّة) بالنّسبة للفرد و المجتمع، بل هي حركة (ديناميكيّة) يتغيّر بموجبها المحتوى الدّاخليّ للإنسان، فتتغيّر بذلك المظاهر العامّة لحياة المجتمع. لذلك فإنّ أهمّ شرط من شروط نجاح أيّة فكرة تغييريّة، أن تنفذ إلى فطرة الإنسان، و أن تكون متساوية معها، غير متنافرة مع متطلّباتها و حاجاتها الضّروريّة، و إلّا فنصيبها الفشل العاجل أو الآجل.

و لقد عشنا، و سمعنا كثيرا من (الأطروحات) التّغييريّة الّتي تطرح في السّاحة الإنسانيّة أملا في أن يؤمن بها الفرد، و تسود الجماعة، و لكن سرعان ما تغدو فقاعة صابون تنجاب بأوّل هزّة، أو أن تبقى نظريّات مجرّدة تحتجنها بطون الكتب.

و من الجليّ أنّ (الأطروحة) الإسلاميّة مدهشة للغاية، من حيث ميزاتها الذّاتيّة و آثارها التّطبيقيّة. فإنّها في عمقها التّشريعيّ و شمولها لكلّ ألوان النّشاط الإنسانيّ الفرديّ

نصوص في علوم القرآن، ص: 496

و الجمعيّ، و على كلّ صعيد من جهة، و سرعتها الخارقة الّتي استطاعت خلالها أن تجسّد عقائدها و تشريعاتها، و

تمثّل قيمها و مثلها و تحقيق أهدافها و أغراضها، من جهة أخرى، قد تميّزت بميزات أفردتها عن سواها، و سجّلت في هذا المجال نصرا لم تشهد مثيله الإنسانيّة.

و لم تكن (الطّريقة) الفريدة الّتي مارستها الرّسالة الإسلاميّة في تغيير المجتمع تشوبها شائبة من شوائب (العفويّة) أو (الارتجال) أو (الاعتباط)، و إنّما كانت مقدّرة أحسن تقدير، و مرسومة من قبل العليم الخبير، و لهذا أثمرت للبشريّة أسمى حضارات كوكبنا الأرضيّ.

و لو تدبّرنا طريقة الدّعوة الإسلاميّة لوجدناها أخذت بالتّدرّج في ثلاثة مجالات:

الأوّل- التّدرّج في موضوع الرّسالة:

حيث بدأ الإسلام بتغيير عقائد النّاس و أفكارهم أوّلا، ثمّ راح يضع لهم القوانين و التّعاليم الّتي تنظّم الفرد و المجتمع ثانيا، و ذلك لأنّ الإنسان يسهل عليه أن يغيّر فكرة سبق أن آمن بها، و أن يقتنع بفكرة جديدة قام الدّليل على رجحانها، في حين يعسر عليه و يشقّ أن يغيّر تعاملا سلوكيّا سار عليه و اعتاده. و هذه القضيّة واضحة لمن تدبّر طبيعة الآيات الّتي نزلت في مكّة، فإنّها عقائديّة بصورة عامّة، أمّا الآيات الّتي نزلت بعد الهجرة فإنّها تشريعيّة عمليّة بصورة غالبة.

الثّاني- التّدرّج في نشر الرّسالة:

حيث باشر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله رسالته الكريمة بدعوته عشيرته الأقربين وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «1»، ثمّ اتّسعت الدّعوة فبلّغها للنّاس من حوله فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ .. «2»،

ثمّ راح يخاطب الملوك و الرّؤساء في العالم، «3» يعرض عليهم الإسلام باعتباره رسول اللّه

______________________________

(1)- الشّعراء/ 214.

(2)- الحجر/ 94.

(3)- راجع كتابه «التّفسير»، فصل التّنظيم الدّوليّ، رسائل النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى الملوك و الرّؤساء.

نصوص في علوم القرآن، ص: 497

إلى النّاس جميعا.

و من الجدير بالذّكر و التّأكيد أنّ طبيعة رسالة الإسلام كانت منذ البداية و بالأصل للنّاس جميعا حتّى يوم القيامة، و لكنّ التّدرّج وقع في مباشرة الرّسالة، كطريقة طبيعيّة و مضمونة النّجاح، و ليس الأمر كما يدّعي بعض المستشرقين من افتراء و تهم، يرمون بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من أنّه لم يكن يفكّر أوّل الأمر بالنّاس و بالدّولة، و إنّما كان قصده أهله و عشيرته، و حين اتّسقت له الأمور، وسّع رسالته و نشر دعوته و أقام دولته. فإنّ هذه الفرية مردودة من أساسها و واضحة البطلان بنصوص القرآن الكريم.

الثّالث- التّدرّج في الأساليب

حيث بدأ رسول اللّه الدّعوة بالقول اللّين و الإرشاد و الموعظة الحسنة. ثمّ ثنّى بالمواقف السّلبيّة و المقاطعات السّلميّة، و النّهي عن الرّكون إلى الأعداء، أو موالاة الجاهلين و أعداء الإسلام. ثمّ أردف ذلك بمقاومة المعتدين، و جهاد من يقف حائلا دون حرّيّة الرّسالة الغرّاء في دعوة النّاس إليها. و هذا التّدرّج ظاهر من آيات التّصبّر و التّسلية الّتي كانت تنزل على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله؛ لتسليته عمّا يعاني من اضطهاد قريش. ثمّ أذن اللّه تعالى بقتال من يقاتل المسلمين، فمارس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله الدّفاع الشّرعيّ لحماية المسلمين من العدوان، و إتاحة المجال لممارسة التّبشير بالإسلام.

لقد كان لهذا التّدرّج في مجالاته الثّلاثة أبلغ الأثر في شمول الإسلام للعالم، و فتحه للقلوب قبل الأقطار، و دون أيّة مقاومة شعبيّة تذكر، في أكثر البلدان الّتي حرّرها الإسلام.

و إنّ الطّريقة التّدرجيّة الّتي مارس الإسلام بموجبها دوره في الهداية و التّنظيم الواسع الشّامل، ليجسد حقيقة ناصعة، هي أنّ الإسلام التّشريعيّ الأصلح و الأمثل للإنسان باعتباره دين الفطرة فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ «1».

و إنّ هذه الطّريقة كانت نتيجة حتميّة لنزول القرآن منجّما؛ إذ أنّ من الواضح لو نزل

______________________________

(1)- الرّوم/ 30.

نصوص في علوم القرآن، ص: 498

جملة، لوجب تكليف النّاس به دفعة واحدة. و لكان الأمر على غير ما حدث. و لكنّ حكمة الباريّ عزّ و جلّ و لطفه و رحمته بالنّاس، كلّ ذلك يسّر على النّاس الأمر و ضمن للرّسالة، النّجاح و الانتشار السّريع.

المطلب الثّاني- حكم تدرّج تنزيل القرآن
اشارة

على ضوء ما سبق بيانه، نلمس أنّ التّدرّج في التّنزيل جاء منسجما مع طبائع المجتمع، و مقرّرا أسلوب الإسلام في العمل الاجتماعيّ، لا سيّما و أنّ القرآن يمثّل المصدر الأوّل للتّشريع الإسلاميّ.

و لم يكن هذا التّدرّج إلّا لحكم إلهيّة بالغة، اقتضتها مشيئة اللّه تعالى، و أحاط بها علمه الّذي أحاط بكلّ شي ء، و وضع لكلّ شي ء قدرا، و نحن و إن كنّا نجهل تلك الحكم بحقائقها، غير أنّا حين نذكر بعضها فإنّما نذكر ما وقفت عليه عقولنا و أدركته أفكارنا، و دون أن ندّعي أن ما ندركه هو الحقائق الشّرعيّة الثّابتة القطعيّة، بل هي حكم راجحة ظاهرة.

و يمكن تصنيف هذه

الحكم إلى ثلاثة أصناف: حكم تخصّ الرّسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله، و أخرى تخصّ القرآن، و ثالثة تخصّ النّاس.

أوّلا- حكم تخصّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله

1- إظهار عظمة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله: إنّ نزول القرآن جملة في شهر رمضان في ليلة القدر، و تردّد الوحي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من لدن البعثة المباركة حتّى وفاته تفصح عن عظيم مكانته عند اللّه تعالى، و سموّ منزلته، و جليل رعاية اللّه تعالى له و عنايته به؛ لأنّ الحبيب يكثر من ملاقاة محبّه و يزيد من تردّده عليه.

2- تثبيت فؤاد الرّسول صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بشر، و قد أنيطت به مهمّة تحويل مجرى حياة البشريّة تحويلا يستمرّ إلى يوم القيامة، و إرساء قواعد حضارة تبقي صالحة كرّ الدّهور، و حمل رسالة كتب اللّه تعالى على نفسه أن يظهرها، و ينصرها على الدّين كلّه.

و مع عظمة المسئوليّة الملقاة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، نجده عديم المال فاقد الأنصار، لا يملك من الوسائل التّغييريّة، إلّا أصالة الرّسالة الّتي يحملها، و قوّة الإيمان الّذي ينطلق

نصوص في علوم القرآن، ص: 499

منه، فليس معه أحد إلّا الصّفوة من أهله و عشيرته، أمّا سائر أفراد عشيرته و جميع النّاس حوله، فيقفون وجها لوجه أمام دعوته، بكلّ ضراوة، و بشراسة لا توصف.

و لا غرو أنّ مثل هذه المهمّة صعب جدّا، بل هو فوق طاقة البشر. فكان لا بدّ من إمداد غيبيّ مستمرّ، حتّى يكمل الدّين، و تتمّ النّعمة، و يسود الإسلام. و كان هذا الإمداد إسعافا و نجدة إلهيّة، تربط جنان الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بآية تسلية أو بتأكيد

النّصر له، كلّما ادلهمّ الخطب، و اعصوصب الأمر.

و لطالما كان الملك جبريل ينزل إليه صلّى اللّه عليه و آله لتسليته وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا «1»

فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «2»، فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ «3»

و كان الوحي بأمر اللّه يدرأ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما يكال له من الأكاذيب و التّهم، و ممّا نزل في هذا المجال قوله تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ* وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا ... «4»

3- تيسير حفظ القرآن: إنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله كان أمّيّا لا يقرأ و لا يكتب، و إنّ تدرّج تنزيل القرآن الكريم، يسّر عليه حفظه، بخلاف غيره من الأنبياء، فإنّهم كانوا يقرءون و يكتبون، فيمكنهم حفظ ما ينزل إليهم من الشّرائع و الرّسالات.

فلقد كان موسى عليه السّلام كاتبا، كما تذكر التّوراة الّتي بأيدينا، فقد جاء فيها: (و قال الرّبّ لموسى اكتب لنفسك هذه الكلمات؛ لأنّني بحسب هذه الكلمات قطعت عهدا معك ...

فكتب على اللّوحين كلمات العهد، الكلمات العشر) «5».

______________________________

(1)- المزّمّل/ 10.

(2)- الأحقاف/ 35.

(3)- فاطر/ 8.

(4)- الأنعام/ 33- 34.

(5)- التّوراة/ سفر الخروج، الإصحاح 34/ 27، 28.

نصوص في علوم القرآن، ص: 500

و قال الفرّاء في معنى قوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «1»، إنّهما من قول المشركين، أي هلّا أنزل عليه القرآن جملة واحدة كما أنزلت التّوراة على موسى.

قال اللّه: وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا لنثبّت

به فؤادك، كان ينزل الآية و الآيتين «2». [ثمّ حكى قول أبي شامّة و ابن فورك، كما تقدّم عن أبي شامّة].

و لقد ساوى اللّه نبيّنا بسائر الأنبياء في إنزاله القرآن جملة «3»، و فضّل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على سائر الأنبياء بتنزيله منجّما مرّة أخرى ليحفظه؛ إذ أنّ تردّد الوحي في كلّ ما يستجدّ من حادثة أشدّ عناية بالمرسل إليه، كما أنّ فيه ما يبعث السّرور في قلب الرّسول صلّى اللّه عليه و آله.

و الأمّيّة في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صفة تعلي شأنه، و تظهر إعجاز القرآن بجلاء، حيث أنّ القراءة و الكتابة وسيلة للعلم لا غاية بذاتها. و قد جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما لم يأت به من نبيّ و لا رسول و لا أحد من قبله و لا من بعده، من سعة الشّريعة الغرّاء و شمولها و سموّها. و لو كان يقرأ و يكتب لما كان هذا الشّأن الّذي أبهر علماء العالم.

ثانيا- حكم تخصّ القرآن:

1- بيان إعجازه: إنّ القرآن الكريم حين نزل آية أو آيتين إلى عشر آيات طيلة ما يقرب من ثلاث و عشرين سنة، على نسق واحد و سموّ واحد، دون تعارض أو اختلاف، و هو يمرّ خلال تنزيله بأحوال شتّى، تعرض لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من شدّة و رخاء و عسر و يسر، دون أن ينعكس ذلك على القرآن، و دون أن يظهر فيه أيّ لون من ألوان الانفعال البشريّ الّذي تثيره تلك الأحداث الجسام، فإنّ ذلك أظهر لعظمة القرآن، و آكد لإعجازه

______________________________

(1)- الفرقان/ 32.

(2)- معاني القرآن 2: 267 و ما بعدها.

(3)- قال السّيوطيّ: إنّ سائر الكتب أنزلت جملة،

و هو مشهور في كلام العلماء و على ألسنتهم حتّى كاد يكون إجماعا، و قد رأيت بعض فضلاء العصر أنكر ذلك، و قال إنّه لا دليل عليه، بل الصّواب أنّها نزلت مفرّقات كالقرآن. و أقول: الصّواب الأوّل.

راجع الأدلّة على ذلك: معترك الأقران في إعجاز القرآن 2: 207.

و جاء أيضا: أنّ نزول التّوراة على موسى كان على زمان تكليمه ... متراخيا في أكثر من أربعين سنة. (تفسير شبّر، هامش: 12).

نصوص في علوم القرآن، ص: 501

و وحيه، و هو يتحدّى الثّقلين أن يأتوا بسورة من مثله طيلة هذه الأعوام.

2- بيان الميزة العمليّة للقرآن: لم يكن القرآن كتابا نظريّا يطرح في المجتمع ليتفاعل معه. و على ضوء ما تتمخّض عنه التّجربة تجري عليه التّعديلات اللّازمة، و يمارس فيه النّقض و الإبرام. إنّ هذا هو شأن ما يتولّد عن العقل البشريّ؛ حيث أنّ العقل محدود، فما يتولّد عنه لا بدّ أن يكون محدودا. أمّا القرآن الكريم فإنّه الر* كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ «1».

لقد جاء القرآن ليطبّق و يهتدي به النّاس، و ينظّم شئونهم المعاشيّة و المعاديّة، و ليقرّر الحقوق و الواجبات للفرد و الجماعة، و يقيم الموازين القسط بين النّاس. لذا كان لزاما أن يأتي مطابقا لسنّة اللّه في تغيّر المجتمعات و تطوّرها التّدريجيّ. و هكذا تمّ تنزيل القرآن على هذه السّنّة؛ يأتي إلى النّاس شيئا فشيئا، فيتغيّر النّاس بموجبه شيئا فشيئا، حتّى كمل تنزيل القرآن، فكان المجتمع قد تغيّر بكامل جوانبه.

فالجانب العمليّ في القرآن ليس في المجال الموضوعيّ، و ما جاء به من تشريعات و أحكام و قواعد و نحو ذلك فحسب، بل إنّه كان (عمليّا) في الطّريقة أو الأسلوب الّذي تمّ

تنزيله، و لو لا هذا الأسلوب لما امتاز بسمته العمليّة الّذي ميّزته و أكسبته قوّة فعّالة إلى جانب قوّته الموضوعيّة الأصليّة في التّأثير.

3- أولويّة الوحي: ممّا روعي في تنجيم القرآن أولويّة ما يكون مائلا من الوقائع؛ إذ أنّ بسط الموضوع نظريّا ليس له من التّأثير- عقائديّا و اجتماعيّا- كما لو نزل الحكم إثر واقعة من الوقائع، أو عند احتياج النّاس إليه، الأمر الّذي كان يكسب الأحكام صفة الالتزام المباشر من قبل النّاس. فإذا أنزلت آية في أحكام الأسرى، و ليس لدى المسلمين أسرى فإنّ الالتزام بها سيكون في المستقبل. و لكن حين تنزل إثر وقوع المشركين أسرى، و المسلمين لا يعلمون أحكامهم هل يفدون أم يطلق سراحهم منّا؟ أم ... فإنّه ممّا لا شكّ فيه سيكون لنزول القرآن حسب الحاجة، و مع الوقائع من الأثر التّطبيقيّ ما لا يكون له فيما لو نزل نظريّا دون وجود الحاجة.

______________________________

(1)- هود/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 502

و إذا كان القرآن قد نزل منجّما؛ ليساير أولويّة ما يستجدّ من الوقائع، فإنّ نصوصه و أحكامه التّشريعيّة تبقى عامّة شاملة لا تختصّ بما نزلت لمعالجته من الوقائع، بل هي حسب القاعدة (العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب).

4- التّدرّج التّشريعيّ: إنّ تنزيل القرآن تدريجيّا كان تحاشيا لهزّات اجتماعيّة عنيفة، و ردّات انتكاسيّة حادّة، كان من المحتمل أن تحدث، لو لا أن جاء القرآن تبعا للوقائع و الأحداث، و وفق ما تستوعبه طبيعة المجتمع.

فالرّسالة الإسلاميّة بعامّة، و القرآن بخاصّة، مدّ النّاس رويدا رويدا بما يوافق تطويرهم من التّشريعات. و لأنّ ما جاء به القرآن الكريم يشمل النّواحي الحياتيّة جميعها، فلم يكن من الحكمة أن يوضع بين يدي النّاس تشريع يتناول عقائدهم و

تعاملهم و أخلاقهم دفعة واحدة. و لو تمّ ذلك لما نفذ إلى القلوب، و لبقي ما بقيت القوّة مهيمنة، و سرعان ما يرتدّ «1» النّاس عمّا أكرهوا عليه، في حين نجد أنّ العقيدة و الالتزام بالإسلام استقرّ في قلوب المسلمين، و بالرّغم من كلّ المحن و الهزّات الّتي حدثت من لدن وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى يومنا الحاضر، فإنّ الإسلام ملأ قلوب المسلمين، فكأنّه خالط دماءهم و استقرّ في عروقهم.

ثالثا- حكم تخصّ النّاس:

1- قوّة الإلزام و الإقناع: إنّ نزول القرآن تنجيما جعل للحكم المنزل قوّة إلزاميّة واضحة، باعتباره حكم اللّه المنزل في تلك الواقعة، و في ذلك الظّرف. و منحه قوّة الاقتناع به، و التّسليم له، و لنزوله عند قيام الحدث، أو مثول الواقعة.

فالمصاحبة الزّمنيّة بين الحكم الّذي تنزل به الآية، و الحدث أو الواقعة سبب متين للامتثال و التّطبيق. الأمر الّذي أحدث ترابطا و تلازما بين التّشريع و التّنفيذ. و لهذا كان المسلمون، إذا سمعوا عشرا من الآيات يهرعون لتطبيقها، ثمّ يعودون للاستزادة، و لو

______________________________

(1)- لقد بالغ المستشرقون في عدد من ارتدّ في عهد أبي بكر، طعنا في الإسلام. و الأمر لم يقع كما ذكروا، و إنّما ارتدّ أفراد في الجزيرة العربيّة، و امتنع جماعة من مبايعة الخليفة، و ثارت قبائل و ثنيّة لم تسلم من قبل، حتّى سمع أحد الأسرى يقول:

«ما آمنت طرفة عين قطّ» و امتنع آخرون عن أداء مال الزّكاة، فقال أبو بكر: «لو منعوني عقالا لقاتلتهم» فجرى قتالهم.

نصوص في علوم القرآن، ص: 503

فرض نزوله دفعة واحدة لما تحقّق ذلك.

2- ربط المسلمين بالمصدر التّشريعيّ: كان من جرّاء تنجيم القرآن الكريم، أن صار المسلمون إذا وقعت واقعة، أو جدّ

أمر استشرفوا هبوط الوحي، و انتظروا حكم اللّه تعالى ينزل إليهم، و في هذا أشدّ وثيق لتصرّفات النّاس بالمصدر التّشريعيّ، و إخضاع إرادة المسلمين لإرادة خالقهم المشرّع سبحانه و تعالى.

3- دفع الضّيق و الحرج التّشريعيّ: إنّ تنزيل القرآن نجوما جعل الشّرع يحيط بالنّاس شيئا فشيئا دون شعورهم بأدنى حرج، فهم ينفّذون الإسلام، و ينسلّون من الجاهليّة في سياق حياتهم الاعتياديّة، من غير إلجاء و لا إكراه، في حين لو نزل التّشريع دفعة واحدة، و ألزم النّاس به جملة، لوجد النّاس فيه حرجا و كلفة، و لعانوا منه ضيقا و مشقّة، وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «1».

و مرّة أخرى إنّ هذه الحكم إن هي إلّا أفكار إسلاميّة، و ليست أحكاما شرعيّة، و قد ذكرناها بناء على ما وقفنا عليه من أسرار التّشريع، و مقاصد الشّريعة و أحداث السّيرة الشّريفة. و اللّه تعالى هو العالم المطّلع على الأسرار و السّرائر.

و من الرّاجح أن نضيف لهذه الحكم كون القرآن يتضمّن النّاسخ و المنسوخ، و مقتضاه أن ينزّل منجّما. كما أنّه يتضمّن الإنكار، لما قد يقع، و جواب من سيسأل أمرا ما، فإنّ كلّ ذلك يقتضي نزوله منجّما. و في علم اللّه تعالى من حكم التّنجيم ما لم نحط به علما، و ما أوتينا من العلم إلّا قليلا. (ص: 107- 124)

______________________________

(1)- الإسراء/ 106.

نصوص في علوم القرآن، ص: 504

الفصل الثّاني و السّتّون نصّ الشّيخ معرفت (ت: 1356 ه) في كتابه: «التّمهيد في علوم القرآن»

بدء نزول القرآن

لا شكّ أنّ القرآن نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ليلة القدر من شهر رمضان المبارك؛ لقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «1»، و قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «2»، و قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ

الْقَدْرِ «3».

و ليلة القدر- عندنا- مردّدة بين ليلتين في العشر الأخير من شهر رمضان المبارك إحدى و عشرين أم ثالثة و عشرين؟ و الأرجح أنّها الثّانية؛ لحديث الجهنيّ «4».

و قال الصّدوق رحمه اللّه: اتّفق مشايخنا على أنّها ليلة ثلاث و عشرين «5».

و الكلام في تعيين ليلة القدر ليس من مبحثنا الآن، و إنّما يهمّنا التّعرّض لجوانب من

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- الدّخان/ 3.

(3)- القدر/ 1.

(4)- راجع وسائل الشّيعة 7: 262 ح 16 باب 32 من أبواب أحكام شهر رمضان.

(5)- الخصال 2: 102.

نصوص في علوم القرآن، ص: 505

هذا التّحديد، أي نزول القرآن في ليلة واحدة- هي ليلة القدر- من شهر رمضان؛

أوّلا: منافاته- ظاهرا- مع ما أسلفناه من اتّفاق الإماميّة و عدد من أحاديث غيرهم، على أنّ البعثة كانت في رجب، و لا شكّ أنّ البعثة كانت مقرونة بنزول آي من القرآن، خمس آيات من أوّل سورة العلق. فكيف يتمّ ذلك مع القول بنزول القرآن- كلّه أو بدء نزوله- في شهر رمضان في ليلة القدر؟

ثانيا: ما ذا يكون المقصود من نزول القرآن في ليلة واحدة هي ليلة القدر؟ هل نزل القرآن كلّه جملة واحدة تلك اللّيلة؟ مع العلم أنّ القرآن نزل نجوما لفترة عشرين أو ثلاث و عشرين عاما، حسب المناسبات و الظّروف المختلفة، و دعيت باسم «أسباب النّزول» فكيف ذلك؟

ثالثا: ما هي أوّل آية أو سورة نزلت من القرآن؟ فإن كانت هي سورة العلق أو آي منها، فلم سمّيت سورة الحمد بفاتحة الكتاب؟ إذ ليس المعنى أنّها كتبت في بدء المصحف؛ لأنّ هذا التّرتيب شي ء حصل بعد وفاة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، أو لا أقلّ في عهد متأخّر من حياته فرضا، في حين أنّها كانت

تسمّى بفاتحة الكتاب منذ بداية نزولها «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» «1»، حديث مأثور عن لسان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و للإجابة على هذه الأسئلة الثّلاثة- بصورة إجماليّة- نقول: إنّ بدء البعثة يختلف عن بدء نزول القرآن ككتاب سماويّ لأنّه صلّى اللّه عليه و آله نبّئ و لم يؤمر بالتّبليغ العامّ إلّا بعد ثلاث سنوات، كان خلالها يدعو في اختفاء حتّى نزلت الآية فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ «2». و من هذا الحين جعل القرآن ينزل تباعا بسمة كونه كتابا أنزل من السّماء، و كان يسجّل على العسب و اللّخاف، يكتبه من كان يعرف الكتابة من المؤمنين، و هم عدد قليل خلال عشرين عاما.

و قد كان بدء نزول القرآن- بعد تلك الفترة- في ليلة القدر من شهر رمضان. و بهذا الاعتبار صحّ التّعبير بأنّ القرآن نزل في ليلة القدر، و إن كان نزوله تباعا استغرق عشرين

______________________________

(1)- صحيح مسلم 2: 9؛ منتخب كنز العمّال بهامش المسند 3: 180.

(2)- سورة الحجر/ 94.

نصوص في علوم القرآن، ص: 506

عاما؛ إذ كلّ حدث خطير تكون له مدّة و امتداد، فإنّ تاريخه يسجّل حسب مبدأ شروعه، كما سنفصّل الكلام عنه.

أمّا أوّل آية نزلت فهي الآيات الخمس من أوّل سورة العلق، و نزلت بقيّتها في فترة متأخّرة. غير أنّ أوّل سورة كاملة نزلت من القرآن هي سورة الحمد، و من ثمّ سمّيت بفاتحة الكتاب. هذا إجمال الكلام حول هذه المواضيع الثّلاثة، و أمّا التّفصيل فهو كما يلي:

فترة ثلاث سنوات:

و لنفرض أنّ البعثة كانت في رجب، حسب رواية أهل البيت و لفيف من غيرهم، لكنّ القرآن- بسمة كونه كتابا سماويّا و دستورا إلهيّا خالدا- لم ينزل عليه إلّا بعد فترة

ثلاث سنين، كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله خلالها يكتم أمره من ملأ النّاس، و يدعو إلى اللّه سرّا، و من ثمّ لم يكن المشركون يتعرّضون أذاه، سوى طعنات لسنية؛ حيث لا يرون من شأنه ما يخشى على دينهم.

و كان يصلّي إذ ذاك مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أربعة: عليّ و جعفر و زيد و خديجة، و كلّما مرّ بهم ملأ من قريش سخروا منهم.

قال عليّ بن إبراهيم القمّيّ: فلمّا أتى لذلك ثلاث سنين، أنزل اللّه عليه: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ* وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ «1»، قال: و كان ذلك بعد أن نبّئ بثلاث سنين «2».

و قال اليعقوبيّ: و أقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمكّة ثلاث سنين يكتم أمره «3».

و قال محمّد بن إسحاق: و بعد ثلاث سنين من مبعثه نزل فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ، فأمر أن يجهر بالدّعوة و يعمّ الإنذار «4».

قال الإمام الصّادق عليه السّلام: «مكث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمكّة بعد ما جاءه الوحي عن اللّه

______________________________

(1)- الحجر/ 94- 96.

(2)- تفسير القمّيّ: 353؛ بحار الأنوار 18: 54 و 179.

(3)- تاريخ اليعقوبيّ 2: 19.

(4)- سيرة ابن هشام 1: 280؛ المناقب- ابن شهرآشوب 1: 40 و البحار 18: 194.

نصوص في علوم القرآن، ص: 507

تبارك و تعالى ثلاث عشرة سنة، منها ثلاث سنين مختفيا خائفا لا يظهر أمره، حتّى أمره اللّه أن يصدع بما أمر به، فأظهر حينئذ الدّعوة» «1».

و هذه الرّوايات إذا لاحظناها مع روايات قائلة: إنّ فترة نزول القرآن على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله استغرقت عشرين عاما، تعطينا أنّ مبدأ نزول القرآن كان متأخّرا عن البعثة بثلاث سنوات، إذ لا

شكّ أنّ القرآن كان ينزل عليه صلّى اللّه عليه و آله حتّى عام وفاته صلّى اللّه عليه و آله: و بذلك يلتئم القول بأنّ بدء نزول القرآن كان في شهر رمضان، ليلة القدر، كما نصّ عليه القرآن الكريم.

قال الإمام الصّادق عليه السّلام: «ثمّ نزل القرآن في طول عشرين عاما»، كما جاء في رواية الكلينيّ «2» و العيّاشيّ «3»، و أشار إليه الصّدوق «4» و المجلسيّ «5». و النّصّ على تحديد فترة نزول القرآن بعشرين عاما كثير «6».

و إلى هذا المعنى تشير الرّواية عن سعيد بن المسيّب؛ قال: أنزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو ابن ثلاث و أربعون «7»، أي أنزل عليه القرآن عند ذلك، إذ لا شكّ أنّ النّبوّة نزلت عليه صلّى اللّه عليه و آله عند اكتمال الأربعين، و هذا إجماع الأمّة، و عليه اتّفاق كلمتهم، فكيف يخفى على مثل سعيد؟

و أوضح من ذلك ما رواه الإمام أحمد بسند متّصل إلى عامر الشّعبيّ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نزلت عليه النّبوّة و هو ابن أربعين سنة ... [و ذكر كما تقدّم عن ابن كثير ثمّ قال:]

و هذه الرّواية و إن كانت فيها أشياء لا نعرفها، و لعلّها من اجتهاد الشّعبيّ الخاصّ، لكنّ الّذي نريده من هذه الرّواية هو جانب تحديد نزول القرآن في مدّة عشرين عاما، و إنّ

______________________________

(1)- الغيبة للشّيخ الطّوسيّ: 217، و كمال الدّين للصّدوق، و البحار: 18: 177.

(2)- الأصول من الكافيّ 2: 629.

(3)- تفسير العياشيّ 1: 80.

(4)- الاعتقادات: 101.

(5)- بحار الأنوار 18: 253 و 250.

(6)- الإتقان 1: 40 و تفسير شبّر: 350 عند تفسير آية 32 من سورة الفرقان.

(7)- مستدرك الحاكم 2: 610.

نصوص في علوم

القرآن، ص: 508

نزوله تأخّر عن البعثة بثلاث سنين، و هذا شي ء متّفق عليه.

آراء و تأويلات

و أمّا تأويل نزول القرآن في ليلة القدر من شهر رمضان، مع العلم أنّ القرآن نزل منجّما طول عشرين أو ثلاث و عشرين عاما، في فترات و مناسبات خاصّة: تدعى بأسباب النّزول، فللعلماء في ذلك آراء و تأويلات؛

1- إنّ بدء نزوله كان في ليلة القدر من شهر رمضان، و هذا اختيار محمّد بن إسحاق «1» و الشّعبيّ «2»؛ و قال الإمام الرّازيّ: و ذلك لأنّ مبادئ الملل و الدّول هي الّتي تؤرّخ بها؛ لكونها أشرف الأوقات، و لأنّها أيضا أوقات مضبوطة معلومة «3». و هكذا فسّر الزّمخشريّ الآية بذلك؛ قال: ابتدئ فيه إنزاله «4».

و هو الّذي نرتئيه، نظرا لأنّ كلّ حادث خطير إذا كانت له مدّة و امتداد زمنيّ، فإنّ بدء شروعه هو الّذي يسجّل تاريخيّا، كما إذا سئل عن تاريخ دولة أو مؤسّسة أو تشكيل حزبيّ، أو إذا سئل عن تاريخ دارسة طالب علم أو تلبّسه الخاصّ و أمثال ذلك، فإنّ الجواب هو تعيين مبدأ الشّروع أو التّأسيس لا غير.

و أيضا فإنّ قوله تعالى: (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) و الآيات الأخر، حكاية عن أمر سابق لا يشمل نفس هذا الكلام الحاكي، و إلّا لكان اللّفظ بصيغة المضارع أو الوصف. فنفس هذا الكلام دليل على أنّ من القرآن ما نزل متأخّرا عن ليلة القدر، اللّهمّ إلّا بضرب من التّأويل غير المستند، على ما سيأتي.

كما أنّ اختلاف مناسبات الآيات حسب الظّروف و الدّواعي أكبر دليل على اختلاف مواقع نزولها؛ إذ يربط ذلك كلّ آية بحادثة في قيد وقتها، و هذا في كلّ آية نزلت بشأن حدث أو واقعة وقعت في وقتها الخاصّ، و

جاءت آية تعالجها في نفس الوقت. كلّ ذلك

______________________________

(1)- مجمع البيان 2: 276.

(2)- الإتقان 1: 40.

(3)- التّفسير الكبير 5: 85.

(4)- الكشّاف 1: 227.

نصوص في علوم القرآن، ص: 509

دليل على أنّ القرآن لم ينزل جملة واحدة، و إلّا لما كان موقع لقولة المشركين: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً، و قال تعالى ردّا على هذا الاعتراض: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «1»، أي كان نزول القرآن تباعا و في فترات مناسبة أدعم لاطمئنان قلبك؛ حيث الشّعور بعناية اللّه المتواصلة في كلّ آونة و مناسبة «2».

و ذهب إلى هذا الرّأي أيضا ابن شهرآشوب في المناقب؛ قال: (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)، أي ابتدأ نزوله «3». و قال في متشابهات القرآن: و الصّحيح أنّ القرآن في هذا الموضع لا يفيد العموم، و إنّما يفيد الجنس، فأيّ شي ء نزل فيه فقد طابق الظّاهر ... [ثمّ ذكر كلام الشّيخ المفيد ردّا على الشّيخ الصّدوق كما تقدّم عنه].

2- كان ينزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في كلّ ليلة قدر من كلّ عام ما كان يحتاج إليه النّاس في تلك السّنة من القرآن، ثمّ ينزله جبريل حسب مواقع الحاجة شيئا فشيئا بما يأمره اللّه تعالى. فيكون المقصود من شهر رمضان هو النّوع، لا رمضان خاصّ، و هو احتمال الإمام الرّازيّ أيضا «4».

و هذا اختيار ابن جريج «5» و السّدّيّ، و أسنده الأخير إلى ابن عبّاس أيضا «6» و نقله القرطبيّ عن مقاتل بن حيّان، و وافقه الحليميّ و الماورديّ و غيرهما «7».

غير أنّ هذا الاختيار يخالفه ظاهر قوله تعالى: أُنْزِلَ فِيهِ أو أَنْزَلْناهُ، حكاية عن حدث سابق، فلو صحّ هذا القول لكان المناسب أن يقول: ننزله،

صفة للحال.

و أيضا يردّه ما استبعدناه على الرّأي الخامس الآتي: ما هي الفائدة المتوخّاة من نزول قرآن قبل الحاجة إليه؟ و لا سيّما في صيغة جملة الماضي أو الحال المستدعية كونها

______________________________

(1)- الفرقان/ 32.

(2)- الإتقان 1: 41.

(3)- مناقب آل أبي طالب 1: 150.

(4)- التّفسير الكبير 5: 85.

(5)- الدّرّ المنثور 1: 189.

(6)- مجمع البيان 2: 276.

(7)- الإتقان 1: 40.

نصوص في علوم القرآن، ص: 510

نزلت لمناسبة وقتيّة، لا موقع لنزولها قبل ذلك حسب التّعبير اللّفظيّ.

3- شهر رمضان الّذي نزل في شأنه القرآن، أي في فرض صيامه، كما يقال: نزل في فلان، أو في مناسبة كذا قرآن. و المراد من القرآن آية أو؟؟؟ نه «1».

قال الضّحّاك: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، أي الّذي أنزل صومه في القرآن «2». و قال سفيان بن عيينة: معناه أنزل في فضله القرآن، و اختاره الحسين بن الفضل و ابن الأنباريّ «3».

لكنّ هذا الوجه يخصّ آية البقرة، و لا يجري في آيتي الدّخان و القدر كما لا يخفى، فضلا عن أنّه تأويل في اللّفظ لا مبرّر له و لا مستند.

4- إنّ معظمه نزل في أشهر رمضان، و من ثمّ صحّت نسبة الجميع إليه. و هذا احتمال ثان احتملهما سيّد قطب؛ قال: الشّهر الّذي أنزل فيه القرآن إمّا بمعنى أنّ بدء نزوله كان في رمضان، أو أنّ معظمه نزل في أشهر رمضان «4».

لكن لا دليل على أنّ معظم آيات القرآن نزلت في أشهر رمضان و في ليلة القدر بالخصوص، و لعلّ الواقعيّة تأبى هذا الاحتمال رأسا.

5- القرآن نزل جملة واحدة في ليلة واحدة، هي ليلة القدر إلى بيت العزّة أو البيت المعمور، ثمّ نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في

فترات و مناسبات، طول عشرين أو ثلاث و عشرين عاما. ذهب إلى هذا القول جماعة من أرباب الحديث؛ نظرا لظاهر أحاديث رويت في ذلك ... [ثمّ ذكر قول الشّيخ الصّدوق و العلّامة المجلسيّ، كما تقدّم عنهما].

و أخرج الطّبرانيّ و غيره عن ابن عبّاس؛ قال: أنزل القرآن ليلة القدر جملة واحدة إلى السّماء الدّنيا، و وضع في بيت العزّة، ثمّ أنزل نجوما على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في عشرين سنة.

قال جلال الدّين: و هذا هو أصحّ الأقوال و أشهرها، و روى في ذلك روايات كثيرة،

______________________________

(1)- مجمع البيان 1: 276، الكشّاف 1: 227.

(2)- الدّر المنثور 1: 190.

(3)- التّفسير الكبير- الرّازيّ 5: 80.

(4)- في ظلال القرآن 2: 79.

نصوص في علوم القرآن، ص: 511

حكم على أكثرها بالصّحّة، رواها عن الحاكم و الطّبرانيّ و البيهقيّ و النّسائيّ و غيرهم «1» ..

[و ذكر رواية ابن عبّاس نقلا عن الطّبرانيّ و رواية جابر عن السّيوطيّ، كما تقدّم عنهما، ثمّ قال:].

و من طرقنا روى العيّاشيّ عن إبراهيم، أنّه سأل الإمام الصّادق عليه السّلام عن قوله تعالى:

شَهْرُ رَمَضانَ ... .. [و ذكر كما تقدّم عن البحرانيّ، ثمّ قال:] و جاء الحديث في الكافي، إلّا أنّ في آخره: «و انزل القرآن في ثلاث و عشرين من شهر رمضان» و الرّواية هي عن الحفص بن غياث «2».

و في التّهذيب جاء قسم من الحديث برواية أبي بصير، و في آخره: «و أنزل الفرقان في ليلة القدر» «3»

هذه جملة من روايات مأثورة، تفسّر نزول القرآن جملة واحدة في ليلة واحدة، إمّا إلى البيت المعمور في السّماء الرّابعة، كما في روايات الخاصّة، أو إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا، كما في بعض روايات العامّة، ثمّ منها

نزلت آياته مفرّقة على رسول اللّه حسب الظّروف و المناسبات رسلا رسلا.

و قد أخذ الظّاهريّون من أصحاب الحديث بظاهر هذه الرّوايات، مستريحين بأنفسهم إلى مدلولها الظّاهريّ تعبّدا محضا.

أمّا المحقّقون من العلماء فلم يرقهم الأخذ بما لا يمكن تعقّله، و لا مقتضى للتعبّد بما لا يرجع إلى أصول العباديّات، و من ثمّ أخذوا ينقدون هذه الأحاديث نقدا علميّا، متسائلين: ما هي الفائدة الملحوظة من وراء نزول القرآن جملة واحدة في إحدى السّماوات العلى، ثمّ ينزّل تدريجيّا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟

و إجابة على هذا السّؤال قال الفخر الرّازيّ: و يحتمل أن يكون ذلك تسهيلا على

______________________________

(1)- الإتقان 1: 39.

(2)- الأصول من الكافيّ 2: 629.

(3)- تهذيب الأحكام 4: 194.

نصوص في علوم القرآن، ص: 512

جبريل، أو لمصلحة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في توقّع الوحي من أقرب الجهات «1».

و هذا الجواب غاية في الوهن و السّقوط، مضافا إلى أنّه تخرّص بالغيب، و نستغرب صدور مثل هذا الكلام الفارغ من مثل هذا الرّجل المضطلع بالتّحقيق! [ثمّ حكى قول الفيض الكاشانيّ كما تقدّم عنه، فقال:]

فقد أوّل رحمه اللّه البيت المعمور إلى قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و ربّما أراد الصّدوق رحمه اللّه أيضا هذا المعنى من قوله: و أعطى نبيّه العلم جملة واحدة. [ثمّ أتى بكلام الزّنجانيّ و الطّباطبائيّ بحسب ما تقدّم عنهما، فقال:]

أقول: سامح اللّه التّأويل، ما أسهله طريقا إلى التّخلّص عن مآزق البحوث النّظريّة! و نحن إذ لا نرى مبرّرا لهكذا تأويلات غير مستندة إلى دليل، نسائل هؤلاء الأعلام: بم أوّلتم البيت المعمور الّذي هو في السّماء الرّابعة- حسب روايات الخاصّة- أو بيت العزّة- حسب روايات العامّة- إلى قلب رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله؟ و لم هذا التّعبير جاء في هذا اللّفظ؟

و سوف نناقش السّيّد العلّامة في اختيار وجود آخر للقرآن بسيط، وراء هذا الوجود المفصّل، أخذه عن أحمد بن عبد الحليم و حقّقه تحقيقا دقيقا، و لكنّا رفضناه رأسا، و سيأتي ذلك في فصل قادم إن شاء اللّه.

تحقيق مفيد

قال المحقّق العلّامة الشّيخ أبو عبد اللّه المفيد: الّذي ذهب إليه أبو جعفر ... [و ذكر كما تقدّم عنه، ثمّ قال:] أضف إلى ذلك ما ذكرناه في اختياره الوجه الأوّل .. (1: 72- 92)

______________________________

(1)- تفسير الرّازيّ 5: 85.

نصوص في علوم القرآن، ص: 513

الفصل الثّالث و السّتّون نصّ الآصفيّ في كتابه: «دراسات في القرآن» نزول القرآن في ليلة القدر

اشارة

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: الهاء كناية عن القرآن و إن لم يجر له ذكر.

حم وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ: الهاء إشارة إلى الكتاب، و اللّيلة المباركة هي ليلة القدر، و هي في شهر رمضان كما أثبتناه.

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ: أخرج ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصّفات ... عن ابن عبّاس، أنّه سأله عطيّة بن أسود ... [و ذكر كما تقدّم عن البيهقيّ، ثمّ قال:]

كان القرآن المجيد قبل نزوله في لوح محفوظ «1» و ما هو اللّوح المحفوظ؟ و كيف كان القرآن فيه؟ أ بوجود كتبيّ أم بغيره علمه عند اللّه ثمّ نزل منه؟ و في كيفيّة النّزول أقوال:

الأوّل: و هو الأشهر، أنّه نزل منه جملة واحدة إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر، ثمّ كان

______________________________

(1)- قال اللّه تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ البروج/ 21- 22.

نصوص في علوم القرآن، ص: 514

جبرائيل عليه السّلام ينزّله نجوما على محمّد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمدّة 20- 23- 25 سنة، على خلاف فيها. و القائلون بهذا القول جمعوا ما هو ظاهر الآية من نزوله بتمامه في ليلة القدر، و بين ما ثبت و تحقّق من نزوله على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مفرّقا حسب الحاجة إلى نزوله عليه في السّفر و الحضر من أوّل بعثته إلى قبل وفاته.

الثّاني: أنّه ابتدأ إنزاله

على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ليلة القدر، ثمّ نزل بعد ذلك عليه في الأوقات المختلفة حسب الحاجة إلى نزوله «1» و القائل بهذا كأنّه اعترف برجوع ضمير أنزلناه إلى القرآن كلّه و أنّه اسم لهذا المجموع، و لكنّه تأوّل أَنْزَلْناهُ إلى قوله: ابتدأ إنزاله، كي لا ينافي ظاهر الآية كيفيّة نزوله على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فجعل ليلة القدر مبدأ نزول القرآن عليه.

الثّالث: أنّه نزل إلى سماء الدّنيا في عشرين أو ثلاث و عشرين أو خمس و عشرين ليلة القدر في كلّ ليلة القدر ما يقدّر اللّه إنزاله في كلّ سنة، ثمّ نزل بعد ذلك منجّما طول السّنة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و هذا الّذي ذكره الإمام الفخر الرّازيّ. احتمالا؛ قال: و يحتمل أنّه كان ينزل في كلّ ليلة قدر ما يحتاج النّاس إلى إنزاله إلى مثلها من اللّوح إلى السّماء الدّنيا. و نقله القرطبيّ و الشّيخ الأجلّ الطّبرسيّ، عن مقاتل أنّه قال: كان ينزل ليلة القدر من الوحي على قدر ما ينزل به جبرائيل عليه السّلام على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في السّنة كلّها إلى مثلها.

الرّابع: ما حكاه الماورديّ، أنّه نزل من اللّوح .. [و ذكر كما تقدّم عن السّيوطيّ، ثمّ قال:]

أمّا هذا القول فساقط من أصله، و قد استغربه السّيوطيّ، و لكنّه لم يبيّن وجه الغرابة لوضوحه.

و أمّا القول الثّالث فصحّته تتوقّف على أن يكون القرآن اسم جنس؛ ليقع على كلّه و على أيّ بعض فرض منه، مع أنّ الظّاهر أنّه اسم لمجموع ما نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الّذي هو في أيدي المسلمين، و هذا

القائل أراد به المقدار الّذي أنزل في كلّ ليلة قدر باعتقاده و هو مجاز.

______________________________

(1)- حكاه في مجمع البيان عن ابن إسحاق و عن الشّعبيّ 1: 226 و 5: 518.

نصوص في علوم القرآن، ص: 515

و يدلّ على أنّه اسم للمجموع تصريح أهل اللّغة به، و ورود بعض الأحاديث فيه، قال ابن أثير في النّهاية: و الأصل في هذه اللّفظة الجمع، و سمّي القرآن قرآنا لأنّه جمع القصص و الأمر و النّهي و الوعد و الوعيد و الآيات و السّور بعضها إلى بعض، و هو مصدر كالغفران و الكفران، و قد يطلق على الصّلاة؛ لأنّ فيها قراءة، تسمية للشّي ء ببعضه.

و قال في مجمع البحرين: قوله: وَ أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ «1» و هو اسم لكتاب اللّه، و في الحديث «القرآن جملة كتاب اللّه».

و قال في مقدّمة التّبيان: و في تسميته بالقرآن يحتمل أمرين؛

أحدهما: ما روي عن ابن عبّاس أنّه قال: هو مصدر قرأت قرآنا، أي تلوته، مثل غفرت غفرانا و كفرت كفرانا.

و الثّاني: ما حكي عن قتادة أنّه قال: هو مصدر قرأت الشّي ء، إذا جمعت بعضه إلى بعض. ثمّ قال: و تفسير ابن عبّاس أولى؛ لأنّ قوله تعالى إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ «2» الوجه المختار أن يكون المراد إذا تلوناه عليك و بيّنّاه لك فاتّبع تلاوته.

و لو حملناه على الجمع على ما قال قتادة لكان يجب ألّا يلزم اتّباع أيّة آية من القرآن النّازلة في كلّ وقت، و كان يقف وجوب الاتّباع على حين الجمع؛ لأنّه علّقه بذلك على هذا القول.

و الجواب: أنّ الاتّباع المأمور به هنا غير ذاك الاتّباع؛ لأنّ هذا اتّباع له في جمعه، و المعنى إذا جمعناه فاتّبع جمعه،

و ذاك اتّباع له في تبليغه و العمل بما فيه. و الثّاني يجب عند نزول أيّة آية، و الأوّل يقف على حين الجمع، فكأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يحرّك لسانه مع جبرائيل بتلاوته حرفا حرفا مخافة أن ينساه أو أن يقدّم شيئا و يؤخّر شيئا، فنهاه اللّه عنه بقوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، و وعده أن يجمعه في صدره بقوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ في صدرك، وَ قُرْآنَهُ أي تأليفه على ما نزل، و هذا مرويّ عن ابن عبّاس و قتادة.

فقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ معناه فإذا جمعناه في صدرك فاتّبع جمعه، أو

______________________________

(1)- النّمل/ 92.

(2)- القيامة/ 18.

نصوص في علوم القرآن، ص: 516

معناه إذا فرغ جبرائيل من قراءته. قال ابن عبّاس: فكان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد ذاك إذا نزل عليه جبرائيل عليه السّلام أطرق، فإذا ذهب قرأ.

نعم، حكى الشّيخ الأجلّ الطّبرسيّ في مجمع البيان عن قتادة و الضّحّاك أيضا أنّ معناه اعمل بما فيه من الحلال و الحرام، و حكى عن البلخيّ أيضا أنّه قال: الّذي أختاره أنّه لم يرد القرآن، و إنّما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة، يدلّ على ذلك ما قبله و ما بعده، و ليس فيه شي ء يدلّ على أنّه القرآن و لا شي ء من أحكام الدّنيا، و في ذلك تقريع للعبد و توبيخ له حين لا ينفعه العمل. يقول: لا تحرّك لسانك بما تقرأه من صحيفتك الّتي فيها أعمالك يعني كتابك و لا تعجل، فإنّ هذا الّذي هو على نفسه بصيرة إذا رأى شيئا ضجر و استعجل، فيقال له توبيخا: لا تعجل و تثبّت لتعلم الحجّة عليك، فإنّا نجمعها لك، فإذا جمعناه

فاتّبع ما جمع عليك بالانقياد لحكمه و الاستسلام المتبعة فيه، فإنّه لا يمكنك إنكاره. هذا و لكنّ الزّمخشريّ قد صرّح في الكشّاف بأنّ القرآن اسم جنس يقع على كلّه و على بعضه «1» و عليه يكون إطلاقه على البعض إطلاقا حقيقيّا، و هو ينافي ما تقدّم عن نهاية ابن أثير من أنّه قد يطلق على الصّلاة؛ لأنّ فيها قراءة تسميته للشّي ء ببعضه «2». و لو سلّمنا ما قاله الزّمخشريّ فلا شكّ في أنّ المراد به هنا الكلّ لوجهين؛

الأوّل: أنّه تعالى أشار إليه بالضّمير و لم يسبق له ذكر، فقال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «3»، و هذا يقتضي أن يكون الضّمير إشارة إلى كلّه، و ليس كقوله تعالى مشيرا إلى آيات سورة يوسف: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا «4» مع أنّه يمكن أن يكون هذا الضّمير أيضا إشارة إلى تمام الكتاب لا خصوص تلك الآيات، لكن على وجه توقّع نزول البقيّة.

الثّاني: أنّ فضيلة ليلة القدر تستدعي أن يكون القرآن نازلا فيها بأسره، و يأتي هذا

______________________________

(1)- الكشّاف 1: 460.

(2)- قال اللّه تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً الإسراء/ 78، و المراد به صلاة الفجر؛ لأنّ فيها القراءة: و معناه إنّ صلاة الفجر تشهدها ملائكة اللّيل و ملائكة النّهار، كما في الحديث.

(3)- القدر/ 1.

(4)- يوسف/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 517

الوجه في قوله تعالى: حم* وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «1»، مع وجه آخر، و هو أنّه سبحانه أقسم فيه بالكتاب، فينبغي أن يكون المراد به الكلّ. و أمّا القول الثّاني فصحّته تتوقّف على إثبات كون ابتداء نزول القرآن على

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ليلة القدر، و هو عندي ممنوع، و يتّضح دليل المنع بالبحث عن البعثة أو بدء نزول القرآن.

و هاهنا شبهتان

[الشّبهة الأولى]: ما أورده الشّيخ أبو عبد اللّه المفيد في كتابه «تصحيح الاعتقاد»، و من أجلها جزم ببطلان هذا الاعتقاد، و اعترض على شيخه أبي جعفر الصّدوق بما يأتي، مع ما يلوح في الجواب عنه و عن أصل الشّبهة.

و أوردها أيضا الشّيخ أبو جعفر الطّوسيّ في «التّبيان»، و أجاب عنها بما يأتي.

و أوردها أيضا العلّامة المجلسيّ في البحار نقلا عن المفيد، و أجاب عنها، و لكنّه خلط بين الجواب عن الشّبهة في نزوله جملة واحدة إلى سماء الدّنيا و بين الجواب عن الشّبهة في نزوله كذلك على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فنفى استبعاد نزوله جملة واحدة عليه صلّى اللّه عليه و آله، و هو خارج عن محلّ الكلام، و غير محتمل في نفسه، لمنافاته مع قوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ «2»، أي أنزلناه كذلك، يعني مفرّقا لنثبّت به فؤادك.

قال المجلسيّ: فلا استبعاد في أن ينزل اللّه هذا الكتاب جملة على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و يأمره أن لا يقرأ على الأمّة شيئا منه إلّا بعد أن ينزل كلّ جزء منه في وقت معيّن يناسب تبليغه و في واقعة تتعلّق بها «3»

و هذا الكلام مع ما فيه من التّناقض الظّاهر بين صدره و ذيله أجنبيّ عن موضوع البحث و مورد الشّبهة؛ لأنّ موضوع البحث هو نزول القرآن جملة واحدة إلى سماء الدّنيا لا على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لو كانت الشّبهة في

نزوله جملة على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لكانت أصعب دفعا.

______________________________

(1)- الدّخان/ 1- 3.

(2)- الفرقان/ 32.

(3)- بحار الأنوار 6: 356.

نصوص في علوم القرآن، ص: 518

و قال شيخ الطّائفة بعد أن أخرج حديث نزول القرآن جملة في ليلة القدر: فإن قيل ...

[و ذكر كما تقدّم عنه، ثمّ قال:] و حاصل كلامه قدّس سرّه: إنّ هذه الشّبهة لا تخصّ ورودا بنزول القرآن جملة في ليلة القدر، بل ترد على نزوله منجّما على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في قوله تعالى:

وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ «1» و أمثاله الكثيرة.

و أجاب عن هذه الشّبهة بأنّه إذا كان يوم القيامة نادى أصحاب الجنّة هذا، و لكن ترد هذه الشّبهة على خصوص الخطابات القرآنيّة بنحو آخر لا يندفع بهذا الجواب، فهذا الجواب لا يفي بدفع الشّبهة بحذافيرها، و سيأتي تفصيل هذا الإجمال. [و ذكر قول الشّيخ المفيد في الرّدّ على الشّيخ الصّدوق كما تقدّم عنه، ثمّ قال:]

أقول: أظنّ أنّه قدّس سرّه فهم ممّا ذهب إليه الشّيخ الصّدوق، و جاء به الحديث من نزول القرآن جملة واحدة في ليلة القدر أنّ المقصود نزوله كذلك فيها على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لهذا قال في قصّة المجادلة في الظّهار، و هذه قصّة كانت بالمدينة، فكيف ينزّل اللّه الوحي بها بمكّة قبل الهجرة، فيخبر بها أنّها كانت و لم تكن؟ و قال: و قد يجوز في الخبر الوارد بنزول القرآن جملة واحدة في ليلة القدر أنّه نزل منه جملة في ليلة القدر، ثمّ تلا ما نزل منه إلى وفاة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

مع أنّ الصّدوق قد صرّح بنزوله كذلك إلى البيت المعمور، و كذلك غيره ممّن تقدّمت أقوالهم.

و

هذا هو الّذي جاءت به الأحاديث المتقدّمة، منها حديث الكافي بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى بيت المعمور، ثمّ نزل في طول عشرين سنة».

و منها ما أورده الشّيخ في «التّبيان» و الطّبرسيّ في «مجمع البيان» عن ابن عبّاس و سعيد ... [و ذكر كما تقدّم عنهما ثمّ قال:].

و كان اللّازم في نفي احتمال نزوله على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله التّمسّك بقوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ

______________________________

(1)- الأعراف/ 44.

نصوص في علوم القرآن، ص: 519

كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «1» لا التّمسّك بقوله: وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ «2».

و قوله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها «3»، بأنّ هذا خبر عن ماض، فلا يجوز أن يتقدّم مخبره، أو بأنّ الظّاهر قصّة كانت بالمدينة، فكيف ينزّل اللّه الوحي بها بمكّة قبل الهجرة، بأنّها كانت و لم تكن، فإنّ الإخبار عن شي ء بأنّها كانت و لم تكن لا مانع منه أصلا حتّى حين نزول الآية على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أمثاله في القرآن كثيرة، بل فيه الإخبار بلفظ ماض عن أشياء لم تقع إلى الآن، و لا تقع إلّا في يوم القيامة، و هذا أصعب من قوله تعالى:

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها، الّذي وقع بعد برهة من الزّمان، على القول بنزوله في ليلة القدر إلى سماء الدّنيا، أو على القول بكونه في لوح محفوظ قبل نزوله بكلّ معناه، على ما جاءت به الأحاديث، و أشار إليه الكتاب في قوله: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «4».

و الجواب عن الجميع من وجهين؛

الأوّل: ما تقدّم عن شيخ الطّائفة قدّس سرّه بقوله: إذا كان وقت كذا نزل لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ «5»، و إذا كان يوم القيامة نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ «6».

الثّاني: أنّ علم اللّه الأزليّ بالأشياء ليس زمنيّا كعلم أحدنا ببعض الحوادث المختصّ بأحد الأزمنة، بل هو فوق الزّمان و محيط به، و غير محتاج في وجوده إليه، و غير مختصّ بجزء منه، فلا يتّصف الزّمان بالنّسبة إلى علمه بالماضي و المستقبل و الحال، بل نسبته إليه نسبة واحدة، كما أنّ ذاته الأحديّة لمّا لم يكن مكانيّا كان نسبتها إلى جميع الأمكنة كذلك، فلا يتّصف المكان بالنّسبة إلى ذاته بالقرب و البعد، فهو تعالى عالم أزلا بجميع الموجودات و الحوادث و خصوصيّاتها و أحكامها و أزمنتها و أمكنتها كلّ في وقته، لا من حيث تقيّده

______________________________

(1)- الفرقان/ 31- 32.

(2)- الزّخرف/ 20.

(3)- المجادلة/ 1.

(4)- البروج/ 21.

(5)- التّوبة/ 25.

(6)- الأعراف/ 44.

نصوص في علوم القرآن، ص: 520

بالزّمان و اختصاصه بجزء منه، بل يعلمها علما متعاليا عن وصف الماضي و المستقبل و الحال.

فإنّ هذه الأوصاف إنّما يعرض للزّمان إذا قيس إلى زمانيّ يكون في أمده، و يختصّ بجزء منه دون ما لا يدخل تحت سلسلته، كعلم اللّه الأزليّ و ذاته الأزليّة الأحديّة؛ و إذ قد ثبت أنّ الأشياء و الحوادث الجزئيّة المتأخّرة حتّى إلى فناء الدّنيا و قيام السّاعة حاضرة لديه معلومة له سبحانه، لا استحالة في أن يخبر عنها بلفظ ماض، و يثبته في لوح محفوظ و كتاب مكنون، ثمّ ينزّله منه إلى سماء الدّنيا جملة لحكمة اقتضته، ثمّ ينزله منه على رسوله نجوما عند الحاجة إليه.

فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ* وَ إِنَّهُ

لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ «1».

قال ابن عبّاس: أقسم بنزول القرآن، فإنّه نزل متفرّقا قطعا نجوما.

و قال في تفسير كِتابٍ مَكْنُونٍ: أي مستور عند اللّه عن خلقه، و هو اللّوح المحفوظ، أثبت اللّه فيه القرآن «2».

هذا، و لكنّ الجوابين لا يفيان بدفع الشّبهة عن خطابات القرآن التّكليفيّة، بناء على القول بنزوله جملة في ليلة القدر إلى سماء الدّنيا، أو على القول بثبوته في لوح محفوظ قبل نزوله بكلّ معناه، و ترد هذه الشّبهة حينئذ على الخطابات القرآنيّة تارة، من ناحية عدم صحّة خطاب الغائب و المعدوم حقيقة، و أخرى من ناحية عدم صحّة تكليفهما عقلا بالبعث و الزّجر.

و الجواب: أنّ الخطابات القرآنيّة قبل وصولها أينما فرضناها، أ كانت في لوح محفوظ، أو في بيت المعمور من سماء الدّنيا لا بدّ أن تكون كلّها خطابات إنشائيّة محضة، و ذلك لأنّه لمّا لم يكن هناك مخاطب موجود، بحيث صحّ أن يتوجّه إليه الخطاب حقيقة، بأن يكون يسمعه و يلتفت إليه، وجب أن تكون الخطابات إنشائيّة إيقاعيّة، و إن قلنا: بأنّ

______________________________

(1)- الواقعة/ 75- 78.

(2)- مجمع البيان 5: 226.

نصوص في علوم القرآن، ص: 521

أدوات الخطاب موضوعة للخطاب الحقيقيّ.

و هذا إنّما يكون لقصور في الخطاب و المخاطب (بالفتح)، فإحاطته سبحانه علما بالغائب و المعدوم لا يوجد فيها صلاحيّة توجبه الخطابات إليهما حقيقة، و كذا الحال فيما إذا أنزلت الآيات على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لم يصدع بعد بها.

فاللّه سبحانه أنشأ الخطابات التّكليفيّة و غيرها لتصير فعليّة عند وجود المخاطب و صلوحه؛ لتوجيهها إليه بلا حاجة إلى إنشاء جديد، فلا تكليف قبل ذلك حقيقة، و لا خطاب كذلك، و إنّما هو إنشاء

محض و إظهار توجيه فحسب.

و أمّا إذا وصلت الخطابات إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و صدع بها، و خرجت عن شفتيه مخاطبا بها الأمّة فحينئذ يقع الكلام في أنّ تلك الخطابات الشّفهيّة تختصّ بالحاضرين لمجلس الخطاب، أو يعمّ الغائب و المعدوم أيضا. و هذا بحث أصوليّ لا ربط له بما نحن فيه، و هو مع ذلك بحث بلا ثمرة عمليّة كما حقّق في الأصول، فلا نخوض فيه، و لكن نشير إليه إشارة عابرة فنقول: ربّما يقال: إنّ البحث فيه عقليّ، بمعنى أنّ البحث إنّما هو في إمكان المخاطبة مع الغائب و المعدوم و عدمه، و ربّما يقال: إنّ البحث فيه لفظيّ، بمعنى عموم أدوات الخطاب لهما بحسب الوضع و عدمه. و المحقّق صاحب كفاية الأصول جعل البحث و النّزاع فيه عقليّا من وجه، و المحقّق النّائينيّ جعل النّزاع فيه عقليّا من جهة، و لفظيّا من جهة.

و أمّا أستاذنا المحقّق آية اللّه السّيد الخوئيّ فإنّه استظهر في تحرير محلّ النّزاع أنّه منحصر في اللّفظيّ، أي في عموم أدوات الخطاب بحسب الوضع و عدم عمومها، ثمّ اختار العموم بدعوى وضعها للخطاب الإنشائيّ، و إظهار توجيه الكلام بداع من الدّواعي، فيشمل الغائب و المعدوم.

و لنعطف عنان القلم إلى تحرير الجواب عمّا أورده الشّيخ المفيد قدّس سرّه على حديث نزول القرآن جملة واحدة في ليلة القدر، أو جوّزه في مدلوله.

أمّا قوله: ما أشبه ما جاء به الحديث بمذهب المشبّهة الّذين زعموا أنّ اللّه سبحانه لم يزل متكلّما بالقرآن، و مخبرا عمّا يكون بلفظ كان.

نصوص في علوم القرآن، ص: 522

فجوابه: أنّ مجرّد المشابهة لا يكون قدحا في الحديث، و لا يوجب ضعفه إذا صحّ سنده، و لم

يكن في متنه ما يدلّ على قدم القرآن و أزليّته.

هذا مع أنّه لا مشابهة بين ما جاء به الحديث و بين مذهب من سمّاهم المشبّهة، و لعلّهم الحنابلة و الكراميّة الّذين قالوا بقدم القرآن و أزليّته، على اختلافهم في التّعبير عنه بما مرّ بيانه في بحث التّكلّم من صفات الحقّ جلّ و علا.

و ليس ما جاء به الحديث بأعجب ممّا جاءت به أحاديث أخرى أيضا من ثبوت القرآن في لوح محفوظ قبل نزوله منه إلى سماء الدّنيا في ليلة القدر، و لا أقرب منه إلى ما أوردوه على القول بقدمه و أزليّته من لزوم الأمر بلا مأمور، و النّهي بلا منهيّ، و النّداء بلا سامع، و الإخبار بلا مخبر به.

و الجواب ما ذكرنا، فليس اعتقادنا بحدوث القرآن لأجل هذا الّذي أوردوه على القول بقدمه، بل لأجل القياس الّذي تقدّم في بحث التّكلّم من صفاته سبحانه. و هو أنّ كلامه مركّب من الحروف المسموعة، و كلّما هو كذلك فهو حادث، فكلامه حادث. و قد قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه»، و قد ثبت بحكم الضّرورة أنّ القرآن كلام اللّه.

و أمّا قوله: يجوز في الخبر الوارد بنزول القرآن جملة في ليلة القدر أنّه نزل جملة منه في ليلة القدر، ثمّ تلاه ما نزل منه إلى وفاة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فجوابه من وجهين؛

الأوّل: أنّه مبنيّ على أن يكون المراد من نزوله كذلك نزوله على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو ممنوع، و الحديث على خلافه، و قد مرّ بيانه.

الثّاني: أنّه مبنيّ على كون ابتداء نزول القرآن على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في ليلة القدر، و هو

ممنوع أيضا، و تقدّم تفصيله.

و أمّا قوله: فأمّا أن يكون نزل بأسره و جميعه في ليلة القدر، فهو بعيد ممّا يقتضيه ظاهر القرآن و المتواتر من الأخبار و إجماع العلماء.

فجوابه أن يقال: أمّا القرآن فظاهر قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1»، و قوله:

______________________________

(1)- القدر/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 523

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «1»، إنّه نزل فيها بأسره و جميعه، و قد بيّنّا وجه الظّهور فيما تقدّم.

و أمّا الأخبار فالمتواتر منها في هذا الباب غير موجود، و الموجود منها غير متواتر، و هي مع ذلك صريحة في نزوله في ليلة القدر بأسره و جميعه، فإنّ فيها نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر، و وضع في بيت العزّة أو في بيت المعمور، أو إلى سماء الدّنيا، على اختلافها في التّعبير، ثمّ كان جبرائيل ينزل به نجوما على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و أمّا الإجماع فلا معنى لبعد المسألة عنه، إلّا أنّه انعقد على خلافها. و دعوى انعقاد الإجماع هنا على الخلاف، أي على عدم نزول القرآن بأسره و جميعه في ليلة القدر، مع تصريح من تقدّمت أسماؤهم من المفسّرين و غيرهم بنزوله جملة واحدة في ليلة القدر، غير مسموعة، كدعوى الإجماع على الوفاق المحكيّ في «الإتقان» عن ابن كثير أنّه قال:

حكي الإجماع على أنّه نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر من اللّوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا. [ثمّ ذكر قول الصّدوق كما تقدّم عنه فقال:]

أقول: لم يثبت بدليل أنّ اللّه تعالى أعطى نبيّه العلم بالقرآن جملة، و لو كان أعطاه العلم به كذلك لكان القرآن في صدره، فما معناه أنّه نزل في بيت المعمور خاصّة، أو

ما معناه أنّه نزل عليه بعد ذلك نجوما حسب الحاجة إليه، و قد كان صلّى اللّه عليه و آله يتوقّع نزول الوحي إليه حول كلّ حادثة، و جوابا عمّا كان يسأل عنه. و قد مضى ذكر حديث سؤالهم إيّاه عن فتية ذهبوا في الدّهر الأوّل، و رجل طوّاف بلغ شرق الأرض و غربها، و عن الرّوح، فقال:

أخبركم بما سألتم عنه غدا، فمكث خمسة عشر ليلة لا يحدث اللّه إليه في ذلك وحيا، حتّى أرجف أهل مكّة و تكلّموا فيه، ثمّ جاء جبرائيل عن اللّه بسورة الكهف، و أنزل عليه يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي «2».

و أمّا النّهي عن التّعجيل بالقرآن ففيه وجهان؛ أحدهما: أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يتسرّع إلى تأويل ما ينزل عليه من القرآن فنهاه اللّه تعالى عنه، و المعنى على هذا لا تعجل بتأويل

______________________________

(1)- الدّخان/ 1.

(2)- الإسراء/ 85.

نصوص في علوم القرآن، ص: 524

القرآن من قبل أن يقضى إليك وحي التّأويل، و يدلّ عليه قوله: وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «1».

الثّاني: أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يتوقّع نزول الوحي عليه يوميّا حول كلّ حادثة تأمينا لقلوب المؤمنين و مزيدا لعلمه، فنهاه اللّه عن ذلك، و قال: لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ، أي بإنزاله مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى، أي يتحتّم بحسب المصلحة إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «2»، و استزادة العلم من اللّه محبوب له، و قد تكون سببا لحدوث المصلحة في تعجيل إنزال القرآن عليه فعلّمه الحكيم تعالى طريق الوصول إلى التّعجيل بالنّزول، و هذا طرف من أسرار علم القرآن.

و أمّا النّهي عن تحريك لسانه بالقرآن فكان على ما حكاه الطّبرسيّ عن قتادة و ابن

عبّاس أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يحرّك لسانه بتلاوة الآية مع جبرائيل حرفا حرفا؛ لشدّة حرصه بضبطه مخافة أن ينساها، أو يقدّم شيئا و يؤخّر شيئا، فنهاه اللّه عن ذلك، و وعد أن يجمعه في صدره بقوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ «3» في صدرك.

فالآيتان على هذا تدلّان على خلاف ما قال به الشّيخ أبو جعفر الصّدوق، من أنّ اللّه تعالى أعطى نبيّه العلم جملة، ثمّ قال: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ «4»، و قال: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. «5»

و للآية الثّانية تفسير آخر تفرّد به البلخيّ ظاهرا؛ قال: الّذي أختاره أنّه لم يرد القرآن، و إنّما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة، إلى آخر ما تقدّم عنه نقلا عن مجمع البيان.

الشّبهة الثّانية: ما أوردها أبو شامة قال: فإن قلت: .. [و ذكر كما تقدّم عنه، ثمّ قال:].

أقول: التّوقّف في صحة العبارة على هذا إنّما يكون لجهتين؛

الجهة الأولى: أنّ قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «6» إخبار عن ماض، و هو لم

______________________________

(1)- طه/ 114.

(2)- طه/ 114.

(3)- القيامة/ 17.

(4)- طه/ 144.

(5)- القيامة/ 16.

(6)- القدر/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 525

يقع، لأنّ الإنزال كان بعد حدوث هذا القول و صدوره، فكان ينبغي أن يقول: إنّا ننزّله في ليلة القدر.

و الشّبهة على هذا هي الشّبهة الأولى بعينها، غير أنّ المستشكل خصّها بهذا الخبر من أخبار القرآن، و لم يلتفت إلى بقيّة أخباره بلفظ ماض عمّا لم يقع حتّى حين النّزول على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، بل لا يكون إلّا في يوم القيامة.

الجهة الثّانية: هي أنّ قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يحكي عن نزول القرآن في ليلة

القدر، فلو كان هو أيضا من المنزل في ليلة القدر لزم اتّحاد الدّالّ و المدلول، أو تركّب القضيّة من جزءين، لأنّه إن اعتبر دلالته على نزول نفسه في ليلة القدر أيضا لزم اتّحاد الدّالّ و المدلول، و إلّا لزم تركّب القضيّة من جزءين، لأنّ القضيّة على هذا إنّما تحكي عن المحمول و النّسبة دون الموضوع، فتكون القضيّة المحكيّة بها إذن مركّبة من جزءين:

المحمول و النّسبة. مع امتناع تركّبها إلّا من ثلاثة أجزاء؛ لأنّ النّسبة لا تقوم إلّا بالمنتسبين، بل تمتنع حكاية القضيّة عن النّسبة إذا لم تحك عن الموضوع؛ لأنّ النّسبة لا تقوم بطرف واحد.

و الجواب: إنّا نختار الشّقّ الأوّل و نجيب عن إشكال لزوم اتّحاد الدّالّ و المدلول بأنّه يكفي تعدّدهما اعتبارا، و إن اتّحدا ذاتا، ثمّ نختار الشّقّ الثّاني و نجيب عن إشكال تركّب القضيّة من جزءين بأنّه إنّما يلزم لو لم يكن الموضوع في القضيّة المحكيّة نفس هذا القول، و إلّا كان أجزاؤها الثّلاثة تامّة، و كان المحمول منتسبا إليه، و هو نفس الموضوع لا الحاكي عنه. و هذا ممكن، غير أنّه ليس من باب استعمال اللّفظ في المعنى، و إنّما هو من باب إيجاد الموضوع و إحضاره في ذهن المخاطب خارجا. فالقضيّة اللّفظيّة مؤلفة من وجود الموضوع و اللّفظ المحمول فتكون القضيّة المحكيّة المعنويّة أجزاؤها الثّلاثة تامّة.

هذا، مع أنّ دلالة الآية على نزول نفسها في ليلة القدر دلالة ضمنيّة، أي أنّها تدلّ على نزول نفسها ضمن دلالتها على نزول القرآن في ليلة القدر، و هذه لا يأتي فيها ما يأتي فيما إذا أطلق اللّفظ و أريد به نفسه من لزوم اتّحاد الدّالّ و المدلول، أو تركّب القضيّة من جزءين، كما في

«الفصول» و «كفاية الأصول». (ص: 147- 173)

نصوص في علوم القرآن، ص: 526

الفصل الرّابع و السّتّون نصّ الدّكتور أبي شهبة في «المدخل لدراسة القرآن»

نزول القرآن الكريم
اشارة

هذا المبحث من المباحث المهمّة؛ إذ به يعرف تنزّلات «القرآن الكريم»، و متى نزل؟

و كيف نزل؟ و على من نزل؟ و كيف كان يتلقّاه جبريل عليه السّلام من اللّه تبارك و تعالى؟ و على أيّ حال كان يتلقّاه الرّسول صلّى اللّه عليه و آله من جبريل؟ و لا شكّ أنّ العلم بذلك يتوقّف عليه كمال الإيمان بأنّ القرآن من عند اللّه، و أنّه المعجزة العظمى للنّبيّ، كما أنّ كثيرا من المباحثات الّتي تذكر في هذا الفنّ يتوقّف على العلم بنزوله، فهو كالأصل بالنّسبة لغيره، و العلم بالأصل مقدّم على الفرع، فأقول- و من اللّه أستمدّ العون و التّوفيق:

معنى النّزول:

النّزول لغة يطلق و يراد الحلول؛ يقال: نزل فلان بالمدينة: حلّ بها، و بالقول: حلّ بينهم، و المتعدّي منه معناه الإحلال؛ يقال: أنزلته بين القوم، أي أحللته بينهم «1»، و منه قوله

______________________________

(1)- في القاموس مادّة «نزل»: النّزول: الحلول، نزلهم و بهم و عليهم ينزل نزولا و منزلا: حلّ، و نزّله تنزيلا، و إنزالا و منزلا كمجمل، و استنزله بمعنى، و تنزّل نزل في مهلة، و في المصباح المنير: نزل من علوّ إلى أسفل ينزل نزولا، و يتعدّى بالحرف و الهمزة و التّضعيف؛ فيقال: نزلت به، و أنزلته، و نزّلته، و استنزلته بمعنى أنزلته، و المنزل: موضع النّزول، و المنزلة مثله، و هي أيضا المكانة، و نزّلت هذا مكان هذا: أقمته مقامه؛ قال ابن فارس: التّنزيل: ترتيب الشّي ء.

نصوص في علوم القرآن، ص: 527

تعالى: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ «1» و يطلق أيضا على تحرّك الشّي ء من علوّ إلى سفل؛ يقال: نزل فلان من الجبل، و المتعدّي منه معناه التّحريك من علوّ إلى سفل، و

منه قوله تعالى أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ... «2».

و كلا المعنيين اللّغويّين لا يليقان بنزول القرآن على وجه الحقيقة لاقتضائهما الجسميّة و المكانيّة و الانتقال، سواء أردنا بالقرآن المعنى القديم القائم بذاته تعالى أو الكلمات الحكميّة الأزليّة أو اللّفظ العربيّ المبين الّذي هو صورة و مظهر للكلمات الحكميّة القديمة؛ لما علمت من تنزّه الصّفة القديمة و متعلّقها، و هو الكلمات الغيبيّة الأزليّة عن الموادّ مطلقا، و لأنّ الألفاظ أعراض سيّالة تنتهي بمجرّد النّطق بها، و لا يتأتّى منها نزول و لا إنزال.

و على هذا يكون المراد بالنّزول المعنى المجازيّ، و المجاز في اللّغة العربيّة باب واسع، فإن أردنا بالقرآن الصّفة القديمة أو متعلّقها، فالمراد بالإنزال الإعلام به بواسطة إثبات الألفاظ و الحروف الدّالّة عليه، من قبيل إطلاق الملزوم و إرادة اللّازم. و إن أردنا اللّفظ العربيّ الدّالّ على الصّفة القديمة يكون المراد نزول حامله به، سواء أردنا بالنّزول نزوله إلى سماء الدّنيا، أو على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، و يكون الكلام من قبيل المجاز بالحذف، و هذا هو ما يتبادر إلى الأذهان عند إطلاق لفظ النّزول.

و للقرآن الكريم وجودات ثلاثة:

1- وجوده في اللّوح المحفوظ.

2- وجوده في السّماء الدّنيا. نصوص في علوم القرآن 527 معنى النزول: ..... ص : 526

وجوده في الأرض بنزوله على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، و لم يقترن لفظ «النّزول» إلّا بالوجود الثّاني و الثّالث، أمّا الوجود الأوّل، فلم يرد لفظ «النّزول» مقترنا به قطّ، و على هذا فلا ينبغي أن نسمّيه نزولا أو تنزّلا.

______________________________

(1)- المؤمنون/ 29.

(2)- الرّعد/ 17.

نصوص في علوم القرآن، ص: 528

أين كان القرآن قبل النّزول؟

يقول اللّه تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «1»

فقد دلّت الآية على أنّ القرآن كان قبل نزوله ثابتا و موجودا في اللّوح المحفوظ، و هذا اللّوح المحفوظ هو الكتاب المكنون الّذي ذكره اللّه تعالى في قوله: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ «2» فالظّاهر و الّذي عليه جمهور المفسّرين أنّ الكتاب المكنون هو اللّوح المحفوظ، و معنى مَحْفُوظٍ أنّه عن استراق الشّياطين، و محفوظ عن التّغيير و التّبديل، و معنى مَكْنُونٍ مصون محفوظ عن الباطل، و المعنيان متقاربان.

و اللّوح المحفوظ هو السّجل العامّ الّذي كتب اللّه فيه في الأزل كلّ ما كان و كلّ ما يكون. و الواجب علينا أن نؤمن به و أنّه موجود ثابت، أمّا البحث فيما وراء ذلك، كالبحث في حقيقته و ماهيّته، و على أيّ حالة يكون؟ و كيف دوّنت فيه الكائنات؟ و بأيّ قلم كتب؟

فلا يجب الإيمان علينا به؟ إذ لم يرد عن المعصوم عليه السّلام في ذلك حديث صحيح، و كلّما ورد إنّما هي آثار عن بعض الصّحابة و التّابعين لا تطمئنّ إليها النّفس «3».

و حكمة وجود القرآن في اللّوح المحفوظ ترجع إلى الحكمة العامّة من وجود اللّوح المحفوظ نفسه، و إقامته سجلّا جامعا لكلّ ما كان و ما يكون من عوالم الإيجاد و التّكوين، فهو شاهد ناطق، و مظهر من أروع المظاهر الدّالة على عظمة اللّه و علمه و إرادته، و واسع سلطانه و قدرته. و لا شكّ أنّ الإيمان به يقوّي إيمان العبد بربّه من هذه النّواحي، و بعث الطّمأنينة إلى نفسه، و الثّقة بكلّ ما يظهر اللّه لخلقه من ألوان هدايته و شرائعه و كتبه و سائر أقضيته، كما يحمل النّاس على السّكون و الرّضا تحت

سلطان القدر و القضاء، و من هنا تهون عليهم الحياة بضرّائها و سرّائها كما قال جلّ شأنه: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى

______________________________

(1)- البروج/ 21- 22.

(2)- الواقعة/ 77- 80.

(3)- انظر تفسير «القرطبيّ» و «ابن كثير» و «الآلوسيّ» في تفسير آية البروج.

نصوص في علوم القرآن، ص: 529

ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ «1».

و للإيمان باللّوح و الكتابة أثر صالح في استقامة المؤمن على الجهاد، و تفانيه في طاعة اللّه و مراضيه، و بعده عن مساخطه و معاصيه؛ لاعتقاده أنّها مسطورة عند اللّه في لوحه، مسجّلة لديه في كتابه «2»، كما قال جلّ شأنه: وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ* وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ «3».

للقرآن الكريم نزولان؛ الأوّل: نزول من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا. الثّاني:

نزوله من السّماء الدّنيا على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و هذا كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل و توضيح، و إليك البيان.

النّزول الأوّل

نزول القرآن الكريم من اللّوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا جملة واحدة، و هذا النّزول أ كان بعد نبوّته صلّى اللّه عليه و سلم أم كان قبل ذلك؟ رأيان للعلماء، أرجحهما الأوّل، و هو الّذي تدلّ عليه الآثار الآتية، و كان هذا النّزول في رمضان ليلة القدر. و الدّليل على هذا النّزول ما يأتي:

1- قوله تعالى في مفتتح سورة القدر: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، و قال في مفتتح سورة الدّخان: حم* وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ و قال في سورة

البقرة: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ «4».

و الإنزال أكثر ما يرد في لسان العرب فيما نزل جملة واحدة «5»، بخلاف التّنزيل، فإنّه

______________________________

(1)- الحديد/ 22- 23.

(2)- مناهل العرفان 1: 35، ط أوّل.

(3)- القمر: 52- 53، و معنى مستطر مكتوب في السّطور.

(4)- البقرة/ 185.

(5)- الغالب في التّعبير القرآنيّ عمّا نزل دفعة واحدة بلفظ الإنزال، و ما نزل مفرّقا التّنزيل. و لهذا لمّا جمع اللّه بين القرآن و التّوراة و الإنجيل عبّر في جانب نزول القرآن علي النّبيّ بالتّنزيل، و في جانب التّوراة و الإنجيل بالإنزال؛ لأنّهما نزلا دفعة واحدة، و هذا ما لا خلاف فيه، قال تعالى في سورة آل عمران: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ-

نصوص في علوم القرآن، ص: 530

يعبّر به في جانب ما نزل مفرّقا. فدلّت الآيات على أنّ القرآن نزل جملة واحدة في ليلة القدر أخذا من سورة القدر، و هي اللّيلة المباركة أخذا من آية الدّخان، و هي من ليلة شهر رمضان أخذا من آية البقرة.

و أيضا فمن البديهيّ أنّ القرآن نزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم في سنين لا في ليلة واحدة، و أنّه نزل في غير رمضان كما نزل في رمضان، فدلّ هذا على أنّ النّزول الّذي نوّهت بشأنه الآيات غير النّزول على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم مفرّقا في بضع و عشرين سنة، و أنّ المراد به هو النّزول جملة واحدة.

2- قد جاءت الآثار الصّحيحة مبيّنة لهذا النّزول و شاهدة عليه .. [ثمّ ذكر روايات ابن عبّاس نقلا عن النّسائيّ و الحاكم و البيهقيّ، كما تقدّم عن السّيوطيّ و الطّبريّ، فقال:] و

معلوم أنّ هذا لا يقوله ابن عبّاس بمحض الرّأي، فهو محمول على سماعه من النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم أو ممّن سمعه من النّبيّ من الصّحابة. و مثل هذا له حكم المرفوع؛ لأنّ القاعدة عند أئمّة الحديث أنّ قول الصّحابيّ الّذي لم يأخذ عن الإسرائيليّات فيما لا مجال للرّأي فيه له حكم الرّفع، و بذلك ثبتت حجّيّة هذه الآثار «1» و قد ذكر السّيوطيّ في الإتقان «2» عن القرطبيّ:

أنّه حكى الإجماع على أنّ القرآن نزل جملة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا.

و هناك قول ثان، و هو أنّ القرآن نزل إلى السّماء الدّنيا في عشرين ليلة قدر، أو ثلاث و عشرين، أو خمس و عشرين «3» ينزل اللّه في كلّ ليلة منها ما يقدّر إنزاله في كلّ السّنة، ثمّ ينزل به جبريل بعد ذلك عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم في جميع السّنة، و به قال «مقاتل بن حيّان»

و هناك قول ثالث، هو أنّ المراد بالآيات السّابقة ابتداء إنزاله في ليلة القدر، ثمّ نزل

______________________________

- التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ. و التّفريق بين الإنزال و التّنزيل أمر غالب، و ليس قاعدة مطّردة، و لذا عبّرت بلفظ «أكثر» بدليل قوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ... الفرقان/ 32، فقد استعملوا التّنزيل و أرادوا الإنزال.

(1)- نزهة النّظر شرح نخبة الفكر: 43.

(2)- الإتقان 1: 40.

(3)- هذا مبنيّ على الخلاف في مدّة إقامته صلّى اللّه عليه و سلم بمكّة بعد النّبوّة، أ هي عشر سنوات أم ثلاث عشرة أم خمس عشرة، و أصحّها أوسطها.

نصوص في علوم القرآن، ص: 531

بعد ذلك منجّما في أوقات مختلفة على النّبيّ صلّى اللّه

عليه و سلم، و به قال الشّعبيّ، و كان صاحب هذا القول ينفي النّزول جملة واحدة إلى السّماء الدّنيا.

و قد ذهب إلى هذا الرّأي من المتأخّرين الأستاذ الإمام الشّيخ محمّد عبده في تفسير جزء «عمّ»، فقد نقل كلام الشّعبيّ و قوّاه. و قال: إنّ ما جاء من الآثار الدّالّة على نزوله جملة واحدة إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا، ممّا لا يصحّ الاعتماد عليه؛ لعدم تواتر خبره عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، و أنّه لا يجوز الأخذ بالظّنّ في عقيدة مثل هذه، و إلّا كان اتّباعا للظّنّ «1»

و أعقّب على قول الإمام فأقول: إنّ مسألة نزول القرآن جملة واحدة إلى سماء الدّنيا ليست من العقائد الّتي يتحتّم تواتر الأخبار بها، و الّتي لا بدّ فيها من العلم القطعيّ اليقينيّ، مثل وجود اللّه و صفاته، و نحو ذلك من العقائد، و إنّما يكفي فيها الأخبار الصّحيحة الّتي تفيد غلبة الظّنّ و رجحان العلم، ثمّ إنّ من قال: إنّ مثل هذه الحقيقة الغيبيّة لا بدّ فيها من تواتر الأخبار عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، إنّ كثيرا من السّمعيّات يكتفي فيها بالأخبار الصّحيحة الّتي تفيد رجحان العلم بما دلّت عليه، و على هذا جرى العلماء سلفا و خلفا. ثمّ إنّ تأويل الآيات بأنّ المراد ابتداء الإنزال صرف للآيات عن ظواهرها، و قد بيّنت أنّ ظاهر الآيات يشهد للنّزول جملة واحدة، و الظّواهر لا يعدل عنها إلّا بصارف، و أنّى هو؟

و بعد، فالقول الأوّل هو الرّاجح و الصّحيح الّذي تشهد له الآيات و الآثار. حكمة هذا النّزول: و الحكمة في هذا النّزول أمران؛

1- تفخيم شأن القرآن و شأن من نزل عليه و شأن من سينزل

إليهم، بإعلام سكّان السّماوات من الملائكة، بأنّ هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرّسل لأشرف الأمم، و هي الأمّة الإسلاميّة، و في هذا تنويه بشأن المنزل و المنزل عليه و المنزل إليهم.

2- تفضيل القرآن الكريم علي غيره من الكتب السّماويّة، بأن جمع اللّه له النّزولين:

النّزول جملة واحدة، و النّزول مفرّقا. و بذلك شارك الكتب السّماويّة في الأولى، و انفرد في الفضل عليها بالثّانية، و هذا يعود بالتّفضيل لنبيّنا محمّد على سائر إخوانه من الأنبياء ذوي الكتب المنزلة، و أنّ اللّه جمع له الخصائص ما لغيره و زاد عليها.

______________________________

(1)- تفسير جزء «عمّ»: 122 ط بولاق.

نصوص في علوم القرآن، ص: 532

النّزول الثّاني
اشارة

قلنا فيما سبق: إنّ القرآن الكريم نزل جملة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر، و هذا هو النّزول الأوّل، و كان النّازل به جبريل عليه السّلام، فألقاه على السّفرة الكرام البررة، فقيّدوه في صحفهم المكرّمة، كما قال تعالى: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ* فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ* فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ* مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ* بِأَيْدِي سَفَرَةٍ* كِرامٍ بَرَرَةٍ «1»، و هم الملائكة المختصّون بذلك.

و قد بقي القرآن محفوظا في هذه الصّحف المرفوعة المطهّرة بأيدي هؤلاء الملائكة الكرام البررة، حتّى أذن اللّه لهذا النّور الإلهيّ أن يسطع في أرجاء الأرض، و لهدايته الرّبّانيّة أن تتدارك النّاس، و تخرجهم من ظلمات الشّرك و الجهالة و الضّلال إلى نور الإيمان و الهدى و العرفان، على يد مخلّص البشريّة، و منقذ الإنسانيّة سيّدنا و نبيّنا محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فأنزل عليه القرآن هاديا و مبشّرا و نذيرا للخلق أجمعين؛ ليكون آيته الكبرى، و معجزته الباقية على وجه الدّهر شاهدة له بالصّدق، و أنّه يوحى إليه

من ربّه، و هذا هو النّزول الثّاني للقرآن.

و شواهد هذا النّزول أكثر من أن تحصى؛ قال تعالى شأنه: وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ «2» لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «3» و قال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ «4» مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ «5»، و قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً* قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً* ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً* وَ يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً «6»، و قال: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ

______________________________

(1)- عبس/ 11- 16.

(2)- عبّر به للدّلالة على أنّ القلب قد وعاه بعد أن وعته الآذان.

(3)- الشّعراء/ 192- 195.

(4)- هو جبريل الأمين على الوحي.

(5)- النّحل/ 102.

(6)- الكهف/ 1- 4.

نصوص في علوم القرآن، ص: 533

الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً «1»، و قال تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ «2».

و الّذي نزل به على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم هو أمين الوحي جبريل عليه السّلام، و هو المقصود بالرّوح الأمين في آية الشّعراء، و بروح القدس في سورة النّحل، و هو الرّسول الكريم ذو القوّة المتين الأمين في قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ* مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ* وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ «3» و القول كما ينسب لقائله الأوّل، ينسب لمبلّغه و حامله إلى المرسل إليه. و هو شديد القوى، ذو المرّة في قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى* وَ هُوَ

بِالْأُفُقِ الْأَعْلى «4» و قد جاء النّص على أنّ النّازل بالقرآن هو جبريل في قوله سبحانه: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ* مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ «5»، و المراد بهم اليهود.

كيف كان هذا النّزول و مدّته:

و قد نزل جبريل عليه السّلام على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم منجّما مفرّقا على حسب الوقائع و الحوادث و حاجات النّاس و مراعاة للظّروف و الملابسات.

و قد اختلف العلماء في مدّة هذا النّزول؛ فقيل: عشرون سنة، و قيل: ثلاث و عشرون سنة، و قيل: خمس و عشرون سنة. و منشأ هذا الاختلاف إنّما هو اختلاف في مدّة مقامه صلّى اللّه عليه و سلم بمكّة؛ فقيل: عشر سنين، و قيل: ثلاث عشرة، و قيل: خمس عشرة. و أقربها إلى الحقّ و الصّواب هو أوسطها، و هو ثلاث و عشرون سنة، و هذا على سبيل التّقريب، و أبعدها هو آخرها. و لو راعينا التّدقيق و التّحقيق تكون مدّة نزول القرآن اثنين و عشرين سنة

______________________________

(1)- الفرقان/ 1.

(2)- البقرة/ 23.

(3)- التّكوير/ 9- 22.

(4)- النّجم/ 4- 7، و معنى ذُو مِرَّةٍ ذو هيئة حسنة، و قيل: ذو حصانة في العقل، و إحكام في الرّأي.

(5)- البقرة/ 97- 98.

نصوص في علوم القرآن، ص: 534

و خمسة أشهر «1» و نصف شهر تقريبا، و بيان ذلك أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم نبّئ على رأس الأربعين من ميلاده الشّريف، و ذلك في شهر ربيع الأوّل الثّاني عشر منه، و قد بدئ الوحي إليه بالرّؤيا الصّادقة، و مكث على ذلك إلى السّابع عشر من

رمضان، و هو اليوم الّذي نزل عليه فيه صدر سورة اقْرَأْ أوّل ما نزل من القرآن، و جملة ذلك ستّة أشهر و خمسة أيّام. و آخر آية نزلت من القرآن هي قوله تعالى وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ «2»، و قد روي أنّ ذلك قبل وفاة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بتسعة أيّام، و قيل:

بأحد عشر يوما، و قيل: بواحد و عشرين يوما. فلو أخذنا بالمتوسّط تكون جملة المدّة الّتي لم ينزل فيها القرآن ستّة أشهر و ستّة عشر يوما.

و جملة عمره صلّى اللّه عليه و سلم ثلاثة و ستّون عاما؛ لأنّه توفّي في الثّاني عشر من ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة من الهجرة كما عليه الجمهور فتكون مدّة نبوّته ثلاثا و عشرين سنة، فإذا أنقصنا منها ستّة أشهر و ستّة عشر يوما، يكون الباقي اثنتين و عشرين سنة و خمسة أشهر و أربعة عشر يوما، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ «3»

و قد ذكر بعض الكاتبين في تاريخ التّشريع غير هذا، و قد بنى حسابه على أنّ آخر آية نزلت الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، و هو خطأ مشهور، و سنبيّن الحقّ في «آخر ما نزل» فيما يأتي إن شاء اللّه.

الدّليل على نزول القرآن منجّما

المعروف الثّابت أنّ القرآن الكريم نزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم مفرّقا، و يدلّ على هذا القرآن و السّنّة الصّحيحة.

أمّا القرآن فقوله تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ

______________________________

(1)- راعيت في هذا التّحديد ما ذهب إليه الجمهور، من أنّه صلّى اللّه عليه و سلم ولد في الثّاني

عشر ربيع الأوّل عام الفيل، و توفّي في الثّاني عشر أيضا من ربيع الأوّل عام إحدى عشرة من الهجرة.

(2)- البقرة/ 281.

(3)- الأعراف/ 43.

نصوص في علوم القرآن، ص: 535

تَنْزِيلًا «1»

و قوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا* وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً «2»، فقد روي أنّ المشركين أو اليهود عابوا على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم نزول القرآن مفرّقا، و قالوا: هلّا نزل جملة واحدة، كما نزلت التّوراة على موسى؟ فأنزل اللّه سبحانه هذه الآية، حاكية لأقوالهم، و رادّة عليهم ببيان الحكمة في إنزاله مفرّقا، أي أنزلناه مفرّقا؛ لنثبّت به فؤادك، و لنرتّله ترتيلا في خاصّة نفسك، و على أصحابك.

أمّا السّنن الصّحيحة فقد ورد فيها ما يدلّ على نزول القرآن منجّما مفرّقا ففي الصّحيحين و غيرهما عن عائشة: أنّ أوّل ما نزل صدر سورة اقْرَأْ ... إلى قوله تعالى ما لَمْ يَعْلَمْ «3». و في الصّحيحين- أيضا- عن جابر: أنّ أوّل ما نزل بعد فترة الوحي سورة «المدّثّر» إلى وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ «4». و كذلك روي عن ابن عبّاس و غيره من الصّحابة القول في تقدّم نزول بعض السّور و الآيات على بعض، و بترتيب السّور على حسب النّزول «5»، إلى غير ذلك من الآثار الّتي لا تدع مجالا للشّكّ في نزول القرآن الكريم على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم مفرّقا، و هذه الأحاديث و الآثار و إن كانت آحادية إلّا أنّها بمجموعها تفيد التّواتر المعنويّ المفيد للقطع و اليقين في هذا.

نزول الكتب السّماويّة السّابقة

أمّا الكتب السّماويّة السّابقة فالمشهور بين العلماء: أنّ ذلك كان جملة واحدة، حتّى

كاد يكون هذا الرّأي إجماعا كما قال السّيوطيّ.

و الدّليل على ذلك آية الفرقان وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ...

______________________________

(1)- الإسراء/ 106.

(2)- الفرقان/ 32- 33.

(3)- العلق/ 5.

(4)- المدّثّر/ 5.

(5)- الإتقان 1: 9- 11.

نصوص في علوم القرآن، ص: 536

الآية، و وجه الدّلالة أنّ اللّه سبحانه لم يكذّبهم في دعواهم نزول الكتب السّماويّة جملة، بل بيّن لهم الحكمة في نزوله مفرّقا، و لو كانت الكتب السّماويّة نزلت مفرّقة، لكان كافيا في الرّدّ عليهم أن يقول لهم: إنّ التّنجيم سنّة اللّه في الكتب السّماويّة الّتي أنزلت على الرّسل، كما أجاب بمثل ذلك قولهم: وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ .. «1»، فقال في الرّدّ عليهم: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ «2» فبيّن لهم أنّ ذلك سنن الأنبياء و المرسلين، و كذلك لمّا قالوا: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ «3»، فردّ عليهم بأنّ سنّته ألّا يرسل رسلا من البشر، فقال:

وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «4»، و لمّا قالوا: كيف يكون رسولا و لا همّ له إلّا النّساء؟ ردّ عليهم فقال: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّيَّةً «5»، إلى غير ذلك.

و يدلّ على ذلك أيضا قوله تعالى في إنزاله التّوراة على موسى عليه السّلام يوم الصّعقة:

فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ* وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ «6»، و قوله: وَ لَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ

لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ «7»، و قال تعالى: وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَ ظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «8»، و المراد بالألواح الألواح الّتي كتبت فيها التّوراة.

______________________________

(1)- الفرقان/ 7.

(2)- الفرقان/ 20.

(3)- الأنبياء/ 3.

(4)- الأنبياء/ 7.

(5)- الرّعد/ 38.

(6)- الأعراف/ 144- 145.

(7)- الأعراف/ 154.

(8)- الأعراف/ 171.

نصوص في علوم القرآن، ص: 537

فهذه الآيات دالّة على إنزاله سبحانه التّوراة على موسى جملة. و هناك آثار «1» صحيحة عن ابن عبّاس تفيد نزول التّوراة جملة، منها ما أخرجه النّسائي و غيره عن ابن عبّاس في حديث النّتوق: قال: أخذ موسى الألواح بعد ما سكن عنه الغضب، فأمرهم بالّذي أمر اللّه أن يبلّغهم من الوظائف، فثقلت عليهم، و أبوا أن يقرّوا بها حتّى نتق اللّه عليهم الجبل كأنّه ظلّة، و دنا منهم حتّى خافوا أن يقع عليهم فأقرّوا بها.

و إذا كانت التّوراة، و هي أعظم الكتب السّماويّة السّابقة، و أكثرها أحكاما و هداية، و قد ثبت نزولها جملة واحدة، فأحرى بغيرها من الكتب السّماويّة- كالإنجيل و الزّبور و صحف إبراهيم- أن تكون قد نزلت جملة واحدة، و آية الفرقان- كما ذكرنا- تدلّ على هذا التّعميم و تؤيّده ...

حكم نزول القرآن منجّما مفرّقا
اشارة

لنزول القرآن الكريم علي النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم مفرّقا حكم كثيرة و أسرار عديدة، نجملها فيما يأتي:

الحكمة الأولى

تثبيت فؤاد النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و تطمين قلبه و خاطره، و هي ما أشار إليها الحقّ- تبارك و تعالى- في ردّه على المشركين أو اليهود؛ حيث قال: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «2»، و هذه الحكمة من أجلّ الحكم و أعظمها، و لذا ذكرها اللّه أوّل ما ذكر في الرّدّ على هؤلاء، و يتدرّج تحت هذه الحكمة:

1- تثبيت فؤاد النّبيّ و تقوية قلبه و إلهاب حماسه و تسليته، و ذلك بسبب تكرّر نزول الوحي و توالي آياته، و ما اشتملت عليه الآيات من أنّ رسالته حقّ لا شكّ فيها، و أنّ العاقبة للمتّقين، و النّصر إنّما هو للأنبياء و أتباعهم، و أنّ اللّه مؤيّده و ناصره. و كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم

______________________________

(1)- الإتقان (1: 42).

(2)- الفرقان/ 32.

نصوص في علوم القرآن، ص: 538

كثيرا ما يتحسّر و يحزن؛ لعدم إيمان قومه، كما قال تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً «1».

فكانت تنزّل عليه الآيات مسلّية له، فتارة تنهاه أن يذهب نفسه عليهم حسرات، كما قال تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ «2».

و تارة يبيّن له أنّ هدايتهم إنّما هي على اللّه، و إنّما عليك البلاغ كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «3»، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «4»، و قال: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ «5».

و كان كلّما آذاه قومه و نالوا منه و سفهوا عليه، نزلت

الآيات داعية له إلى التّحمّل و الصّبر و الثّبات عليه، و أنّ العاقبة للصّابرين، كما قال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «6»، وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ «7» و قال: وَ اصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ «8».

و تارة تنزّل الآيات قاصّة على النّبيّ أخبار الأنبياء مع أممهم، و ما لاقوه منهم من عنت و مشقّة، و كيف كان تحمّلهم من أقوامهم، و ما آل إليه أمرهم من الفوز و النّصر على الأعداء و المكذّبين، و ذلك مثل قصص نوح و إبراهيم و لوط و هود و صالح و موسى، و ما لاقاه من بني إسرائيل، و قد ذكر اللّه هذا في قوله: وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ «9».

______________________________

(1)- (باخع نفسك): قاتلها غمّا و حزنا، الكهف/ 6.

(2)- فاطر/ 8.

(3)- البقرة/ 272.

(4)- القصص/ 56.

(5)- الرّعد/ 40.

(6)- الأحقاف/ 35.

(7)- النّحل/ 127.

(8)- هود/ 115.

(9)- هود/ 120

نصوص في علوم القرآن، ص: 539

و حينا آخر تنزّل الآيات بوعيد المكذّبين للأنبياء و المناهضين لدعوتهم كما قال تعالى: أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَ هُمْ نائِمُونَ* أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ «1»، و قال: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ «2»، قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ «3».

و آونة كانت تنزّل الآيات بالحجج و البراهين مبطلة لعقائدهم الزّائفة، و رادّة عليهم ما يتمسّكون به من شبه واهية، كالآيات الواردة في إثبات اللّه و

صفاته و توحيده، و استحقاقه للعبادة، و إثبات البعث و الحشر، و أحوال اليوم الآخر، و إثبات رسالة الرّسل و حاجة البشر إليهم. و كان من ثمرة هذا التّثبيت أن أبدى النّبيّ غاية الثّبات و الشّجاعة، و الوثوق باللّه تعالى في أحرج المواقف و أشدّها هولا، أ لا ترى إلى قوله للصّدّيق في الغار: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، و إلى ثباته يوم أحد و حنين يدعو إلى اللّه و قد فرّ عنه الكثيرون، فما زاده ذلك إلّا إيمانا و ثباتا.

2- تيسير حفظه و فهمه على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، فقد كان النّبيّ حريصا على ذلك غاية الحرص، و لقد بلغ من حرصه أنّه كان لا ينتظر حتّى يفرغ جبريل من قراءته، بل كان يتعجّل القراءة، فأنزل اللّه عليه: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً، و قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ «4»، فضمن اللّه لنبيّه الحفظ و الفهم. و طبيعيّ أنّ نزول القرآن مفرّقا أدعى إلى سهولة حفظه و فهمه، و أيسر و أوفق بالفطرة البشريّة.

و هذا المعنى الّذي أراده الحقّ سبحانه- فما أراد من حكم لنزول القرآن منجّما و مفرّقا قطعا قطعا- هو غاية ما وصل إليه أهل التّربية في حفظ النّصوص الطّويلة،

______________________________

(1)- الأعراف/ 97- 98.

(2)- فصّلت/ 13.

(3)- الأنفال/ 38.

(4)- القيامة/ 16- 19.

نصوص في علوم القرآن، ص: 540

و تسهيل فهمها. و هذا المعنى التّربويّ ما كان يجول بخاطر بشر في هذا العصر و في هذه البيئة البدويّة. ممّا يدلّ على أنّ منزّل القرآن على هذه الطّريقة البديعة

هو اللّه العالم بالطّبائع البشريّة و النّفوس و أسرارها.

الحكمة الثّانية

التّدرّج في تربية الأمّة دينيّا و خلقيّا و اجتماعيّا و علما و عملا، و هذه الحكمة هي الّتي أشار إليها الحقّ- تبارك و تعالى- بقوله: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «1»، و يندرج تحت هذه الحكمة ما يأتي:

1- التّدرّج في انتزاع العقائد الفاسدة و العادات الضّارّة و المنكرات الماحقة، فقد بعث النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم إلى قوم يعبدون الأصنام، و يشركون باللّه غيره، و يسفكون الدّماء، و يشربون الخمر، و يزنون، و يغتصبون الأموال، و يئدون البنات خشية العار، و يقتلون الأولاد خشية الفقر، و يظلمون النّساء، و يتزوّجون نساء الآباء، و يجمعون بين الأختين، كما كانوا يتظالمون، و تقع بينهم الحروب لأوهى الأسباب، كناقة رعت من حمى، أو سبق فرس، أو نحو ذلك. و كانت الحروب تدوم بينهم عشرات الأعوام حتّى تأكل الأخضر و اليابس، و كان التّكافل و التّعاون بينهم يكاد يكون معدوما، فلا تزاحم بين الأغنياء و الفقراء و لا بين السّادة و العبيد، و لا بين الأقوياء و الضّعفاء.

و معلوم أنّ النّفس يشقّ عليها ترك ما تعوّدته مرّة واحدة، و شديد عادة منتزعة، و الإقلاع عمّا اعتقدته بمجرّد النّهي عنه؛ لأنّ للعقائد- حتّى و لو كانت باطلة، و للعادات و لو كانت مستهجنة- سلطانا على النّفوس، و النّاس أسراء ما ألفوا و نشئوا عليه، فلو أنّ القرآن نزل جملة واحدة، و طالبهم بالتّخلّي عمّا هم منغمسون في حمأته من كفر و جهل و منكرات مرّة واحدة، لما استجاب إليه أحد، و لما وفّق الرّسول في أداء مهمّته، و لعاد ذلك بالنّقض على الشّريعة الجديدة.

لذلك

اقتضت حكمة اللّه سبحانه- و للّه الحكمة البالغة- أن يتدرّج معهم في انتزاع هذه العقائد و المنكرات، فينهاهم عن عبادة غير اللّه، فإذا ما أقلعوا عنه، أخذ في النّهي عن

______________________________

(1)- الإسراء/ 106.

نصوص في علوم القرآن، ص: 541

منكر غيره و هكذا.

و كذلك كان القرآن يتدرّج معهم في انتزاع المنكر الواحد، كما حدث في تحريم الخمر، فقد نزل فيها أوّل ما نزل: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ «1»، فشربها قوم و تركها آخرون ... فمن ثمّ اقتضت الحكمة نزول القرآن مفرّقا.

2- التّدرّج في تثبيت العقائد الصّحيحة، و الأحكام التّعبديّة و العمليّة و الآداب و الأخلاق الفاضلة، فأمرهم أوّلا بالإيمان باللّه و صفاته و عبادته وحده، حتّى إذا ما آمنوا باللّه دعاهم إلى الإيمان باليوم الآخر، ثمّ بالإيمان بالرّسل و الملائكة. حتّى إذا ما اطمأنّت قلوبهم بالإيمان و أشربوا حبّه، سهل عليهم بعد ذلك تقبّل الأوامر و التّشريعات التّفصيليّة، و الأحكام العمليّة و الفضائل و الآداب العالية، فأمروا بالصّلاة و الصّدق و العفاف، ثمّ أمروا بالزّكاة ثمّ بالصّوم ثمّ بالحجّ. و بيّن لهم أحكام النّكاح و الطّلاق و الرّجعة و المعاملات من بيع و شراء و تجارة و زراعة و دين و رهن إلى غير ذلك من المعاملات الصّحيحة منها و غير الصّحيحة.

و لذلك كان مدار الآيات في القسم المكّيّ على إثبات العقائد و الفضائل الّتي لا تختلف باختلاف الشّرائع، بخلاف القسم المدنيّ، فكان مدار التّشريعات فيه على الأحكام العمليّة و تفصيل ما أجمل قبل ذلك.

[ثمّ ذكر رواية عائشة نقلا عن البخاريّ كما تقدّم عن السّيوطيّ، فقال:]

و لا شكّ أنّ من طبيعة التّدرّج نزول آيات القرآن و سوره بعضها في

إثر بعض، و قد دلّ القرآن بهذه السّياسة الرّشيدة في إصلاح الشّعوب و تهذيبها على أنّه معجز و أنّه من عند اللّه، فما كان لبشر- مهما كان ذكيّا- أن يتوصّل إلى هذه الطّرق الحكيمة في ذلك الوقت الّذي بعث فيه النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، و إنّما ذلك من صنع الحكيم العليم الخبير.

3- تيسير حفظه و فهمه على الأمّة، فقد أوجب اللّه على المسلمين حفظ ألفاظه كما أوجب عليهم فهم معانيه؛ قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ

______________________________

(1)- البقرة/ 219.

نصوص في علوم القرآن، ص: 542

أُولُوا الْأَلْبابِ «1»، أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «2».

و قد ابتلي المسلمون في مكّة بالمشركين، كما ابتلوا في المدينة باليهود و المنافقين، هذا إلى اشتغالهم بأمور معايشهم، و بإقامة الدّين، و نشر الإسلام و الدّفاع عن دعوته، فلو نزل القرآن مرّة واحدة لما أمكنهم حفظه و لا فهمه مع وجود هذه الملابسات و الظّروف المحيطة بهم.

لذلك اقتضت حكمته أن ينزل القرآن مفرّقا، حتّى إذا ما نزلت قطعة منه أمكنهم أن يحفظوها و يجيدوا فهمها.

4- تثبيت قلوب المؤمنين، و تعويدهم على الصّبر و التّحمّل بذكر قصص الأنبياء و السّابقين الفينة بعد الفينة، و تذكيرهم بأنّ النّصر مع الثّبات و الصّبر، و أنّ العاقبة للمتّقين، و الخذلان و الخسران للكافرين، اقرأ- إن شئت- قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ «3». فقد ذكر عطاء أنّ المسلمين لمّا هاجروا إلى المدينة، و تركوا الأهل و الوطن و

المال، و آثروا رضاء اللّه و رسوله، و تعرّضوا لألوان من الإيذاء و الجهد و الفقر و المرض، و معاداة اليهود و المنافقين لهم، شقّ ذلك على نفوسهم، فأنزل اللّه هذه الآية.

و قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ «4»، و قال تعالى: الم* أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ «5».

بل اقرأ هذا الوعد الّذي يستحثّ الهمم، و يقوّي العزائم: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ

______________________________

(1)- ص/ 29.

(2)- محمّد/ 24.

(3)- البقرة/ 214.

(4)- آل عمران/ 142.

(5)- العنكبوت/ 2- 3.

نصوص في علوم القرآن، ص: 543

دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً «1».

و طبيعيّ أنّ دواعي هذا التّذكير و الإرشاد و التّوجيه لم تكن في وقت واحد، بل كانت في أزمنة متعدّدة متفاوتة، فاقتضى ذلك نزول القرآن مفرّقا على حسب ذلك.

الحكمة الثّالثة

مجاراة الحوادث و النّوازل و الأحوال و الملابسات في تفرّقها و تجدّدها، و هذه الحكمة هي الّتي أشارت إليها الآية الكريمة في قوله تعالى: وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً «2». و يندرج تحت هذه الحكمة ما يأتي:

1- بيان حكم اللّه سبحانه و تعالى في الأقضية و الوقائع الّتي تحدث بين المسلمين، فقد اقتضت رحمة اللّه بعباده أنّه كلّما وقعت واقعة لم يكن حكمها معروفا عند المسلمين أن تنزّل الآية أو الآيات عقبها مبيّنة حكم اللّه فيها، و مثال ذلك حادثة الإفك،

و هي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ إلى قوله: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «3».

و مثل حادثة خولة بنت ثعلبة الّتي ظاهر منها زوجها أوس بن الصّامت، أي قال لها:

أنت عليّ كظهر أمّي، فجاءت تشتكي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و تقول: إنّ أوسا أخذني و أنا شابّة مرغوب فيّ، حتّى كبر سنّي و نثرت «4» له بطني ظاهر منّي، و أنّ لي أولادا إن ضممتهم إليّ جاعوا، و إن ضممتهم إليه ضاعوا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «ما أراك إلّا قد حرمت عليه، و لم أومر في شأنك بشي ء». فجعلت تجادل رسول اللّه و تحاوره، رغبة منها أن يجد لها مخرجا في عشرة زوجها، فأنزل اللّه سبحانه أوّل سورة المجادلة ببيان حكم الظّهار في الإسلام:

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَ

______________________________

(1)- النّور/ 55.

(2)- الفرقان/ 33.

(3)- النّور/ 11- 20.

(4)- أي أنجبت له أولادا، و هو من الكنايات البديعة.

نصوص في علوم القرآن، ص: 544

اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، إلى قوله تعالى: وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ «1»، و غير ذينك كثير. و طبيعيّ، أنّ الحوادث لم تكن تقع في وقت واحد، فنزل القرآن في هذه الحوادث مفرّقا لذلك.

2- إجابات السّائلين على أسئلتهم الّتي كانوا يوجّهونها إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، سواء أ كانت هذه الأسئلة لغرض التّثبّت و للتّأكّد من رسالته، أم كانت للاسترشاد و المعرفة.

و من النّوع الأوّل قوله

تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «2»، و قوله: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً ... الآيات «3».

و من الثّاني: قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِ «4»، و قوله: يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ ... الآية «5».

و قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ ... الآية «6».

و طبيعيّ أنّ هذه الأسئلة لم تكن في وقت واحد، بل كانت تحدث متفرّقة، فكان نزول القرآن مفرّقا لذلك.

3- تنبيه المسلمين من وقت لآخر إلى أخطائهم و أغلاطهم، و تحذيرهم من معاودتها و الوقوع فيها، و ذلك مثل ما حدث في أحد، فقد خالف الرّماة نصيحة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم متأوّلين، فكانت النّتيجة أن أتي المسلمون من جهتهم، و أن شاعت الهزيمة بينهم، و شجّ وجه النّبيّ، و كسرت رباعيّته، و استشهد منهم عدد كثير، فأنزل اللّه في ذلك آيات عدّة، مسجّلة الإغلاظ، و محذّرة لهم من المخالفة و الفرار عند اللّقاء. اقرأ- إن شئت- قوله تعالى: وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي

______________________________

(1)- المجادلة/ 1- 4.

(2)- الإسراء/ 85.

(3)- الكهف/ 83 و ما بعدها.

(4)- البقرة/ 189.

(5)- البقرة/ 215.

(6)- البقرة/ 219.

نصوص في علوم القرآن، ص: 545

الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ ... الآيات «1».

و مثل ما حدث في حنين، فقد اغترّ المسلمون بكثرتهم، حتّى قال قائل في هذا اليوم:

لن نهزم من قلّة. و لم يعتمدوا على اللّه حقّ الاعتماد في طلب النّصر، فكانوا أن منوا بالهزيمة

أوّلا، و لو لا تدارك اللّه تعالى لهم برحمته:، و ثبات النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و حوله فئة قليلة من أبطال أصحابه، و إنزال الملائكة مثبّتة لقلوبهم و مقوّية لروحهم لكانت الهزيمة. اقرأ معي قول اللّه سبحانه: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً، إلى قوله: وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «2»

و قد كانت حنين درسا، تعلّم منه المسلمون أنّ النّصر ليس بالعدد و العدّة فحسب، و إنّما هو من عند اللّه، و أنّ الاغترار ليس من خلق المسلم، و أنّ الأسباب العادية لا ينبغي أن تشغل المسلم عن اللّجوء إلى اللّه: وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ «3» و مثل ما حدث من حاطب بن أبي بلتعة قبيل الفتح، فقد كان رسول اللّه حريصا على أن تتمّ غزوة الفتح في سرّيّة تامّة، و لكنّ حاطبا كان له أهل في مكّة و كانوا ضعفاء، فأحبّ أن تكون لهم يد على قريش؛ كي يكرموا أهله، فأرسل إلى قريش رسالة في السّرّ بخبر الغزوة، و لكنّ الوحي نزل مخبرا لرسول اللّه، فأرسل من أحضر الرّسالة، و قد حاول بعض الصّحابة قتله زاعما أنّه بعمله صار منافقا، و لكنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم لمّا استمع إلى وجهة نظره و علم صدقه عفا عنه، فأنزل اللّه في ذلك آيات و هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ... الآيات «4».

و معلوم أنّ هذه الأغلاط لم تقع في وقت واحد، فكان نزول القرآن مفرّقا لذلك.

4- تحذير المسلمين من المنافقين، و الكشف عن خبيئة نفوسهم، فقد كانوا

بحكم تظاهرهم بالإسلام يختلطون بالمسلمين، و يطّلعون على أسرارهم و أحوالهم فينقلونها إلى

______________________________

(1)- آل عمران: 152 و ما بعدها.

(2)- التّوبة/ 25- 27.

(3)- آل عمران/ 126.

(4)- الممتحنة/ 1 و ما بعدها.

نصوص في علوم القرآن، ص: 546

الأعداء، أو يرجفون بها في المدينة، فكان ضرر هؤلاء المخالطين المداجين على المسلمين أشدّ من ضرر الأعداء المكاشفين، فلا عجب أن كشف اللّه أستارهم، و شنّع عليهم أشدّ التّشنيع في كثير من الآيات، فقد كان لهم بالمرصاد، فكلّما بيّتوا أمرا أطلع اللّه عليه رسوله و المؤمنين، أو كادوا مكيدة ردّها اللّه في نحورهم، أو أخفوا قولا أظهره اللّه.

و طبيعيّ أنّ هذه الأمور المبيّتة، و المكايد المدبّرة، و الأقوال السّيّئة الّتي كانت تصدر عنهم لم تكن في وقت واحد، بل كانت في أزمنة متفرّقة، فمن ثمّ جاء القرآن مفرّقا.

و إن شئت أمثلة لما كان يفعله المنافقون و يقولونه، و إظهار اللّه لحالهم، فاقرأ معي قول اللّه سبحانه: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، إلى قوله:

إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ «1»، و قوله: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى ... الآيتين «2».

و قد أنزل اللّه في شأنهم سورة بتمامها، و هي سورة المنافقين كما ذكر الكثير من أحوالهم في سورة التّوبة. و ما زال اللّه سبحانه يقول في هذه السّورة؛ و منهم ...

و منهم ... حتّى فضحهم أشدّ فضيحة، و جعلهم مثلا لسوء الطّباع و الأخلاق و النّذالة و الدّسّ و الوقيعة في الأوّلين و الآخرين.

الحكمة الرّابعة

بيان إعجاز القرآن الكريم على أبلغ وجه و آكده؛ لأنّ القرآن لو نزل جملة واحدة لقالوا: شي ء جاءنا مرّة

واحدة، فلا نستطيع أن نعارضه، و لو أنّه جاءنا قطعا قطعا لعارضناه، فأراد ربّك أن يقطع عليهم دابر المعذرة و التّعلّل، فأنزله مفرّقا.

و كأنّ اللّه سبحانه يقول لهم بعد نزول قطعة منه: إن كنتم ترتابون في أنّ هذا المنزل على هذا الموضع من عند اللّه، فأتوا أنتم بقطعة مشابهة له.

و قد ذكرنا سابقا أنّ اللّه تحدّى النّاس كافّة بالقرآن على مراتب متعدّدة؛ كي تقوم عليهم الحجّة تلو الحجّة، و لو أنّ القرآن نزل جملة واحدة لما أمكن تكرّر التّحدّي في

______________________________

(1)- البقرة/ 8- 20.

(2)- النّساء/ 142- 143.

نصوص في علوم القرآن، ص: 547

المرّة بعد المرّة، و ثبوت عجزهم المرّة تلو المرّة.

و هكذا يتبيّن لنا أنّ القرآن بنزوله منجّما قد أعطاهم بعد كلّ نجم فرصة يعارضون فيها، فإذا ما عجزوا كان ذلك أدلّ على الإعجاز، و أقطع للمعذرة.

و أيضا فالقرآن على نزوله مفرّقا، و تباعد ما بين أزمان النّزول يكون سلسلة ذهبيّة مترابطة الحلقات، متآخية الفقرات، منسجمة الشّكل، لا تنبو كلمة عن كلمة، و لا تنفر آية من آية، بل كلّه في غاية الفصاحة و البلاغة و الإحكام، و لا يسمو بأسلوبه في بعض الآيات، و ينزل في البعض الآخر، و لا تنبل الغاية و المقصد في بعض الآيات، و تسفّ في البعض الآخر، ممّا يدلّ أعظم الدّلالة على أنّه ليس من عند بشر.

و لو أنّك نظرت في مؤلّفات أديب من الأدباء مهما بلغ، فإنّك لا شكّ واجد تفاوتا بيّنا بين ما ألّفه في أوّل حياته، و ما ألّفه في آخر حياته، سواء أ كان في لفظه و معانيه، أم في أغراضه و مراميه، أم في أسلوبه و تفكيره.

و إذا كان القرآن لم يأت على غرار ما

يصنع البشر، فقد تعيّن أن يكون من عند اللّه خالق القوى و القدر.

هذا و ليست هذه نهاية الحكم، فهناك لمن أحكم النّظر، و أجال البصر حكم و حكم.

تتمّة

الّذي استقرئ من الأحاديث الصّحيحة و غيرها، أنّ القرآن كان ينزل به جبريل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بحسب الحاجة: خمس آيات، و عشر آيات، و أكثر أو أقلّ.

و قد صحّ نزول العشر الآيات في قصّة الإفك جملة، و صحّ نزول عشر آيات من أوّل سورة المؤمنون جملة، و صحّ نزول غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وحدها في قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ «1» و كذلك قوله: وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ «2»، نزل بعد أن نزل أوّل الآية، كما حرّره الإمام السّيوطيّ في «أسباب

______________________________

(1)- النّساء/ 95.

(2)- التّوبة/ 28.

نصوص في علوم القرآن، ص: 548

النّزول»، و قد ورد في بعض الآثار نزول بعض السّور جملة واحدة كسورة الإخلاص و الكوثر و المرسلات.

[ثمّ ذكر رواية البيهقيّ بسنده عن عمر، و رواية ابن عساكر من طريق أبي نضرة، كما تقدّم عن السّيوطيّ، فقال:] فإنّ المراد- إن صحّ- إلقاؤه إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم هذا القدر حتّى يحفظه، ثمّ يلقى إليه الباقي، لا إنزاله بهذا القدر خاصّة.

و يشهد لهذا التّفسير ما أخرجه البيهقيّ عن أبي العالية، قال: تعلّموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم كان يأخذ من جبريل خمسا خمسا. و يصحّ أن يراد به أنّ ذلك هو الغالب الكثير، فلا ينافي حصول الوحي بأكثر أو أقلّ.

و ما كان

لنا- و قد تكلّمنا عن إنزال القرآن- أن نغفل الكلام عن الوحي، إذ الإنزال متوقّف على معرفة معنى الوحي و كيفيّته، و إمكانه و وقوعه. (ص: 46- 83)

نصوص في علوم القرآن، ص: 549

الفصل الخامس و السّتّون نصّ الدّكتور خليفة في كتابه: «مع نزول القرآن»

كيفيّة إنزاله

أنزل اللّه القرآن على نبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و سلم مفرّقا؛ ليثبّت به فؤاده و يقوّيه، و يحفظه و يعيه؛ لأنّه كان أمّيّا، و تنزيله منجّما ييسّر على النّاس تلقّي ما جاء فيه من أحكام و فرائض و أوامر و نواه على أزمان مختلفة، حتّى لا تضيق قلوبهم به، أو ينفروا من فرائضه إذا جاءتهم جملة؛ قال تعالى يحكي موقف الكفّار من نزوله منجّما و يتولّى الرّدّ عليهم فقال:

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ «1»، أي أنزلناه كذلك لنثبّت به فؤادك، و فسّر بعضهم تثبيت الفؤاد بالحفظ. أمّا التّوراة فقد أنزلها اللّه جملة واحدة يوم الصّعقة، و ذلك ما قصّه اللّه في القرآن بقوله: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ «2»

و في كيفيّة إنزال القرآن ثلاثة أقوال

أوّلها: أنّه نزل إلى السّماء الدّنيا ليلة القدر جملة واحدة، ثمّ نزل بعد ذلك منجّما في

______________________________

(1)- الفرقان/ 32.

(2)- الأعراف/ 145.

نصوص في علوم القرآن، ص: 550

عشرين أو ثلاث و عشرين أو خمس و عشرين سنة، و ذلك حسب الخلاف في المدّة الّتي قضاها الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم بمكّة بعد بعثته، و قد روي ذلك عن الحاكم و البيهقيّ، و انتهى إلى ابن عبّاس، حيث قال: أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى السّماء الدّنيا، و كان اللّه ينزله على رسوله بعضه في إثر بعض.

و يؤيّد ذلك من القرآن ظاهر الآيات في قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «1» إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2» و إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «3» و هذا القول أشهر الأقوال.

ثانيها: أنّه نزل إلى سماء

الدّنيا في عشرين ليلة قدر أو ثلاث و عشرين أو خمس و عشرين ليلة قدر، ثمّ نزل بعد ذلك منجّما في كلّ السّنة، أي أنّ اللّه أنزل في أوّل ليلة قدر إلى السّماء الدّنيا ما قدّر أن ينزله في تلك السّنة، ثمّ ينزل ما قدّر نزوله في تلك السّنة موزّعا على السّنة، حسب الأسئلة أو الوقائع الّتي قدّر لها أن تكون في تلك السّنة، ثمّ في ليلة القدر من العام الثّاني ما قدّر له أن ينزّله، ثمّ ينزّله موزّعا، و هكذا حتّى تمّ إنزاله في السّنوات الّتي بيّنّاها.

ثالثها: أنّه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر أوّل ما ابتدئ، ثمّ نزل بعد ذلك منجّما في أوقات مختلفة من سائر السّنوات الّتي نزل فيها. و إنزاله منجّما في مدّة بعثته صلّى اللّه عليه و سلم ليس موضع خلاف؛ لأنّه يمثّل الواقع و يؤيّده أنّ الرّسول كلّما نزلت عليه آية أملاها على كتّاب وحيه، و قال لهم: «ضعوها بعد آية كذا، في سورة كذا»، و هذا دليل على تنجيم القرآن حسب الوقائع و الأسئلة و غيرهما. أمّا كونه نزل من عند اللّه جملة فذلك موضع الخلاف، فرأي يرى أنّه نزل جملة إلى السّماء الدّنيا في ليلة واحدة، و رأي يرى أنّه نزل إلى السّماء الدّنيا منجّما في عشرين أو ثلاث و عشرين أو خمس و عشرين ليلة قدر، و رأي يرى أنّه ابتدئ نزوله في ليلة القدر، ثمّ توالى نزوله منجّما في مدّة بعثته و ذلك الرّأي يرى أنّه نزل

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- القدر/ 1.

(3)- الدّخان/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 551

مفرّقا فلم ينزل جملة واحدة كما في الرّأي الأوّل و الرّأي الثّاني أنّه نزل مفرّقا في عشرين مرّة

أو ثلاث و عشرين أو خمس و عشرين، ثمّ كان تنجيمه خلال تلك السّنوات.

و الأمر المتّفق عليه أنّ النّزول كان في رمضان بنصّ القرآن شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، و بظاهر الآية أخذ أصحاب الرّأي الأوّل في نزوله جملة، و فسّر أصحاب الرّأي الثّاني الآية بأنّه في كلّ شهر رمضان نزل القرآن الّذي سينزّله اللّه منجّما خلال العام، و فسّر أصحاب الرّأي الثّالث شهر رمضان الّذي ابتدئ فيه نزول القرآن.

و ليس القرآن وحده الّذي نزل في رمضان، بل الكتب السّماويّة نزلت في رمضان، و قد روي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم أنّه قال: «أنزلت التّوراة لستّ مضين من رمضان ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ و غيره]. (12- 24)

نصوص في علوم القرآن، ص: 552

الفصل السّادس و السّتّون نصّ القطّان في كتابه: «مباحث في علوم القرآن»

نزول القرآن

أنزل اللّه القرآن على رسولنا محمّد صلّى اللّه عليه و سلم لهداية البشريّة، فكان نزوله حدثا جللا يؤذن بمكانته لدى أهل السّماء و أهل الأرض، فإنزاله الأوّل- في ليلة القدر- أشعر العالم العلويّ من ملائكة اللّه بشرف الأمّة المحمّديّة الّتي أكرمها اللّه بهذه الرّسالة الجديدة؛ لتكون خير أمّة أخرجت للنّاس، و تنزيله الثّاني- مفرّقا على خلاف المعهود في إنزال الكتب السّماوية قبله- أثار الدّهشة الّتي حملت القوم على المماراة فيه، حتّى أسفر لهم صبح الحقيقة فيما وراء ذلك من أسرار الحكمة الإلهيّة، فلم يكن الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم ليتلقّى الرّسالة العظمى جملة واحدة، و يقنع بها القوم مع ما هم عليه من صلف و عناد، فكان الوحي يتنزّل عليه تباعا تثبيتا لقلبه و تسلية له، و تدرّجا مع الأحداث و الوقائع، حتّى أكمل اللّه الدّين و أتمّ النّعمة.

نصوص في علوم القرآن، ص: 553

نزول القرآن جملة

يقول اللّه تعالى في كتابه العزيز: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ «1»، و يقول: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2»، و يقول: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «3».

و لا تعارض بين هذه الآيات الثّلاث، فاللّيلة المباركة هي ليلة القدر من شهر رمضان، إنّما يتعارض ظاهرها مع الواقع العمليّ في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم؛ حيث نزل القرآن عليه في ثلاث و عشرين سنة، و للعلماء في هذا مذهبان أساسيّان:

1- المذهب الأوّل: و هو الّذي قال به ابن عبّاس و جماعة و عليه جمهور العلماء، أنّ المراد بنزول القرآن في تلك الآيات الثّلاث نزوله جملة واحدة إلى بيت العزّة من السّماء الدّنيا تعظيما لشأنه عند ملائكته، ثمّ نزل

بعد ذلك منجّما على رسولنا محمّد صلّى اللّه عليه و سلم في ثلاث و عشرين سنة «4»، حسب الوقائع و الأحداث منذ بعثته إلى أن توفّي صلوات اللّه و سلامه عليه حيث أقام في مكّة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة، و بالمدينة بعد الهجرة عشر سنوات، فعن ابن عبّاس قال: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لأربعين سنة، فمكث بمكّة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثمّ أمر بالهجرة عشر سنين، و مات و هو ابن ثلاث و ستّين «5».

و هذا المذهب هو الّذي جاءت به الأخبار الصّحيحة عن ابن عبّاس في عدّة روايات.

[ثمّ ذكر أربع روايات عنه، نقلا عن الحاكم و البيهقيّ و الطّبرانيّ، كما تقدّم عن الطّبريّ و أبي شامة و السّيوطيّ].

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- القدر/ 1.

(3)- الدّخان/ 3.

(4)- و قدر بعض العلماء مدّة نزول القرآن بعشرين سنة، و بعضهم بخمس و عشرين سنة؛ لاختلافهم في مدّة إقامته صلّى اللّه عليه و سلم بعد البعثة بمكّة، أ كانت ثلاث عشرة سنة، أم عشر سنين أم خمس عشرة سنة؟ مع اتّفاقهم على أنّ إقامته بالمدينة بعد الهجرة عشر سنوات، و الصّواب الأوّل، انظر الإتقان 1: 39.

(5)- رواه البخاريّ.

نصوص في علوم القرآن، ص: 554

2- المذهب الثّاني: و هو الّذي روي عن الشّعبيّ، أنّ المراد بنزول القرآن في الآيات الثّلاث ابتداء نزوله على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فقد ابتدأ نزوله في ليلة القدر من شهر رمضان، و هي اللّيلة المباركة، ثمّ تتابع نزوله بعد ذلك متدرّجا مع الوقائع و الأحداث في قرابة ثلاث و عشرين سنة، فليس للقرآن سوى نزول واحد هو نزوله منجّما على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم؛

لأنّ هذا هو الّذي جاء به القرآن، وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «1»، و حاول فيه المشركون الّذين نقل إليهم نزول الكتب السّماوية السّابقة جملة واحدة، وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا* وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً «2». و لا يظهر للبشر مزيّة لشهر رمضان و ليلة القدر الّتي هي ليلة المباركة، إلّا إذا كان المراد بالآيات الثّلاث نزول القرآن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و هذا يوافق ما جاء في قوله تعالى بغزوة بدر: وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ «3»، و قد كانت غزوة بدر في رمضان. و يؤيّد هذا ما عليه المحقّقون في حديث بدء الوحي، عن عائشة قالت:

أوّل ما بدئ به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عن الوحي ... [و ذكر كما تقدّم عن البخاريّ].

فإنّ المحقّقين من الشّرّاح على أنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم نبى ء أوّلا بالرّؤيا في شهر مولده شهر ربيع الأوّل، ثمّ كانت مدّتها ستّة أشهر ثمّ أوحي إليه يقظة في شهر رمضان ب اقْرَأْ، و بهذا تتآزر النّصوص على معنى واحد.

3- و هناك مذهب ثالث: يرى أنّ القرآن أنزل إلى السّماء الدّنيا في ثلاث و عشرين ليلة قدر، في كلّ ليلة منها ما يقدّر اللّه إنزاله في كلّ السّنة، و هذا القدر الّذي ينزل في ليلة القدر إلى السّماء الدّنيا لسنة كاملة، ينزل بعد ذلك منجّما على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في جميع السّنة. و

هذا المذهب اجتهاد من بعض المفسّرين، و لا دليل عليه.

أمّا المذهب الثّاني الّذي روي عن الشّعبيّ فأدلّته- مع صحّتها و التّسليم بها-

______________________________

(1)- الإسراء/ 106.

(2)- الفرقان/ 32- 33.

(3)- الأنفال/ 41.

نصوص في علوم القرآن، ص: 555

لا تتعارض مع المذهب الأوّل الّذي روي عن ابن عبّاس. فالرّاجح أنّ القرآن الكريم له تنزّلان:

الأوّل: نزوله جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزّة من السّماء الدّنيا.

و الثّاني: نزوله من السّماء الدّنيا إلى الأرض مفرّقا في ثلاث و عشرين سنة.

و قد نقل القرطبيّ عن مقاتل بن حيّان حكاية الإجماع على نزول القرآن جملة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا. و نفى ابن عبّاس التّعارض بين الآيات الثّلاث في نزول القرآن و الواقع العلميّ في حياة الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم بنزول القرآن في ثلاث و عشرين سنة بغير شهر رمضان، عن ابن عبّاس أنّه سأله عطيّة بن الأسود فقال ...

[و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ ذكر قول السّيوطيّ في سرّ إنزال القرآن و قول السّخاويّ كما تقدّم عن أبي شامة].

نزول القرآن منجّما

يقول تعالى في التّنزيل: وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «1».

و يقول: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ «2».

و يقول: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ «3».

و يقول: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ «4».

و يقول: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ

______________________________

(1)- الشّعراء/ 192- 195.

(2)- النّحل/ 102.

(3)- الجاثية/ 2.

(4)- البقرة/ 23.

نصوص في علوم القرآن، ص: 556

يَدَيْهِ وَ هُدىً

وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ «1».

فهذه الآيات ناطقة بأنّ القرآن الكريم كلام اللّه بألفاظه العربيّة، و أنّ جبريل نزل به على قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و أنّ هذا النّزول غير النّزول الأوّل إلى سماء الدّنيا، فالمراد به نزوله منجّما، و يدلّ التّعبير بلفظ التّنزيل دون الإنزال على أنّ المقصود النّزول على سبيل التّدرّج و التّنجيم، فإنّ علماء اللّغة يفرّقون بين الإنزال و التّنزيل، فالتّنزيل لما نزل مفرّقا، و الإنزال أعمّ «2».

و قد نزل القرآن منجّما في ثلاث و عشرين سنة، منها ثلاث عشرة بمكّة على الرّأي الرّاجح، و عشر بالمدينة، و جاء التّصريح بنزوله مفرّقا في قوله تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «3»، أي جعلنا نزوله مفرّقا كي تقرأه على النّاس على مهل و تثبّت، وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا بحسب الوقائع و الأحداث.

أمّا الكتب السّماويّة الأخرى- كالتّوراة و الإنجيل و الزّبور- فكان نزولها جملة، و لم تنزّل مفرّقة، يدلّ على هذا قوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «4» فهذه الآية دليل على أنّ الكتب السّماويّة السّابقة نزلت جملة، و هو ما عليه جمهور العلماء، و لو كان نزولها مفرّقا لما كان هناك ما يدعو الكفّار إلى التّعجّب من نزول القرآن منجّما، فمعنى قولهم: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً، هلّا أنزل عليه القرآن دفعة واحدة كسائر الكتب؟ و ما له أنزل على التّنجيم؟ و لم أنزل مفرّقا؟ و لم يرد اللّه عليهم بأنّ هذه سنته في إنزال الكتب السّماويّة كلّها، كما ردّ عليهم في قولهم: وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ

وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ «5» بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ «6»

______________________________

(1)- البقرة/ 97.

(2)- مفردات الرّاغب.

(3)- الإسراء/ 106.

(4)- الفرقان/ 32.

(5)- الفرقان/ 7.

(6)- الفرقان/ 20.

نصوص في علوم القرآن، ص: 557

و كما ردّ عليهم في قولهم: أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا بقوله: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا «1» و قوله: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ «2» بل أجابهم اللّه تعالى ببيان وجه الحكمة في تنزيل القرآن منجّما بقوله: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ، أي كذلك أنزل مفرّقا لحكمة هي تقوية قلب رسول اللّه.

وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا، أي قدّرناه آية بعد آية بعضه إثر بعض، أو بيّنّاه تبيينا، فإنّ إنزاله مفرّقا حسب الحوادث أقرب إلى الحفظ و الفهم، و ذلك من أعظم أسباب التّثبيت.

و الّذي استقرئ من الأحاديث الصّحيحة أنّ القرآن كان ينزل بحسب الحاجة خمس آيات و عشر آيات و أكثر و أقلّ، و قد صحّ نزول العشر آيات في قصّة الإفك جملة، و صحّ نزول عشر آيات في أوّل المؤمنين جملة، و صحّ نزول غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وحدها، و هي بعض آية «3».

حكمة نزول القرآن منجّما
اشارة

نستطيع أن نستخلص حكمة نزول القرآن الكريم منجّما من النّصوص الواردة في ذلك، و نجملها فيما يأتي:

1- الحكمة الأولى: تثبيت فؤاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم:

لقد وجّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم دعوته إلى النّاس، فوجد منهم نفورا و قسوة، و تصدّى له قوم غلاظ الأكباد فطروا على الجفوة، و جبلوا على العناد، يتعرّضون له بصنوف الأذى و العنت، مع رغبته الصّادقة في إبلاغهم الخير الّذي يحمله إليهم، حتّى قال اللّه فيه:

فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً «4»، فكان الوحي يتنزّل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فترة بعد فترة، بما يثبّت قلبه على الحقّ، و يشحذ عزمه للمضيّ قدما في طريق دعوته، لا يبالي بظلمات الجهالة الّتي يواجهها من قومه، فإنّها سحابة صيف عمّا

______________________________

(1)- الإسراء/ 95.

(2)- الأنبياء/ 7.

(3)- الإتقان/ 1: 42.

(4)- الكهف/ 6.

نصوص في علوم القرآن، ص: 558

قريب تقشّع.

يبيّن اللّه له سنّته في الأنبياء السّابقين الّذين كذّبوا و أوذوا فصبروا حتّى جاءهم نصر اللّه، و أنّ قومه لم يكذّبوه إلّا علوّا و استكبارا، فيجد عليه صلّى اللّه عليه و سلم في ذلك السّنّة الإلهيّة في موكب النّبوّة عبر التّاريخ الّتي يتأسّى بها تسلية له إزاء أذى قومه، و تكذيبهم له، و إعراضهم عنه، قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ* وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا «1»، فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ الْكِتابِ الْمُنِيرِ «2».

و يأمره القرآن بالصّبر كما صبر الرّسل من قبله: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «3».

و يطمئنّ نفسه بما تكفّل اللّه به من

كفايته أمر المكذّبين: وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا* وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلًا «4».

و هذا هو ما جاء في حكمة قصص الأنبياء بالقرآن: وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ «5».

و كلّما اشتدّ ألم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لتكذيب قومه، و داخله الحزن لأذاهم نزل القرآن دعما و تسلية له، يهدّد المكذّبين بأنّ اللّه يعلم أحوالهم، و سيجازيهم على ما كان منهم: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ «6». وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «7»

______________________________

(1)- الأنعام/ 33- 34.

(2)- آل عمران/ 184.

(3)- الأحقاف/ 35.

(4)- المزّمل/ 10- 11.

(5)- هود/ 120.

(6)- يونس/ 75.

(7)- يونس/ 65.

نصوص في علوم القرآن، ص: 559

كما يبشّره اللّه تعالى بآيات المنعة و الغلبة و النّصر: وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «1»، وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً «2»، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ «3».

و هكذا كانت آيات القرآن تتنزّل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم تباعا تسلية له بعد تسلية، و عزاء بعد عزاء، حتّى لا يأخذ منه الحزن مأخذه، و لا يستبدّ به الأسى، و لا يجد اليأس إلى نفسه سبيلا، فله في قصص الأنبياء أسوة، و في مصير المكذّبين سلوى، و في العدّة بالنّصر بشرى، و كلّما عرض له شي ء من الحزن بمقتضى الطّبع البشريّ تكرّرت التّسلية، فثبت قلبه على دعوته، و اطمأنّ إلى النّصر.

و هذه الحكمة هي الّتي ردّ اللّه بها على اعتراض الكفّار في تنجيم القرآن بقوله تعالى:

كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «4». [ثمّ ذكر قول

أبي شامة في سرّ نزول القرآن منجّما، كما تقدّم عنه].

2- الحكمة الثّانية: التّحدّي و الإعجاز

فالمشركون تمادوا في غيّهم، و بالغوا في عتوّهم، و كانوا يسألون أسئلة تعجيز و تحدّ يمتحنون بها رسول اللّه في نبوّته، و يسوقون له من ذلك كلّ عجيب من باطلهم، كعلم السّاعة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ «5»، و معرفة الرّوح: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ «6»، و استعجال العذاب: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ «7»، فيتنزّل القرآن بما يبيّن وجه الحقّ لهم، و بما هو أوضح معنى في مؤدّى أسئلتهم، كما قال تعالى: وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً «8»، أي و لا يأتونك بسؤال عجيب من أسئلتهم الباطلة إلّا أتيناك

______________________________

(1)- المائدة/ 67.

(2)- الفتح/ 3.

(3)- المجادلة/ 21.

(4)- الفرقان/ 32.

(5)- الأعراف/ 187.

(6)- الإسراء/ 85.

(7)- الحجّ/ 47.

(8)- الفرقان/ 33.

نصوص في علوم القرآن، ص: 560

نحن بالجواب الحقّ، و بما هو أحسن معنى من تلك الأسئلة الّتي هي مثل في البطلان.

و حيث عجبوا من نزول القرآن منجّما بيّن اللّه لهم الحقّ في ذلك، فإنّ تحدّيهم به مفرّقا مع عجزهم عن الإتيان بمثله أدخل في الإعجاز، و أبلغ في الحجّة من أن ينزّل جملة و يقال لهم: جيئوا بمثله، و لهذا جاءت الآية عقب اعتراضهم: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً، أي لا يأتونك بصفة عجيبة يطلبونها كنزول القرآن جملة إلّا أعطيناك من الأحوال ما يحقّ لك في حكمتنا، و بما هو أبين معنى في إعجازهم، و ذلك بنزوله مفرّقا، و يشير إلى هذه الحكمة ما جاء ببعض الرّوايات في حديث ابن عبّاس عن نزول القرآن:

فكان المشركون إذا أحدثوا شيئا أحدث اللّه لهم جوابا.

3- الحكمة الثّالثة: تيسير حفظه و فهمه

لقد نزل القرآن الكريم على أمّة أمّيّة لا تعرف القراءة و الكتابة، سجلّها ذاكرة حافظة، ليس لها دراية بالكتابة و التّدوين حتّى تكتب و

تدوّن، ثمّ تحفظ و تفهم: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ ... «1»، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ «2»، فما كان للأمّة الأمّيّة أن تحفظ القرآن كلّه بيسر لو نزل جملة واحدة، و أن تفهم معانيه و تتدبّر آياته، فكان نزوله مفرّقا خير عون لها على حفظه في صدورها و فهم آياته، كلّما نزلت الآية أو الآيات حفظها الصّحابة، و تدبّروا معانيها، و وقفوا عند أحكامها، و استمرّ هذا منهجا للتّعليم في حياة التّابعين. [ثمّ ذكر رواية ابن عساكر عن أبي نضرة و رواية خالد بن دينار عن أبي العالية و رواية البيهقيّ عن عمر، كما تقدّم عن السّيوطيّ].

4- الحكمة الرّابعة: مسايرة الحوادث و التّدرّج في التّشريع

فما كان النّاس ليسلس قيادهم طفرة للدّين الجديد لو لا أنّ القرآن عالجهم بحكمة، و أعطاهم من دوائه النّاجع جرعات يستطبّون بها من الفساد و الرّذيلة، و كلّما حدثت حادثة بينهم نزل الحكم فيها يجلي لهم صبحها و يرشدهم إلى الهدى، و يضع لهم أصول

______________________________

(1)- الجمعة/ 2.

(2)- الأعراف/ 157.

نصوص في علوم القرآن، ص: 561

التّشريع حسب المقتضيات أصلا بعد آخر.

لقد كان القرآن الكريم بادئ ذي بدء يتناول أصول الإيمان باللّه تعالى و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر، و ما فيه من بعث و حساب و جزاء و جنّة و نار، و يقيم على ذلك الحجج و البراهين، حتّى يستأصل من نفوس المشركين العقائد الوثنيّة، و يغرس فيها عقيدة الإسلام.

و كان يأمر بمحاسن الأخلاق الّتي تزكو بها النّفس، و يستقيم عوجها، و ينهى عن الفحشاء و المنكر، ليقتلع جذور الفساد و الشّرّ. و يبيّن قواعد الحلال و الحرام الّتي يقوم عليها صرح الدّين، و ترسو دعائمه في المطاعم

و المشارب و الأموال و الأعراض و الدّماء.

ثمّ تدرّج التّشريع بالأمّة في علاج ما تأصل في النّفوس من أمراض اجتماعيّة، بعد أن شرع لهم من فرائض الدّين و أركان الإسلام ما يجعل قلوبهم عامرة بالإيمان، خالصة للّه، تعبده وحده لا شريك له.

كما كان القرآن يتنزّل وفق الحوادث الّتي تمرّ بالمسلمين في جهادهم الطّويل لإعلاء كلمة اللّه.

و لهذا كلّه أدلّته من نصوص القرآن الكريم إذا تتبّعنا مكّيه و مدنيّه و قواعد تشريعه.

ففي مكّة شرّعت الصّلاة، و شرّع الأصل العامّ للزّكاة مقارنا بالرّبا: فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ ... «1».

و نزلت سورة الأنعام- و هي مكّية- تبيّن أصول الإيمان، و أدلّة التّوحيد، و تندّد بالشّرك و المشركين، و توضّح ما يحلّ و ما يحرم من المطاعم، و تدعو إلى صيانة حرمات الأموال و الدّماء و الأعراض: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ... الآيتين، «2»، ثمّ نزل بعد ذلك تفصيل هذه الأحكام.

فأصول المعاملات المدنيّة نزلت بمكّة، و لكن تفصيل أحكامها نزل بالمدينة، كآية المداينة و آيات تحريم الرّبا.

______________________________

(1)- الرّوم/ 38- 39.

(2)- الأنعام/ 151- 152.

نصوص في علوم القرآن، ص: 562

و أسس العلاقات الأسريّة نزلت بمكّة، أمّا بيان حقوق كلّ من الزّوجين، و واجبات الحياة الزّوجيّة، و ما يترتّب على ذلك من استمرار العشرة أو انفصامها بالطّلاق، أو انتهائها بالموت ثمّ الإرث، فقد جاء في التّشريع المدنيّ.

و أصل الزّنى حرّم بمكّة: وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا «1» و لكنّ العقوبات المترتّبة عليه نزلت بالمدينة.

و أصل حرمة الدّماء نزل بمكّة: وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِ «2»، و لكن

تفصيل عقوباتها في الاعتداء على النّفس و الأطراف نزل بالمدينة.

و أوضح مثال لذلك التّدرّج في التّشريع تحريم الخمر، فقد نزل قوله تعالى: وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ «3»، في مقام الامتنان بنعمه سبحانه، و إذا كان المراد بالسّكر ما يسكر من الخمر، و بالرّزق ما يؤكل من هاتين الشّجرتين كالتّمر و الزّبيب- و هذا ما عليه جمهور المفسّرين- فإنّ وصف الرّزق بأنّه حسن دون وصف السّكر يشعر بمدح الرّزق و الثّناء عليه وحده دون السّكر.

ثمّ نزل قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما «4»، فقارنت الآية بين منافع الخمر فيهما يصدر عن شربها من طرب و نشوة، أو يترتّب على الاتّجار بها من ربح، و مضارّها في إثم تعاطيها، و ما ينشأ عنه من ضرر في الجسم، و فساد في العقل، و ضياع للمال و إثارة لبواعث الفجور و العصيان، و نفّرت الآية منها بترجيح المضارّ على المنافع.

ثمّ نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى «5»، فاقتضى هذا الامتناع عن شرب الخمر في الأوقات الّتي يستمرّ تأثيرها إلى وقت الصّلاة؛

______________________________

(1)- الإسراء/ 32.

(2)- الإسراء/ 33.

(3)- النّحل/ 67.

(4)- البقرة/ 219.

(5)- النّساء/ 43.

نصوص في علوم القرآن، ص: 563

حيث جاء النّهي عن قربان الصّلاة في حال السّكر حتّى يزول عنهم أثره، و يعلموا ما يقولونه في صلاتهم.

ثمّ نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ... الآيتين «1». فكان هذا تحريما قاطعا للخمر في الأوقات

كلّها.

و يوضّح هذه الحكمة ما روي عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: إنّما نزل أوّل ما نزل منه سورة من المفصّل ... [و ذكر كما تقدّم عن السّيوطيّ، ثمّ قال:]

و هكذا كان التّدرّج في تربية الأمّة وفق ما يمرّ بها من أحداث، فقد استشار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم صحابته في أسرى بدر، فقال عمر: اضرب أعناقهم، و قال أبو بكر: نرى أن تعفو عنهم و أن تقبل منهم الفداء، و أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم برأي أبي بكر، فنزل قوله تعالى:

ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ إلى قوله: عَذابٌ عَظِيمٌ «2».

و أعجب المسلمون بكثرتهم يوم حنين حتّى قال رجل: لن نغلب من قلّة، فتلقّوا درسا قاسيا في ذلك، و نزل قوله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ إلى قوله: وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «3».

و لمّا توفّي عبد اللّه بن أبيّ- رأس المنافقين- دعي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم للصّلاة عليه، فقام عليه، فلمّا وقف قال عمر: أعلى عدوّ اللّه عبد اللّه بن أبيّ القائل كذا و كذا، و القائل كذا و كذا؟

يعدد أيّامه. و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يبتسم، ثمّ قال له: «إنّي قد خيّرت، قد قيل لي: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ «4». فلو أعلم أنّي إن زدت على السّبعين غفر له لزدت عليها». ثمّ صلّى عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و مشى معه حتّى قام على قبره حتّى فرغ منه، قال عمر: فعجبت لي و لجرأتي على

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و اللّه و رسوله أعلم، فو الله

______________________________

(1)- المائدة/ 90- 91.

(2)- من حديث أخرجه أحمد عن أنس. (الأنفال/ 67- 68).

(3)- أخرجه البيهقيّ في الدّلائل. (التّوبة/ 25)

(4)- التّوبة/ 80.

نصوص في علوم القرآن، ص: 564

ما كان إلّا يسيرا حتّى نزلت هاتان الآيتان: وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ ... «1»، فما صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم على منافق بعد حتّى قبضه اللّه عزّ و جلّ «2».

و حين تخلّف نفر من المؤمنين الصّادقين في غزوة تبوك، و أقاموا بالمدينة، و لم يجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لديهم عذرا هجرهم و قاطعهم حتّى ضاقوا ذرعا بالحياة، ثمّ نزل القرآن لقبول توبتهم: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ إلى قوله: هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ «3».

و يشير إلى هذا ما روي عن ابن عبّاس في نزول القرآن: و نزّله جبريل بجواب كلام العباد و أعمالهم «4».

5- الحكمة الخامسة

الدّلالة القاطعة على أنّ القرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد: إنّ هذا القرآن الّذي نزل منجّما على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في أكثر من عشرين عاما تنزّل الآية أو الآيات على فترات من الزّمن، يقرأه الإنسان و يتلو سوره فيجده محكم النّسج، دقيق السّبك، مترابط المعاني، رصين الأسلوب، متناسق الآيات و السّور، كأنّه عقد فريد نظمت حبّاته بما لم يعهد له مثيل في كلام البشر: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ «5». و لو كان هذا القرآن من كلام البشر قيل في مناسبات متعدّدة، و وقائع متتالية، و أحداث متعاقبة، لوقع فيه

التّفكّك و الانفصام، و استعصى أن يكون بينه التّوافق و الانسجام: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «6».

فأحاديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم- و هي في ذروة الفصاحة و البلاغة بعد القرآن الكريم-

______________________________

(1)- التّوبة/ 84- 85.

(2)- أخرجه البخاريّ و أحمد و النّسائيّ و التّرمذيّ و ابن ماجة و غيرهم.

(3)- من حديث طويل أخرجه البخاريّ و مسلم و غيرهما، و الثّلاثة هم: كعب بن مالك، و هلال بن أميّة، و مرارة بن الرّبيع، و كلّهم من الأنصار. التّوبة/ 117- 118.

(4)- أخرجه الطّبرانيّ و البزّاز عن ابن عبّاس، و أخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر.

(5)- هود/ 1.

(6)- النّساء/ 82.

نصوص في علوم القرآن، ص: 565

لا تنتظم حبّاتها في كتاب واحد سلس العبارة، يأخذ بعضه برقاب بعض، في وحدة و ترابط بمثل ما عليه القرآن الكريم أو ما يدانيه اتّساقا و انسجاما. فكيف بكلام سائر البشر و أحاديثهم: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «1».

الاستفادة من نزول القرآن منجّما في التّربية و التّعليم

تعتمد العمليّة التّعليميّة على أمرين أساسيّين: مراعاة المستوى الذّهني للطّلّاب، و تنمية قدراتهم العقليّة و النّفسيّة و الجسميّة بما يوجّهها وجهة سديدة إلى الخير و الرّشاد.

و نحن نلحظ في حكمة نزول القرآن منجّما ما يفيدنا في مراعاة هذين الأمرين على النّحو الّذي ذكرناه آنفا، فإنّ نزول القرآن الكريم تدرّج في تربية الأمّة الإسلاميّة تدرّجا فطريّا لإصلاح النّفس البشريّة، و استقامة سلوكها، و بناء شخصيّتها، و تكامل كيانها، حتّى استوت على سوقها، و آتت أكلها الطّيّب بإذن ربّها لخير الإنسانيّة كافّة.

و كان تنجيم القرآن خير عون لها على حفظه و فهمه

و مدارسته و تدبّر معانيه، و العمل بما فيه.

و بين نزول القرآن في مطلع الوحي بالقراءة و التّعليم بأداة الكتابة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «2»، و نزول آيات الرّبا و المواريث في نظام المال، أو نزول آيات القتال في المفاصلة التّامة بين الإسلام و الشّرك، و بين ذاك و هذا مراحل تربويّة كثيرة لها أساليبها الّتي تلائم مستوى المجتمع الإسلاميّ في تدرّجه من الضّعف إلى القوّة، و من القوّة إلى شدّة البأس.

و المنهج الدّراسيّ الّذي لا يراعى فيه المستوى الذّهنيّ للطّلّاب في كلّ مرحلة من مراحل التّعليم، و بناء جزئيّات العلوم على كلّيّاتها و الانتقال من الإجمال إلى التّفصيل، أو لا يراعي تنمية جوانب الشّخصيّة العقليّة و النّفسيّة و الجسميّة منهج فاشل، لا تجني منه

______________________________

(1)- انظر هذه الحكمة في مناهل العرفان للزّرقانيّ: 54. الإسراء/ 88.

(2)- العلق/ 1- 5.

نصوص في علوم القرآن، ص: 566

الأمّة ثمرة علميّة سوى الجمود و التّخلّف.

و المدرّس الّذي لا يعطي طلّابه القدر المناسب من المادّة العلميّة، فيثقل كاهلهم و يحمّلهم ما لا يطيقون حفظا أو فهما، أو يحدّثهم بما لا يدركون، أو لا يراعي حالهم في علاج ما يعرض لهم من شذوذ خلقيّ، أو يفشو من عادات سيّئة، فيقسو و يتعسّف، و يأخذ الأمر دون أناة و رويّة، و تدرّج و حكمة، المدرّس الّذي يفعل ذلك مدرّس فاشل، كذلك يحول العمليّة التّعليميّة إلى متاهات موحشة، و يجعل غرف الدّراسة قاعات منفّرة.

و قس على هذا الكتاب المدرسيّ، فالكتاب الّذي لا تنتظم موضوعاته و فصوله، و لا تندرج معلوماته من السّهل إلى الصّعب، و لا تترتّب

جزئيّاته ترتيبا محكما منسقا، و لا يكون أسلوبه واضحا في أداء المعنى المقصود، كتاب ينفر الطّالب من قراءته، و يحرمه من الاستفادة منه.

و الهدى الإلهيّ في حكمة نزول القرآن منجّما هو الأسوة الحسنة في صياغة مناهج التّعليم، و الأخذ بأمثل الطّرق في الأساليب التّربويّة بقاعة الدّرس، و تأليف الكتاب المدرسيّ. (ص: 85- 102)

نصوص في علوم القرآن، ص: 567

الفصل السّابع و السّتّون نصّ الدّكتور حجّتي في «مختصر تاريخ القرآن»

نزول القرآن الكريم
بدء نزول القرآن

أشرنا فيما سبق إلى هذا الموضوع، و نضيف هنا أنّ العلماء المسلمين اختلفوا في تاريخ بدء نزول القرآن، كما اختلفوا في تاريخ البعثة النّبويّة المباركة «1».

أمّا بشأن بدء نزول القرآن فمن المفسّرين من قال: إنّه كان في النّصف من شعبان، و يذهبون إلى أنّ اللّيلة المباركة الّتي تشير إليها الآية الكريمة: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «2»، هي ليلة النّصف من شعبان «3».

و اتّفق المحدّثون و المفسّرون على أنّ بدء القرآن كان في شهر رمضان «4»، مع اختلاف

______________________________

(1)- قيل: إنّ المبعث النّبويّ كان يوم السّبت الثّامن أو الثّاني من ربيع الأوّل (تاريخ اليعقوبيّ 2: 17)، و قيل: في السّابع و العشرين من شهر رجب (تاريخ الخميس، 1: 280، 281)، و قيل أيضا: في السّابع عشر من شهر رمضان (تاريخ أبي الفداء، 1: 115).

(2)- الدّخان: 3- 4.

(3)- مجمع البيان للطّبرسيّ 9: 61.

(4)- راجع تاريخ الطّبريّ 2: 300 و سيرة ابن هشام 1: 236 و تاريخ أبي الفداء 1: 115 و تاريخ اليعقوبيّ 1: 7 و مجمع البيان 9: 66 و التّبيان للشّيخ الطّوسيّ 9: 224 و جامع البيان 5: 107 و 108 و مقدّمتان: 235.

نصوص في علوم القرآن، ص: 568

بينهم في يوم النّزول.

لقد نصّ كتاب اللّه العزيز على

أنّ القرآن نزل في ليلة القدر: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1». و هناك آراء مختلفة في تعيين موقع هذه اللّيلة «2». و قال معظم العلماء بأنّ هذه اللّيلة في شهر رمضان لقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «3».

و لم يتّفقوا على تعيين هذه اللّيلة من بين ليالي شهر رمضان المبارك، فمنهم من قال:

إنّها ليلة السّابع عشر من شهر رمضان؛ لأنّ يَوْمَ الْفُرْقانِ في قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ «4». هو يوم السّابع عشر من شهر رمضان، و هو يوم بدء المواجهة في معركة بدر «5».

و الطّبريّ يذكر أنّ القرآن نزل لثماني عشرة خلون من شهر رمضان «6»، فتكون ليلة نزول القرآن- إذن- ليلة التّاسع عشر من شهر رمضان.

أكثر روايات مدرسة أهل البيت تشير إلى أنّ ليلة القدر هي إحدى ليالي العقد الأخير من شهر رمضان المبارك، و ثمّة قرائن تقوّي الظّنّ بأنّها في ليلة الثّالث و العشرين من هذا الشّهر.

في هذه اللّيلة أنزل القرآن إلى السّماء الدّنيا، ثمّ أنزل يوم الرّابع و العشرين من شهر

______________________________

(1)- القدر/ 1.

(2)- قيل في ليلة القدر: إنّها ليلة النّصف من شعبان، و قيل: إنّها ليلة الأوّل أو ليلة السّابع عشر، أو ليلة التّاسع عشر، أو ليلة الحادي و العشرين، أو ليلة الثّالث و العشرين، أو ليلة الرّابع و العشرين، أو ليلة الخامس و العشرين، أو ليلة السّابع و العشرين من شهر رمضان. (راجع مجمع البيان 10: 518- 520). و روي عن ابن عبّاس قوله: إنّ ليلة القدر تكرّرت في سورة القدر ثلاث مرّات، و مجموع حروف ليلة القدر تسعة، و حاصل ضرب الثّلاثة في التّسعة سبع

و عشرون لذلك فإنّ ليلة القدر هي ليلة السّابع و العشرين من شهر رمضان (راجع كشكول الشّيخ البهائيّ)، و هذا رأي ذوقيّ لا يمكن قبوله علميّا أو تاريخيّا أو روائيّا.

(3)- البقرة/ 185.

(4)- الأنفال/ 41.

(5)- سيرة ابن هشام 1: 239، 240.

(6)- تاريخ الطّبريّ 2: 300.

نصوص في علوم القرآن، ص: 569

رمضان إلى الأرض، و بدايته الآية الكريمة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ... «1».

و أمّا بالنّسبة لما روي بشأن بعثة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم في شهر ربيع الأوّل، فيمكن الجمع بينه و بين نزول القرآن في شهر رمضان كما يلي: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في شهر ربيع الأوّل- و هو شهر ولادته أيضا- عن طريق الرّؤيا في المنام، و بعد مرور ستّة أشهر على هذه الواقعة نزل عليه الوحي في عالم اليقظة «2».

طريقة نزول القرآن الكريم

ثمّة قرائن قرآنيّة و أدلّة أخرى تؤكّد أنّ الكتب السّماوية السّابقة نزلت دفعة واحدة على الأنبياء. و قد تكون هذه الظّاهرة هي الّتي دفعت بأصحاب الأديان السّابقة لأن يعترضوا على النّبيّ الخاتم بعدم نزول القرآن جملة واحدة: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «3».

أمّا القرآن فنزل بالتّدريج على امتداد ثلاث و عشرين سنة تقريبا، و كانت تنزّل الآية الواحدة أو أكثر حسب ما تقتضيه الظّروف و المقتضيات.

و يبقي السّؤال عن النّزول الدّفعيّ للقرآن المذكور في الآية الكريمة: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «4»، و كيف يمكن أن ينسجم هذا النّزول مع النّزول التّدريجيّ؟ ثمّة أربعة أجوبة على ذلك:

[ثمّ ذكر أربع روايات عن ابن عبّاس و مقاتل و الشّعبيّ و الضّحّاك، كما تقدّم عن الطّبرسيّ و السّيوطيّ، فقال:]

و يبدو أنّ الجواب الأوّل مسند بأدلّة و روايات أكثر من الباقي.

______________________________

(1)- العلق/ 1.

(2)- الإتقان 1: 70- 71.

(3)- الفرقان/ 32.

(4)- القدر/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 570

حكمة التّدرّج في نزول القرآن

ذكر العلماء أوجها لحكمة التّدرّج في نزول القرآن نستعرض بعضها:

أ- كثير من الآيات يرتبط بحوادث وقعت في عصر الرّسالة، و توالي هذه الحوادث يستلزم توالي نزول الآيات. و بعبارة أخرى هناك ظروف و ملابسات تكون أرضيّة لنزول كثير من الآيات، و هي ما نسمّيها بأسباب النّزول. و لمّا كانت هذه الظّروف و الوقائع لا تحدث دفعة واحدة، بل بالتّدريج، لذلك كان لا بدّ من نزول القرآن تدريجيّا.

ب- لتثبيت قلب النّبيّ على طريق الدّعوة، و لاستمرار الدّفع نحو أداء الرّسالة، و هذا ما تشير إليه الآية الكريمة: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «1».

ج- النّزول التّدريجيّ يوفّر الفرصة للنّبيّ الأمّيّ و لقومه الأمّيّين أن يحفظوا القرآن، كما يوفّر الفرصة لكتابته بالتّدريج، و هذا ما تشير إليه الآية: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «2».

د- مراعاة الطّبيعة الإنسانيّة و النّفس البشريّة في فرض التّكاليف، فتكاليف الإسلام لو نزلت دفعة واحدة لما شقّت طريقها نحو التّنفيذ في المجتمع، من هنا تدرّجت بعض الأحكام في النّزول حتّى اتّخذت صيغتها النّهائيّة، كما هو الملاحظ في تحريم الخمر.

ه- النّزول التّدريجيّ يوفّر الفرصة للتّأمّل و التّدبّر و التّعمّق في مضامين الآيات، خاصّة لأولئك الأمّيّين الفاقدين لقدرة الاستيعاب السّريع «3». (ص: 23- 28)

______________________________

(1)- الفرقان/ 32.

(2)- الإسراء/ 106.

(3)- جلاء الأذهان 10: 408، و منهج الصّادقين 3: 389.

نصوص في علوم القرآن، ص: 571

الفصل الثّامن و السّتّون نصّ الشّيخ محمّد الغزاليّ في كتابه: «نظرات في القرآن»

كيف نزل؟ و لما ذا خلد؟

لكي نفهم القرآن فهما صحيحا لا بدّ أن نفهم الأحداث الّتي عاصرته، و أن نعي الأحوال الّتي قارنت نزوله.

فإنّ آيات القرآن وثيقة الارتباط بالظّروف الّتي جاءت فيها، و فقه هذه الظّروف جزء من فقه

الهدايات السّماويّة الّتي تعلّقت بها و تعرّضت لها.

لو أنّ القرآن نزل دفعة واحدة لا يمكن لدارسه أن يفصل بين معانيه و بين الملابسات العديدة المتشعّبة الّتي أحاطت بها، أو لحار في وضع كلّ حكم بإزاء الحالة الدّقيقة الّتي تناسبه. أمّا و القرآن نزل مفرّقا على بضع و عشرين سنة حفلت بالحوادث الجسام، و تتابعت عليها أطوار شتّى، و كان نزوله على هذا النّحو يمتّ بأوثق الصّلات؛ لتغاير الحوادث و تجدّد الأطوار، لذلك لا بدّ في فقه القرآن من فقه الحياة نفسها الّتي أحاطت ببداية أمره و نهايته، و لا بدّ من استيعاب التّاريخ المفصّل لهذه الفترة الخطيرة.

و من الظّلم الفادح للقرآن الكريم أن يحاول أحد تفسيره و هو ذاهل عن الجوّ الّذي اكتنف نزول الآيات، فإنّ تاريخ النّزول و سببه جزءان لا يمكن تجاهلهما في تكوين المعنى و إيضاح القصد، بل لا يمكن تجاهلهما في تربية النّاس بالقرآن و أخذهم بآدابه.

و قد علّمنا اللّه عزّ و جلّ طرفا من هذه الحقيقة في هذه الآيات من القرآن:

نصوص في علوم القرآن، ص: 572

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «1».

أي أنّ اللّه نزّله مفرّقا كذلك لحكمة مرادة له، و ما كان يعجز عن إبرازه للنّاس مرّة واحدة، لكن ذلك- لو حدث- يفوّت الآثار العظيمة المقصودة من إرسال الكلام في مواضعه الّتي يجود فيها.

إنّ الكلمة في مناسبتها الدّقيقة تجي ء كالعون المسعف عند الحاجة الماسّة، أو كالحلو البارد على شدّة الظّمأ.

و الرّسول و هو يحمل عب ء البلاغ عن ربّه، و يشقّ طريقه وسط التّكذيب و العناد، و القسوة و الهزء، و يمضي بأتباعه القلائل في معركة موصولة

اللّيالي و الأيّام، هذا الرّسول الجادّ المصابر بحاجة إلى مدد بعد مدد من عناية اللّه الّذي يبلغ عنه، بحاجة إلى تثبيت الوحي نفسه في مجال لا تفلح فيه قوى البشر وحدها.

إنّ أصحاب الرّسالات الإنسانيّة إن لم تواتهم حظوظ طيّبة، أو تساعدهم أقدار حسنة فشلوا حتما.

و الرّسالات الإنسانيّة أعمال محدودة القيمة و الهدف، فكيف بمن يحملون رسالات السّماء؟ و هي أجل و أنبل و أثقل ما عرف العالم من توجيه و جهد.

إنّ تثبيت أفئدتهم بالوحي الّذي هو أساس لظهورهم أمر لا عجب فيه، و تفريق هذا الوحي حسب ما يلقون من متاعب و صعوبات أمر لا عجب فيه كذلك.

هذا فيما يتّصل بالنّاحية النّفسيّة للرّسول، و ثمّ أمر يتّصل بطبيعة الوحي المنزل، فإنّ اللّه يقول فيه: وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا، أي بيّناه في ترسّل و تثبّت، و التّبيين على هذه الصّورة معناه سوق الآيات على مهل، مفرّقة تفريقا يسكب الوضوح و اليقين على كلّ جزء فيها، قد يكون في الإجمال و السّرعة نوع من الإغماض و التّجوّر. أمّا التّفصيل المتأنّي فهو دائما قرين الصّدق و الدّقة، و قد فصّلت آيات القرآن من ناحية الأسلوب، فجاءت وقفة بعد وقفة، و فصّلت من ناحية الموضوع، فجاءت على قريب من ربع قرن، كأنّ الزّمن قد جعل جزءا من شرحها، أو عونا على ترديد صداها، و إتاحة التّأمّل المستغرق فيها.

______________________________

(1)- الفرقان/ 32- 33.

نصوص في علوم القرآن، ص: 573

و تنكشف هذه الحكمة كلّها في قوله بعد: وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً، أي أنّ النّاس سوف يتلقّون مطالع الرّسالة بصنوف من الاعتراض و التّساؤل، و سيؤلّفون لها ردودا، و يثيرون حولها شبها. و هنا تبدو الفائدة في نزول

الوحي مجزّأ، فإنّ الشّبه المثارة ستكون فرصة لمزيد من نور الحقّ يكشف ضلالها، و يمحق محالها، و سيتكفّل الوحي بالإجابة على كلّ سؤال، و الإزالة لكلّ خفاء.

و قد تكون تفرقة النّزول ظاهرة النّفع عند الحكم في القضايا المتجدّدة، أو الإفتاء في المسائل العارضة.

بيد أنّ ذلك لا يجعلنا نغفل الأصل الّذي أشرنا إليه ابتداء، إنّ ربع قرن في حياة النّاس ليس شيئا هيّنا، إنّه مرحلة كبيرة في حياة الشّباب و الشّيوخ و الرّجال و النّساء، و هو مرحلة تتّسع لشئون كثيرة جدّا في العلاقات الفرديّة و الاجتماعيّة و السّياسيّة، خصوصا إذا تراوحت أيّامه بين الحرب و السّلام، و جمعت حوادثه بين أمم مختلفة.

و قد قام محمّد يدعو إلى اللّه قرابة هذه الفترة، و يواجه العواطف و الأفكار، و الأفراد و الجماعات، و الشّدّة و الرّخاء، و النّصر و الهزيمة، و الهجرة و الاستقرار و أهل الكتاب و عبدة الأصنام، و الدّول المنظّمة، و القبائل السّاذجة. و كان في هذا الإبّان الحافل يدخل في صميم الحياة و لا يحيا على هامشها.

كان الوحي ينزل طول هذه الفترة توجيها لما يستقبل أو تعقيبا على ما يستدبر، كان القرآن الكريم طوال ثلاث و عشرين سنة ينزل و فيه حكم اللّه على ما يكون، و فيه تحديد لموقف الإسلام، لا بالأوامر المقتضية فحسب، بل أحيانا بالقصص المفصّلة الّتي يحيا فيها تاريخ قديم، و تسرد فيها أحداث مشابهة.

و لهذا القصص لون خاصّ و اتّجاه معيّن، و من هنا قلت؛ إنّ فهم القرآن لا يتمّ إلّا بفهم معالم المجتمع الّذي نزل فيه، و إلّا بتحرّى أسباب النّزول و تواريخها، و استقصاء الملابسات الّتي تكتنف الموضوعات كلّها، و بهذا يصحّ أن نكون علماء بالقرآن.

و

أحبّ أن أشير هنا إلى خطأ شائع، فكثير من النّاس يظنّ أنّ التّوراة و الإنجيل نزلا جملة واحدة، و يعلّل اقتراح الأعراب نزول القرآن جملة واحدة بالاطّراد مع السّوابق الأولى، و هذا وهم، فمن الّذي قال: إنّ هذه الكتب نزلت كذلك؟ و ما دليله؟ إنّ الواقع من

نصوص في علوم القرآن، ص: 574

مطالعة ما في يد اليهود و النّصارى الآن ينفى هذا الزّعم، فالأناجيل المتداولة قصص كتبها تلامذة عيسى، و دوّنوا فيها بعض تعاليمه الّتي صدرت عنه حسب الحوادث، و كذلك الرّسائل الأخرى الّتي كتبها «بولس» و غيره.

و العهد القديم- كما نراه الآن- لا يختلف عن العهد الجديد في الزّمن الّذي تألّف فيه.

و ليس في القرآن الكريم أنّ اللّه آتى عيسى الإنجيل دفعة واحدة، و لا آتى موسى التّوراة دفعة واحدة. و الألواح الّتي أخذها موسى كانت تحوي الوصايا العشر فقط.

و لا مانع- فعلا- من أن ينزل اللّه على بعض أنبيائه كتبا كاملة، لكنّ هذه الكتب أن تكون أسسا لرسالات بعيدة المدى واسعة الشّرائع.

ربّما ضمّت بعض العظات و العبر، و ربّما جمعت بعض الحكم و الأناشيد، ربّما حوت طائفة من الأحكام الفرديّة لمدّة موقوتة. و ذلك شي ء غير ما انفرد به القرآن الكريم من خصائص و ميزات، جعلت نزوله يأخذ نسقا مربوطا بأحوال الحياة و شئون النّاس فترة كافية للإحاطة بكلّ دقيق و جليل منها.

نعم، فالسّنوات الثّلاث و العشرون الّتي استغرقت نزول القرآن يمكن حسبانها دورة اجتماعيّة كاملة، تمّ فيها البيان الإلهيّ لسياسة الحياة و الأحياء، و ما تفد به القرون بعد ذلك من أحوال نفسيّة و اجتماعيّة لا يعدو أن يكون صورة مكرّرة لما سبق أن قال القرآن كلمته فيه: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ

تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ «1».

لقد نزل القرآن منجّما حسب الحوادث، فلنفهم هذه الحوادث، لنفهم حقيقة القضيّة و منحى الحكم جميعا، و هذه الحوادث ليس خصومة نشبت بين أفراد، بل هي سير حياة، و طبيعة بشر، و حال مجتمع، أو هي كما قلنا: مثل يتكرّر على العصور لشئون الحياة و الأحياء، و القرآن النّازل بإزائها هو الإرشاد الإلهيّ الخالد لهذه النّظائر المطّردة.

(ص: 19- 23)

______________________________

(1)- النّحل/ 89.

نصوص في علوم القرآن، ص: 575

الفصل التّاسع و السّتّون نصّ الشّيخ الزّفزاف في كتابه: «التّعريف بالقرآن و الحديث»

نزول القرآن

الكلام على نزول القرآن ينتظم القول في ثلاثة مباحث، و هي:

الأوّل: زمن نزوله.

الثّاني: الأحرف الّتي نزل بها.

الثّالث: مواطن نزوله.

زمن نزوله «1»

إنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ القرآن نزل على رسولنا محمّد صلّى اللّه عليه و سلم منذ رسالته إلى قبيل وفاته، فكان ينزل منجّما بحسب الحوادث و مقتضيات الأحوال، و يدلّنا على هذا أنّ أوّل ما نزل به جبريل عليه في بدء رسالته، كما جاء في كثير من الآثار هو قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «2». و أنّ آخر ما نزل منه قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ

______________________________

(1)- نكتفي هنا بهذا البحث فقط، و أمّا البحثان الآخران فسيذكران في موضعهما. (م)

(2)- العلق/ 1- 5.

نصوص في علوم القرآن، ص: 576

عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «1»، و قد نزلت في حجّة الوداع الّتي كانت قبل وفاة الرّسول ببضع و ثمانين يوما. و فيما بين ذلك كان ينزل بحسب الحوادث، فقد كانوا يسألونه أحيانا عن الشّي ء فينزل حكم اللّه فيه، كما يدلّ على ذلك قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما «2». و هكذا صار ينزل بالتّوالي تبعا لحاجة المسلمين إلى التّشريع، و بذا يكون قد استمرّ نزوله ثلاثا و عشرين سنة تقريبا.

و الحكمة في نزوله مفرّقا على هذا النّحو، أن يكون أيسر على أمّة محمّد حفظا و فهما، و أن يكون أدعى إلى قبوله، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة؛ لأنّه كان ينفر من قبوله حينئذ كثير من النّاس، لكثرة ما فيه من

الأوامر و النّواهي، و إلى هذا يشير ما رواه البخاريّ عن عائشة رضي اللّه عنها أنّها قالت: ... [و ذكر كما تقدّم عن السّيوطيّ، ثمّ قال:]

كما أنّ في ذلك تثبيتا لقلب الرّسول عليه السّلام؛ لأنّ الوحي إذا كان يتجدّد في كلّ حادثة يكون أشدّ عناية به، و أكثر تقوية لقلبه.

و هذا مصداق قوله تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «3»، و قوله ردّا على الكافرين حينما طلبوا منه أن ينزل القرآن جملة واحدة؛ حيث يقول: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «4»، أي أنزلناه منجّما على النّحو الّذي تراه؛ لنثبّت به فؤادك.

و لم يكن نزوله مفرّقا على نسق واحد، بل كان ينزل منه أحيانا الآية، و أحيانا الآيتان، و أحيانا الثّلاثة، و أحيانا أكثر من ذلك على وفق ما تدعو إليه الحاجة.

دفع تعارض ظاهريّ

أثبتنا فيما تقدّم أنّ القرآن نزّل على الرّسول منجّما، و هذا يقتضي أنّه لم ينزّل جملة

______________________________

(1)- المائدة/ 3.

(2)- البقرة/ 219.

(3)- الإسراء/ 106.

(4)- الفرقان/ 32- 33.

نصوص في علوم القرآن، ص: 577

في وقت خاصّ من أوقات السّنة. و لكن قد ورد في القرآن ما ظاهره يناقض هذا، و هو قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ «1»، و قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2»، و قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «3». فإنّ الآية الأولى تنصّ على أنّه نزل في رمضان، و الثّانية و الثّالثة تدلّان على أنّه نزل في ليلة واحدة هي ليلة القدر، و هي اللّيلة المباركة، و من حيث إنّ الثّابت

من الأحاديث أنّ ليلة القدر إحدى ليالي رمضان يكون نزوله في ليلة من ليالي رمضان.

و هنا نقول: إنّ العلماء قد اختلفوا في طريقة دفع هذا التّعارض الظّاهريّ، فاختلفوا في المراد بنزول القرآن في تلك الآيات الثّلاث الّتي تدلّ على نزوله في ليلة من رمضان.

فقال بعضهم: إنّ المراد بنزوله، نزوله كلّه دفعة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى بيت العزّة في سماء الدّنيا، و قد روي هذا القول عن ابن عبّاس، فقد روى النّسائيّ و أبو عبيد و الحاكم عن عكرمة عن ابن عبّاس أنزل القرآن جملة ... [إلى أن قال:]

و قد رجّح هذا الرّأي جمع كبير من العلماء، و أيّدوه بما رواه الإمام أحمد و البيهقيّ عن واثلة، ... [و ذكر الرّوايتين كما تقدّم عن الطّبريّ، ثمّ قال:]

و إذا نظرنا إلى هذا الحديث لا نجد فيه ما يدلّ على مدّعاهم؛ لأنّه لم يرد فيه نصّ على أنّ القرآن نزل جملة واحدة إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا، لأنّ قوله: «و القرآن لأربع و عشرين» كما يصدق بأن يكون المراد القرآن كلّه، يصدق بأن يراد بعضه، نظرا إلى أنّ لفظ «القرآن» يصحّ إطلاقه على بعض القرآن، كما يدلّ على ذلك قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً «4». و معلوم قطعا أنّ هذه الآية لم تنزل بعد نزول القرآن كلّه، بل نزلت في مكّة، فهي من أواسط الآيات نزولا، و حينئذ يكون لفظ الْفُرْقانَ فيها إنّما أطلق على بعض القرآن، و هو الّذي كان قد نزل إلى حين نزول هذه

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- القدر/ 1.

(3)- الدّخان/ 2.

(4)- الفرقان/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 578

الآية. كما أنّه لم يصرّح في الحديث بالنّزول إلى بيت

العزّة، فكيف يسلّم أنّ هذا يكون دليلا على دعواهم؟ و فضلا عن هذا، فإنّ هذا الحديث معارض بحديث آخر أخرجه ابن أبي شيبة عن أبي قلابة قال: أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع و عشرين من رمضان «1». فهذا الحديث يدلّ على أنّ الكتب كلّها نزلت ليلة أربع و عشرين، في حين أنّ الحديث الأوّل وزّع نزولها في رمضان، و هذا تناقض ظاهر بين الحديثين يسقط الاعتداد بهما. و يقوّي عدم الاطمئنان للحديثين أنّه قد ورد من الأحاديث الصّحيحة ما يدلّ على عدم تعيين ليلة القدر، فقد روى أحمد و البخاريّ و مسلم عن عائشة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان». فهذا يدلّ على أنّ الرّسول عليه السّلام لم يعيّن ليلة القدر، في حين أنّ الحديثين السّابقين يدلّان على أنّه عيّنها بأنّها في أربع و عشرين من رمضان.

و بهذا يتبيّن أنّ هذين الحديثين لا يصلحان سندا لأصحاب هذا الرّأي، و لا يقويان على إثبات ما ادّعوه. و ليس معنى هذا أنّنا ننكر قول ابن عبّاس و من معه، و لكنّا نقول: إنّه قول لا يزال يحتاج إلى دليل.

و قال بعض آخر: ليس المراد من نزول القرآن في الآيات الثّلاث السّابقة نزوله جملة واحدة، بل المراد ابتداء نزوله، و حينئذ يكون معنى نزوله في رمضان ابتداء نزوله على سيّدنا محمّد صلّى اللّه عليه و سلم، لا نزوله جملة إلى بيت العزّة. و ذلك لأنّ الّذي يتبادر إلى الذّهن من معنى نزول القرآن هو نزوله على الرّسول؛ لأنّ ذلك هو الّذي يتعلّق به مصلحة النّاس، و هي هدايتهم ببيان أحكام اللّه لهم. و هو الّذي

يليق أن تجعل ليلة حصوله من ليالي القدر و الشّرف و العظمة، تبعا لما يتوفّر به من الهداية. أمّا نزوله إلى بيت العزّة قبل أن يصل إلى النّاس فلا يتحقّق به شي ء من هذا. و متى كان هذا هو المتبادر فلا يصحّ صرف الكلام عنه حتّى يقوم دليل يقتضي ذلك. و ليس لدينا دليل من الكتاب أو السّنّة يقتضينا صرف الكلام عن هذا المتبادر. و على هذا يجب أن نفسّر نزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة القدر بابتداء نزوله؛ لأنّ الواقع و الأحاديث المتعدّدة دلّت على أنّه نزل على الرّسول منجّما

______________________________

(1)- أنظر الأتقان 1: 51.

نصوص في علوم القرآن، ص: 579

لا دفعة واحدة.

و ليس بغريب أن يؤرّخ العمل العظيم بالوقت الّذي ابتدأ فيه، فإنّهم يقولون: إنّ الأهرام بنيت سنة كذا قبل الميلاد، و يريدون ابتداء بنائها، ضرورة العلم بأنّها لم تبن في سنة واحدة، و القرآن الّذي أحدث انقلابا خطيرا في المجتمع الإنسانيّ من أعظم الأمور التّاريخيّة، فيصحّ أن ينسب نزوله إلى الوقت الّذي ابتدأ نزوله فيه، و إلى هذا نظر الإمام فخر الدّين الرّازيّ؛ حيث قال في تفسيره بصدد الكلام على آية شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «1» ما نصّه: و ذلك لأنّ مبادئ الملل و الدّول هي الّتي يؤرّخ بها؛ لكونها أشرف الأوقات، و لأنّها أيضا أوقات مضبوطة معلومة «2»، و هذا كلام واضح بيّن الرّجحان.

و بهذا التّأويل تتّفق آيات القرآن، و الأحاديث الثّابتة، و الواقع المادّي على أنّ المراد من نزول القرآن في الآيات كلّها نزوله على محمّد صلّى اللّه عليه و سلم، و أنّه نزل عليه منجّما لا دفعة واحدة. أمّا نزوله إلى بيت العزّة دفعة واحدة، ثمّ

نزوله بعد ذلك منجّما على محمّد صلّى اللّه عليه و سلم، فهو من الأمور الغيبيّة الّتي لا يصحّ اعتقادها إلّا إذا ثبتت بدليل قاطع، فإذا وجد سلّمنا و آمنّا به، و إلى أن يوجد لا نستطيع أن نؤوّل الآيات على غير الوجه الّذي تقدّم رجحانه.

(ص: 32- 36) نصوص في علوم القرآن 579 دفع تعارض ظاهري ..... ص : 576

____________________________________________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- أنظر تفسير الفخر الرّازيّ 2: 182 الطّبعة الأميريّة.

نصوص في علوم القرآن، ص: 580

الفصل السّبعون نصّ السّبحانيّ في «مجلّة رسالة القرآن»

بعثته و نزول الوحي إليه و ما حولهما من الرّوايات

بعث اللّه سبحانه نبيّه الأكرم على حين فترة من الرّسل، و طول هجعة من الأمم، و اعتزام من الفتن، و انتشار من الأمور، و تلظّ من الحروب، و الدّنيا كاسفة النّور، ظاهرة الغرور، على حين اصفرار من ورقها، و إياس من ثمرها، و اغورار من مائها، قد درست منار الهدى، و ظهرت أعلام الرّدى، فهي متجهّمة لأهلها، عابسة في وجه طالبها، ثمرها الفتنة، و طعامها الجيفة، و شعارها الخوف، و دثارها السّيف «1».

بعث على رأس الأربعين من عمره، و بشّر بالنّبوّة و الرّسالة. و أمّا الشّهر الّذي بعث فيه ففيه أقوال و آراء، فالشّيعة الإماميّة تبعا لأئمّة أهل البيت: على أنّه صلّى اللّه عليه و سلم بعث في سبع و عشرين من رجب ... [ثمّ ذكر ثلاث روايات، عن الإمام الصّادق و الكاظم عليهما السّلام، كما تقدّم عن العلّامة المجلسيّ، فقال:]

و أمّا غيرهم فمن قائل بأنّه بعث في سبع عشر من شهر رمضان، أو ثماني عشر، أو أربع و عشرين من هذا الشّهر، أو في الثّاني عشر من ربيع الأوّل.

و بما أنّ أهل البيت أدرى بما في البيت، كيف و هم نجوم الهدى، و مصابيح الدّجى،

______________________________

(1)- اقتباس من كلام الإمام

أمير المؤمنين في نهج البلاغة من الخطبة 85 طبعة عبده.

نصوص في علوم القرآن، ص: 581

و أحد الثّقلين الّذين تركهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بعده، فيجب علينا الوقوف دون نظرهم و لا نجتازه. نعم، دلّ الذّكر الحكيم على أنّ القرآن نزل في شهر رمضان؛ قال سبحانه: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... «1»، و قال سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2»، و قال سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ «3». إلى غير ذلك من الآيات الدّالّة على نزوله في شهر رمضان.

و الاستدلال بهذه الآيات على أنّه صلّى اللّه عليه و سلم بعث في شهر رمضان مبنيّ على [وجوه:

الأوّل:] اقتران البشارة بالنّبوّة بنزول القرآن و هو بعد غير ثابت، فلو قلنا بالتّفكيك، و أنّه بعث في شهر رجب، و بشّر بالنّبوّة فيه، و نزل القرآن في شهر رمضان، لما كان هناك منافاة بين بعثته في رجب و نزول القرآن في شهر رمضان.

و يؤيّد ذلك، أي عدم اقتران النّبوّة بنزول القرآن ما نقله غير واحد عن عائشة: أنّ أوّل ما بدئ به رسول اللّه من النّبوّة حين أراد اللّه كرامته. الرّؤيا الصّادقة. فكان لا يرى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم رؤيا في نومه إلّا جاءت كفلق الصّبح. قالت: و حبّب اللّه تعالى إليه الخلوة، فلم يكن شي ء أحبّ إليه من أن يخلو وحده «4».

لكنّ الظّاهر من ذيل ما روته عائشة أنّ النّبوّة كانت مقترنة بنزول الوحي و القرآن الكريم، و لنذكر نصّ الحديث بتمامه، ثمّ تذييله ببيان بعض الملاحظات حوله.

روى البخاريّ: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يخلو بغار حراء، فيتحنّث فيه، و هو التّعبّد

في اللّيالي ... [و ذكر كما تقدّم عنه، ثمّ قال:] و في هذه الرّواية تأمّلات واضحة:

1- ما هو المبرّر لجبرئيل أن يروّع النّبيّ الأعظم، و أنّ يؤذيه بالعصر إلى حدّ أنّه يظنّ أنّه الموت؟ يفعل به ذلك و هو يراه عاجزا عن القيام بما يأمره به، و لا يرحمه و لا يلين معه.

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- القدر/ 1.

(3)- الدّخان/ 3.

(4)- صحيح البخاريّ 1: 3، السّيرة النّبويّة 1: 334.

نصوص في علوم القرآن، ص: 582

2- لما ذا يفعل ذلك ثلاث مرّات لا أكثر و لا أقلّ؟

3- لما ذا صدّقه في الثّالثة، لا في المرّة الأولى و لا الثّانية، مع أنّه يعلم أنّ النّبيّ لا يكذب؟

4- هل السّند الّذي روى به البخاريّ قابل للاحتجاج، مع أنّ فيه الزّهريّ و عروة؟

أمّا الزّهريّ فهو الّذي عرف بعمالته للحكّام، و ارتزاقه من موائدهم، و كان كاتبا لهشام بن عبد الملك و معلّما لأولاده، و جلس هو و عروة في مسجد المدينة، فنالا من عليّ، فبلغ ذلك السّجّاد عليه السّلام حتّى وقف عليهما فقال: أمّا أنت يا عروة فإنّ أبي حاكم أباك، فحكم لأبي على أبيك، و أمّا أنت يا زهريّ فلو كنت أنا و أنت بمكّة لأريتك كنّ أبيك «1».

أمّا عروة بن الزّبير الّذي حكم عليه ابن عمر بالنّفاق، و عدّه «الإسكافيّ» من التّابعيين الّذين يضعون أخبارا قبيحة في عليّ عليه السّلام «2».

نعم، رواه ابن هشام و الطّبريّ في تفسيره و تاريخه «3» بسند آخر ينتهي إلى أشخاص يستبعد سماعهم الحديث عن نفس الرّسول الأكرم، و دونك أسماؤهم:

1- عبيد بن عمير، ترجمه ابن الأثير؛ قال: ذكر البخاريّ أنّه رأى النّبيّ، و ذكر مسلم أنّه ولد على عهد النّبيّ و هو معدود

من كبار التّابعين، يروي عن عمر و غيره «4».

2- عبد اللّه بن شدّاد، ترجمه ابن الأثير، و قال: ولد على عهد النّبيّ، روى عن أبيه و عن عمر و عليّ «5».

3- عائشة، زوجة النّبيّ؛ حيث تفرّدت بنقل هذا الحديث، و من المستبعد جدّا أن لا يحدّث النّبيّ هذا الحديث غيرها، مع تلهّف غيرها إلى سماع أمثال هذا الحديث.

نعم، ورد مضمون الحديث في تفسير الإمام العسكريّ عليه السّلام «6»، و نقله من أعلام الطّائفة

______________________________

(1)- أي بيت أبيك.

(2)- الصّحيح من سيرة النّبيّ الأعظم: 223.

(3)- السّيرة النّبويّة 1: 235- تفسير الطّبريّ 30: 162 و تاريخه 3: 353.

(4)- أسد الغابة 3: 353.

(5)- أسد الغابة 3: 353.

(6)- بحار الأنوار 18: 196.

نصوص في علوم القرآن، ص: 583

ابن شهرآشوب في مناقبه «1»، و المجلسيّ في بحاره «2».

لكنّ الكلام في صحّة نسبة التّفسير الموجودة إلى الإمام العسكريّ عليه السّلام. و أمّا المناقب فأنّه يورد الأحاديث و التّواريخ مرسلة لا مسندة، و المجلسيّ اعتمد على هذه المصادر الّتي عرفت حالها.

و قال تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «3»، فلو كان التّنزيل هو النّزول التّدريجيّ، فلما ذا وصفه بقوله: جُمْلَةً واحِدَةً ....

الثّانى: أنّ القرآن نزل دفعة واحدة إلى البيت المعمور، حسبما نطقت به الرّوايات الكثيرة، ثمّ صار ينزّل تدريجا على الرّسول الأعظم.

[ثمّ ذكر رواية حفص بن غياث عن الإمام الصّادق عليه السّلام كما تقدّم عن الكلينيّ، فقال:]

و لو صحّت الرّواية يجب التّعبد بها، و إلّا فما معنى نزول القرآن الّذي هو هدى للنّاس إلى البيت المعمور؟ و أيّ صلة لهذا النّزول بهداية النّاس الّذي يتكلّم عنه القرآن و يقول:

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ

مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ «4». قال الشّيخ المفيد: الّذي ذهب إليه أبو جعفر ... [و ذكر كما تقدّم عنه].

الثّالث: أنّ القرآن يطلق على الكلّ و الجزء، فمن الممكن أن يكون المراد بنزول القرآن في شهر رمضان هو شروع نزوله في ليلة مباركة و هي ليلة القدر، فكما يصحّ نسبة النّزول إليه في شهر رمضان، إذا نزل جملة واحدة، تصحّ نسبته إليه إذا نزل أوّل جزء منه في شهر رمضان، و استمرّ نزوله في الأشهر القادمة طيلة حياة النّبيّ. فيقال: نزل القرآن في شهر رمضان، أي بدأ نزوله في هذا الشّهر، و له نظائر في العرف، فلو بدأ فيضان الماء في المسيل يقال: جرى السّيل في يوم كذا، و إن استمرّ جريانه و فيضانه عدّة أيّام.

______________________________

(1)- مناقب آل أبي طالب 1: 40.

(2)- بحار الأنوار 18: 196

(3)- الفرقان/ 32.

(4)- البقرة/ 185.

نصوص في علوم القرآن، ص: 584

و هذا هو الظّاهر من صاحب «المنار»؛ حيث يقول: و أمّا معنى إنزال القرآن في رمضان ... [و ذكر كما تقدّم عنه].

الرّابع: أنّ جملة القرآن و إن لم تنزل في تلك اللّيلة، لكن لمّا نزلت سورة الحمد بها، و هي تشتمل على جلّ معارف القرآن، فكأنّ القرآن أنزل فيه جميعا، فصحّ أن يقال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.

يلاحظ عليه أن لو كانت سورة الحمد أوّل سورة نزلت على رسول اللّه لكان حقّ الكلام أن يقال: قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، أو يقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، قل: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «1». و هذا يعرب عن أنّ سورة الحمد ليست أوّل سورة نزلت على النّبيّ. هذه هي الوجوه الّتي ذكرها المفسّرون المحقّقون، و الثّالث هو الأقوى. (العدد: 4:

142، عام 1411 ه)

______________________________

(1)- الميزان 2: 21.

نصوص في علوم القرآن، ص: 585

الفصل الحادي و السّبعون نصّ الشّيخ الأراكيّ في «مجلّة رسالة القرآن»

كيف نزل القرآن؟

لا شكّ أنّ القرآن نزل نجوما و على التّدريج، و أنّ آياته تتابعت طبق المناسبات و الظّروف الّتي كانت تمرّ بها رسالة اللّه في مسيرها الجهاديّ الظّافر تحت قيادة الرّسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلم، و قد لمّحت إلى هذا النّزول التّدريجيّ للقرآن الآية الكريمة: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «1»، و قوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا* وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً «2».

و مع ذلك فإنّ هناك نصوصا قرآنيّة تشير إلى دفعيّة النّزول القرآنيّ، على ما يفهم من ظاهرها، و ذلك كما في الآيات المباركة التّالية:

قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ «3»، و قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ «4»، و قال تعالى

______________________________

(1)- الإسراء/ 106.

(2)- الفرقان/ 32- 33.

(3)- البقرة/ 185.

(4)- الدّخان/ 3.

نصوص في علوم القرآن، ص: 586

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1».

و قد اختلف الباحثون الإسلاميّون في وجه الجمع بين الأمرين، و قد ذكروا في ذلك آراء و نظريّات، نعرض فيما يلي لأهمّها؛

النّظريّة الأولى

و هي الّتي تعتبر للقرآن نزولين: النّزول الأوّل إلى البيت المعمور، أو بيت العزّة- حسب بعض التّعابير- و هذا هو النّزول الدّفعيّ الّذي أشارت إليه بعض الآيات السّابقة، و النّزول الثّاني على النّبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالتّدريج، و طيلة المدّة الّتي كان يمارس فيها مهمّته القياديّة في المجتمع الإسلاميّ.

[ثمّ ذكر رواية عن الإمام الصّادق عليه السّلام في قول تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ ... كما تقدّم عن الكلينيّ، فقال:]

و

قد نقل ما يقارب هذا عن ابن عبّاس أيضا، فقد روي عنه أنّه قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدّنيا ليلة القدر، ثمّ أنزل بعد ذلك بعشرين سنة «2».

و قد خالف المحقّقون من علماء القرآن هذا الرّأي، و رفضوا النّصوص الّتي وردت فيها، و رموها بالضّعف و الوهن، و أقاموا شواهد على بطلانه؛ يقول الشّيخ المفيد؛ تعقيبا على هذه النّظريّة الّتي أخذ بها أبو جعفر بن بابويه الصّدوق: ... [و ذكر كما تقدّم عنه، ثمّ قال:]

ثمّ يستشهد؛ ببعض الشّواهد القرآنيّة الأخرى الّتي تؤكّد النّزول التّدريجيّ للقرآن، و تقوم قرينة على بطلان النّزول الدّفعيّ له.

و يناقش صاحب المنار هذه النّظريّة أيضا و يرفضها قائلا: ... [و ذكر كما تقدّم عنه، ثمّ قال:] إذن فأهمّ ما يرد على هذه النّظريّة يتلخّص في شيئين:

1- ورود الآيات القرآنيّة في بعض المناسبات الخاصّة؛ بحيث لا يعقل التّكلّم بتلك

______________________________

(1)- القدر/ 1.

(2)- الإتقان 1: 40.

نصوص في علوم القرآن، ص: 587

الآية قبل تلك المناسبة المعيّنة.

2- عدم تعقّل فائدة النّزول الأوّل للقرآن من حيث هداية البشر، فلا وجه لهذه العناية به في القرآن و الاهتمام به: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.

النّظريّة الثّانية

إنّ المراد من إنزاله في شهر رمضان، و في ليلة ابتداء القدر منه ابتداء إنزاله في ذلك الوقت. ثمّ استمرّ نزوله بعد ذلك على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بالتّدريج و وفقا للمناسبات و المقتضيات.

[ثمّ ذكر قول رشيد رضا، في معنى إنزال القرآن، و قول الشّيخ المفيد، كما تقدّم عنهما، فقال:]

و يبدو أنّ هذا الرّأي هو الّذي استقطب أنظار الأغلبيّة من محقّقي علوم القرآن و التّفسير، نظرا إلى كونه أقرب الآراء إلى طبيعة الأمور، و أوفقها مع القرائن و ظواهر

النّصوص القرآنيّة، فإنّ القرآن يطلق على القرآن كلّه كما يطلق على جزء منه، و لذلك كان للقليل من القرآن نفس الحرمة و الشّرف الثّابتين للكثير منه، فنزول جزء من القرآن- استهلّ به الوحي الإلهيّ في ليلة القدر من شهر رمضان- يصدق معه نزول القرآن في ليلة القدر و في شهر رمضان.

و تأييدا لهذه الفكرة، فإنّنا نحاول الاستفادة من التّعابير الجارية بين عامّة النّاس حين يقولون مثلا: سافرنا إلى الحجّ في التّاريخ الفلانيّ، و هم لا يريدون بذلك إلّا مبدأ السّفر. أو نزل المطر في السّاعة الفلانيّة، و يقصد به ابتداء نزوله، فإنّه قد يستمرّ إلى ساعات، و مع ذلك يصحّ ذلك التّعبير.

و بعبارة أخرى إنّنا نلاحظ صحّة هذا النّوع من الاستعمال في الأسماء الّتي تطلق على قليل المعنى و كثيره على السّواء، كالمطر و السّفر و أمثالهما، بخلاف ما لا يطلق إلّا على المعنى بكامله، كالبيت مثلا، فإنّه لا يصحّ في العادة أن يعبّر عن الشّروع ببنائه بعبارة بنينا البيت في الزّمان الفلانيّ، و كلمة «القرآن» كما أشرنا سابقا تطلق على كلام اللّه مطلقا قليله و كثيره، فمن الطّبيعيّ- إذن- التّعبير عن ابتداء نزوله ب إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ

نصوص في علوم القرآن، ص: 588

و ما شاكل ذلك من التّعابير.

و لا بدّ أن نضيف على هذا الرّأي إضافة توضيحيّة، هي أنّ المقصود من كون ابتداء النّزول القرآنيّ في ليلة القدر من شهر رمضان ليس ابتداء الوحي على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ افتتاحة الوحي المحمّديّ كانت لسبع و عشرين خلون من رجب- على الرّأي المشهور- و كانت الآيات الّتي شعّت من نافذة الوحي على قلب الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لأوّل

مرّة هي اقْرَأْ بِاسْمِ ... إلخ، كما سيأتي الحديث عن ذلك في فصله، ثمّ انقطع الوحي عنه لمدّة طويلة، ثمّ ابتدأه الوحي من جديد في ليلة القدر من شهر رمضان، و هذا الّذي تشير إليه الآية المباركة، و استمرّ الوحي عليه صلّى اللّه عليه و آله حتّى وفاته. و بما أنّ هذا كان بداية استمرار النّزول القرآنيّ فقد صحّ اعتباره بداية لنزول القرآن.

النّظريّة الثّالثة

و هي النّظريّة الّتي اختصّ بها العلّامة الطّباطبائيّ، تعرّض لها باختصار مع توضيح، و هي تمثّل لونا جديدا من ألوان الفكر التّفسيريّ انطبعت بها مدرسة السّيد الطّباطبائيّ في التّفسير. و هذه النّظريّة تعتمد على مقدّمات ثلاث تتلخّص فيما يلي:

أ- هناك فرق بين (الإنزال) و (التّنزيل)، و الإنزال إنّما يستعمل فيما إذا كان المنزل أمرا وحدانيّا نزل بدفعة واحدة، و التّنزيل إنّما يستعمل فيما إذا كان المنزل أمرا تدريجيّا، و قد ورد كلا التّعبيرين حول نزول القرآن: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا.

و التّعبير ب (الإنزال) إنّما هو في الآيات الّتي يشار فيها إلى نزول القرآن في ليلة القدر، أو شهر رمضان بخلاف الآيات الأخرى الّتي يعبّر فيها ب (التّنزيل).

ب- هناك آيات يستشعر منها أنّ القرآن كان على هيئة وحدانيّة، لا أجزاء فيها و لا أبعاض، ثمّ طرأ عليه التّفصيل و التّجزئة، فجعل فصلا فصلا و قطعة قطعة؛ قال تعالى:

كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ «1».

فهذه الآية ظاهرة في أنّ القرآن حقيقة محكمة، ثمّ طرأ عليها التّفصيل و التّفريق

______________________________

(1)- هود/ 2.

نصوص في علوم القرآن، ص: 589

بمشيئة اللّه تعالى، و الإحكام الّذي يقابل التّفصيل هو وحدانيّة الشّي ء و عدم تركّبه و تجزّئه.

ج- هناك آيات قرآنيّة تشير إلى وجود

حقيقة معنويّة للقرآن غير هذه الحقيقة الخارجيّة اللّقيطة، و قد عبّر عنها في القرآن ب (التّأويل) في غير واحدة من الآيات؛ قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ «1»، و قال تعالى: وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ* هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ «2».

فالتّأويل على ضوء الاستعمال القرآنيّ هو الوجود الحقيقيّ و المعنويّ للقرآن، و سوف يواجه المنكرون للتّنزيل الإلهيّ تأويله و حقيقته المعنويّة يوم القيامة.

و استنتاجا من هذه المقدّمات الثّلاث، فللقرآن إذن حقيقة معنويّة وحدانيّة ليست من عالمنا هذا العالم المتغيّر المتبدّل، و إنّما هي من عالم أسمى من هذا العالم، لا ينفذ إليه التّغيّر و لا يطرؤه التّبديل. و تلك الحقيقة هو الوجود القرآنيّ المحكم الّذي طرأ عليه التّفصيل بإرادة من اللّه جلّت قدرته، كما أنّه هو التّأويل القرآنيّ الّذي تلمح إليه آيات الكتاب العزيز.

و إذا آمنّا بهذه الحقيقة فلا مشكلة إطلاقا في الآيات الّتي تتضمّن نزول القرآن نزولا دفعيّا في ليلة القدر و في شهر رمضان، فإنّ المقصود بذلك الإنزال هو هبوط الحقيقة المعنويّة للوجود القرآنيّ على قلب رسول اللّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و انكشاف ذلك الوجود التّأويليّ الحقيقيّ للقرآن أمام البصيرة الشّفّافة النّبويّة، فإنّ هذا الوجود المعنويّ هو الّذي يناسبه الإنزال الدّفعيّ، كما أنّ الوجود اللّفظيّ التّفصيليّ للقرآن هو الّذي يناسبه التّنزيل التّدريجيّ.

______________________________

(1)- يونس/ 38- 39.

(2)- الأعراف/ 52-

53.

نصوص في علوم القرآن، ص: 590

و ليس المقصود ممّا ورد من روايات عن أهل البيت حول النّزول الأوّل للقرآن في البيت المعمور إلّا نزوله على قلب النّبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فإنّه هو البيت المعمور الّذي تطوف حوله الملائكة، و قد رمز إليها الحديث بهذا التّعبير الكنائيّ.

و هذه النّظريّة مع ما تتّصف به من جمال معنويّ لا نجد داعيا يدعونا إلى تكلّفها، كما لا نرى داعيا يدعونا إلى محاولة نقضه و تكلّف ردّه، فليست النّظريّة هذه تتضمّن أمرا محالا، كما لا لزوم في الأخذ بها بعد أن وجدنا لحلّ المشكلة ما هو أيسر هضما و أقرب إلى الذّهن. (العدد 1: 8 عام 1411 ه)

نصوص في علوم القرآن، ص: 591

الفصل الثّاني و السّبعون نصّ السّيّد مرتضى العامليّ في «حقائق هامّة»

التّرتيب و النّزول

و تبقى هنا بعض الأسئلة، الّتي يحسن بنا التّعرّض لها، و إن لم تكن من صلب موضوعنا، و لكن ممّا لا شكّ فيه: أنّها لا بدّ و إن تدور بخلد القارئ، و يتطلّب لها الإجابة.

و لا نريد هنا استقصاء الكلام فيها، و إنّما ما نتوخّاه هو مجرّد إثارتها، و التّلويح بالأجوبة، الّتي تحتاج إلى المزيد من البحث، و التّوسّع، و التّتبّع. فإن ما لا يدرك كلّه، لا يترك كلّه ... فإلى ما يلي من صفحات.

نزول القرآن نجوما، سورة سورة

قال تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «1».

فهذه الآية قد دلّت: على أنّ القرآن قد نزل مفرّقا، و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد قرأه على النّاس، في مدّة زمان متطاولة.

نعم، و هذا هو الثّابت تاريخيّا أيضا؛ فإنّه كان ينزّل عليه الشّي ء بعد الشّي ء، كلّما لزم الأمر، و اقتضته المناسبة.

______________________________

(1)- الإسراء/ 106.

نصوص في علوم القرآن، ص: 592

لكن يبقى علينا أن نعرف: هل إنّه نزل مفرّقا بصورة عشوائيّة، ثمّ جمع ما نزل بصورة عشوائيّة أيضا، حتّى دخلت هذه الآية، أو الآيات المدنيّة في تلك السّورة المكّيّة، و بالعكس؟! أي أنّه قد دخل المتقدّم في المتأخّر، و المتأخّر في المتقدّم ... قليله و كثيره إلخ ...

أم أنّه نزل تدريجا على شكل سور، بأن نزلت كلّ سورة على حدة؟.

أو أنّه نزل تدريجا، و دوّن تدريجا كذلك؟!

أم ما ذا؟

الجواب: أنّ الّذي نراه: هو أنّ معظم القرآن قد نزل سورة سورة، حتّى بعض السّور الطّوال أيضا، كسورة الأنعام و المائدة، و التّوبة، مثلا.

نعم، سورة البقرة، و ربّما غيرها من السّور الطّوال، قد نزلت تدريجا؛ بمعنى أنّه ابتدأ نزولها، فنزل منها قسم في يوم، ثمّ لحقه

قسم آخر في يوم آخر، و هكذا إلى أن نزلت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فعلم انتهاء السّورة السّابقة، و ابتداء سورة جديدة، حسبما صرّحت به بعض الرّوايات، الواردة عن عثمان، و عن ابن عبّاس، و سعيد بن جبير «1». و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أيضا ... «2»

______________________________

(1)- راجع: الدرّ المنثور 1: 7 و 3: 208 عن أبي داود، و البزّار، و الدّار قطني في الافراد، و الطّبراني، و البيهقيّ في المعرفة.

و في شعب الإيمان، و في السّنن الكبرى، و عن أبي عبيد، و فتح الباريّ 9: 39 و تفسير القرآن العظيم 1: 16 و نيل الأوطار 2:

228 و مستدرك الحاكم 1: 231 و 232 و صحّحه على شرط الشّيخين، و تلخيص المستدرك للذّهبيّ، بهامشه، و أسباب النّزول للواحديّ: 9 و 10 و السّنن الكبرى 2: 42 و 43 و محاضرات الأدباء المجلّد الثّاني، الجزء 4: 433 و الإتقان 1: 78 و بحوث في تاريخ القرآن و علومه: 56 و 57 و راجع: 55 عن بعض من تقدّم، و الجامع لأحكام القرآن 1: 95 و عمدة القاري 5: 292 و نصب الرّاية 1: 327 و المستصفى 1: 103 و فواتح الرّحموت بهامشه 2: 14 و تاريخ اليعقوبيّ 2: 34 و التّفسير الكبير 1: 208 و غرائب القرآن، بهامش الطّبريّ 1: 77 و المصنّف للصّنعانيّ 2: 92 و مجمع الزّوائد 6: 310، عن أبي داود و البزّار و كنز العمّال 2: 368 عن الدّارقطنيّ في الافراد، و التّمهيد في علوم القرآن 1: 212 عن الحاكم و اليعقوبيّ، و سنن أبي داود 1: 209 و المنتقى 1: 380 و تبيين الحقائق 1: 113 و كشف الأستار

3: 40 و مشكل الآثار 2: 153.

(2)- تفسير العيّاشيّ 1: 19 و عنه في التّمهيد في علوم القرآن 1: 212 و بحوث في تاريخ القرآن و علومه: 56 و مصباح الفقيه (كتاب الصّلاة): 276.

نصوص في علوم القرآن، ص: 593

و نسب القرطبيّ إلى الصّحابة «1»: إنّهم كانوا يعلمون انتهاء السّورة، و ابتداء غيرها، بنزول بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. فيكون نزول السّورة مستمرّا إلى أن تنزّل البسملة.

و بذلك يعلم عدم صحّة رواية الشّعبيّ، الّتي تقول: إنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يكتب أوّلا: باسمك اللّهم- كأهل الجاهليّة-، فلمّا نزل: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها «2»، كتب: بسم اللّه. ثمّ نزل: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ «3»؛ فكتب: بسم اللّه الرّحمن، فلمّا نزل: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «4»، فكتبها «5».

أضف إلى ذلك كلّه. أنّنا لا نتعقّل أن يبدأ نزول سورة، فتنزّل منها آيات، ثمّ يتوقّف عنها، فتنزّل عشرات السّور غيرها، ثمّ يعود بعد سنوات إلى السّورة الأولى، فيكمّلها!!

كما أنّنا لا نتعقّل أن تنزّل آية، أو آيات اليوم، فيتركها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على حدة، إلى أن تمضي سنوات، و تنزّل سور كثيرة، ثمّ يجعلها في سور أنزلت حديثا.

نعم يمكن أن تنزّل عليه آية أو آيات فعلا، فيأمر بوضعها، ضمن سورة سبق نزولها، لكن هذا: لا دليل عليه إلّا بعض ما ورد في مورد أو موردين من هذا القبيل ...

و لعلّ ترتيب عليّ عليه السّلام لمصحفه، حسب النّزول، يلقي ظلالا من الشّكّ على صحّة حتّى هذا المورد. فضلا عن أن يكون ذلك من عادته و ديدنه صلّى اللّه عليه و آله إذ لو كان صلّى اللّه عليه و آله

يأمر بذلك لم يكن معنى لترتيبه صلّى اللّه عليه و آله القرآن حسب النّزول و لا كان من حقّه ذلك أيضا.

و لعلّه يمكن الاستدلال على ما نذهب إليه أيضا بقوله تعالى: سُورَةٌ أَنْزَلْناها

______________________________

(1)- الجامع لأحكام القرآن 1: 65.

(2)- هود/ 41.

(3)- الإسراء/ 110.

(4)- النّمل/ 30.

(5)- التّفسير الكبير 1: 200، و الجامع لأحكام القرآن 1: 92، و أحكام القرآن للجصّاص 1: 8، و راجع: السّيرة الحلبيّة 3:

20 و 1: 249، و الوزراء و الكتّاب: 14، و التّنبيه و الأشراف: 225، و عمدة القاري 5: 291، و العقد الفريد 4: 158، و طبقات ابن سعد 1: قسم 2، و بحوث في تاريخ القرآن و علومه: 53، و أكذوبة تحريف القرآن: 35 عن بعض من تقدّم، و عن كنز العمّال 5: 244، و عن روح المعاني 1: 27.

نصوص في علوم القرآن، ص: 594

وَ فَرَضْناها «1».

و قوله تعالى: ... وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً «2».

و عبارة إذا ما أنزلت سورة قد وردت في عدّة آيات.

و قد يؤيّد ذلك قوله تعالى أيضا: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ... «3» و غير ذلك من آيات.

و لكن يمكن أن يردّ على هذا: بأنّه تعالى إنّما يخبر عن حالهم حين إنزال السّورة، و أمّا أنّ هذا الإنزال كان دفعة أو تدريجا، فليس في الآية ما يدلّ على ذلك ... و كذا الحال بالنّسبة لآية سورة النّور أيضا.

و لكنّنا لا نرى هذه المناقشة سليمة، و لا تامّة، فإنّ الّذين يقولون هذا القول، إنّما يقولونه بالنّسبة لما ينزل أمام أعينهم، و لا ينتظرون إلى تمام نزول السّورة في أوقات متباعدة.

إلّا أن يكون قد أطلق لفظ سورة، و أراد بها

حتّى ما يعمّ الآية و لكنّه احتمال بعيد، و يحتاج إلى إثبات.

ترتيب القرآن حسب النّزول

و لكن لا يخفى أنّ الّذي كان قرآنه مرتّبا على حسب النّزول، هو أمير المؤمنين عليه السّلام.

و قول عكرمة- الّذي كان يرى رأي الخوارج-: أنّه لو اجتمعت الإنس و الجنّ، ليرتّبوه حسب النّزول لما استطاعوا «4».

لا مبرّر له فإنّ ذلك ممكن، و مقدور، و سهل و ميسور، لمن عاصر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و اطّلع على نزول الآيات تدريجا، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى- يمليه على عليّ عليه السّلام أوّلا بأوّل، و يكتبه بخطّ يده، و ما كتب آية إلّا و قد علّمه صلّى اللّه عليه و آله تأويلها،

______________________________

(1)- النّور/ 1.

(2)- التّوبة/ 124.

(3)- البقرة/ 23.

(4)- راجع: الإتقان 1: 58.

نصوص في علوم القرآن، ص: 595

و تفسيرها، و ناسخها، و منسوخها ..

و لعلّ عكرمة قد أراد بذلك تبرير عمل أولئك الّذين جمعوا قرآنا لهم، حذفوا منه، التّفسير، و التّأويل، و شأن النّزول و لم يستطيعوا أن يرتّبوه حسب النّزول، أو لعلّهم لم يريدوا أن يفعلوا ذلك، لسبب أو لآخر.

ترتيب سور المصحف الموجود فعلا

هذا، و لا شكّ في أنّ المصحف الموجود فعلا، و هو الّذي جمع عثمان النّاس على قراءة واحدة فيه، هو القرآن الّذي أنزله اللّه على رسوله، لم ينقص منه، و لم يزد فيه شي ء.

و أنّ سوره هي تلك السّور الّتي نزلت، إمّا دفعة واحدة، أو تدريجا، يعلم معه انتهاء السّورة، و ابتداء غيرها، بنزول: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.

و لكن قد نجد فيما بأيدينا من نصوص ما يؤيّد: أن يكون ترتيب السّور فيما بينها، إنّما كان من قبل الصّحابة أنفسهم، و ذلك مثل، ما روي من الاختلاف في ترتيب سور المصاحف المنسوبة لبعض الصّحابة- اختلافها- فيما

بينها، و مع هذا المصحف الموجود فعلا أيضا.

و يدلّ على ذلك أيضا ما [سيأتي] في فصل: جمع القرآن في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من سؤال ابن عبّاس لعثمان: عن سبب وضع الأنفال و براءة في موضعها الفعليّ من القرآن، فأجابه عثمان عن ذلك، بما يدلّ على أنّه اجتهاد منه، لمناسبة رآها فيما بينهما «1».

ترتيب آيات المصحف الفعليّ

أمّا بالنّسبة إلى ترتيب الآيات الموجودة في السّور؛ فإنّنا نميل إلى الاعتقاد: بأنّها قد بقيت على نفس الوضع الّذي كانت عليه في زمن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله.

و لعلّ ممّا يشهد لذلك- و لو جزئيّا-: أنّ عددا كبيرا من السّور إن لم يكن معظمها،

______________________________

(1)- راجع المصادر، الّتي تقدمت لقول عثمان: إنّه كان صلّى اللّه عليه و آله إذا نزلت عليه سورة، قال: ضعوها في الموضع، الّذي يذكر فيه كذا و كذا ..

نصوص في علوم القرآن، ص: 596

حتّى السّور الطّوال، قد تمّت، و أصبح لها شكلها الخاصّ بها، و عرفت و شاعت في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفسه، و أصبح يعبّر عنها باسمها الموضوع لها، و يترتّب عليها بعض الآثار في الصّلاة و غيرها، و تصدر بشأنها بعض الأوامر «1».

بل لقد ورد التّعبير ب «السّبع الطّوال، و المئين و المفصّل» الّتي هي تعبيرات عن طوائف من سور القرآن، في بعض الرّوايات الواردة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «2».

و أمّا ما روي من أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يأمر في بعض الموارد، بوضع بعض الآيات الّتي نزلت عليه، في موضع معيّن، من سورة بخصوصها، فهو لا ينافي ما قلناه، بل يؤكّده.

و أمّا ما روي: من أنّ أمير

المؤمنين عليه السّلام، قد رتّب قرآنه على حسب النّزول، فهو أيضا لا ينافي ذلك، فلعلّ التّقديم و التّأخير، قد حصل في نفس السّور، لا في آياتها.

كما أنّ ترتيب القرآن حسب النّزول، لا ينافي: أن يأمر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في مورد، أو أكثر بوضع آية ما، في موضع ما فقد يكون عليه السّلام قد رتّبه حسب نزوله، باستثناء هذا المورد، أو ذاك.

و أمّا بالنّسبة لوضع آيات الرّبا- الّتي يقال: إنّها آخر ما نزل «3»- في سورة نزلت في أوّل الهجرة، و هي سورة البقرة، فهو أيضا، لا ينافي ما قلناه، إذ لعلّ هذا المورد بخصوصه، ممّا تصرّف فيه النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أمر بوضعه في هذا الموضع.

هذا كلّه على تقدير صحّة الرّواية القائلة بأنّ آيات الرّبا هي آخر ما نزل.

ما ذا عن تصرّف الصّحابة في تأليف القرآن؟

و يمكن أن يقال: إنّ الصّحابة قد تصرّفوا في تأليف القرآن، و في آياته و ذلك بدليل ما يدّعونه في حديث جمع القرآن، من العسب، و اللّخاف، و صدور الرّجال، من أنّهم وجدوا آيتين عند البعض؛ فألحقوهما بسورة التّوبة.

______________________________

(1)- راجع بعض الأحاديث و النّصوص في كتاب: بحوث في تاريخ القرآن و علومه: 97 و 95 و 101.

(2)- راجع على سبيل المثال مشكل الآثار 2: 154.

(3)- راجع: الإتقان 1: 26 و 27 عن العديد من المصادر و تاريخ الإسلام للذّهبيّ 2: 287.

نصوص في علوم القرآن، ص: 597

بل جاء في بعض الرّوايات، قول عمر بن الخطّاب: «لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة، فانظروا آخر سورة من القرآن، فألحقوهما في آخرها ..» «1».

و معنى ذلك؛ هو أنّ الصّحابة، قد اعملوا سلائقهم و ذوقهم، في ترتيب آيات القرآن، فضلا عن سوره.

و

لعلّ ممّا يدلّ على ذلك؛ أنّهم يقولون أيضا: إنّ بعض الآيات المنسوخة، قد تأخّرت فيه على النّاسخة، مع أنّ الأمر بحسب النّزول، لا بدّ و أن يكون على العكس؛ فراجع ما ذكروه في آية تربّص المرأة المتوفّى عنها زوجها إلى الحول، أو إلى أربعة أشهر و عشرا. «2»

و لعلّ هذا يفسّر ما ورد، من أنّ من الأمور، الّتي يقوم بها الإمام المهديّ، هو أنّه يعلّم النّاس القرآن، وفق ترتيب النّزول.

فعن الإمام الباقر عليه السّلام: «إذا قام القائم من آل محمّد، ضرب فساطيط لمن يعلّم النّاس القرآن، على ما أنزله اللّه عزّ و جلّ؛ فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم؛ لأنّه يخالف فيه التّأليف» «3».

و نقول: إنّ الشّواهد الآنفة الذّكر، لا تدلّ على تصرّف الصّحابة في آيات القرآن؛ إذ قد يكون النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله هو الّذي ألّفه على هذا النّحو، لكنّ المصلحة تقتضي؛ أن يعلّم الإمام المهديّ النّاس القرآن، على حسب ترتيب النّزول.

كما أنّ تقدّم الآية النّاسخة في الذّكر في القرآن، لا يدلّ على التّصرّف فيه من قبل الصّحابة، فلعلّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله نفسه، هو الّذي أمرهم بوضعها في هذا المورد، لمصلحة و لمناسبة رآها، و إنّما يجب عدم تقدّمها على المنسوخة في النّزول، لا في الكتابة في المصحف.

و أمّا بالنّسبة للرّواية عن عمر بن الخطّاب حول الآيات الثّلاث، و سائر ما يروى فيما يرتبط بجمع القرآن بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقد عرفنا ما فيه، و أنّ الجمع و التّأليف قد كان في

______________________________

(1)- راجع: فتح الباريّ 9: 12 و 13 و تفسير الميزان 12: 20 عن أبي داود في المصاحف.

(2)- راجع: بحوث في تاريخ القرآن

و علومه: 237 و راجع أيضا: الإتقان 1: 24.

(3)- روضة الواعظين: 265.

نصوص في علوم القرآن، ص: 598

زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفسه، لا بعده.

هذا بالاضافة إلى أنّه قد روي: أنّ سورة التّوبة، قد نزلت بتمامها دفعة واحدة.

فعن عائشة، عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: ما نزل عليّ القرآن إلّا آية، آية، و حرفا حرفا، خلا سورة البراءة، و قل هو اللّه أحد؛ فإنّهما نزلتا عليّ، و معهما سبعون ألف صفّ من الملائكة، كلّ يقول: استوص بنسبة اللّه خيرا «1».

لكن يرد على هذه الرّواية أنّها تقول: إنّ ما عدا سورة الإخلاص، و براءة، كلّه قد نزل مفرّقا مع أنّ الأمر على عكس ذلك، فهناك نصوص في نزول سورة الأنعام و المائدة، و المرسلات و كثير غيرها- نزوله- دفعة واحدة أيضا.

إلّا أن يكون المراد: أنّ الفرق بين سورتي التّوبة، و الإخلاص، و بين غيرهما من سور القرآن، هو في نزول سبعين ألف صفّ من الملائكة، لا غير. و لكن ظاهر الرّواية لا يتلائم مع هذا التّوجيه أيضا.

و كلمة أخيرة نقولها هنا

و هي: أنّه حتّى مع وجود بعض الرّوايات الدّالة على أنّ بعض الآيات الّتي تأخّر نزولها، قد وضعت في سور تقدّم نزولها؛ فإنّها لا توجب القطع بأنّ ذلك قد حصل بالفعل، و لربّما يوصلنا التّحقيق في هذه الرّوايات إلى أنّها غير صحيحة، بحيث يثبت أنّها إنّما نزلت في زمان نزول تلك السّورة.

كما أنّ ما يذكر من آيات مكّيّة في سورة مدنيّة، أو العكس، يحتاج هو الآخر إلى تحقيق، و تأمّل أيضا.

فلقد تعوّدنا وجود الكثير من الرّوايات المكذوبة، أو الّتي تفتقر إلى الدّقّة في هذا المجال، هذا كلّه بالإضافة إلى أنّ ذلك ربّما يكون بأمر من

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في خصوص هذا المورد، أو ذاك.

و هكذا فإنّنا نخرج بنتيجة مفادها، أنّ دعوى وضع بعض الآيات في سور تقدّم

______________________________

(1)- مجمع البيان 5: 1 عن الثّعلبيّ.

نصوص في علوم القرآن، ص: 599

نزولها، تصبح موضع شكّ و ريب، و أنّ روايات نزول بعض السّور دفعة واحدة، و نزول بعض السّور تدريجا، حتّى تنزل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فيعلم حينئذ ابتداء السّورة، و انتهاء غيرها- إنّ هذه الرّوايات- تبقى هي الأساس المعتمد، و لا يعدل عنها إلّا في المورد الخاصّ، الّذي يثبت قطعا، بعد التّحقيق و التّدقيق فيه، أنّه ليس كذلك.

(ص: 141- 150)

و نصّه أيضا في «الصّحيح من سيرة النّبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله
البعثة في رجب أو في شهر رمضان، و كيفيّة نزول القرآن

المرويّ عن أهل البيت- و أهل البيت أدرى بما فيه، و أقرب إلى معرفة شئون النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله الخاصّة- أنّ بعثة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كانت في السّابع و العشرين من شهر رجب، و هذا هو المشهور، بل ادّعى المجلسيّ الإجماع عليه عند الشّيعة، و روي عن غيرهم أيضا «1».

و قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله بعث في شهر رمضان المبارك، و اختلفوا في أيّ يوم منه «2»، و قيل: بعث في شهر ربيع الأوّل، و اختلف أيضا في أيّ يوم منه «3».

و استدلّ القائلون: بأنّه صلّى اللّه عليه و آله قد بعث في شهر رمضان المبارك و ليس في، رجب بأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّما بعث بالقرآن، و القرآن قد أنزل في شهر رمضان؛ قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «4»، و قال: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «5».

______________________________

(1)- راجع السّيرة الحلبيّة 1: 238 عن أبي هريرة، و سيرة مغلطاي: 14 عن كتاب العتقيّ عن الحسين،

و منتخب كنز العمّال هامش مسند أحمد 3: 362، و مناقب ابن شهرآشوب 1: 173 و البحار 18: 204 و 190.

(2)- راجع تاريخ الطّبريّ 2: 44، و سيرة ابن هشام 1: 256، و تاريخ اليعقوبيّ 2: 22 و 23، و البداية و النّهاية 3: 6.

(3)- المواهب اللّدنيّة 1: 39، و سيرة مغلطاي: 14، و تاريخ اليعقوبيّ 2: 22، و التّنبيه و الأشراف: 198، و مروج الذّهب 2:

287، و السّيرة الحلبيّة 1: 238.

(4)- القدر/ 1.

(5)- البقرة/ 185.

نصوص في علوم القرآن، ص: 600

ثمّ إنّ هنا إشكال لا بدّ من الإشارة إليه، و حاصله أنّ الآيتين المتقدّمتين، و إن كانتا تدلّان على نزول القرآن دفعة واحدة، على أحد الاحتمالين في معنى الآيتين، إلّا أنّ قوله تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «1»، يدلّ على نزول القرآن متفرّقا؛ لأنّه عبّر فيها ب «نزّل» الدّالّ على النّزول التّدريجيّ، و فيما تقدّم عبّر ب «أنزل» الدّالّ على النّزول الدّفعيّ، بالإضافة إلى أنّه يقول فيها: فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ، و بالإضافة إلى قوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «2».

و أيضا يجب أن لا ننسى هنا أنّ بعض الآيات مرتبط بحوادث آنيّة مقيّدة بالزّمان، كقوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها «3»، و كاعتراض الكفّار الآنف، و غير ذلك.

هذا كلّه عدا عن أنّ التّاريخ المتواتر يشهد بأنّ نزول القرآن كان تدريجا، في مدّة ثلاث و عشرين سنة، هي مدّة الدّعوة.

و قد أجيب عن إشكال التّنافي بين ما دلّ على النّزول الدّفعيّ و النّزول التّدريجيّ بأنّ النّزول الدّفعيّ كان إلى البيت المعمور، حسبما نطقت به

الرّوايات الكثيرة، ثمّ صار ينزل تدريجا على الرّسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله «4».

و إذن فليكن نزوله التّدريجيّ قد بدأ في السّابع و العشرين من رجب، و لا يبقى ثمّة منافاة.

و جواب آخر يعتمد على القول بأنّ القرآن قد نزل أوّلا دفعة واحدة على قلب النّبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله لكنّه لم يؤمر بتبليغه، ثمّ صار ينزل تدريجا بحسب المناسبات. و ربّما يستأنس لهذا الرّأي ببعض الشّواهد الّتي لا مجال لها «5».

______________________________

(1)- الإسراء/ 106.

(2)- الفرقان/ 32.

(3)- المجادلة/ 1.

(4)- راجع تفسير الميزان 2: 15.

(5)- راجع: تفسير الميزان 2: 18، و تفسير الصّافي 1 المقدّمة التّاسعة، و تاريخ القرآن للزّنجانيّ: 10.

نصوص في علوم القرآن، ص: 601

و رأي ثالث يقول: إنّ بدء نزول القرآن كان بعد البعثة بثلاث سنوات، أي بعد انتهاء الفترة السّرّية للدّعوة، كما ورد في عدد من الرّوايات، و نصّ عليه بعضهم «1»، و على هذا فلا يبقى تناف بين بعثته صلّى اللّه عليه و آله في شهر رجب، و بين نزول القرآن في شهر رمضان المبارك «2».

أمّا نحن، فنقول أوّلا: إنّ تتبّع الآيات القرآنيّة يعطي عدم ثبوت الفرق المذكور بين «الإنزال» و «التّنزيل»، فمثلا قد ورد في القرآن قوله تعالى: وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ «3». كما و يلاحظ أنّه يستعمل كلمة «نزّل» تارة، و كلمة «انزل» مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً «4». و مثل ذلك كثير، لا مجال لنا لتتّبعه فعلا، و كلّ ذلك يدلّ على عدم صحّة هذا الفرق بين هاتين الصّيغتين، و قد أشار إلى هذا الجواب بعض المحقّقين و قال: و لو صحّ هذا الفرق بين الإنزال و التّنزيل لكان قوله تعالى: وَ

قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «5» غلطا؛ إذ لا يمكن الجمع بين التّنزيل التّدريجيّ و بين جملة واحدة.

ثانيا: قولهم: إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد بعث بالقرآن، غير مسلّم، و لتكن الرّوايات الواردة عن أهل البيت و القائلة بأنّه صلّى اللّه عليه و آله قد بعث في شهر رجب موجبة لوهن قولهم هذا.

ثالثا: روايات نزول القرآن إلى البيت المعمور لا مجال لإثباتها من طرق أهل البيت عليهم السّلام و لا إلى الاطمينان إلى صحّتها، كما ذكره الشّيخ المفيد «6». و أمّا نزول القرآن أوّلا دفعة واحدة على قلبه صلّى اللّه عليه و آله فإنّ إثباته مشكل، و لا يمكن المصير إليه إلّا بحجّة.

رابعا: حديث نزول القرآن بعد البعثة بثلاث سنوات، استنادا إلى ما ورد من أنّ القرآن

______________________________

(1)- راجع التّمهيد في علوم القرآن 1: 82 و 83 عن الكافي 2: 460، و تفسير العيّاشيّ 1: 80، و الاعتقادات للصّدوق: 101، و البحار 18: 253، و مستدرك الحاكم 2: 610، و الإتقان 1: 39 و تفسير شبّر: 350، و البداية و النّهاية 3: 4، و اليعقوبيّ 2: 34.

(2)- التّمهيد 1: 81 و 83.

(3)- الإسراء/ 93.

(4)- الفرقان/ 48.

(5)- الفرقان/ 32.

(6)- تصحيح الاعتقاد: 58.

نصوص في علوم القرآن، ص: 602

قد نزل خلال عشرين سنة، لا يمكن الاطمينان إليه؛ إذ يمكن أن يكون ذلك قد جاء على نحو التّقريب و التّسامح، و لم يرد في مقام التّحديد الدّقيق، و من عادة النّاس أن يلقوا الزّائد القليل، أو أن يضيفوه في إخباراتهم، و ليس في ذلك إخبار بخلاف الواقع؛ لأنّ المقصود هو الإخبار بما هو قريب من الحدّ، لا بالحدّ نفسه، مع إدراك السّامع

لذلك و التفاته إليه.

و النّتيجة هي أنّه لا مانع من أن يكون قد بعث صلّى اللّه عليه و آله و صار نبيّا في شهر رجب، كما أخبر به أهل البيت عليهم السّلام و هيّئ ليتلقّى الوحي القرآنيّ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا «1»، ثمّ بدأ نزول القرآن عليه تدريجا في شهر رمضان المبارك. و لربّما يؤيّد ذلك ما ورد من أنّ الملك كان يتراءى له صلّى اللّه عليه و آله قبل أن ينزل عليه القرآن «2».

و يرى المحقّق البحّاثة السّيد مهديّ الرّوحانيّ حفظه اللّه أنّه يمكن الجمع بين الآيات، بأن يقال: إنّ شروع نزول القرآن كان في ليلة مباركة، هي ليلة القدر من شهر رمضان: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «3»، إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «4»، شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «5». و كان أوّل ما نزل حسب روايات أهل البيت عليهم السّلام بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ... «6».

و الاستدلال بهذه الآيات على أنّ القرآن نزل أوّلا دفعة إلى البيت المعمور أو على قلب النّبيّ، ثمّ صار ينزل تدريجا في مدّة عشرين، أو ثلاث و عشرين سنة، و ذلك اعتمادا على قرينة الحال؛ حيث إنّ المسلمين يرون نزوله تدريجا غير صحيح؛ لأنّ من الممكن أن يكون المراد بالإنزال و التّنزيل واحد، و هو بدء النّزول، فإنّه إذا شرع نزول المطر في

______________________________

(1)- المزّمّل/ 5.

(2)- التّمهيد في علوم القرآن 1: 83 و يحتمل أيضا أن يكون القرآن قد نزل في شهر رمضان في ليلة القدر دفعة، لكنّه لم يؤمر بتبليغه، ثمّ صار ينزل عليه تدريجا لأجل التّبليغ في المناسبات المقتضية لذلك.

(3)- القدر/ 1.

(4)- الدّخان/ 2.

(5)- البقرة/ 185.

(6)- العلق/ 1.

نصوص في

علوم القرآن، ص: 603

اليوم الفلانيّ، و استمرّ لعدّة أيّام، فيصحّ أن يقال مثلا: سافرت يوم أمطرت السّماء، أي في اليوم الأوّل من بدء نزوله. و كذلك الحال بالنّسبة للقرآن، فإنّه إذا بدأ نزوله في شهر رمضان، في ليلة القدر، فيصحّ أن يقال: نزل القرآن في شهر رمضان، و يكون المراد أنّه قد بدأ نزوله التّدريجيّ. و قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ محتف بقرينة حاليّة يعلمها كلّ أحد، و هو نزول خصوص أوّل سورة اقْرَأْ، و استمرّ ينزل تدريجا بعد ذلك. و هذا كما صحّ أن يقال: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ، مع أنّ المطر ينزل تدريجا، و ما ذلك إلّا لأهميّة ذلك اليوم و خطره، و كلّ حادث خطير له امتداد زمنيّ، إنّما يسجّل يوم شروعه، فإذا قيل مثلا: متى كانت دولة العبّاسيّين، فسيكون الجواب بذكر سنة التّأسيس.

و أمّا حديث البخاريّ في بدء الوحي و الدّالّ على اقتران نزول القرآن بالنّبوّة فسيأتي أنّه باطل لا يصحّ.

و نزيد نحن أنّه قد يمكن تقريب ذلك بأنّ قوله تعالى: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، إنّما هو حكاية عن أمر سابق، و لا يشمل هذا الكلام الحاكي له إلّا بضرب من العناية و التّجوّز، و لا الّذي يأتي بعده، و إلّا لجاء التّعبير بصيغة المضارع أو الوصف، فإنّه يكون حينئذ هو الأوفق «1».

و لعلّ ابن شهرآشوب كان ينظر إلى هذا حين قال في متشابهات القرآن: و الصّحيح أنّ القرآن في هذا الوضع لا يفيد العموم، و إنّما يفيد الجنس، فأيّ شي ء نزل فيه فقد طابق الظّاهر «2». (1: 192- 197)

______________________________

(1)- التّمهيد في علوم القرآن 1: 84.

(2)- التّمهيد في علوم القرآن 1: 85.

نصوص في علوم القرآن، ص: 604

الفصل الثّالث و السّبعون نصّ الملكيّ في «تفسير مناهج البيان»

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ ... القيامة/ 16- 18

[ذكر في بدء الكلام قول الكشّاف و رواية ابن عبّاس عن الطّوسيّ، كما تقدّم عنهما، ثمّ قال:]

أقول: هل المراد أنّه صلّى اللّه عليه و آله تبادر على زعمهم بابتداء القراءة قبل أن يتمّها بأسرها جبريل عليه السّلام؟ أو أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يتّبع قراءة جبريل حرفا بعد حرف، و كلمة بعد كلمة، و لم يصبر حتّى يفرغ جبريل عن قراءته؟ و نظيره الآية قوله تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «1». [ثمّ ذكر قول الطّبرسيّ كما تقدّم عنه، فقال:]

أقول: لا ظهور و لا دلالة في الآية الكريمة، و لا في قوله تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ ... على أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يستعجل بالقراءة، و ينازع جبريل في قراءته. و إنّما اعتمدوا في ذلك على مرسلات تاريخيّة واهية لا يجوز الاستناد و الاتّكاء عليها و على نظائرها في باب التّفسير و باب الإفتاء بالحلال و الحرام.

و ليس النّهي في الآية نهيا تشريعيّا مولويّا كي يدلّ على كراهة المسارعة أو

______________________________

(1)- طه/ 114.

نصوص في علوم القرآن، ص: 605

تحريمها. و لا دليل على أنّ النّهي كان بعد ارتكاب المنهىّ. فإنّ أقصى ما يدلّ عليه النّهي في باب النّهي التّشريعيّ، الزّجر و المنع عن الطّبيعة المنهيّة. بل الظّاهر أنّ الآية الكريمة تذكرة و إرشاد إلى حسن التّثبّت و التّأنّي في شئون الرّسالة، و ترسيم لأهمّ وظيفة من وظائفه صلّى اللّه عليه و آله و تأديب إلهيّ في شأن خطير من شئون الرّسالة و النّبوّة في كيفيّة أخذ الرّسالة و تلقّي النّبوّة.

و ما ذكره الزّمخشريّ من أنّه كان مسارعة إلى الحفظ و خوفا

من أن يتفلّت منه، لا محصّل له. فإنّه صلّى اللّه عليه و آله ما كان يتخوّف على نفسه النّسيان و ذهاب الوحي و القرآن عن ذكره و حفظه؛ و قد أنزل تعالى عليه سورة الأعلى في مكّة في أوائل أمره، و فيها قوله:

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى* إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى* وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى «1».

فهو صلّى اللّه عليه و آله كان يقرأ بإقرائه تعالى، و يستحيل منه النّسيان. و يجب على الزّمخشريّ و أمثاله أن يعرفوا أنّ سورة الأعلى قد نزلت قبل هذه السّورة المباركة و قبل سورة طه، فلا مجال أن يقال إنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يتخوّف أن يتفلّت القرآن منه. و لا يجوز التّشبّث بالاستثناء في قوله: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ. فالظّاهر أنّ قوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ- إلى قوله- نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى مسوق في مقام الامتنان و إبراز العطف و الحنان على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فليس معنى الآية أنّه تعالى إن شاء يقرئه و لم ينسه، و إن لم يشأ لم يقرئه فينسه؛ فيخرج الآية عن سياق الامتنان، و يبطل الغرض المسوق له الكلام، فينزل الغرض في الآية منزلة الأمور العادية. فالعناية في الاستثناء التّحفّظ على التّوحيد، و التّحفّظ على إطلاق قدرته تعالى، و أنّه- سبحانه- ليس مغلول اليد، و أنّ كرامته تعالى على رسوله سواء كانت قبل مرتبة فعليّته العطاء أو في مرتبة فعليّة ليست على نحو الإيجاب، بل إكرامه إيّاه و تفضّله عليه بمشيّته و عمده و اختياره تعالى.

و قوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ ... ففيه وجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّه إخبار عمّا يفعله لرسوله من كرامة الإقراء و عدم النّسيان في المستقبل.

و الثّاني: أنّه ميعاد

من اللّه- سبحانه- بما يعطيه من كرامة الإقراء.

______________________________

(1)- الأعلى/ 6- 8.

نصوص في علوم القرآن، ص: 606

و الثّالث: أنّه بيان لسنّته الفاضلة و عادته الكريمة في حقّ رسوله و صفيّه صلّى اللّه عليه و آله كما في قولنا: فلان يقري الضّيف، و يكرم الجوار؛ أي: إنّ هذا من دأبه و عادته.

فالظّاهر هو الثّالث؛ إذ فيه بروز الامتنان و التّجلّي بالعطف و الحنان. و إذا دخلت على الفعل المضارع السّين يفيد تأكّد تلك السّنّة المستمرّة الإلهيّة بالنّسبة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا تأكّد وقوعها في الاستقبال و تمحّضه و تخلّصه للاستقبال.

و استعمال السّين في الاستمرار- و لو في غير مورد الامتنان- غير عزيز في كلامه تعالى، سواء كان بحسب الوضع؛ كما ذكره ابن هشام عن بعض النّحويّين- خلافا للمشهور- أو قلنا إنّه بسبب القرائن المقاميّة؛ كما في قوله تعالى:

سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ «1».

و قد تبيّن من جميع ما ذكرنا أنّ قوله تعالى: فَلا تَنْسى كاف و شاف في عصمته صلّى اللّه عليه و آله عن النّسيان، و أنّ قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ «2»، بمعزل عن إفادة تخوّفه عن النّسيان. و قد أورد الرّازيّ في تفسيره 30: 222 ستّة أقوال لا جدوى في إيرادها.

أقول: و السّرّ فيما وقع فيه القوم، إنّهم قد غفلوا أنّ نزول الملك على الإنسان، و مشاهدة الإنسان إيّاه و مكالمته مشافهة، و نزول القرآن و الوحي عليه بواسطة الملك، من باب الإعجاز، و من الأمور الخارقة للعادة. و كذلك أخذ الوحي و الرّسالة و النّبأ

الغيبيّ من الأشخاص المستورة تحت حجب الغيوب، مع أنّ الرّسول بشر مثلنا، من باب الاطّلاع و الإشراف على الغيب المحجوب. و هو من أعظم معجزاته صلّى اللّه عليه و آله و ليس أمرا عاديّا كي تجري فيه أحكام العادة و لوازمها من الخطأ و النّسيان.

و صفوة القول في ذلك بالبيان الإجماليّ: أنّه لا يخفى عند الفقيه العارف بمقام الرّسالة و النّبوّة و الإمامة أنّه- سبحانه- ما أرسل ملكا رسولا إلى أحد من البشر، و ما جعل أحدا نبيّا إلّا مقارنة بإفاضة روح القدس عليه؛ و هو العلم الحقيقيّ و العيان الصّريح

______________________________

(1)- النّساء/ 91.

(2)- القيامة/ 71.

نصوص في علوم القرآن، ص: 607

المصون و المعصوم بالذّات. فبهذا الرّوح القدسيّ يعرف الملك بشخصه. و بهذا العيان الصّريح يأخذ القرآن و الوحي، و يحمله و يحفظه و يقرؤه و يبلّغه، و يعرف أنّ ذلك وحي لا ريب فيه؛ تنزيل من حكيم حميد. و هو الحجّة البيّنة الصّادقة بينه و بين ربّه، على رسالته و نبوّته و إمامته. و هو خاصّ بالأنبياء و الرّسل و الأوصياء الصّديقين. و يستحيل الاختلاف بينهم من أوّل الدّنيا إلى انقضائها. فكلّ سابق يبشّر باللّاحق و يصدّقه. و اللّاحق منهم يؤمن بالسّابق و يصدّق ما تقدّم من الرّسل و الكتب. و كذلك الأوصياء الصّدّيقون بما أودعوا من العلوم و الشّرائع، و أمروا بتبليغه و نشره. و لا يتجاوز عن الأنبياء و الأوصياء إلى غيرهم.

و أمّا غيرهم، فليس عندهم إلّا أشياء مظلمة مغموسة مثار الاختلاف و معركة للآراء؛ يسمّونها عندهم مكاشفة أو قطعا برهانيّا، و يكفّر بعضهم بعضا، و يجهّل بعضهم بعضا.

و للرّوح إطلاقات أخرى.

قال تعالى: وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ

«1»

وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً ... «2».

و في البحار 25: 58، عن البصائر بإسناده عن المفضّل بن عمر قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام سألته عن علم الإمام بما في أقطار الأرض، و هو في بيته مرخى عليه ستره فقال:

«يا مفضّل، إنّ اللّه تبارك و تعالى جعل للنّبيّ خمسة أرواح ... و روح القدس فبه حمل النّبوّة. فإذا قبض النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله انتقل فصار في الإمام. و روح القدس لا ينام و لا يغفل و لا يلهو و لا يسهو.» و الرّوايات في هذا الباب كثيرة في جوامع الحديث.

أقول: و أمّا التّابعون للكتاب و السّنّة بالشّرائط المقرّرة في الشّريعة، فهم في نور و في فسحة و نجاة عن هذه المزالق و المزلّات.

______________________________

(1)- البقرة/ 87.

(2)- الشّورى/ 52.

نصوص في علوم القرآن، ص: 608

قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ «1». الظّاهر من السّياق أنّ هذا بشارة و تأييد و وعد لرسوله صلّى اللّه عليه و آله بجمعه القرآن و قراءته إيّاه عليه. فإنّ الظّاهر من الضّمير في قوله:

جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ أنّ المراد هو القرآن لا أبعاضه و أجزاؤه. و المعنى: إنّ على عهدتنا و ما جرى به قضاؤنا الحكيم، أن نجمع هذا القرآن الّذي أنزلناه عليك متفرّقا، و ما ننزّله بعد ذلك، إلى تمامه و كماله. و كذلك علينا قرآنه عليك مجموعا.

و القرآن مصدر من قرأ يقرأ على فعلان، بمعني القراءة و التّلاوة. و سمّي الكتاب الكريم المنزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قرآنا، باعتبار أنّه مقروّ و متلوّ و من جنس ما يقرأ و

ما يتلى. و هذا من باب إطلاق الكتاب على المكتوب. و توهّم بعضهم أنّه مأخوذ من قرأ بمعنى جمع- مثل: قرأت الماء في الحوض- و سمّي قرآنا باعتبار كونه مجموعا «2».

و التّحقيق ما ذكرناه.

فمعنى قوله تعالى: وَ قُرْآنَهُ أي: قراءته. قال الرّازيّ في تفسيره 30: 224: معناه:

علينا جمعه في صدرك و حفظك.

أقول: يرد عليه أنّ اللّه سبحانه قد جمع ما أنزل من القرآن متفرّقا و تدريجا في صدره و حفظه، فلا يصلح أن يكون موردا لوعده تعالى؛ لأنّه تحصيل للحاصل. و توجيه ذلك بأن نجمعه في صدرك و حفظك و نثبّته على لسانك، غير وجيه. لأنّه لا يدفع الإشكال، مضافا إلى أنّه يكون إقراء لا قراءة.

إن قلت: أيّ مانع أن يقال أنّ مورد وعده تعالى، هو ما بقي من القرآن بعد هذه السّورة المباركة؟

قلت: لا مانع منه بحسب الفرض، إلّا أنّ الآية الكريمة و إطلاقها لا يلائم التّبعيض؛ بل الظّاهر أنّ مورد هذا الوعد الجميل الصّادق هو مجموع القرآن.

و في التّبيان 10: 196، عن ابن عبّاس و الضّحّاك: معناه: إنّ علينا جمعه في صدرك و قراءته عليك حتّى يمكنك تلاوته.

______________________________

(1)- القيامة/ 17.

(2)- مجمع البيان ج/ 1: 14.

نصوص في علوم القرآن، ص: 609

أقول: يرد عليه أيضا أنّ اللّه سبحانه قد جمع القرآن عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد كان حافظا إيّاه متمكّنا من تلاوته. فلا يبقى مورد لهذا الوعد، حين أكرم اللّه رسوله بمفاد قوله:

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. و أمّا قوله: «و قراءته عليك» فهو موافق لظاهر الآية، فيجب الالتزام به، على ما سيجي ء توضيحه عن قريب، إن شاء اللّه.

إن قلت: أ ليس ظاهر قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ في

مرحلة التّعليل لقوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ؟

قلت: نعم؛ إلّا أنّا أوضحنا فيما تقدّم حقيقة هذا النّهي، و ذكرنا أنّ النّهي لا دلالة فيه على ارتكاب المنهىّ عنه، و لا الارتكاب من جملة شرائط النّهي. فلا دلالة في النّهي على تحقّق العجلة. و لا دلالة في العجلة- على فرض تحقّقه- على أنّه كان خوفا من النّسيان؛ بل يجوز أن تكون لعناية أكيدة و اهتمام خاصّ لشأن الوحي و أخذه، حبّا إيّاه و شوقا إليه، و غير ذلك. فالمتحصّل في المقام وجهان:

أحدهما أن يقال: إنّ مورد وعده تعالى بجمع القرآن، جمع ما بقي منه بعد هذه السّورة المباركة، و قراءته عليه بقراءة جبريل.

و ثانيهما: يجوز أن يقال: إنّ اللّه سبحانه كما جمع القرآن كلّه عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يبعد أنّه قد جمعه عند جبريل عليه السّلام فيقرأ تعالى القرآن على رسوله بقراءة جبريل. و هذا هو الظّاهر، فإنّ القارئ و المملي كان هو جبريل، و كان عالما به و حافظا إيّاه. فقوله تعالى: قُرْآنَهُ أي: قراءتنا عليك بقراءة جبريل مرّة ثانية.

في البحار 22: 466، عن إعلام الورى و الإرشاد: «... فلمّا أحسّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالمرض الّذي عراه، أخذ بيد عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و اتّبعه جماعة من النّاس، و توجّه إلى البقيع.

فقال للّذي اتّبعه: إنّني قد أمرت بالاستغفار لأهل البقيع.

فانطلقوا معه؛ حتّى وقف بين أظهرهم و قال: السّلام عليكم يا أهل القبور! ليهنّئكم ما أصبحتم فيه ممّا فيه النّاس، أقبلت الفتن كقطع اللّيل المظلم، يتبع آخرها أوّلها.

ثمّ استغفر لأهل البقيع طويلا، و أقبل على أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: إنّ جبريل عليه السّلام

كان يعرض عليّ القرآن في كلّ سنة مرّة. و قد عرضه عليّ العام مرّتين. و لا أراه إلّا لحضور

نصوص في علوم القرآن، ص: 610

أجلي.» و فيه أيضا: 473 عن أسباب النّزول للواحديّ نحوه.

قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ «1».

لا يبعد أن يقال: إنّ الآية الكريمة تفريع ممّا تقدّم من مفاد الآيتين؛ أي بيان وظيفته صلّى اللّه عليه و آله في أخذ القرآن و تلقّي الوحي، و وعده تعالى الوعد الجميل الصّادق في قوله:

إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ. أي: فإذا قرأنا عليك هذا القرآن بقراءة جبريل عند نزول القرآن متفرّقا و بعد نزوله مجموعا، فاتّبع قرآنه. و لا يخفى أنّ الأمر في قوله: فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أمر إرشاديّ و تذكير إلى وجوب اتّباع القراءة و الوحي كمّا و كيفا، و تذكرة أيضا بوجوب اتّباع مفاد ما يقرأ و يتلو، لوضوح أنّ وجوب اتّباع القراءة وجوب طريقيّ، و لا يمكن تجريد القراءة عن الطّريقيّة في مرحلة وجوب اتّباع القراءة على الإطلاق. و عليه يتّضح أنّ معنى وجوب اتّباع القراءة، وجوب اتّباع مفادها و محتواها من الحقائق و الأحكام، بما أنّه وحي و شريعة إلهيّة، لا وجوب اتّباع ألفاظ جبريل عليه السّلام عقيب قراءته و تلاوته.

و ممّا ذكرنا يظهر سقوط ما ذكروه في تفسير المقام:

منها: ما ذكره في الكشّاف 4: 191 قال: فكن مقفّيا له فيه، و لا تراسله، و طأمن نفسك أنّه لا يبقى غير محفوظ، فنحن في ضمان تحفيظه.

و منها: ما تقدّم نقله عن الكشّاف أيضا في تفسير قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ قال: فأمر بأن يستنصت له ملقيا إليه بقلبه و سمعه، حتّى يقضى إليه وحيه؛ ثمّ يقفّيه بالدّراسة إلى أن يرسخ فيه.

و منها:

ما في تفسير الرّازيّ 30: 225، عن بعض المفسّرين ما خلاصته: إذا أتممنا عليك قراءته، فاتّبع قراءته بعد تمامها.

أقول: و أنت بعد التّأمّل فيما ذكرنا، تعرف أنّ الضّمير في قوله تعالى: فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ راجع إلى القرآن لا إلى القارئ. و منشأ هذه الأقاويل ليس إلّا ما ذكروه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يستعجل لتلقّي الوحي خوفا من النّسيان. فأمر بأن يستنصت حتّى يتمّ الوحي، ثمّ يتّبع قراءة القارئ.

______________________________

(1)- القيامة/ 18.

نصوص في علوم القرآن، ص: 611

و قوله تعالى: فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ و إن كان خطابا شخصيّا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لكن حيث إنّ وجوب اتّباع القراءة حكم عقليّ، فلا محالة يكون وجوب الاتّباع الشّامل لمن عقل و عرف، من محكمات القرآن و من المستقلّات العقليّة فيه. (29: 252- 259)

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ القدر/ 1

تنقيح البحث في المقام يحتاج إلى تحرير أمور:

الأوّل: إنّ الآية المباركة في صدر السّورة، لتعظيم موقع ليلة القدر و أهميّتها من بين ليالي السّنة، لوقوع عظائم الأمور فيها من نزول القرآن و الملائكة و الرّوح بما يجري و يقع من الأمور و الحوادث الّتي تقدّر في هذه اللّيلة بتقدير العليم الحكيم. و نظير الآية قوله تعالى: حم* وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ «1». شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ «2».

و الظّاهر من الآيتين في أوّل القدر و الدّخان أنّ فيهما دلالة على أنّ القرآن بتمامه نزل في ليلة القدر. و احتمال نزول القرآن بنزول أبعاضه احتمال ضعيف جدّا. و أمّا الآية الأخيرة، فهي كالنّصّ

في نزول القرآن بمجموعه في شهر رمضان.

و استشكل على ذلك بأنّ ضرورة التّاريخ قاضية بنزول القرآن من أوّل رسالته صلّى اللّه عليه و آله تدريجا إلى آخر وفاته في المدينة. و أجيب عنه: بأنّ القرآن نزل بمجموعه إلى البيت المعمور، ثمّ نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تدريجا في عرض ثلاث و عشرين سنة.

[ثمّ ذكر رواية حفص بن غياث عن الإمام الصّادق عليه السّلام كما تقدّم عن الكلينيّ، فقال:]

بيان: الظّاهر أنّ قوله عليه السّلام. «إلى البيت المعمور»؛ أي: إلى من كان من أمناء الوحي و خزّان العلوم. قال سيّد العابدين عليه السّلام في دعائه لحملة العرش و ملائكة اللّه المقرّبين: «...

______________________________

(1)- الدّخان/ 1- 5.

(2)- البقرة/ 185.

نصوص في علوم القرآن، ص: 612

و الطّائفين بالبيت المعمور ...».

أقول: حديث حفص بن غياث، و إن كان خبرا واحدا لا يمكن الأخذ به على نحو الجزم، إلّا أنّه لا يجوز ردّه أيضا، لعدم استحالة مفاده عقلا بحسب الواقع؛ و هو كاف في دفع التّنازع القطعيّ بين نزول القرآن في عرض ثلاث و عشرين سنة و بين نزول مجموعه في شهر رمضان في ليلة القدر. أي يصير التّعارض احتماليّا لا قطعيّا.

الثّاني: قال بعض المفسّرين في رفع الإشكال ما خلاصته: إنّه يحتمل أن يكون المراد من نزول القرآن في ليلة القدر، نزوله في مرتبة جملته و كلّيّته و في مرتبة تجرّده. و قد نزل على قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دفعة واحدة، ثمّ برز إلى عالم التّفصيل و التّفريق نجوما و فصلا.

و اعتمد في ذلك على وجوه:

الوجه الأوّل: إنّ لفظ «أنزل» ظاهر و مستعمل في النّزول الدّفعيّ. ثمّ استدلّ على لفظ الكتاب الحاكي- على زعمه-

عن مرتبة الكلّيّة و التّجرّد.

و فيه أوّلا: أنّ الفرق بين «أنزل» و «نزّل» بالمعنى الّذي ذكره، لا شاهد و لا دليل عليه، لا بحسب المادّة و لا بحسب الهيئة. و ثانيا: أنّ استعمال «أنزل» في النّزول التّدريجيّ و «نزّل» في النّزول الدّفعيّ غير عزيز في القرآن الكريم. قال تعالى: طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى «1». وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً «2». وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ «3».

و التّوجيه الّذي ذكره في قوله: وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً «4» و إرجاع «أنزل» إلى النّزول الدّفعيّ، لا شاهد عليه و لا يجوز الأخذ به. و قد استعمل «نزّل» في مورد الكتاب أيضا. قال تعالى:

______________________________

(1)- طه/ 1- 2.

(2)- طه/ 113.

(3)- البقرة/ 99.

(4)- لقمان/ 10.

نصوص في علوم القرآن، ص: 613

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ «1».

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ «2».

وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً «3».

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ «4».

الوجه الثّاني: استشهد بقوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ «5». فإنّ هذا الإحكام مقابل التّفصيل ... [و ذكر كما تقدّم عن العلّامة الطّباطبائيّ، ثمّ قال:]

و فيه أنّ المراد من معنى الإحكام ما هو في مقابل التّشابه؛ كما في قوله تعالى:

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ... «6».

و هو من نعوت الدّلالة في الكلام و الألفاظ، لا من نعوت الوجود العينيّ بما هو موجود

مجرّد عينيّ أو موجود عينيّ. و بعبارة أخرى: معنى الإحكام في الألفاظ و الكلام ما ذكرناه. و التّفصيل في مقابل الإجمال و الإبهام. أي: مبيّن و مشروح. فكلامه تعالى محكم لا تشابه فيه و لا تناقض و لا خلل و لا نقص، و مفصّل لا إجمال فيه و لا إبهام.

قال في الجوامع: 2: 134 أُحْكِمَتْ آياتُهُ نظما محكما لا نقص فيه و لا خلل كالبناء المحكم ... ثُمَّ فُصِّلَتْ كما تفصّل القلائد بدلائل التّوحيد و المواعظ و الأحكام ...

و معنى «ثمّ» التّراخي في الحال لا في الوقت. كما تقول: هي محكمة أحسن الإحكام، ثمّ مفصّلة أحسن التّفصيل. و الكتاب خبر مبتدأ محذوف مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ أحكمها و خَبِيرٍ عالم فصّلها؛ أي: بيّنها و شرحها.

______________________________

(1)- البقرة/ 176.

(2)- آل عمران/ 3.

(3)- النّحل/ 89.

(4)- الأعراف/ 196.

(5)- هود/ 1.

(6)- آل عمران/ 7.

نصوص في علوم القرآن، ص: 614

الوجه الثّالث: قال قدّس سرّه بعد عدّة آيات أوردها في هذا المقام ما ملخّصه: قال تعالى:

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ «1». وجه الاستدلال: إنّ الضّمير راجع إلى القرآن المعلوم بحسب السّياق. قوله تعالى: كَرِيمٌ نعت و تجليل للقرآن المحمود عند اللّه سبحانه لما فيه من الحقائق و المعارف و الأحكام. قوله تعالى: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ نعت ثان للقرآن؛ أي: محفوظ و مصون عن التّغيير و التّبديل. و هو اللّوح المحفوظ. كما قال تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «2». قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ صفة للكتاب المكنون.

و يمكن أن يكون وصفا ثالثا للقرآن. و مآل الوجهين على تقدير كون «لا» نافية واحدا.

و المعنى: لا يمسّ الكتاب المكنون الّذي فيه القرآن

إلّا المطهّرون. أو لا يمسّ القرآن الّذي في الكتاب إلّا المطهّرون. و المطهّرون اسم مفعول من التّطهير، و هم الّذين طهّر اللّه سبحانه نفوسهم من أرجاس المعاصي و قذارات الذّنوب، أو ممّا هو غير المناسب للمسّ الّذي هو العلم دون الطّهارة من الخبث أو الحدث كما هو ظاهر.

أقول: القرآن مصدر بمعنى المفعول؛ أي: المقروء و من جنس ما يقرأ و يتلى. قوله تعالى: كَرِيمٌ نعت و تمجيد للقرآن المبين؛ أي: ذو كرامة و مكانة عند اللّه سبحانه لاشتماله على أصول العلم و أمّهات الشّرائع و المعارف و الحقائق الأصيلة. قوله تعالى:

فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ نعت ثان للقرآن الكريم. و لمّا يعلم ما المراد من الكتاب المكنون و اللّوح المحفوظ و نظائرهما. فيحتمل قويّا أن يكون المراد في المقام صحيفة نوريّة؛ أي العلم المفاض على عدّة من أوليائه الكرام من الملائكة المقرّبين و الأنبياء و الرّسل و الصّديقين.

و معنى كون القرآن في هذا الكتاب المكنون في مرتبة كونه مقروءا و متلوّا، كونه معلوما بهذا العلم عند حملته، لا كون القرآن المقروء و المتلوّ بنحو من الثّبوت و التّجرّد في هذا الكتاب و في هذا اللّوح. فهؤلاء الحملة الكرام يعلمون القرآن و يحصونه بحقيقة العلم

______________________________

(1)- الواقعة/ 77- 80.

(2)- البروج/ 21- 22.

نصوص في علوم القرآن، ص: 615

و الإحصاء و يشهدون أنّه حقّ مبين لا ريب فيه. كما في قوله تعالى: وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ «1».

و قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. هذا نعت ثالث للقرآن. و المراد من المسّ هو المسّ الظّاهريّ بين الأجسام. و ليس في محاورات القرآن الكريم استعمال المسّ و اللّمس بمعنى الإدراك سيّما إدراك الحقائق الغيبيّة النّوريّة. و استعمال لفظ المسّ

و اللّمس في القرآن الكريم، إنّما هو في إلصاق الأجسام. قال تعالى: وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ «2»، أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ «3»

و أقصى ما يمكن أن يقال في المقام مسّ العذاب و الإحراق و البأساء و الضّراء مثل قوله تعالى:

ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ «4».

وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ «5».

وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ «6».

و استعمال المسّ و اللّمس في الإدراك- كما اشتهر في زماننا في الخطابات و المحاورات العادية- أجنبيّ عن محاورات الكتاب و السّنّة و لا يصغى إليه. فتحصّل في المقام أنّ قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ جملة خبريّة منفيّة أريد بها الإنشاء. فإنّه أبلغ و أوفى في إفادة المنع و التّحريم. و المراد من المسّ هو المسّ الظّاهريّ. فالآية الكريمة تفيد المنع و النّهي عن مسّ الكتاب الكريم إلّا عمّن كان متطهّرا من الأحداث و الخبائث.

في نور الثّقلين 5: 221، عن الاستبصار بإسناده عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي

______________________________

(1)- يس/ 12.

(2)- البقرة/ 237.

(3)- مريم/ 20.

(4)- القمر/ 48.

(5)- فصّلت/ 51.

(6)- الأعراف/ 188.

نصوص في علوم القرآن، ص: 616

الحسن عليه السّلام قال: المصحف لا تمسّه على غير طهر و لا جنبا و لا تمسّ خطّه و لا تعلّقه. إنّ اللّه تعالى يقول: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ.

قال في المجمع 9: 226: و قيل: المطهّرون من الأحداث و الجنابات. و قالوا: لا يجوز للجنب و الحائض و المحدث مسّ المصحف. عن محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام.

قوله تعالى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. هذا نعت رابع للقرآن المذكور في صدر الآيات الكريمة. فقد أقسم تعالى بمواقع النّجوم في إبطال مقالات المشركين

و ارتيابهم في شأن القرآن الكريم الّذي بين أظهرنا- مؤكّدا بإنّ و لام التّأكيد- أنّ هذا القرآن ليس بشعر و لا سحر، بل هو قرآن ذو كرامة و جلالة عند اللّه- سبحانه- محرّم مسّ خطوطه إلّا على من كان طاهرا من الأحداث و الجنابات و الخبائث. و حيث إنّ تنزيل هذا القرآن عين فعله- سبحانه- و هو تعالى أصدق شاهد أنّه منزّل من عنده- جلّ شأنه- لا يرتاب فيه إلّا المبطلون المعاندون. فهذه النّعوت الأربعة للقرآن، كلّها في عرض واحد.

و المستفاد من قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... «1» أنّ الغرض المسوق له الكلام تعظيم الشّهر و ترفيع شأنه من حيث إنّه أنزل فيه القرآن. (30: 593- 599)

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

نصوص في علوم القرآن، ص: 617

الفصل الرّابع و السّبعون نصّ السّيد الحكيم في «علوم القرآن»

نزول القرآن على النّبيّ مرّتين

في رأي عدد من العلماء أنّ القرآن الكريم نزل على النّبيّ مرّتين:

إحداهما: نزل فيها مرّة واحدة على سبيل الإجمال، و المرّة الأخرى نزل فيها تدريجا على سبيل التّفصيل، خلال المدّة الّتي قضاها النّبيّ في أمّته منذ بعثته إلى وفاته.

و معنى نزوله على سبيل الإجمال هو نزول المعارف الإلهيّة الّتي يشتمل عليها القرآن و أسراره الكبرى على قلب النّبيّ؛ لكي تمتلئ روح النّبيّ بنور المعرفة القرآنيّة. و معنى نزوله على سبيل التّفصيل هو نزوله بألفاظه المحدّدة و آياته المتعاقبة. و كان إنزاله على سبيل الإجمال مرّة واحدة؛ لأنّ الهدف منه تنوير النّبيّ، و تثقيف اللّه له بالرّسالة الّتي أعدّه لحملها. و كان إنزاله على سبيل التّفصيل تدريجيّا؛ لأنّه يستهدف تربية الأمّة و تنويرها، و ترويضها على الرّسالة الجديدة، و هذا يحتاج إلى التّدرّج.

و على ضوء هذه النّظرية في تعدّد نزول القرآن يمكّننا أن نفهم الآيات الكريمة الدّالّة

على نزول القرآن في شهر رمضان، أو إنزاله في ليلة القدر بصورة خاصّة، نحو قوله تعالى:

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ «1»، و قوله:

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

نصوص في علوم القرآن، ص: 618

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1»، و قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ «2». فإنّ الإنزال الّذي تتحدّث عنه هذه الآيات ليس هو التّنزيل التّدريجيّ الّذي طال أكثر من عقدين، و إنّما هو الإنزال مرّة واحدة على سبيل الإجمال.

كما أنّ فكرة تعدّد الإنزال بالصّورة الّتي شرحناها تفسّر لنا أيضا المرحلتين اللّتين أشار إليهما القرآن الكريم في قوله: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ «3». فإنّ هذا القول يشير إلى مرحلتين في وجود القرآن؛ أولاهما: إحكام الآيات، و المرحلة الثّانية: تفصيلها، و هو ينسجم مع فكرة تعدّد الإنزال فيكون الإنزال مرّة واحدة على سبيل الإجمال، هي مرحلة الإحكام، و الإنزال على سبيل التّفصيل تدريجا هي المرحلة الثّانية، أي مرحلة التّفصيل.

التّدرّج في التّنزيل

استمرّ التّنزيل التّدريجيّ للقرآن الكريم طيلة ثلاث و عشرين سنة، و هي المدّة الّتي قضاها النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في أمّته منذ بعثته إلى وفاته، فقد بعث صلّى اللّه عليه و آله لأربعين سنة، و مكث بمكّة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثمّ هاجر إلى المدينة و ظلّ فيها عشر سنين، و القرآن يتعاقب و يتواتر عليه حتّى مات و هو في الثّالثة و السّتّين من عمره الشّريف.

و قد امتاز القرآن عن الكتب السّماويّة السّابقة عليه بإنزاله تدريجا، و كان لهذا التّدرّج في إنزاله أثر كبير في تحقيق أهدافه، و إنجاح الدّعوة و بناء الأمّة، كما أنّه كان آية

من آيات الإعجاز في القرآن الكريم، و يتّضح كلّ ذلك في النّقاط التّالية:

1- مرّت على النّبيّ و الدّعوة حالات مختلفة جدّا خلال ثلاث و عشرين سنة، تبعا لما مرّت به الدّعوة من محن، و قاسته من شدائد، و ما أحرزته من انتصار، و سجّلته من تقدّم. و هي حالات يتفاعل معها الإنسان الاعتياديّ، و تنعكس على روحه و أقواله

______________________________

(1)- القدر/ 1.

(2)- الدّخان/ 2.

(3)- هود/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 619

و أفعاله، و يتأثّر بأسبابها و ظروفها و العوامل المؤثّرة فيها. و لكنّ القرآن الّذي واكب تلك السّنين بمختلف حالاتها، في الضّعف و القوّة، في العسر و اليسر، في لحظات الهزيمة و لحظات الانتصار، و التّنزيل تدريجا خلال تلك الأعوام، كان يسير دائما على خطّه الرّفع، لم ينعكس عليه أيّ لون من ألوان الانفعال البشريّ الّذي تثيره تلك الحالات. و هذا من مظاهر الإعجاز في القرآن الّتي تبرهن على تنزيله من لدن عليّ حكيم، و لم يكن القرآن ليحصل على هذا البرهان لو لا إنزاله تدريجا في ظروف مختلفة و أحوال متعدّدة.

2- إنّ القرآن بتنزيله تدريجا كان إمدادا معنويّا مستمرّا للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، كما قال اللّه تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «1»، فإنّ الوحي إذا كان يتجدّد في كلّ حادثة كان أقوى للقلب، و أشدّ عناية بالمرسل إليه، و يستلزم ذلك نزول الملك إليه، و تجدّد العهد به، و تقوية أمله في النّصر، و استهانته بما يستجدّ، و يتعاقب من محن و مشاكل. و لهذا نجد أنّ القرآن ينزل مسلّيا للنّبيّ مرّة بعد مرّة مهوّنا عليه الشّدائد، كما

وقع في محنة يأمره تارة بالصّبر أمرا صريحا، فيقول:

وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا «2»، و ينهاه تارة أخرى عن الحزن، كما في قوله: وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً «3». و يذكّره بسيرة الأنبياء الّذين تقدّموه من أولي العزم فيقول: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «4»، و يخفّف عنه أحيانا، و يعلّمه أنّ الكافرين لا يجرحون شخصه، و لا يتّهمونه بالكذب لذاته، و إنّما يعاندون الحقّ بغيا، كما هو شأن الجاحدين في كلّ عصر، كما في قوله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ «5».

3- إنّ القرآن الكريم ليس كتابا كسائر الكتب الّتي تؤلّف للتّعليم و البحث العلميّ، و إنّما هو عمليّة تغيير الإنسان تغييرا شاملا كاملا في عقله و روحه و إرادته، و صنع أمّة،

______________________________

(1)- الفرقان/ 32.

(2)- المزّمّل/ 10.

(3)- يوسف/ 65.

(4)- الأحقاف/ 35.

(5)- الأنعام/ 33.

نصوص في علوم القرآن، ص: 620

و بناء حضارة، و هذا العمل لا يمكن أن يوجد مرّة واحدة، و إنّما هو عمل تدريجيّ بطبيعته، و لهذا كان من الضّروريّ أن ينزل القرآن الكريم تدريجا؛ ليحكم عليه البناء، و ينشئ أساسا بعد أساس، و يجتذّ جذور الجاهليّة. رواسبها بأناة و حكمة.

و على أساس هذه الأناة و الحكمة في عمليّة التّغيير و البناء، نجد أنّ الإسلام تدرّج في علاج القضايا العميقة بجذورها في نفس الفرد أو نفس المجتمع، و قاوم بعضها على مراحل حتّى استطاع أن يستأصلها، و يجتذّ جذورها. و قصّة تحريم الخمر، و تدرّج القرآن في الإعلان عنها من أمثلة ذلك، فلو أنّ القرآن نزل جملة واحدة بكلّ أحكامه و معطياته الجديدة لنفر النّاس

منه، و لما استطاع أن يحقّق الانقلاب العظيم الّذي أنجزه في التّاريخ.

(ص: 34- 37)

نصوص في علوم القرآن، ص: 621

الفصل الخامس و السّبعون نصّ الدّكتور البوطيّ في كتابه: «من روائع القرآن»

نزول القرآن منجّما و الحكمة في ذلك

يقول اللّه تعالى في كتابه: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «1». و يقول أيضا: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً، كَذلِكَ، لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «2».

نعلم من دلالة هاتين الآيتين، و ممّا ثبت ثبوتا قاطعا في السّنّة و التّاريخ عن طريق السّند الصّحيح، أنّ القرآن لم ينزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم جملة واحدة كما نزلت التّوراة على سيّدنا موسى، بل كان نزوله متدرّجا، فتارة تنزل عليه الآية أو الآيتان أو ثلاث آيات، و تارة تنزل عليه سورة بجملتها، كالفاتحة، و المدّثّر، و هذا معنى أنّه كان ينزّل منجّما، و قد ظلت آيات هذا الكتاب المبين تتتابع على مهل و تدرّج، حتّى نزلت آخر آية منها قبل وفاته صلّى اللّه عليه و سلم بتسع ليال. و هو قوله تعالى: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ «3».

______________________________

(1)- الإسراء/ 106.

(2)- الفرقان/ 32.

(3)- البقرة/ 280.

نصوص في علوم القرآن، ص: 622

و ذلك على ما رجّحه كثير من العلماء.

حكمة نزول القرآن منجّما:

هنالك حكم هامّة و كثيرة تتعلّق بنزول القرآن منجّما، نذكر منها ما يلي:

أوّلا: لقد قضت سنّة اللّه تعالى في عباده أن يلاقي النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم أذى كبيرا من قومه من أجل نهوضه بينهم بتبليغ رسالة ربّه، و قد لاقى من ذلك أنواع الشّدائد الّتي جعلته بينهم مدّة طويلة غريبا لا ناصر له.

و لقد كان لاتّصال الوحي به إذ ذاك و تتابع نزول الآيات عليه تشدّ من أزره، و تحمّله على الصّبر و المصابرة، و تعده بالنّصر و التّأييد في النّهاية

كان لذلك أبلغ الأثر في مواساته و تخفيف تلك الشّدّة عنه و إزاحة معاني الغربة و الضّعف عن نفسه. فمن هذه الآيات مثلا قوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ، وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبارَ السُّجُودِ «1». و من ذلك قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ... الآيات «2».

فلو أنّ القرآن نزل كلّه عليه جملة واحدة، لكان لانقطاع الوحي عنه بعد ذلك أثر كبير في استشعاره الوحشة و الغربة. و مهما يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قد أوتي من العزيمة و الصّبر، فإنّ لبشريّته أيضا أثرا بيّنا في حياته ما دام أنّه بشر.

و قد كان لديه صلّى اللّه عليه و سلم من قوّة الإيمان باللّه ما يكفي لأن يحمله على تبليغ دعوة ربّه و الجهاد في سبيلها؛ و لكنّه على ذلك لم يكن به غناء عن المواساة و المعونة و التّصبير إذ يأتيه كلّ ذلك من ربّه المرّة تلو المرّة يعيده إلى الأمن و الانشراح و الأنس و الرّضى.

و هذا المعنى هو ما عبّر عنه القرآن بالتّثبيت في قوله تعالى: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ.

ثانيا: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أمّيّا لا يقرأ و لا يكتب، فليس لديه من الوسائل الكسبيّة ما يضبط و يحفظ به كلّ ما ينزل عليه إلّا وسيلة التّكرار و الحفظ. فكان لا بدّ من نزول الآيات

______________________________

(1)- ق/ 39- 40.

(2)- الحجر/ 94- 99.

نصوص في علوم القرآن، ص: 623

بتدرّج و خلال فترات متقطّعة من الزّمن حتّى يكون السّبيل إلى حفظه و وعيه أيسر. و على الرّغم من ذلك فقد كان من عادته صلّى

اللّه عليه و سلم إذا نزلت عليه الآية من القرآن أن يأخذ في تكرارها و يستعجل في محاولة حفظها و يظلّ يحرّك لسانه بها خشية أن تتفلّت من حفظه إلى أن نزل عليه قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ «1».

ثالثا: احتوى القرآن على متن الفقه الإسلاميّ كلّه، أي على عامّة أحكامه في الجملة سواء ما يتعلّق بالعبادات أو المعاملات المدنيّة أو الأحوال الشّخصيّة أو العقوبات أو النّظم الدّستوريّة و الماليّة.

و كان العرب قبل الإسلام متفلّتين عن كلّ قيد، لا يخضعون لقانون و لا يرتبطون بأيّ تنظيم، فكان من العسير عليهم أن ينتقلوا من تلك الحالة في طفرة مفاجأة، إلى التّقيّد بعامّة أحكام الإسلام و نظمه و قوانينه.

فمن أجل ذلك أخذهم القرآن في ذلك بالوسيلة التّربويّة الّتي لا بدّ منها، و هي وسيلة التّدرّج في نقلهم من حياة الفوضى و التّفلّت، إلى حياة النّظام و التّقيّد بالمعايير الّتي لا بدّ منها في المجتمع الصّالح. فنزلت أوّلا الآيات المتعلّقة بالعقيدة و دلائلها، حتّى إذا آمن النّاس و ثابوا إلى عقيدة التّوحيد، نزلت آيات الحلال و الحرام و عامّة الأحكام في مهل و تدرّج. [ثمّ ذكر رواية عائشة عن البخاريّ كما سيجي ء عنه في أوّل ما نزل].

رابعا: اقتضت حكمة اللّه تعالى أن تكون عامّة أحكامه الّتي تضمّنها كتابه المبين، جوابا عن أسئلة أو حلّا لمشكلات واقعة، حتّى تكون أوقع في النّفس و ألصق بالحياة.

و تلك وسيلة تربويّة ظاهرة لا تحتاج إلى مزيد بيان لها. و إنّما سبيل ذلك أن تتدرّج هذه الأحكام و آياتها في النّزول تنتظر مناسباتها و ظروفها.

و لذلك نجد أنّ الكثير من آي القرآن إنّما نزل جوابا عن

سؤال أو حلّا لإشكال، فمن الأوّل قوله تعالى:

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ... «2»

______________________________

(1)- القيامة/ 16.

(2)- البقرة/ 220.

نصوص في علوم القرآن، ص: 624

و قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ ... «1»

و قوله جلّ جلاله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ ... «2»

و من الثّاني قوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ «3».

و قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً «4».

فقد نزل كلّ منها حلّا لمشكلة حدثت، و يطول بنا الحديث لو سردنا لك قصّة كلّ منها.

خامسا- اقتضى التّدرّج بالنّاس في التّشريع أن يوجد ثمّة ناسخ و منسوخ، إذ ربّ حكم كانت المصلحة و الرّحمة بالنّاس تقتضي أخذهم به على مراحل، كتحريم الخمر مثلا، فقد اكتفى القرآن في أوّل الأمر ببيان أنّ إضراره أكثر من فائدته؛ و ذلك في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ، قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما «5»، حتّى إذا استقرّ في النّفوس ذلك، نزلت آية تنهى النّاس عن السّكر في أوقات الصّلاة، و ذلك في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ... «6» و هو كما ترى تحريم جزئيّ في فترات متقطّعة من الزّمن. فلمّا أخذ النّاس أنفسهم بذلك و اعتادوا الامتناع عن الخمر في تلك الأوقات، نزلت آية قاطعة تحرمه تحريما كلّيّا. و ذلك هو قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ

______________________________

(1)-

البقرة/ 222.

(2)- الأنفال/ 1.

(3)- البقرة/ 221.

(4)- النّساء/ 105.

(5)- البقرة/ 219.

(6)- النّساء/ 43.

نصوص في علوم القرآن، ص: 625

عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «1».

و أنت خبير أنّ كلّ مرحلة من هذه المراحل السّابقة إنّما هي نسخ لما قبلها، و تصعيد بالنّاس إلى طور جديد نحو تكامل التّشريع و استقراره. و هذا لا يتمّ- كما تعلم- إلّا بنزول القرآن منجّما على فترة طويلة من الزّمن.

و ثمّة حكم أخرى جليلة لهذه الظّاهرة في نزول القرآن، نمسك عن سردها و الإطناب فيها، استغناء بما ذكرنا، و اكتفاء بالنّماذج عن الاستقصاء. (ص: 32- 36)

______________________________

(1)- المائدة/ 90.

نصوص في علوم القرآن، ص: 626

الفصل السّادس و السّبعون نصّ الدّوزدوزانيّ في «دروس حول نزول القرآن»

[نزول القرآن تدريجا أو جملة]

إنّ من العلوم هو نزول القرآن تدريجا في مدّة ثلاث و عشرين سنة، يدلّ عليه صريحا قوله تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ... «1».

و حينئذ يشكل الأمر في التّوفيق بينه و بين قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2»، و قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «3»، و قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «4». و قيل في التّوفيق بين الآيات وجوه:

الأوّل: ما أفاده العلّامة: في «ميزانه» و تبعه من تبعه، و حيث كان هذا الوجه مقبولا بين العلماء مدّة تقرب خمسين سنة؛ لنقلهم مختاره في كتبهم و محاوراتهم بلا إيراد و نقد عليه على ما رأيت، قصدت نقل كلامه بتمامه، ثمّ بيانه و نقده جزءا فجزءا حتّى لا يبقى لأحد محلّ إبهام في مورد من كلامه.

______________________________

(1)- الإسراء/ 106.

(2)- البقرة/ 185.

(3)- الدّخان/ 2.

(4)- القدر/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 627

و أقول و عليه التّكلان: قال في «الميزان» بعد ردّ جملة من الأقوال: و الّذي يعطيه التّدبّر في آيات الكتاب

أمر آخر، فإنّ الآيات النّاطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة القدر منه إنّما عبّرت عن ذلك بلفظ الإنزال الدّال على الدّفعة دون التّنزيل، كقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، و قوله تعالى: حم* وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «1». و قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2».

و اعتبار الدّفعة إمّا بملاحظة اعتبار المجموع في الكتاب أو البعض النّازل منه، كقوله تعالى: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ «3» ... [إلى أن ذكر قوله: (و إنّ تلك الحقيقة أنزلت على النّبيّ إنزالا فعلّمه اللّه بذلك حقيقة ما عناه بكتابه) كما بيّنّا عنه في ذيل آية شَهْرُ رَمَضانَ ... ثمّ قال:] و مجمل كلامه من بدايته إلى نهايته هو أنّ للقرآن حقيقة غير هذا الّذي نزل مفرّقا، و هذا القرآن ليس بقرآن حقيقة، بل مثاله و لباسه و عكسه و ظلاله.

و هذه الحقيقة الّتي يسمّيه بها هي أصل القرآن، و ليس فيه فصل و تفريق و آية و سورة، إنّما هو على إحكامه و إتقانه بلا تجزئة أو تفريق، أو وجود أيّ لفظ- عربيّا كان أو غيره- نزلت جملة على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله في شهر رمضان. و استدلّ عليه بسبعة آيات كما مرّ منه مع توضيحه و بيانه.

و جعل مبنى ذلك كلّه في رفع الإشكال من التّعارض بين الآيات، الفرق بين الإنزال الدّال على الإنزال الدّفعيّ، و بين التّنزيل الدّال على النّزول التّدريجيّ.

و حيث كان هذا الفرق كالأصل لمدّعاه كان من اللّازم بيان موارد استعمال هذين اللّفظين في الكتاب العزيز و اللّغة، و بيان نقض مدّعاه، و عدم مساعدة القرآن و اللّغة عليه.

[الفرق بين الإنزال و التّنزيل]

فنقول: الفرق بين الإنزال

و التّنزيل بما ذكره ليس من المسلّم به بين أهل اللّغة؛ قال

______________________________

(1)- الدّخان/ 1- 3.

(2)- القدر/ 1.

(3)- يونس/ 24.

نصوص في علوم القرآن، ص: 628

الفيّوميّ: نزلت به و أنزلته و نزّلته بمعنى. و في القاموس: نزّله تنزيلا و أنزله إنزالا و منزّلا ...

و استنزلته بمعنى.

و في أسئلة القرآن المجيد و أجوبتها لأبي بكر الرّازيّ في أوّل سورة آل عمران:

و الّذي وقع لي فيه في الفرق بين الإنزال و التّنزيل و اللّه أعلم أنّ التّضعيف في (نزّل) و الهمزة في (أنزل) كلاهما للتّعدية؛ لأنّ نزل فعل لازم في نفسه، و إذا كانا للتّعدية لا يكونان بمعنى آخر و هو التّكثير أو نحوه؛ لأنّه لا نظير له، و إنّما جمع بينهما و المعنى واحد- و هو التّعدية- جريا على عادة العرب في افتنانهم في الكلام، و تصرّفهم فيه على وجوه شتّى «1».

و علم ممّا ذكرنا أنّ الفرق بين الإنزال و التّنزيل بما ذكره العلّامة، ليس له دليل يعتمد عليه في كتب اللّغة.

و لعلّ أوّل من فرّق بينهما في كتب التّفسير هو صاحب الكشّاف، و تبعه من تبعه من المفسّرين بلا تحقيق.

و أمّا ما أفاده الرّاغب: و الفرق بين الإنزال و التّنزيل في وصف القرآن و الملائكة، أنّ التّنزيل يختصّ بالموضع الّذي يشير إليه إنزاله مفرّقا و مرّة بعد أخرى، و الإنزال عامّ.

فشي ء غير ما ذكروه؛ لأنّ الرّاغب لم يقل بالدّفعة في الإنزال، بل قال: عامّ.

و منه يعلم أنّ من نسب الفرق المذكور إليه غير صحيح، مضافا إلى أنّه لم يعلم وجه تقييده بالقرآن و الملائكة، مع أنّ الاستعمالات القرآنيّة لا تؤيّده كما سيأتي. هذا ما تقتضيه كتب اللّغة، و هو عدم الفرق.

و أمّا الاستعمالات القرآنيّة فهي أيضا

لا تساعد الفرق المذكور، فنشير إلى بعض الموارد الّتي استعمل فيها التّنزيل في الدّفعيّ؛

المورد الأوّل: قوله تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ «2».

فالآية كما ترى استعمل لفظ التّنزيل فيها في مقام الدّفعيّ؛ لأنّ من المسلّم أنّ التّوراة

______________________________

(1)- أسئلة القرآن و أجوبتها: 26.

(2)- آل عمران/ 93.

نصوص في علوم القرآن، ص: 629

أنزلت دفعة.

و قد أشير إلى ذلك في أوّل سورة آل عمران ذيل تفسير الآية نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ «1».

حيث قال العلّامة: و يقال: إنّه استعمل التّنزيل في القرآن و الإنزال في التّوراة و الإنجيل؛ لنزولهما دفعة و القرآن تدريجا. [ثمّ ذكر قول صاحب الكشّاف، كما تقدّم عنه، فقال:] و الحال أنّها بمرأى منه؛ لأنّ الآيتين في سورة واحدة.

و هذا النّقض كاف في ردّ كلامه، بلا حاجة إلى ذكر موارد استعماله في القرآن، إلّا أنّه نذكر موارد أخر لزيادة البصيرة.

المورد الثّاني: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا «2». الملائكة: جمع لملك، و في الآية استعملت الملائكة في الجمع، و لذا أتت صفتها بلفظ الجمع يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ. و استعمل الملك في المفرد لمكان قوله:

رَسُولًا. فإذا تقرّر ذلك، و قد ظهر أنّه استعمل التّنزيل في الملك و هو غير قابل للتّدريج؛ لأنّه لا معنى للتّدريج في الملك الواحد، فعلم أنّ الإنزال و التّنزيل بمعنى.

فلذا نرى أنّه استعمل في القرآن في الملك مرّة بالتّنزيل كهذه الآية، و أخرى بالإنزال و التّنزيل كقوله تعالى: لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ «3».

فعلم ان هذا

إلّا تفنّنا في العبارة.

المورد الثّالث: قوله تعالى في قصّة إبراهيم عليه السّلام: وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً «4»، فقوله تعالى في الآية: ما لَمْ يُنَزِّلْ استعمل في غير التّدريج؛ لأنّ المراد من «سلطان» الحجّة و البرهان، فحينئذ لا يناسب أن يقال: ما دام لم ينزل تدريجا حجّة و برهانا؛ إذ ليس في المورد نظر إلى

______________________________

(1)- آل عمران/ 3.

(2)- الإسراء/ 95.

(3)- الأنعام/ 8 و 81.

(4)- الأنعام/ 81.

نصوص في علوم القرآن، ص: 630

التّدريجيّ، فاستعمال التّدريج يكون بلا وجه، سيّما أنّ المقام من باب السّالبة بانتقاء الموضوع؛ لأنّه ليس في الواقع دليل على الشّركة حتّى ينزل.

المورد الرّابع: قوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ ... «1»، و قوله تعالى: لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ «2»، و قوله تعالى: وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ «3».

ففي الآيات الثّلاث استعمل التّنزيل في الدّفعيّ؛ لأنّ الظّاهر أنّهم طلبوا منه صلّى اللّه عليه و آله الكتاب مجموعا لا مفرّقا. فلذا قال العلّامة؛ في ذيل الآية الأولى: «الآيات تذكر سؤال أهل الكتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تنزيل كتاب من السّماء عليهم؛ حيث لم يقنعوا بنزول القرآن بوحي الرّوح الأمين نجوما».

و كما قال في الكشّاف: «روي أنّ كعب بن الأشرف و فنحاص بن عازوراء و غيرهما قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إن كنت نبيّا صادقا، فأتنا بكتاب من السّماء جملة كما أتى به موسى عليه السّلام، فنزلت الآية».

و الحاصل أنّ التّنزيل استعمل في هذه الموارد الثّلاثة في

الدّفعيّ، مع أنّها غير قابلة للتّأويل و التّوجيه.

المورد الخامس: قوله تعالى: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ... «4». الآية تدلّ على أنّهم اقترحوا منه صلّى اللّه عليه و آله نزول آية من ربّه، و معلوم أنّهم ما اقترحوا آية تدريجيّة، بل طلبوا آية دفعيّة. و لذا قال في الكشّاف: نزّل بمعنى أنزل «5». نصوص في علوم القرآن 630 [الفرق بين الإنزال و التنزيل] ..... ص : 627

قد سألوا منه صلّى اللّه عليه و آله آيات متعدّدة، كلّها غير تدريجيّ وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى

______________________________

(1)- النّساء/ 153.

(2)- الأنعام/ 7.

(3)- الإسراء/ 93.

(4)- الأنعام/ 37.

(5)- الكشّاف 1: 503.

نصوص في علوم القرآن، ص: 631

تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ ... «1».

و لا معنى لسؤالهم تفجير الينبوع أو تحقّق الجنّة تدريجا، بل طلبوا منه صلّى اللّه عليه و آله آية و معجزة، فهي لا تكون إلّا دفعة و آنا.

و إن أبيت عن ذلك فنقول: إنّ الآية لا نظر فيها إلى التّدريج قطعا، سيّما بالنّظر إلى قوله تعالى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً ... «2»؛ لأنّ قدرته مطلقة يناسب عدم تقييده بالتّدريج.

و من هنا يعلم أنّ ما أفاده العلّامة في توجيه الآية، و في قوله تعالى: نُزِّلَ و يُنَزِّلَ مشدّدين من التّفعيل، دلالة على أنّهم اقترحوا آية تدريجيّة، أو آيات كثيرة تنزّل واحدة بعد واحدة، كما يدلّ عليه ما حكي من اقتراحهم في موضع آخر من كلامه تعالى:

وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ إلى أن قال: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ

عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ «3».

إلى أن قال: و روي عن ابن كثير أنّه قرأ بالتّخفيف، غير صحيح؛ لأنّ الآيات المقترحة من عندهم الإتيان باللّه عزّ و جلّ، و نزول الملك، و تفجير الينبوع، و وجود الجنّة، و إسقاط السّماء كسفا، و كون البيت من الذّهب و الفضّة، و نزول القرآن، كلّها أو جلّها دفعيّ و غير قابل للتّدريج.

و أمّا قوله: «أو آيات كثيرة تنزّل واحدة بعد واحدة» فهو في غاية الضّعف؛ لأنّ الآيات ذكرت ب (أو) الدّالة على أنّهم طلبوا واحدة منها لا كلّها، و كأنّه توجّه لضعف كلامه، و أشار في ذيله إلى وجه آخر بقوله: و روي عن ابن كثير أنّه قرأ بالتّخفيف. و هو و إن كان صحيحا في نفسه إلّا أنّه قراءة شاذّة.

المورد السّادس: قوله تعالى: قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ... «4»، فمن

______________________________

(1)- الإسراء/ 91- 92.

(2)- الأنعام/ 37.

(3)- الإسراء/ 93.

(4)- الفرقان/ 32.

نصوص في علوم القرآن، ص: 632

المعلوم أنّ الكفّار حيث أنكروا نزول القرآن عليه تدريجا، فقالوا في مقام الاعتراض:

لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً .... و معنى جُمْلَةً واحِدَةً أن يكون مكتوبا مثل التّوراة المكتوبة في الألواح.

و يؤيّده- بل يدلّ عليه- قوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ «1».

و قد تقدّم منّا نقل خبر عن الكشّاف أنّهم قالوا تأتينا بكتاب من السّماء جملة كما أتى به موسى عليه السّلام.

فتحصّل أنّ استعمال التّنزيل في المقام إنّما يصحّ على عدم الفرق؛ لأنّه لو فرض أنّ التّنزيل للتّدريج، لا معنى لأن يقال: لو لا نزّل عليه القرآن جملة واحدة في كتاب.

و لو فرض فرضا بعيدا أنّ نزول القرآن جملة واحدة قابل للتّدريج، بأن

ينزّل جبرائيل عليه السّلام من أوّل القرآن إلى آخره في مجلس واحد- حيث أنّ هذا عين التّدريج كما فرضه العلّامة في المقام- لا يستقيم أن يقال: إنّ التّنزيل بمعنى التّدريج؛ لأنّ نزول القرآن تدريجا معناه هو ما وقع في الخارج من نزول القرآن قريب عشرين سنة.

فإذا فرض أن ينزّل في مجلس واحد فهو دفعيّ، فيناسب الإنزال على مبناه، مع أنّ حمل جُمْلَةً واحِدَةً على نزوله في زمان ممتدّ على ما أفاده، مشكل جدّا.

المورد السّابع: قوله تعالى: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ... قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا ... قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ «2».

فالمائدة- على ما هو الظّاهر- هو الطّبق الّذي عليه الطّعام كما في المفردات، ففي الآيات المتواصلة جي ء في ثلاثة موارد، الإنزال و التّنزيل في طلب المائدة. فالشّي ء الواحد- و هو الطّبق من الطّعام- لا يصحّ التّعبير عنه بالإنزال مرّة بمعنى الدّفعيّ،

______________________________

(1)- النّساء/ 153.

(2)- المائدة/ 112- 115.

نصوص في علوم القرآن، ص: 633

و بالتّنزيل أخرى بمعنى التّدريجيّ، فعلم أنّ الفرق المذكور لا أساس له.

هذا مع أنّ كلام العلّامة في ذيل الآية يدلّ على عدوله عن فرقه الّذي بنى عليه في حلّ المسألة، نزول القرآن في شهر رمضان، و اعتقاده أنّ للقرآن نزولين؛ حيث قال في ذيل قوله تعالى: قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ ...: قرأ أهل المدينة و الشّام و عاصم مُنَزِّلُها بالتّشديد، و الباقون «منزلها» بالتّخفيف على ما في المجمع، و التّخفيف أوفق؛ لأنّ الإنزال هو الدّال على النّزول الدّفعيّ، و كذلك نزلت

المائدة. فأمّا التّنزيل فاستعماله الشّائع إنّما هو في النّزول التّدريجيّ كما تقدّم مرارا، انتهى كلامه.

و أنت ترى صراحة كلامه في شيوع استعمال التّنزيل في التّدريج لا أنّ معناه ذلك، مع أنّه قال في ذيل قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ: إنّ معنى التّنزيل هو التّدريج فقط.

و لو تخلّص عن المخمصة بقوله: و التّخفيف أوفق، فما يقول في قوله تعالى: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ «1»، بالتّشديد، و لم ينقل من أحد قراءته بالتّخفيف، فعلم أنّ الإنزال و التّنزيل بمعنى واحد.

و من هنا قال في المجمع ذيل الآية: و الوجه في التّشديد أنّ «نزّل» و «أنزل» بمعنى واحد، يعني أنّ عدم موافقة جوابه تعالى بعيسى عليه السّلام لا يضرّ؛ لأنّ «أنزل» و «نزّل» واحد.

هذا تمام الكلام من ناحية التّنزيل، و أمّا الإنزال فإثبات استعماله في مقام التّدريج أمر مشكل بملاحظة توجيه العلّامة الآيات الّتي استعملت التّنزيل في التّدريج؛ لأنّ كلّ مورد قلنا: إنّه استعمل في مقام التّدريج، يقول: إنّه باعتبار المجموع، كما أفاد في بيان الآيات الواردة في الغيث و أمثاله، مع أنّه ادّعاء صرف، لا وجه له.

نعم، لو كان الفرق المذكور فرقا أساسيّا لا بدّ من المصير إلى هذا التّوجيه، إلّا أنّ دون إثباته خرط القتاد.

و مع هذا جاءت في القرآن موارد استعمل الإنزال في مقام التّدريج، و نشير إلى

______________________________

(1)- المائدة/ 112.

نصوص في علوم القرآن، ص: 634

بعضها: منها قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً «1»، و الثّجّاج كما في مجمع البيان، أي صبّابا دفّاعا في الصّبابة و قيل: مدرارا، عن مجاهد، و قيل: متتابعا يتلو بعضه بعضا، عن قتادة. و في تفسير القمّيّ: ماء ثجّاجا، قال

صبّا على صبّ. و أنت ترى أنّ المعاني كلّها تفيد التّكثير لا الدّفعيّ، و لو كان للفرق أساس كان المناسب أن يقول تعالى:

وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً. فاستعمال الإنزال الّذي يفيد الدّفعيّ على اعتقاد العلّامة في الآية يدلّ على أنّه لا فرق بينهما.

و منها قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «2».

أقول: الإنزال لم يستعمل في المقام بمعنى الدّفعة؛ لأنّ الإنزال لو دلّ على الدّفعة يكون المعنى لو أنزلنا هذا القرآن دفعة على جبل لرأيته خاشعا متصدّعا من خشية اللّه.

فحينئذ يمكن أن يقال: إنّ هذا أثر للدّفعة، فلو أنزل القرآن لنا دفعة فيؤثّر فينا أيضا.

فعلم أنّه لا أساس للدّفعيّ في الإنزال، و إلّا يلزم اختلاف المثال مع الممثّل، و هذا لا يصحّ. فالمعنى لو أنزلنا هذا القرآن على جبل بنحو ما أنزلنا عليكم لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً ....

هذا مع أنّ ادّعاء إنّ الإنزال للدّفعيّ لا وجه له أصلا؛ لأنّ ما قيل في التّفعيل من التّدريج لا يجوز في الإفعال، لأنّه ليس للدّفعيّ في باب الإفعال عين و لا أثر، و لم يقل به أحد، و ما رأيته في واحد من كتب اللّغة.

و الخلاصة أنّ الفرق بين الإنزال و التّنزيل لا أساس له لغة و استعمالا، هذا تمام الكلام في الإنزال و التّنزيل.

و أمّا أصل المدّعى للعلّامة أنّ للقرآن حقيقة غير ما بأيدينا، و غير ما يفهمه النّاس، فقد تكلّم فيه في ذيل الآية: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «3». و تكلّم أيضا في ذيل قوله تعالى: الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ

______________________________

(1)- النّبأ/ 15.

(2)- الحشر/ 21.

(3)- البقرة/ 185.

نصوص في علوم القرآن، ص:

635

تَأْوِيلِهِ ... «1»؛ قال: إنّ للقرآن حقيقة غير ما نفهمه، و هو المتّصف بالإحكام، و هذا القرآن النّازل تدريجا هو المتّصف بالتّفصيل، و أنّ المراد من تأويل القرآن أيضا هو هذه الحقيقة.

و لا بدّ لتحقيق مدّعاه من المرور إلى الآيات الّتي استدلّ بها على ذلك فنقول:

الآية الأولى: قوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ «2».

قال في الميزان: و هذا الاحتمال الثّاني (كون القرآن ذا حقيقة أخرى) هو اللّائح من الآيات الكريمة، كقوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ «3»، فإنّ هذا الإحكام مقابل التّفصيل، و التّفصيل هو جعله فصلا فصلا و قطعة قطعة.

فالإحكام كونه بحيث لا ينفصل فيه جزء عن جزء، و لا يتميّز بعض عن بعض؛ لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء فيه و لا فصول.

و الآية ناطقة بأنّ هذا التّفصيل المشاهد في القرآن إنّما طرأ عليه بعد كونه محكما غير مفصّل «4»، انتهى كلامه.

قلت: و من المعلوم أنّ «الكتاب» مرفوع خبر لمبتدإ محذوف، و التّقدير هو أو هذا كتاب، و المشار إليه هو هذا القرآن المعهود، و إلّا لا يجوز حذف المبتدأ؛ لعدم القرينة.

فالمعنى هذا القرآن كتاب أحكمت آياته ثمّ فصلّت، و المحكم هو في اللّغة المضبوط المتقن «5». و في المجمع: المحكم مأخوذ من قولك: أحكمت الشّي ء، إذا أتقنته «6».

و التّفصيل معناه التّبيين- كما يأتي بيانه- فالمعنى هذا القرآن كتاب متّصف بأنّه محكم بلا تزلزل، و مبيّن بلا إبهام، و ثمّ للتّرتيب اللّفظيّ.

فعلم ممّا ذكرنا أنّ ما أفاده العلّامة في المقام غير صحيح، و لا معنى لجعل التّفصيل

______________________________

(1)- آل عمران/ 6.

(2)- هود/ 2.

(3)- هود/ 2.

(4)- الميزان 2: 14.

(5)- مجمع البحرين- (مادّة حكم).

(6)- 2:

408.

نصوص في علوم القرآن، ص: 636

صفة له باعتبار لفظه، فلذا أتى في تفسير سورة هود ما يوافق ما ذكرنا؛ حيث قال:

فإنّما يتّصف بهما من جهة ما يشتمل عليه من المعنى و المضمون لا من جهة ألفاظه، إلى أن نقل ما اختاره فى سورة البقرة و ردّه بأشدّ ردّ؛ حيث قال: كقول بعضهم؛ إنّ المراد أحكمت آياته جملة ثمّ فرّقت في الإنزال آية بعد آية؛ ليكون المكلّف متمكّنا من النّظر و التّأمّل «1».

و قال فيه: إنّ الأحرى بهذا الوجه أن يذكر في مثل قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «2». و قوله تعالى: قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «3».

و هذا القول الّذي نقله عن البعض و ردّه هو القول نفسه الّذي كتبه في سورة البقرة كما مرّ آنفا.

و الحاصل أنّ التّدبّر في الآية يعطينا أنّ الكتاب الّذي بأيدينا متّصف بوصفين:

الإحكام و التّفصيل، دون ما في اللّوح و حقيقة القرآن- كما ادّعى؛ لأنّ الإحكام و التّفصيل متعلّق بالآيات؛ حيث قال: أُحْكِمَتْ آياتُهُ، فلو فرض كونه هو ممثّل القرآن و حقيقته، فليس له هناك آية، فعلى هذا ليس الإحكام صفة للكتاب الّذي هو الممثّل و الحقيقة في العالم العلويّ.

و علم منه أيضا أنّه ليس المراد من التّفصيل كونه قطعة قطعة، و آية آية، بل المراد أنّ آياته مع كونه محكما متقنا مفصّل، و تفصيله إمّا باعتبار أنّه يذكر القصص و الإحكام و العقائد بلا انحصار في شي ء منها، و إمّا باعتبار بيانه؛ لأنّ المحكم كأنّه يلوح منه أنّ مطالبه مجملة مندمجة، و الحال أنّه فصلّت و أوضحت آياته، كما قال في المفردات:

كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ إشارة إلى ما قال: تِبْياناً لِكُلِّ

شَيْ ءٍ.

و التّدبّر في ذيل الآية مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ يؤيّد ما ذكرناه؛ حيث أنّ قوله:

حَكِيمٍ يناسب إتقان الآيات، فكأنّه يقول: إنّما أتقن لأنّه حكيم له الإتقان. و قوله:

خَبِيرٍ يناسب تبيين الآيات؛ لأنّه عالم بالأمور و الخفايا.

______________________________

(1)- الميزان 10: 142- 143.

(2)- الدّخان/ 2.

(3)- الإسراء/ 106.

نصوص في علوم القرآن، ص: 637

و إن شئت توضيحه فنقول: التّفصيل هو التّمييز و التّبيين، و كلّما اتّصف القرآن و الكتاب به هو هذا المعنى.

و إذا راجعنا نفس القرآن نجده وافيا بالمدّعى، فانظر إلى قوله تعالى: وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ ... «1».

هل يحتمل عاقل كون التّفصيل هنا بمعنى التّقطيع؟ فإنّ معناه يكون حينئذ لقالوا:

لو لا قطّعت آياته، بل إنّهم حيث لم يفهموا لسان العجم يحسبونه حينئذ مجملا، فيقولون بلسان الاعتراض: لو لا فصلّت، أي لو لا بيّنت و تميّزت آياته.

و كذا قوله تعالى: تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ «2»، و قوله تعالى: وَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا «3»، و قوله تعالى: وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ «4»، و كذا كلّ آية اشتملت على كلمة التّفصيل. إذا تقرّر هذا فقد اتّضح أنّ ما أفاده العلّامة في معنى الإحكام و التّفصيل لا أساس له.

الآية الثّانية و الثّالثة: قوله تعالى: وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ* هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ «5». و قوله تعالى: وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ

وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ... «6».

و اعتقد العلّامة أنّ الآيتين كالآية السّابقة دالّة على أنّ تفصيل القرآن أمر طارئ على الكتاب، فالكتاب شي ء، و التّفصيل الّذي يعرضه شي ء آخر، و أنّهم إنّما كذّبوا بالتّفصيل من الكتاب؛ لكونهم ناسين لشي ء يؤول إليه هذا التّفصيل و غافلين عنه،

______________________________

(1)- فصّلت/ 44.

(2)- الأعراف/ 145.

(3)- الإسراء/ 12.

(4)- الأنعام/ 119.

(5)- الأعراف/ 52 و 53.

(6)- يونس/ 39.

نصوص في علوم القرآن، ص: 638

و سيظهر لهم يوم القيامة و ينظرون إلى علمه و لا ينفعهم النّدم. و قال: و فيها إشعار بأنّ أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب.

قلت: أمّا كلامه في مورد التّفصيل، فقد مرّ بنا بيانه في الآية الأولى بأنّ تفصيل القرآن هو بيانه.

و بناء على ما قلنا يكون معنى قوله تعالى: بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ بيّنّاه على علم، و التّعليق على العلم باعتبار أنّ البيان و الإيضاح محتاج إلى العلم، و لا يناسب الجملة أن يكون المعنى قطّعناه و جعلناه آية آية على علم، مضافا إلى ما مرّ بنا آنفا أنّ استعمال التّفصيل في القرآن إنّما هو بمعنى التّبيين.

و أمّا قول العلّامة رحمه اللّه إنّ أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب، فليس المقام مقام بحثه و تحقيقه. و مع ذلك نشير إليه إجمالا، فنقول: الّذي يظهر من كلامه في موارد متعدّدة من كتابه أنّ التّأويل هو حقيقة القرآن، و يدّعي أنّه ليس فيه أيّ لفظ، و ليس قابلا للفهم، إلّا أنّه قيّده اللّه تعالى بالألفاظ ليقرّبها إلى الأذهان.

قال في تفسير سورة آل عمران: و تأويل القرآن هو المأخذ الّذي يؤخذ منه معارفه.

و قال في صفحة (25): بل هو من الأمور الخارجيّة العينيّة. و قال في صفحة (49): إذا عرفت هذا، إنّ الحقّ في

تفسير التّأويل أنّه الحقيقة الواقعيّة الّتي تستند إليها الآيات القرآنيّة من حكم أو موعظة أو حكمة، و أنّه موجود لجميع الآيات القرآنيّة محكما و متشابها، و أنّه ليس من المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ، بل هي من الأمور العينيّة المتعالية من أن يحيط بها مشبّكات الألفاظ، و إنّما قيّده اللّه سبحانه بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا، فهي كالأمثال تضرب ليقرّب بها المقاصد. و كذا في صفحة (55) و صفحة (65) و صفحة (54) من سورة آل عمران.

و قال في سورة البقرة ذيل بيان قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ...: و فيها إشعار بأنّ أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب.

فظهر من تمام ما ذكره أنّ التّأويل هو حقيقة القرآن الّذي ليس فيه أيّ لفظ و آية، و هو الّذي نزل إلى قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في شهر رمضان جملة، و هذا المعنى هو الّذي لا يفهمه

نصوص في علوم القرآن، ص: 639

البشر العادي.

قلت: الحقّ عندنا أنّ التّأويل هو ما يستند إليه الكلام من الإخبار و الإنشاء، فكلّ واحد منهما تأويل بحسبه، ففي الإخبار أنّ التّأويل هو ما مضى و يأتي من مطابق الإخبار، كما يظهر من بعض، أو المصلحة و المفسدة.

و في الإنشاءات هو الحكمة و المصلحة المقتضية للأمر و النّهي و التّهديد و نحوها.

و يؤيّده بل يدلّ عليه الاستعمالات القرآنيّة، كقوله تعالى: يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ «1»، أي مطابقة، فتدلّ أنّ مطابق الخبر هو التّأويل.

و نظيره قوله تعالى: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ «2»، و قوله تعالى: إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ «3».

و أمّا قوله تعالى: ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً «4»، فقد استعمل التّأويل في المصلحة و الحكمة. و كذا قوله تعالى: سَأُنَبِّئُكَ

بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً «5».

و ممّا ذكرنا يعلم تفسير قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ «6». فمعنى قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ، أي مجي ء مطابقه، و هو تحقّق يوم الجزاء، يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ، أي مطابقه، و هو يوم الجزاء، يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ، أي نسوا تأويله، مِنْ قَبْلُ، أي في الدّنيا، قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ، فحينئذ أقرّوا بأنّ ما جاءت و أخبرت به الرّسل عن يوم الجزاء كان حقّا باعتبار ثبوت ذلك اليوم بالمعاينة.

و كذا قوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ «7»، أي مطابقه يوم القيمة، و حيث لم يدركوا مطابقه أنكروه كما أنكر من قبلهم، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.

______________________________

(1)- يوسف/ 100.

(2)- يوسف/ 36 و 37.

(3)- يوسف/ 36 و 37.

(4)- الكهف/ 82.

(5)- الكهف/ 78.

(6)- الأعراف/ 53.

(7)- يونس/ 39.

نصوص في علوم القرآن، ص: 640

و اعلم أنّ العلّامة حيث فسّر التّأويل بالحقيقة الّتي ادّعاها فاضطرّ هنا أن يلتزم وجود التّأويل و الحقيقة لكلمات الأنبياء السّلف؛ حيث قال في تفسير الآية: فلما جاء به سائر الأنبياء من أجزاء الدّعوة الدّينيّة من معارف و أحكام تأويل. كما أنّ لمعارف القرآن و أحكامه تأويلا، من غير أن يكون من قبيل المفاهيم. و لا يخفى ما فيه من البعد؛ لأنّ التّأويل على ما ادّعاه كان أمرا مخصوصا للقرآن، و أنّ له ممثّلا و حقيقة غير قابلة للفهم.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ مراده من التّأويل شي ء آخر غير ما استظهرناه؛ حيث أنّ كلماته في بيان مراده متشتّتة و مختلفة.

و يظهر من بعض موارده أنّ التّأويل شي ء آخر، و هو

الحكمة و المصلحة، كما يظهر في تفسير سورة آل عمران «1» و في موارد أخر يجده المتتبّع لكلامه.

فعليه لا نتحاشى أن يكون لكلماتهم: تأويلا، بل كلّ كلام له تأويل بهذا المعنى، و هو حينئذ يكون قريبا ممّا ذكرنا، إلّا أنّه بهذا المعنى لا يصحّ قوله: لكونه قرآنا في اللّوح المحفوظ، و أنّه كان هناك على إحكام و اندماج بلا أيّ لفظ من مشتبكات الألفاظ، و أنّه هو النّازل عليه صلّى اللّه عليه و آله في شهر الصّيام، و ثمّ فصّلت و قطّعت آية آية و سورة سورة، و إنّه هو الّذي كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عالما به على ما ادّعاه؛ بحيث كان يقرأ قبل جبرائيل عليه السّلام، حتّى نهى اللّه عنه بقوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ، مع قوله: إنّ أصل الكتاب تأويله و تفصيله.

و على أيّ حال ليس المقام محلّا لنقض كلامه و إبرامه؛ لأنّه بحث طويل الذّيل، لعلّ اللّه عزّ و جلّ يوفّقنا للبحث فيه بصورة كامله.

الآية الرّابعة: قوله تعالى: حم* وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ «2».

قال العلّامة في مقام الاستدلال بها: فإنّه ظاهر في أنّ هناك كتابا عرض عليه جعله مقروء عربيّا، و إنّما ألبس لباس القراءة و العربيّة ليعقله النّاس، و إلّا فإنّه في أمّ الكتاب

______________________________

(1)- الميزان 3: 53.

(2)- الزّخرف/ 1- 4.

نصوص في علوم القرآن، ص: 641

عند اللّه لَعَلِيٌّ: لا تصعد إليه العقول، حَكِيمٌ: لا يوجد فيه فصل و فصل. و في الآية تعريف للكتاب المبين، و أنّه أصل القرآن العربيّ المبين.

أقول: ظاهر كلامه أنّ المراد من الكتاب في الموردين هو ما في اللّوح المحفوظ،

و المبين صفته، و أنّه جعله مقروء عربيّا ليعقله النّاس، و إلّا فإنّه في أمّ الكتاب لا تناله العقول. و هو غير صحيح لوجهين؛

الأوّل: توصيفه بلفظ المبين؛ لأنّ الإبانة بمعنى الإظهار و التّبيان، و هذا لا يناسب الكتاب الموجود في اللّوح المحفوظ؛ لعدم الإبانة فيه، بل على ما اعتقده أنّ القرآن هناك على وجه الاندماج و الإحكام.

الثّاني: أنّ لازم كلامه أنّ ما في اللّوح المحفوظ في اللّوح المحفوظ؛ لأنّه قال في المقام: الضّمير يرجع إلى الكتاب، و قال: إنّ هناك كتابا عرض عليه جعله مقروءا، فيكون المراد من الكتاب هو ما في اللّوح المحفوظ، و مراده من أمّ الكتاب هو اللّوح المحفوظ كما أقرّ نفسه «1».

فيكون المعنى أنّ الكتاب المبين الّذي في اللّوح المحفوظ هو في اللّوح المحفوظ، و لا يخفى عدم صحّته، و لعلّه لم يتوجّه بأنّ نتيجة بيانه ذلك.

فالتّفسير الصّحيح هو أن يقال: إنّ الكتاب المبين هو القرآن الموجود بأيدينا. و المراد من جعله عربيّا إيجاده قرآنا بلفظ عربيّ، و إنّما جعل كذلك لعلّكم تعقلون، كما قال تعالى:

وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ «2».

و ممّا ذكرنا يعلم أنّ ما أفاده في تفسير الآية ... إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ... «3»، غير صحيح، بل فيه نوع من التّهافت، و الوجه في ذلك يظهر بالتّأمل في بيانه.

و أمّا أمّ الكتاب، و أنّه ما ذا؟ فأقول فيه ما قاله الخليل: كلّ شي ء ضمّ إليه سائر ما يليه يسمّى أمّا؛ قال تعالى: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ، أي اللّوح المحفوظ، و ذلك لكون العلوم

______________________________

(1)- الميزان 18: 86.

(2)- فصّلت/ 44.

(3)- الزّخرف/ 1- 4.

نصوص في علوم القرآن، ص: 642

كلّها منسوبة إليه متولّدة منه «1».

فحينئذ

يكون المراد من الكتاب، الكتاب الجامع لكلّ شي ء من التّوراة و الإنجيل و القرآن و غيرها، و هذا الكتاب الموجود بأيدينا متّخذ منه، و هو أمّ الكتاب، و هو عند اللّه محفوظ، لَعَلِيٌ؛ لعلوّ مكانته، و حَكِيمٌ، أي ذو إحكام أو ذو حكمة، و هو أمر صحيح نقول به، إلّا أنّه لا يدلّ على شي ء من معتقده، و هو دلالة الآية على كون القرآن في اللّوح المحفوظ على وجه الإحكام و الاندماج، ثمّ فصّلت آية آية، و ألبس لباس القراءة و العربيّة؛ لأنّه خلاف ظاهر الآية، لعدم تلائم صدر الآية مع ذيلها كما مرّ.

و لو سلّمنا بصحّة تمام كلامه من أوّله إلى آخره، فلا يدلّ على أنّه نزل جملة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنّه هو النّازل في شهر رمضان، بل هو حدس صرف بلا دليل.

الآية الخامسة: قوله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ «2».

قال العلّامة: فإنّه ظاهر في أنّ للقرآن موقعا هو في الكتاب المكنون لا يمسّه هناك أحد إلّا المطهّرون من عباد اللّه، و أنّ التّنزيل بعده، و أمّا قبل التّنزيل فله موقع في كتاب مكنون عن الأغيار، و هو الّذي عبّر عنه في آيات الزّخرف بأمّ الكتاب، و في سور البروج باللّوح المحفوظ .. الخ.

قلت: التّدبّر في الآيات يعطينا أنّ اللّه أتى بالقرآن في المقام بصفات عديدة؛

الأولى: ال كَرِيمٌ.

الثّانية: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ.

الثّالثة: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ.

الرّابعة: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.

فعليه يكون ظاهر قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ: أنّ هذا القرآن الموجود بأيدينا لا يمسّه إلّا المطهّرون، لا ما استفاده العلّامة من إرجاع الضّمير إلى كتاب مكنون؛

______________________________

(1)- مفردات الرّاغب

مادّة «أمّ».

(2)- الواقعة/ 77- 80.

نصوص في علوم القرآن، ص: 643

ليكون المعنى أنّ هذا القرآن في العالم الأعلى مكنون و محفوظ، بحيث لا يمسّه إلّا المطهّرون، و هم الأئمّة عليهم السّلام مثلا. و لا يخفى بعده؛ لأنّه تكون الجملة حينئذ كالمعترضة، فيكون قوله: تَنْزِيلٌ صفة ثالثة للقرآن.

هذا إجمال المطلب، و إن شئت التّفصيل فنقول: إنّ غرض السّورة تقسيم النّاس في يوم القيامة، و يشعر في ضمنه إلى حال المكذّبين للقيامة و القرآن، و من هنا يقول تعالى:

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، و الضّمير للقرآن المعلوم من السّياق.

و المعنى ما بيّنت لكم لقرآن كريم نافع للنّاس؛ لاحتوائه المعارف الّتي فيها السّعادة للبشر، و هذا القرآن المحتوي للسّعادة في كتاب مكنون، و الكتاب المكنون هو ما في اللّوح المحفوظ، أثبت اللّه فيه القرآن، و هذا هو المعروف بينهم في تفسير كتاب مكنون.

و قد يقال: إنّه المصحف الموجود بأيدينا، و هو المنقول عن مجاهد و غيره، و يؤيّده قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «1». لأنّ المراد حفظ ما في المصحف الموجود عن التّحريف. و هذا ظاهر كلام السّيد في «الدّرر» نقلا عن ابن الأنباريّ «2».

فعلى أيّ حال- سواء كان المراد أنّ هذا القرآن في اللّوح محفوظ، أو أنّ هذا القرآن الّذي بأيدينا محفوظ لا تصله يد التّحريف- أنّ مقتضى نظم الكلام حينئذ هو أن يكون قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ صفة ثالثة للقرآن الموجود بأيدينا.

و المعروف بينهم أنّ المراد من المسّ هو اللّمس بالبدن، فيكون معنى لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، أي لا بدّ من الطّهارة حين المسّ. فحينئذ يشير إلى حكم شرعيّ، فهو إخبار في مقام الإنشاء.

و قد يقال: إنّ المسّ بمعنى الدّرك كما

في المفردات «3»: لا يَمَسُّهُ، أي لا يعلمه، فحينئذ يكون المعنى أنّ هذا القرآن الموجود لا يدركه إلّا الأفراد المطهّرون.

و أمّا العلّامة فحمل المسّ بالمعنى الثّاني؛ حيث قال في سورة الواقعة: فمسّه هو العلم

______________________________

(1)- الحجر/ 9.

(2)- الدّرر 2/ 427 ذيل مجلس الثّاني و الثّلاثون.

(3)- مفردات القرآن: مادّة «طهر».

نصوص في علوم القرآن، ص: 644

به، و جعل الجملة صفة للكتاب المكنون الّذي فيه القرآن، و هو اللّوح المحفوظ، و قال: إنّ للقرآن موقعا هو في الكتاب المكنون لا يمسّه هناك إلّا المطهّرون، و أنتج أنّ حقيقة القرآن و أصله الّذي هو خال عن التّفصيل و العربيّة هو النّازل عليه صلّى اللّه عليه و آله في شهر رمضان جملة.

و عليه يكون قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ كالجملة المعترضة بين أوصاف القرآن. و ما اختاره بعيد من وجوه؛

الأوّل: أنّه ليس غرض الآيات بيان أنّ أصل القرآن شي ء لا يفهمه أحد، و المقام لا يناسب لبيانه، بل المقام في بيان حال القرآن و أوصافه، و أنّه نافع لكرامته، و أنّه في كتاب مكنون محفوظ، لا يمكن التّصرّف فيه و التّحريف، و أنّ هذا القرآن لكرامته و عظمته لا يجوز مسّه بلا طهارة، و في المرتبة الرّابعة أنّه تنزيل من ربّ العالمين، و ليس كلام عاديّ و لا سحر و نحوه أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ «1».

الثّاني: أنّ حمل المسّ على اللّمس المعنويّ لعلّه لا شاهد له في لغة العرب، كما يفهم من لسان العرب و المفردات، و فسّر الأخير المسّ باللّمس «2».

و في المصباح المنير: مسسته، ... أفضيت إليه بيدي من غير حائل.

و أنكر المجلسيّ الأوّل رحمه اللّه استعمال المسّ في الفهم؛ قال: و إن كان لفظ المسّ ظاهرا في

المعنى الأوّل (مسّ الورق)؛ لأنّ استعمال المسّ بمعنى الفهم في العرف الجديد، و الظّاهر أنّه لم يكن في كلام العرب، و لا في عرفهم ذلك، «3» و قال مثله في شرحه الفارسيّ على «من لا يحضره الفقيه».

الثّالث: أنّ الأخبار الواردة عنهم عليهم السّلام يخالف هذا الوجه؛ لأنّ الكاظم و الباقر عليهما السّلام فسّرا لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ بالمصحف الموجود و مسّه؛ عن أبي الحسن عليه السّلام قال:

«المصحف لا تمسّه على غير طهر، و لا تمسّ خطوطه و لا تعلّقه، إنّ اللّه يقول: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ،

______________________________

(1)- الواقعة/ 81.

(2)- مفردات القرآن: مادّة «مسّ».

(3)- روضة المتّقين 1: 239.

نصوص في علوم القرآن، ص: 645

و نظيره عن الباقر عليه السّلام «1».

و في الصّافي: و في الاحتجاج: لمّا استخلف عمر سأل عليّا عليه السّلام أن يدفع إليهم القرآن فيحرّفوه فيما بينهم، فقال: يا أبا الحسن إن جئت بالقرآن الّذي جئت به إلى أبي بكر حتّى نجتمع عليه. فقال عليه السّلام: «هيهات ليس إلى ذلك سبيل، إنّما جئت إلى أبي بكر لتقوم الحجّة عليكم، و لا تقولوا يوم القيامة: إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ، أو تقولوا: ما جئتنا به، فإنّ القرآن الّذي عندي لا يمسّه إلّا المطهّرون و الأوصياء من ولدي».

و الحديث كما ترى يدلّ على أنّ الآية صفة لهذا القرآن دون ما في اللّوح المحفوظ.

فتحصّل أنّ قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ صفة للقرآن الموجود بأيدينا، و لو تنازلنا عن ذلك و قلنا: إنّ الجملة لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ صفة لكتاب مكنون، و المراد به ما في اللّوح المحفوظ، فنقول: بناء عليه الآية لا تدلّ على أنّ ما في اللّوح المحفوظ هو ممثّل القرآن و حقيقته.

بل لنا أن نقول:

إنّ ما في اللّوح المحفوظ هو ما بأيدينا بعينه، فيكون المعنى لا يمسّ القرآن الّذي في اللّوح المحفوظ إلّا المطهّرون، فمن المسلّم أنّ القرآن هناك لا يمسّه إلّا المطهّرون.

و لو تنازلنا عن ذلك أيضا و قلنا: إنّ ما في اللّوح المحفوظ هو ممثّل القرآن و حقيقته على وجه الإحكام، لا دليل لنا على أنّه هو النّازل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في شهر رمضان.

و مجرّد ادّعاء الفرق بين الإنزال و التّنزيل لا يثبت ذلك، مع أنّه مرّ بنا عدم صحّة الفرق المذكور فراجع.

الآية السّادسة و السّابعة: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ «2»، و قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... «3».

قال العلّامة في تقريب مدّعاه: و هذا هو الّذي يلوح من نحو قوله تعالى:

______________________________

(1)- وسائل الشّيعة 1: باب 12 من أبواب الوضوء.

(2)- طه/ 114.

(3)- القيامة/ 16- 19.

نصوص في علوم القرآن، ص: 646

لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، و قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ، فإنّ الآيات ظاهرة في أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان له علم بما سينزل عليه، فنهي عن الاستعجال بالقراءة قبل قضاء الوحي و سيأتي توضيحه في المقام المناسب به، انتهى كلامه.

قلت: ترد عليه أمور؛

الأمر الأوّل: أنّ الّذي استظهره من الآيتين من علم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بالقرآن قبل نزوله، بحيث كان يقرأ قبل انقضاء الوحي، فشي ء خلاف معتقده؛ لأنّه اعتقد أنّ الّذي كان في اللّوح المحفوظ- على إحكام ليس فيه أيّ فصل و آية و لفظ سواء كان

لفظا عربيّا أو غيره- نزل عليه جملة. و نهاية ما في اللّوح المحفوظ هو حقيقة القرآن بلا لباس، و هو الّذي نزل على قلب الرّسول جملة، و هذا شي ء لا يمسّه إلّا المطهّرون؛ لأنّه ليس قابلا للفهم للبشر العاديّ. فعليه من أين علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ألفاظ القرآن حتّى كان يقرأ قبل قراءة جبريل؟

نعم، هذا موافق لما صار إليه بعضهم من نزول نفس القرآن- الّذي نزل في مدّة ثلاث و عشرين سنة- في ليلة مباركة، إلّا أنّه لا يقول به.

الأمر الثّاني: أنّ الآيات تدلّ على أنّه لم يكن عالما بمضامين القرآن و هي كثيرة، منها قوله تعالى: طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى «1». و منها: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ «2».

و نحوهما سائر عتابات النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، لأنّ من المسلّم به من تفسير الآية الأولى هو أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد نزول القرآن كان يكثر من العبادة، بحيث تتورّم قدماه، فنزل طه.

فحينئذ نقول: إذا كان القرآن نزل جملة في شهر رمضان على قلبه صلّى اللّه عليه و آله، و كانت هذه الآية في ضمنه نازلة، فمع نزوله قبلا عليه صلّى اللّه عليه و آله و علمه بمحتواه كيف لم يعمل وفقه، و لم يتّبع بعلمه، و تورّمت قدماه؟ حتّى نزل مرّة أخرى في مرحلة التّدريج كما سيأتي تفصيله.

إن قلت: كما قيل: إنّ في النّزول الأوّل لم يكن مأمورا بالعمل طبقه، فلذا احتاج إلى

______________________________

(1)- طه/ 1.

(2)- التّحريم/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 647

النّزول التّدريجيّ.

قلت: أوّلا- فما فائدة النّزول حينئذ جملة إذا لم يجب العمل به حتّى بالنّسبة إلى نفسه؟

و ثانيا:

أنّه لا معنى أصلا بعدم كونه مأمورا للعمل؛ لأنّه بعد حصول العلم أنّه مكروه أو محبوب لا يجوز الارتكاب في الأوّل و التّرك في الثّاني، و لو سلّمنا فهل كان مأمورا بالعمل على خلافه حتّى تتورّم قدماه؟ فمنه يظهر حال الآية الثّانية.

فالنّتيجة إنّ الالتزام بأنّه كان عالما بتمام القرآن بنزوله جملة لا تساعده الآيات القرآنيّة.

و ثالثا: أنّ تفسير الآيتين بما ذكره و بيّنه غير مستقيم كما لا يخفى على من نظر بعين الإنصاف.

بل عندنا أنّ الآيتين تدلّان أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان مشفقا لحفظه أو أخذه، و كان يعجل بذلك حتّى لا ينساه أو يأخذه، و بذلك قرائن من نفس الآيتين كما سنبيّن، و من خارجهما كقوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى «1». هذا إجمال الكلام، و أمّا تفصيل المطلب فنقول:

أمّا الآية الأولى لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «2»، ذكر المفسّرون فيها وجوها، فإليك نصّ الشّيخ في التّبيان: أي لا تسأل إنزاله قبل أن يأتيك وحيه، و قيل: معناه لا تلقه إلى النّاس قبل أن يأتيك بيان تأويله، و قيل: و لا تعجل بتلاوته قبل أن يفرغ جبريل من أدائه إليك، انتهى كلامه.

و قبل بيان المختار نقول: إنّ حمل الآيتين بمعنى واحد بعيد بل لا يصحّ، و إن فسّرهما بمعنى واحد العلّامة و غيره؛ لأنّ التّكرار في النّهي عنه صلّى اللّه عليه و آله لا معنى له، لأنّ النّبيّ بالنّهي الأوّل. كان ينتهي، فلا وجه لنزوله ثانية بعد مدّة. كما ذكر في ترتيب النّزول أنّ القيامة نزلت قبل طه بأكثر من عشرة سور، فلا بدّ أن تحمل الآيتان بمعنى يغاير إحداهما الأخرى.

______________________________

(1)- الأعلى/ 6.

(2)- طه/

114.

نصوص في علوم القرآن، ص: 648

فحينئذ نقول: إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يعجّل بالقرآن، و كان يسأل منه تعالى نزوله، فنهى اللّه تعالى عن العجلة و سؤاله نزول القرآن قبل وقته؛ لأنّ لنزول الآيات مصالح تقتضيه، فقبل هذا لا معنى لنزوله.

و يؤيّده بل يدلّ عليه أمور؛

الأمر الأوّل: النّهي عن القرآن لا عن القراءة، و ليس في البين قرينة على حذفها حتّى يقال: لا تعجل عن قراءة القرآن، فالعجلة بالقرآن إنّما هي سؤاله صلّى اللّه عليه و آله عنه تعالى نزوله.

إن قلت: إنّه على هذا أيضا يلزم تقدير نزول القرآن و طلبه.

قلت: نعم، هذا معنى العجلة بالقرآن و تفسيره لا تقديره، فإنّه إذا قيل: لا تعجل بكذا، يراد به لا تعجل على أخذه بدون حذف و عناية، و ليس كذلك ما لو قيل: لا تعجل بالقرآن، يراد به تلاوته؛ لأنّ إرادة الكيفيّة يحتاج إلى عناية خاصّة.

و الأمر الثّاني: قوله تعالى: إِلَيْكَ فإنّ التّعدية بإلى يفيد ذلك كما في المنجد؛ قال:

قضى الأمر إليه: بلغه. و حينئذ يكون المعنى لا تعجل بالقرآن في أخذه قبل بلوغ الوحي.

و الظّاهر عدم استعمال «قضى» متعدّيا بإلى في المعنى الّذي ذكره بقوله: قبل قضاء الوحي، أي تمامه.

و الأمر الثّالث: قوله تعالى: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً، فسؤال ازدياد علمه إنّما يناسب هذا المعنى. أعني العجلة بنزول القرآن و إلّا التّعجيل في الحفظ أو القراءة قبل النّزول لا يناسب قوله تعالى: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً.

و إنّي بعد كتابة هذا صادفت كلام السّيّد في «الدّرر» يعجبني الإشارة إليه إجمالا، فإنّه قال في أوّل كلامه: قلنا: قد ذكر المفسّرون في هذه الآية وجهين نحن نذكرهما و نوضّح عنهما، ثمّ نتلوهما بما خطر لنا زائدا

على السّطور. إلى أن قال: فأمّا الجواب الثّالث الزّائد على ما ذكر فهو أنّه غير ممتنع أن يريد لا تعجل بأن تستدعي من القرآن ما لم يوح إليك به، فإنّ اللّه إذا علم مصلحة في إنزال القرآن عليك، أمر بإنزاله و لم يؤخّر عنك «1».

و أمّا حمل الآية بأنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقرأ قبل إتمام الوحي ما لم يوح إليه كما احتمله

______________________________

(1)- و إن شئت تمام كلامه فراجع الدّرر 2: 359.

نصوص في علوم القرآن، ص: 649

العلّامة؛ حيث قال بعد مقدّمة: و يؤول المعنى إلى أنّك تعجل بقراءة ما لم ينزّل بعد؛ لأنّ عندك علما به في الجملة، لكن لا تكتف به .. الخ. فشي ء منكر؛ لأنّ الدّخول في كلام المتكلّم العادي، و تكلّم المخاطب وسط كلامه قبل تمام كلام المتكلّم قبيح، لا يرتكب به فرد متعارف، فكيف يرضى المسلم العارف بمقام الرّسالة- مع أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان عارفا بمقامه تعالى، و أنّ الملك إنّما يقرأ كلامه تعالى، و أنّ الوظيفة إذا قرئ القرآن لا بدّ من الإنصات و الاستماع- أن يقول: إنّه صلّى اللّه عليه و آله دخل على كلامه تعالى، و قرأ ما لم ينزل و لم ينصت و لم يسمع كلامه تعالى. مع عدم أيّ فائدة في عجلته هذه، إلّا أن يشعر الملك مثلا أنا عارف بالقرآن قبل وحيك و قراءتك، و هذا شي ء لا يمكن احتماله في حقّه صلّى اللّه عليه و آله.

هذا كلّه مع أنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله كان ينتظر كثيرا لنزول القرآن من ربّه، و كان مشتاقا.

و لعلّ هذا واضح عند كلّ من له اطّلاع بحالاته صلّى اللّه عليه و

آله، فعليه لا معنى للعجلة بالمعنى الّذي ذكره.

و أمّا قول العلّامة: لأنّ عندك علما به في الجملة، لكن لا تكتف به، ففيه أوّلا: أنّ أصل القرآن و حقيقته ليس بعض القرآن حتّى يقال في الجملة، بل هو عينه كما صرّح به مرارا.

و ثانيا: العلم الإجماليّ يوجب السّكوت لا العجلة كما لا يخفى.

و أمّا الآية الثّانية قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ «1». فظاهر الآية أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يحرّك لسانه عند نزول الوحي، و يستعجل بقراءة القرآن قبل تمام الوحي، فنهاه تعالى عن ذلك، و أشار إلى سبب تعجيله، و أنّه كان يخاف من تلفه و نسيانه، فقال: إنّ علينا جمعه لك في صدرك و قراءته عليك، فإذا قرأناه عليك تماما فاتّبع قراءته و اقرأ.

و هذا المعنى وردت فيه روايات عديدة عن ابن عبّاس و غيره، و لعلّه يأتي منّا الإشارة إلى بعضها، و هو الّذي ذكره أوّل مفسّري الشّيعة، أعني الشّيخ في تبيانه، و عليه دليل من نفس الآية، فإنّ قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ في مقام التّعليل لقوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ، و هذا التّعليل يناسب ما ذكرناه؛ لأنّ المعنى حينئذ لا تقرأ

______________________________

(1)- القيامة/ 16- 17.

نصوص في علوم القرآن، ص: 650

القرآن قبل تمام الوحي، و لا تخف نسيانه؛ لأنّه علينا أن نجمعه من التّلف، بحيث لا تنسى منه شيئا كما وعد اللّه تعالى به في قوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. و من هنا تعلم أنّ ما أفاده العلّامة في بيان التّعليل عليل؛ لأنّه بعد تفسيره قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ.

[ثمّ ذكر قول العلّامة الطّباطبائيّ في ذيل آية لا تُحَرِّكْ

بِهِ لِسانَكَ كما تقدّم عنه، فقال:] و أنت تعلم أنّ العجلة لنزول القرآن، و أنّه كان يستعجل به، بحيث كان يقرأ قبل قراءة جبريل، لا تناسب قوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ «1».

فقول العلّامة: إنّ علينا أن نجمع ما نوحيه إليك بضمّ بعضه إلى بعض و قراءته عليك، يناسب ما فسّرنا من خوف النّسيان. و منه يعلم أنّ ذيل كلامه: فلا يفوتنا شي ء حتّى يحتاج إلى أن تسبقنا إلى قراءة ما لم نوحيه بعد، غير صحيح؛ لأنّ السّبقة على قراءة ما لم ينزل لا يلائم الجمع و ضمّ بعضه إلى بعض، و ليس بينهما مناسبة حتّى يحمل كلامه تعالى عليه، كما لا يخفى على العارف و بالأسلوب هذا، و يشهد على صحّة ما ادّعيناه جملة من الرّوايات.

[ثمّ ذكر رواية ابن عبّاس و سعيد بن جبير و ابن المنذر عن قتادة، كما تقدّم عن الطّبرسيّ و السّيوطيّ في ذيل آية لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ فقال:]

و أنت ترى صراحة الرّوايات كلّها في ما قلناه. و مع ذلك قال العلّامة في بحثه الرّوائيّ بعد نقله في «الدّرّ المنثور»: أقول: و روي في معنى صدر الحديث في المجمع عن ابن جبير و في معناه غير واحد من الرّوايات، و قد تقدّم أنّ في انطباق هذا المعنى على الآيات خفاء.

قلت: إنّه ظهر ممّا ذكرنا في تفسير الآية أنّه ليس في انطباق هذا المعنى على الآية خفاء، بل ليس معناها إلّا ما في الرّوايات، فالعدول عمّا ذكرنا إلى ما ذكره بلا دليل معتبر لا وجه له.

و ليس على مدّعاه خبر و لا شاهد، لا من نفس الآية و لا من خارجها، مع أنّه على ما ادّعيناه شاهد من نفس الآية و

من خارجها من الكتاب و السّنّة، و قد مرّ آنفا الإشارة إليهما.

______________________________

(1)- القيامة/ 16- 17.

نصوص في علوم القرآن، ص: 651

و النّتيجة من تمام ما ذكرنا إلى هنا أمور:

1- عدم الفرق بين الإنزال و التّنزيل.

2- عدم صحّة أن يكون للقرآن أصل و هذا لباسه.

3- عدم صحّة نزول أصل القرآن في شهر رمضان للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

4- عدم صحّة تفسير الآيات السّبع على مدّعى العلّامة.

و حينئذ نقول: إنّ ما أفاده- في الجمع بين قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... «1». و بين قوله تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ... «2»، بقوله:

من أنّ تمام القرآن و أصله و حقيقته بلا أيّ لفظ و تقطيع إنّما أنزل في شهر رمضان، و القرآن الموجود بأيدينا نزل قطعة قطعة و مفصّلا، مدّة ثلاث و عشرين سنة في المواطن المخصوصة بحسب الحاجة- ليس بصحيح كما مرّ تفصيله.

الوجه الثّاني: في الجمع بين الآيات ما ذهب إليه الصّدوق، و قال في اعتقاداته: ...

[و ذكر كما تقدّم عنه، ثمّ قال:]

و استدلّ عليه بروايات، و هي على ما تفحّصناه ثلاث روايات نقلها في «تفسير البرهان»، و هي و إن كان ظاهرا ثلاث روايات إلّا أنّها ترجع إلى رواية واحدة.

فنورد أوّلا متن الرّوايات، ثمّ نتكلّم في سندها و دلالتها، الأولى: ... [ثمّ ذكر رواية حفص بن غياث عن الإمام الصّادق عليه السّلام كما تقدّم عن الكلينيّ، فقال:]

قلت: ففي سند الحديث ما لا يخفى، فإنّ حفص عامّيّ بلا ريب، و لم يثبت توثيقه، و في قاموس الرّجال: قال في «الوجيزة» إنّه ضعيف، أو موثّق بشهادة الشّيخ في «العدّة» بعمل الأصحاب بخبره. قلت: هو غلط، فإنّ «العدّة» إنّما قال:

إنّ الإماميّة إنّما يعملون بأخبار العامّة مثل حفص بن غياث إذا لم يكن له معارض من خبر إماميّ و لا إعراض ..

الخ «3».

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- الإسراء/ 106.

(3)- قاموس الرّجال 3: 365.

نصوص في علوم القرآن، ص: 652

و أمّا سليمان بن داود، فالظّاهر أنّه المنقريّ، و لم يثبت توثيقه، بل نقل عن الغضائريّ أنّه ضعيف جدّا لا يلتفت إليه، يوضع كثيرا على المهمّات «1»، و هو عامّيّ نسبت إليه بعض الأعمال الرّذيلة نعوذ باللّه. إن شئت فراجع.

و أمّا قاسم بن محمّد، فالظّاهر أنّه قاسم بن محمّد كاسولا؛ لروايته عن سليمان بن داود، و الرّجل لم يوثّق، بل عن الغضائريّ ضعيف في حديثه، يعرّف تارة و ينكّر أخرى، و يجوز أن يخرج شاهدا. فعلم ممّا ذكرنا أنّ السّند غير معتبر.

و الثّانية: الحديث العاشر من «البرهان»، فهو كأنّه هذا الحديث بعينه، إلّا أنّه حذف فيه السّند؛ لأنّه نقل عليّ بن إبراهيم الحديث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، و هو غير ممكن كما لا يخفى؛ لعدم ثبوت رواية له عن المعصومين.

و الثّالثة: ما رواه عن عليّ بن إبراهيم في ذيل سورة القدر؛ قال: فهو القرآن أنزل إلى البيت المعمور جملة في ليلة القدر.

و الظّاهر أنّه لم ينقل فيه حديثا، بل هو تفسير منه و بيان، فيرجع الأحاديث الثّلاثة في الباب إلى حديث واحد. إذا تقرّر ذلك أقول: يرد على هذا الجمع أمور:

الأوّل: إنّ سند هذا القول حديث واحد لا يوجب علما و لا عملا، كما صرّح به المفيد رحمه اللّه؛ قال في تصحيح الاعتقادات: الّذي ذهب عليه أبو جعفر؛ ... [و ذكر كما تقدّم عنه، ثمّ قال:]

و الثّاني: إنّ هذا الجمع لا يناسب قوله تعالى: هُدىً لِلنَّاسِ حيث

أنّه في البيت المعمور ليس فيه أيّ هداية، و لا يقاس القرآن على القوانين المنشأة في الدّول حتّى يقال:

إنّه هاد شأنا.

و ذلك لأنّ القرآن ينزل بحسب ما تدعو إليه الحاجة، فقبل الحين لا يناسب مثل قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ... «2»، و قوله تعالى: طه ما أَنْزَلْنا

______________________________

(1)- قاموس الرّجال 4: 471.

(2)- المجادلة/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 653

عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى «1»، و قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «2»، لأنّه لا معنى لنزول هذه قبل تحقّق الموضوع إلّا تكلّفا. و سيأتي منّا في الجمع الثّالث بيانه تفصيلا.

و الثّالث: أنّه لا يعلم أيّ حكمة في نزوله إلى البيت المعمور؛ قال الشّعرانيّ في «حاشية تفسير أبي الفتوح»: أمّا وجه نزوله إلى السّماء الدّنيا أوّلا، و عدم نزوله إليه صلّى اللّه عليه و آله من اللّوح ابتداء لم يعلم لنا وجهه. نعم، لو كان في البين دليل متقن نلتزم به، و أنّى لنا هذا الدّليل؟.

الوجه الثّالث: أنّ نفس القرآن نزل في شهر رمضان على قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ نزل تدريجا، لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، و كأنّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكن مأذونا في تلاوته و نشره أوّلا.

و يقرب منه ما اختاره الفيض في المقدّمة التّاسعة في تفسيره الصّافي؛ حيث قال:

كأنّه أريد به البيت المعمور نزول معناه على قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و هو ظاهر بعض الرّوايات، كخبر مفضّل بن عمر في حديث طويل عن الإمام الصّادق عليه السّلام أنّه قال: ... [و ذكر كما تقدّم عن المجلسيّ، ثمّ قال:]

أقول: في فقه الحديث ما لا يخفى، فإنّه و إن كان ذيل الحديث يدلّ

على مدّعاه، و أمّا صدره فمبهم، و ما أدري أيّ شي ء فهم المفضّل من الآيات الأربعة المتعارضة حتّى قال: يا مولاي فهذا تنزيله الّذي ذكره اللّه في كتابه؟ هذا و يرد على هذا الوجه أمور؛

الأوّل: أنّ الخبر، خبر واحد لا يفيد علما و لا عملا، و لا يمكن التّمسّك به مع تعارضه بأخبار أخر، و من هذه الأخبار ما يدلّ على نزوله جملة على البيت المعمور، و أمّا المقصود بالبيت المعمور هو قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كما قال الفيض، فليس له دليل.

الثّاني: أنّ القرآن ظاهر في عدم نزوله جملة له صلّى اللّه عليه و آله لمكان قوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ «3»؛ لأنّ قوله: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ دليل على عدم نزوله جملة، بقوله تعالى كَذلِكَ، أي التّدريج، و إنّ في هذا

______________________________

(1)- طه/ 2.

(2)- التّوبة/ 43.

(3)- الفرقان/ 31.

نصوص في علوم القرآن، ص: 654

لحكمة، و هو تثبيت فؤاده صلّى اللّه عليه و آله، و لو كان القرآن نزل جملة واحدة لكان اللّازم في الجواب أن يشعر به.

الثّالث: أنّه لو قيل بنزول القرآن جملة على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله يشكل الأمر في كثير من الآيات، منها إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا «1»؛ حيث أنّها ظاهرة في نزول القول الثّقيل بعدها، فلا يناسب نزوله جملة.

منها: أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ* الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ* وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ «2»، ظاهر الآية أنّه قبل نزول السّورة شرح اللّه صدره، و وضع وزره، و رفع ذكره، و هذا لا يناسب نزول القرآن جملة في ليلة القدر.

منها طه ما أَنْزَلْنا

عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى «3»، ظاهر الآية يعطينا أنّه صلّى اللّه عليه و آله بعد نزول جملة من القرآن شقّت نفسه حتّى تورّم قدماه، فنزل نهي عن ذلك (طه ...). و لو نزل القرآن عليه جملة لم يكن لقوله تعالى: طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ معنى قبل التّورّم، و هذا واضح.

منها عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «4»، الآية صريحة في أنّه صلّى اللّه عليه و آله أذن لهم سابقا في تركهم القتال و قعودهم في المدينة، فنزلت الآية، و هذا المعنى يناسب النّزول التّدريجيّ لا الدّفعيّ.

منها وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى «5»، الآية تحكي رؤيته صلّى اللّه عليه و آله ملك الوحي في المعراج، و هذا المعنى لا يصحّ إلّا بعد المعراج، فقبل المعراج لا معنى له.

منها قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما ... «6»، الآية تدلّ على سماع اللّه تعالى قول المرأة و محاورتها مع النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فهو

______________________________

(1)- المزمّل/ 5.

(2)- الانشراح/ 1- 4.

(3)- طه/ 1.

(4)- التّوبة/ 49.

(5)- النّجم/ 5.

(6)- المجادلة/ 1.

نصوص في علوم القرآن، ص: 655

يلائم مع التّدريج لا الدّفعيّ.

منها قوله: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها ... «1». فتزويج اللّه تعالى زينب رسوله بعد طلاق زيد لا يصحّ إلّا بمجي ء زمانه، فكيف يصحّ نزول القرآن جملة في مكّة مع عدم مجي ء حينه؛ بل مع عدم تحقّق موضوعه لا يصحّ قوله تعالى: زَوَّجْناكَها.

منها قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها «2».

و هذه الآية تنادي بأعلى صوتها أنّه تعالى يقول لنبيّه: قد نرى فعلا تقلّب وجهك في السّماء، و كأنّه كان ينتظر الأمر بتردّد وجهه. فحينئذ

تقلّب وجهه موضوع لنزول الآية، فلا يصحّ أنّ تنزل قبل هذا، لعدم تحقّق موضوعه، و هذا واضح لمن له أدنى تأمّل، إلى غير ذلك من الآيات.

الرّابع: أنّ الرّوايات دالّة على أنّه لم يكن عالما بالقرآن قبلا، بل أخبره اللّه تعالى بإنزال القرآن عليه تدريجا و نجوما، و هي كثيرة، منها ما ورد في ذيل قوله تعالى: وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ... لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى ... «3».

و في المجمع: قال المفسّرون: إنّ بني عمرو بن عوف اتّخذوا مسجد قبا، و بعثوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يأتيهم، فأتاهم و صلّى فيه، فحسدهم جماعة من المنافقين من بنى غنم بن عوف، فقالوا نبني مسجدا فنصلّي فيه، و لا نحضر جماعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و كانوا اثنى عشر رجلا، و قيل: خمسة عشر رجلا، فبنوا مسجدا جنب مسجد قبا.

فلمّا فرغوا منه أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يتجهّز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول اللّه، إنّا قد بنينا مسجدا لذي العلّة و الحاجة و للّيلة المطيرة و الشّاتية، و إنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي فيه لنا و تدعو بالبركة، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّي على جناح السّفر، و لو قدمنا أتيناكم إن شاء اللّه فصلّينا لكم». فلمّا انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد.

______________________________

(1)- الأحزاب/ 37.

(2)- البقرة/ 144.

(3)- التّوبة/ 108.

نصوص في علوم القرآن، ص: 656

و هذه الرّواية دالّة على أنّ القرآن نزل تدريجا لا جملة، و لو كان القرآن نزل جملة قبلا لكان عالما

بمقاصدهم.

و منها: ما روي في البحار عن عليّ عليه السّلام في قصّة أصحاب الكهف، فقالوا: يا محمّد، أخبرنا عن فئة كانوا في الزّمان الأوّل، ثمّ غابوا، ثمّ ناموا. فقالوا لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «إنّي لا أخبركم بشي ء إلّا من عند ربّي، إنّما انتظر الوحي يجي ء، ثمّ أخبركم بهذا غدا»، و لم يستثن «إن شاء اللّه»، فاحتبس الوحي عنه أربعين يوما، حتّى شكّ جماعة من أصحابه، فاغتمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و فرحت قريش بذلك، و أكثر المشركون القول، فلمّا كان بعد أربعين صباحا نزل عليه بسورة الكهف «1».

هذه القصّة تعطينا أنّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكن عالما بما سألوا و كان ينتظر الوحي. و أمّا احتمال أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان عالما و لم يكن مجازا في النّقل فشي ء غير معقول بل خلاف ظاهر الرّواية.

و أمثال هذه الرّوايات في المقام كثيرة، بحيث يمكن ادّعاء استفاضتها لو لم ندّع التّواتر.

الخامس: أنّ تعدّد النّزول- بمعنى أنّه نزل جملة، ثمّ نزل تدريجا- فشي ء لا نفهمه، و إن شئت فقس نزول القرآن بنزول الغيث.

فهل يمكن تصوّر نزوله مرّة أخرى بعد نزوله أوّلا؟ فحينئذ لا يكون الثّاني بوحي منزل، بل إجازة على القراءة على النّاس، كما هو ظاهر الخبر المتقدّم (خبر المفضّل بن عمر)؛ حيث قال صلّى اللّه عليه و آله: «نعم يا مفضّل، أعطاه القرآن في شهر رمضان، و كان لا يبلّغه إلّا وقت استحقاق الخطاب» .. الخ.

و هذا- أي كون المرّة الثّانية إجازة- خلاف الفرض، بل خلاف الواقع؛ لأنّ من المسلّم به نزول القرآن و تحقّق الوحي إنّما كان متحقّقا تدريجا، و يدلّ عليه تغيير حاله صلّى

اللّه عليه و آله حين نزوله، و لم يكن مثل تطبيق القرآن مع جبرائيل عليه السّلام في كلّ سنة على ما روي.

إن قلت: أما تقولون: إنّ الفاتحة يقال لها: السّبع المثاني، و قيل في وجهه: إنّ السّورة

______________________________

(1)- بحار الأنوار 93: 80.

نصوص في علوم القرآن، ص: 657

نزلت مرّتين، فلذا قيل: السّبع المثاني؟

قلت: أوّلا- أنّ هذا غير مسلّم به، كما يأتي بيانه في محلّه إنشاء اللّه.

و ثانيا: على فرض تسلّمه هو دليل على أنّ القرآن لم يكن نازلا مرّتين، و إلّا لا يكون من خصوصيّات الفاتحة. و الحاصل أنّ من إثبات نزولين للفاتحة يثبت عدم نزول القرآن مرّتين، و هذا مسلّم به.

و قد اكتفينا في ردّ هذا القول نزول القرآن جملة على قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بهذه الوجوه الخمسة مخافة الملل، كما اكتفينا في نقل الأقوال المتعرّضة لحلّ المسألة و توجيهها على ثلاثة أقوال؛ لئلّا يكون البحث فيها نقلا و نقصا من باب التّطويل بلا طائل، لأنّ أكثرا أبحاثها قد علم ممّا ذكرنا.

فإذا أحطت خبرا بما حرّرناه فقد حان بيان المختار في المقام، فنقول: لا بدّ لبيانه من تقديم أمور؛

الأوّل: في كيفيّة استعمال لفظ القرآن، فقد يظهر من كلام بعض المفسّرين أو أكثرهم أنّ إطلاق القرآن على القرآن الموجود بأيدينا من سورة الفاتحة إلى آخره هو على الحقيقة، و أنّ استعماله في سورة أو آية أو بعض القرآن على المجاز يحتاج إلى العناية، و لكنّ الحقّ خلافه؛ لأنّ استعمال القرآن مثل استعمال الماء في القليل و الكثير على الحقيقة و تشهد عليه اللّغة، بل صرّح عليه بعض الأصوليّين و غيرهم؛ قال أبو البقاء في كلّيّاته: و في التّلويح: هو (القرآن) في العرف العامّ

اسم لهذا المجموع، و عند الأصوليّة وضع تارة للمجموع و تارة لما يعمّ الكلّ و البعض. فيكون القرآن حقيقة فيهما باعتبار وضع واحد «1».

و لصاحب المعالم هاهنا تحقيق رشيق في بحث الحقيقة اللّغويّة، و إليك نصّه؛ قال:

و الضّمير في إِنَّا أَنْزَلْناهُ للسّورة لا للقرآن، و قد يطلق القرآن على السّورة و على الآية، فإن قيل: يصدق على كلّ سورة و آية أنّها بعض القرآن، و بعض الشّي ء لا يصدق عليه أنّه نفس ذلك الشّي ء.

______________________________

(1)- كلّيّات أبي البقاء: 521.

نصوص في علوم القرآن، ص: 658

قلنا: هذا إنّما يكون فيما لا يشارك البعض الكلّ في مفهوم الاسم، كالعشرة فإنّها اسم لمجموع الآحاد المخصوصة، فلا يصدق على البعض، بخلاف نحو الماء، فإنّه اسم للجسم البسيط البارد الرّطب بالطّبع، فيصدق على الكلّ و على أيّ بعض فرض منه، فيقال: هذا البحر ماء، و يراد منه مفهومه الكلّيّ، و يقال: إنّه بعض الماء، و يراد منه مجموع المياه الّذي هو أحد جزئيات ذلك المفهوم.

و القرآن من هذا القبيل، فيصدق على السّورة أنّها قرآن، و بعض من القرآن بالاعتبارين. على أنّا نقول: إنّ القرآن قد وضع بحسب الاشتراك للمجموع الشّخصيّ وضعا آخر، فيصحّ بهذا الاعتبار أن يقال: السّورة بعض القرآن، انتهى كلامه.

و هذا هو الّذي ذكره السّيد في «درره»؛ حيث قال: و الجواب الصّحيح أنّ قوله تعالى:

الْقُرْآنُ في هذا الموضع لا يفيد العموم و الاستغراق، و إنّما يفيد الجنس من غير معنى الاستغراق «1»، انتهى ما رمنا من كلامه، و إن شئت فراجع تمامه.

و الاستعمالات القرآنيّة و العرف، و استعمالات الأئمّة عليهم السّلام يؤيّد ذلك: وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ «2»، وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ

لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً «3»، فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ «4».

و كقولهم: أخاف أن ينزل فيّ القرآن، و نحوه. و كذا قولهم: تستحبّ قراءة القرآن أو تكره، و أمثال ذلك في الرّوايات كثيرة، فلا حاجة إلى نقلها، و أنت ترى أنّ لفظ القرآن استعمل في كلامه تعالى و الأئمّة: و العرف في بعض القرآن بلا عناية.

الأمر الثّاني في كيفيّة شروع الوحي، و إثبات أنّه كان تدريجا. اعلم أنّه يظهر من بعضهم أنّه تحقّق الوحي و النّبوّة بنزول جبرائيل بالقرآن، إلّا أنّ الظّاهر خلافه. و هذا هو الّذي يظهر من الأخبار، و أنّه كان يرى أوّلا في النّوم رؤيا صادقة، ثمّ كان يسمع صوت

______________________________

(1)- الدّرر 2: 253.

(2)- الاعراف/ 203.

(3)- الإسراء/ 45.

(4)- الجنّ/ 1- 2.

نصوص في علوم القرآن، ص: 659

جبرائيل ثمّ يراه بعينه، ثمّ كان نبيّا ثلاث سنين، ثمّ كان رسولا. بل يظهر من بعض الأخبار عن الأئمّة عليهم السّلام أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان له ملك يسدّده من أيّام طفولته، إلّا أنّه ليس مورد بحثنا، بل أنّ مورد البحث هو أوّل النّبوّة و نزول الوحي. و نشير إذا إلى بعض ما ورد في الرّوايات:

الأولى: في البحار من «المناقب»: أرسله اللّه تعالى بعد أربعين سنة من عمره، حين تكامل بها و اشتدّت قواه؛ ليكون متهيّئا و متأهّبا لما أنذر به، و لبعثته درجات،

أوّلها الرّؤيا الصّادقة.

[ثمّ ذكر روايات في الثّانية عن الشّعبيّ، و في الثّالثة عن عليّ بن إبراهيم القمّيّ، و في الرّابعة عن الاختصاص كما تقدّم جميعها عن المجلسيّ، فقال:] إلى غير ذلك من الرّوايات الواردة، كلّها تشير إلى أنّ أمر النّبوّة إنّما حصل تدريجا.

الأمر الثّالث: في زمان

تحقّق النّبوّة، اختلفوا في أوّل النّبوّة على خمسة أقوال:

و المشهور بين العامّة أنّه صلّى اللّه عليه و آله بعث في شهر رمضان. و أمّا المشهور بين الخاصّة فإنّه صلّى اللّه عليه و آله بعث في يوم سبع و عشرين من رجب، و أرسلوه إرسال المسلّمات.

و قال الأردبيليّ في «جامع الرّواة»: و بعث يوم السّابع و العشرين من رجب و له أربعون. و نقل في البحار عن «الكافي» و أمالى المفيد؛ أربعة أخبار كلّها تدلّ على ذلك «1».

و لعلّ هذا هو المشهور بينهم، بل ادّعى بعضهم الإجماع على ذلك.

و في زماننا يعدّ البحث فيه بين أبناء الزّمان بحثا انحرافيّا، و مع هذا لا مانع عن البحث إجمالا حوله. فأقول: المشهور بينهم و إن كان ذلك إلّا أنّه قد ورد في بعض الأخبار ما يخالف المشهور، فعن «عيون أخبار الرّضا» عليه السّلام قال: فإن قال: ... [و ذكر كما تقدّم عن المجلسيّ، ثمّ قال:]

و الخبر كما ترى صريح في أنّه بعث في شهر رمضان، و قد يظهر من بعض العلماء وجود القول بكونه مبعوثا في شهر رمضان، و لفظ المشهور في كلماتهم دليل عليه. [ثمّ ذكر قول الشّيخ المفيد حول البعثة، كما تقدّم عن المجلسيّ، فقال:]

و ظاهر كلامه أنّه ذهب منّا إلى بعثته في شهر رمضان ذاهب، و إن لم يذكر شخصه.

______________________________

(1)- بحار الأنوار 18: 189.

نصوص في علوم القرآن، ص: 660

و كلام «تاج المواليد» صريح فيه، و يأتي نقله: 76. و يظهر من كلام الشّعرانيّ في ذيل سورة إِنَّا أَنْزَلْناهُ في «تفسير مجمع البيان» أمران:

1- عدم كون المبعث في رجب مشهورا.

2- ميله إلى أنّه في شهر رمضان؛ حيث قال: فإن قيل: إن كان ابتدأ نزول القرآن

في شهر رمضان، فما وجه الجمع بينه و بين ما ذكره بعضهم أنّ المبعث في رجب؟

قلنا: إن صحّ ذلك و لك يشتبه على الرّاوي المبعث بالمعراج أمكن حمله. فقوله: إن صحّ ذلك، إشارة إلى عدم اعتقاده أنّه صلّى اللّه عليه و آله بعث في رجب، و قوله: و بين ما ذكره بعضهم، إشارة إلى أنّه ليس بمشهور.

الأمر الرّابع: في بيان عدم الملازمة بين النّبوّة و نزول القرآن، و الّذي يظهر من كلمات بعضهم أنّ النّبوّة إنّما تحقّقت بنزول القرآن، كما يظهر ذلك من بعض الأخبار الواردة في شأن نزول سورة اقرأ.

قال في مجمع البيان: إنّ هذه السّورة أوّل ما نزل من القرآن ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبرسيّ، ثمّ قال:]

أقول: أمّا مقام الثّبوت، فكما يكن أن يقترن بوحي القرآن، كذلك يمكن أن تتحقّق النّبوّة قبل الوحي القرآنيّ بنزول جبرائيل أو إسرافيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إتيانه بالنّبوّة.

و هذا كما في موسى عليه السّلام و غيره من الأنبياء؛ حيث أنّ موسى عليه السّلام كانت نبوّته قبل نزول التّوراة بسنين، كما هو واضح بلا ريب هذا في مقام الثّبوت.

و أمّا في مقام الإثبات فليس لنا دليل يدلّ على الملازمة أو المقارنة، بل يظهر من بعض الأخبار أنّه صلّى اللّه عليه و آله تنبّأ قبل نزول القرآن إليه.

و قد مرّت بنا الإشارة إليه؛ حيث في خبر الاختصاص صرّح بأنّه قرن إسرافيل برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاث سنين، يسمع الصّوت و لا يرى شيئا. ثمّ قرن به جبرائيل عشرين سنة، و ذلك حيث أوحي إليه «1»، و الخبر كالصّريح في عدم نزول القرآن في ثلاث سنين؛ لمكان قوله: ثمّ قرن

جبرائيل عشرين سنة و ذلك حيث أوحي إليه؛ لأنّه من المسلّم به أنّ

______________________________

(1)- بحار الأنوار 18: 190

نصوص في علوم القرآن، ص: 661

ملك الوحي القرآنيّ هو جبرائيل، و هكذا غيره من الأخبار.

إن قلت: كيف يمكن أن يكون مدّة شهرين تقريبا نبيّا و لم ينزل عليه القرآن؟

قلت: فمع عدم الملازمة إثباتا و ثبوتا لا معنى للتّشكيك فيه.

و قد وقع نحوه في الأنبياء السّلف، كما في موسى عليه السّلام كان نبيّا سنين و لم تنزل عليه التّوراة، فبعد مدّة مديدة أنزل اللّه الألواح، كما صرّح به القرآن. فإنّه بعد نجاة قومه و حضوره الميقات، قال: يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ ... «1». و قوله تعالى: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ ... «2».

و اعتقده بعض منّا، كما في «تاج المواليد» للطّبرسيّ؛: بعث صلّى اللّه عليه و آله بمكّة يوم الجمعة السّابع و العشرين من رجب و هو ابن أربعين سنة، و أنزل عليه القرآن يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان.

الأمر الخامس: عدم الفرق بين الإنزال و التّنزيل، و حيث تكلّمنا إثباته حول كلام العلّامة فلا نعيد هنا.

فالنّتيجة مقتضى الأمر الأوّل صحّة صدق القرآن على الآية و السّورة.

و مقتضى الأمر الثّاني تحقّق النّبوّة تدريجا.

و مقتضى الأمر الثّالث أنّ المشهور أنّ النّبوّة اليوم السّابع و العشرين من رجب، و شهر رمضان على قول و رواية.

و مقتضى الأمر الرّابع عدم الملازمة بين النّبوّة و نزول القرآن.

و مقتضى الأمر الخامس عدم الفرق بين الإنزال و التّنزيل.

______________________________

(1)- الأعراف/ 145.

(2)- الأعراف/ 144.

نصوص في علوم القرآن، ص: 662

و إذا تحرّر ذلك فاعلم أنّ القرآن

يدلّ صريحا على نزوله في شهر رمضان؛ لمكان قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «1». و ليس في قباله دليل يدلّ على نزوله في شهر رجب. و كذا ليس لنا دليل متقن يدلّ على نزوله أو معناه جملة على قلب الرّسول صلّى اللّه عليه و آله أو البيت المعمور. و كذا ليس لنا دليل يدلّ على الفرق بين الإنزال و التّنزيل.

فحينئذ نقول: معنى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أنّ نزول القرآن الّذي هو بركة و هداية تحقّق في شهر رمضان، و النّبوّة في شهر رجب، و لا ملازمة بينهما كما مرّ.

إن قلت: إنّ ظاهر الآية أنّ القرآن نزل جملة بتمامه في شهر رمضان.

قلت: فما وجه الظّهور؟ و مرّ منّا أنّ القرآن كما يستعمل في الآية و السّورة، يستعمل في تمام القرآن، و منه يظهر ضعف قولهم: إنّ المراد حينئذ ابتداء نزول القرآن. و وجه الضّعف أنّه ليس الأمر كذلك، و ليس نزول القرآن إلّا مثل الوحي و النّبوّة، فكما يصحّ أن يقال: إنّه نزل و تحقّق الوحي و النّبوّة في رجب و يوم كذا، يصحّ أن يقال: إنّه نزل القرآن في شهر رمضان، بلا حاجة إلى التّفسير بنزول القرآن بابتداء النّبوّة. و إن شئت توضيح ذلك في العرفيّات فراجع قولهم، فإنّهم يقولون: نزل الغيث أو السّيل في ساعة كذا، فليس معناه ابتداء نزول الغيث أو السّيل في ساعة كذا، مع أنّ ابتداءهما حقيقة في ساعة كذا لا كلّهما، و ليس هذا إلّا من باب أنّ الغيث و السّيل يصدق في الآن الأوّل أنّه غيث أو سيل، و أنّه نزل في ساعة كذا، هذا كلّه واضح و عدم القبول مكابرة.

فتحصّل من تمام ذلك

أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تحقّقت نبوّته في سبع و عشرين من رجب بإخبار جبرائيل أو إسرافيل، و كان يتردّد عليه بمجرّد الوحي بينه و بين نزول القرآن بما يقرب شهرين أو أكثر.

و احتمل المجلسيّ الأوّل عدم نزول القرآن عليه بعد المبعث ثلاث سنين؛ حيث قال في شرحه الفارسيّ ما نصّه: «ممكن است از اوّل بعثت تا زمان وفات كه بيست و سه سال بود در سه سال متوالى يا متفرّق، قرآن نيامده باشد» .. الخ. «2» و اعتقد ما اخترناه من كون

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- كتاب الصّوم از شرح فارسى من لا يحضره الفقيه 2: 141.

نصوص في علوم القرآن، ص: 663

نزول القرآن بعد شهرين بعض منّا، منهم صاحب «تاج المواليد»؛ حيث قال: بعث صلّى اللّه عليه و آله بمكّة يوم الجمعة السّابع و العشرين من رجب، و هو ابن أربعين سنة، و أنزل عليه القرآن يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان.

و المجلسيّ؛ في أربعينه جعله أوّل الاحتمالات؛ حيث قال: السّابع: معنى نزول القرآن في ليلة القدر، و قد نزل ثلاث و عشرين سنة منجّما كما ذكره المفسّرون، فقيل:

المراد ابتداء نزوله، هذا هو احتماله الأوّل «1».

فتحصّل من تمام ذلك أنّ ظاهر القرآن هو نزوله بنزول سورة اقرأ في شهر رمضان في ليلة القدر و ليلة مباركة إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، لا كلّ القرآن.

و بعد كتابة هذا رأيت كلام بعض الأعاظم يوافق ما ذكرنا، و إليك نصّه: و الحاصل من مجموع تلك الآيات أنّ القرآن نزل في شهر رمضان في ليلة مباركة، هي ليلة القدر، و حكمة الصّوم في هذا الشّهر المعظّم و العبادة فيه و التّعظيم

له هو نزول القرآن فيه.

و ذكر كثير: أنّ ابتداء نزول القرآن كان في ليلة القدر، و لزم منه أن يكون المبعث في شهر رمضان إن قلنا أوّل المبعث أوّل نزول القرآن، و إن لم نجعل أوّل المبعث وقت نزول القرآن، أمكن كونه في شهر رجب، كما هو معروف بيننا. إلى أن قال: و لا منافاة في أن يكون المبعث في رجب، و بدء نزول القرآن في شهر رمضان «2».

هذا كلّه بالنّظر إلى نفس القرآن و التّأمّل فيه، و أمّا بالنّظر إلى الأخبار فقد يظهر منها وجه آخر، و إجماله أن يقال: إنّ القرآن نزل تدريجا في مدّة ثلاث و عشرين سنة، و في شهر رمضان (ليلة القدر) ينزل تفسير القرآن و بيانه، و ما سيكون في تمام السّنة على إمام عصره عليه السّلام من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الأئمّة الاثنى عشر.

و هذا هو الظّاهر من الأخبار الواردة في ذيل سورة القدر و لعلّه إليه أشار بقوله تعالى:

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ. فعلى أيّ حال تدلّ عليه أخبار كثيرة، منها: الحديث السّابع من «تفسير البرهان» ذيل سورة إِنَّا أَنْزَلْناهُ قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا أسري به، و لم يهبط

______________________________

(1)- أربعين المجلسيّ 37: 172.

(2)- حاشية كتاب الوافي 2: 58- 59.

نصوص في علوم القرآن، ص: 664

حتّى أعلمه اللّه (جلّ ذكره) علم ما قد كان و ما سيكون. و كان كثير من علم ذلك جملة يأتي تفسيره في ليلة القدر.

و كذلك كان عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قد علم جملة العلم، و يأتي تفسيره في ليالي القدر، و هذا المعنى هو الّذي اختاره الفيض في آخر المقدّمة التّاسعة؛ حيث

قال: و بالجملة تتميم إنزاله بحيث يكون هدى للنّاس و بيّنات من الهدى و الفرقان، كما قال سبحانه:

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «1»- يعني في ليلة القدر منه- هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ إلى أن قال: و قد قال اللّه تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ، أي حين أنزلناه نجوما، فإذا قرأنا عليك حينئذ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، أي جملته: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ في ليلة القدر، بإنزال الملائكة و الرّوح فيها عليك و على أهل بيتك من بعدك، بتفريق المحكم من المتشابه، و بتقدير الأشياء، و تبيين أحكام خصوص الوقائع الّتي تصيب الخلق في تلك السّنة إلى ليلة القدر الآتية.

قال في «الفقيه» تكامل نزول القرآن ليلة القدر، و كأنّه أراد به ما قلناه. و بهذا التّحقيق حصل التّوفيق بين نزوله تدريجا و دفعة، و استرحنا من تكلّف المفسّرين، انتهى كلامه.

و هكذا اختار في «الوافي» كتاب الحجّة، و إن شئت فراجع.

و الإنصاف أنّه كلام جيّد بالنّسبة إلى الأخبار، و لعلّه من بطن القرآن الّذي كشفته الأخبار، فمع قطع النّظر عن الأخبار و كشفها، الحقّ الحقيق الّذي لا معدل عنه هو ما قلناه من نزول القرآن في ليلة القدر من شهر رمضان بنزول خمس آيات من أوّل سورة اقرأ، و أنّ النّبوّة تحقّقت في رجب، و لا ملازمة بينهما، و ليس فيه أيّ تكلّف، فالوجهان وجيهان مقبولان عندنا.

و هذا ما تيسّر لنا عاجلا، و اللّه العالم بحقائق الأمور، و الهادي إلى الصّواب و الرّشاد.

(1: 12- 86)

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

نصوص في علوم القرآن، ص: 665

الفصل السّابع و السّبعون نصّ السّيد مير محمّديّ في كتابه: «بحوث في تاريخ القرآن»

كيف نزل القرآن؟

لقد قرّر القرآن الكريم لتكليم اللّه عباده ثلاث طرق؛ «1»

الأولى: أن يكلّمه اللّه وحيا، أي إلهاما و إلقاء في القلب.

الثّانية:

أن يكلّمه من وراء حجاب.

الثّالثة: أن يكلّمه بواسطة ملك، و ذلك بأن يرسل رسولا فيوحي بإذنه.

و الّذي نريد أن نبحث فيه هنا هو كيفيّة نزول القرآن، و إيصاله إلى النّبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و بأيّ من الطّرق المتقدّمة كان ذلك؟

الوجوه و الاحتمالات بملاحظة الطّرق الثّلاث الآنفة الذّكر كثيرة، لكن الّذي نختاره هو أنّ جميع القرآن قد أنزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله بواسطة رسول ألقاه إليه، و هو جبريل. و يدلّ على ذلك آيات:

منها قوله تعالى: وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «2».

______________________________

(1)- الشّورى/ 51.

(2)- الشّعراء/ 192- 194.

نصوص في علوم القرآن، ص: 666

و منها قوله تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ* وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ «1».

و منها قوله تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ «2». و قبل بيان ما نحن بصدده لا بأس بالإشارة إلى نقطتين:

الأولى: أنّ من الواضح أنّ المراد بالرّوح الأمين في الآيات الأوّل ليس هو اللّه عزّ و جلّ، و ذلك بقرينة الآية الثّانية الّتي تقول: نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ...؛ حيث إنّها تدلّ على أنّ روح القدس و الرّوح الأمين هو الواسطة بين الرّبّ و بين عبده الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، فلا يعقل أن يكون هو نفس اللّه عزّ و جلّ.

الثّانية: أنّ الرّوح الأمين، أو روح القدس في الآيات الأوّل يراد به جبريل، و ذلك

بقرينة الآية الأخيرة الّتي تقول: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ ...، فإنّها صريحة في أنّ منزّل القرآن من اللّه تعالى على قلب محمّد صلّى اللّه عليه و آله هو جبريل، فلو كان المراد بالرّوح الأمين، أو الرّوح القدس غير جبريل لوقعت المنافاة بين الآيات.

جبريل نزل بجميع القرآن

إذا تمهّد هذا قلنا: إنّه يظهر من هذه الآيات المذكورة أنّ جبريل قد نزّل جميع القرآن على قلب محمّد صلّى اللّه عليه و آله لا بعضه، و ذلك لأنّ الضّمائر الواردة في قوله تعالى: وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، و نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، و نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ، هذه الضّمائر لا يرتاب أحد في ظهورها في القرآن الشّريف الكائن بين الدّفّتين، و الكتاب الّذي هو معجزة محمّد صلّى اللّه عليه و آله الخالدة.

و ممّا يشهد و يؤيّد هذا الظّهور المشار إليه هو تلك الآيات الكثيرة التّالية لقوله تعالى:

وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، و هذه الآيات هي: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ

______________________________

(1)- النّحل/ 102- 103.

(2)- البقرة/ 97.

نصوص في علوم القرآن، ص: 667

* وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ* أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ* وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ* فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ* كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ* لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ إلى قوله: وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ* وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ وَ ما يَسْتَطِيعُونَ* إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ «1».

فإنّ من تأمّل في هذه الآيات يقطع بأنّها تتحدّث عن القرآن كلّه، و هو ما بين الدّفّتين، و إنّ الضّمائر الموجودة فيها يراد بها الدّلالة عليه كلّه لا على بعضه.

الآيات الدّالّة على وساطة جبريل:

و من الآيات

الدّالّة على ما نحن بصدده أيضا قوله تعالى: وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ* إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ* مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ* وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ «2».

أي أنّ القرآن الّذي يقرؤه عليكم محمّد صلّى اللّه عليه و آله ليس هو من عند نفسه، و إنّما هو قول رسول كريم، و هو جبريل، و قد تلقّاه محمّد منه.

المراد بالرّسول الكريم:

و يدلّنا على أنّ المراد بالرّسول الكريم في الآية الشّريفة هو جبريل، ما عن عليّ بن إبراهيم، بسند صحيح، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث الإسراء بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و فيه: «... فقلت لجبرئيل- و هو بالمكان الّذي وصفه اللّه مطاع ثمّ أمين- أ لا تأمره أن يريني النّار؟ فقال له: يا مالك، أر محمّدا النّار، فكشف عنها غطاءها، و فتح بابا منها ...» إلى آخر الحديث.

إذ يستفاد من هذا الحديث أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد قرّر أنّ كلمة مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ الواردة في هذه الآية، إنّما هي وصف من اللّه تعالى لجبرئيل، و قد تجلّت أمانة جبريل عليه السّلام في أنّه كان هو المؤتمن على القرآن، و إيصاله إلى محمّد، كما و ظهر أنّه مطاع، من حيث أنّه أمر مالكا فامتثل.

______________________________

(1)- الشّعراء/ 193- 201.

(2)- التّكوير/ 18- 22.

نصوص في علوم القرآن، ص: 668

و ممّا يؤيّد ذلك أيضا ما ورد في أدعية زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام على ما في الصّحيفة السّجاديّة، عند صلواته على كلّ ملك مقرّب: «و جبريل الأمين على وحيك المطاع في أهل سماواتك، المكين لديك المقرّب عندك» .. الخ.

كما أنّ الآيات الواردة في أوّل سورة النّجم،

و هي قوله تعالى: وَ النَّجْمِ إِذا هَوى* ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى* وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى «1».

هذه الآيات شاهد آخر، على أنّ المراد بقوله تعالى: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ هو جبريل عليه السّلام. قال في مجمع البيان- و هو يفسّر آيات سورة النّجم: يعني جبريل القويّ في نفسه و خلقته، عن ابن عبّاس و الرّبيع و قتادة. و عن الكلبيّ أنّه قال: و من قوّته أنّه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود، فرفعها إلى السّماء، ثمّ قلبها، و من شدّته صيحته لقوم ثمود حتّى هلكوا.

بل إنّ هذه الآيات- أعني آيات سورة النّجم- ليس فقط تصلح دليلا على أنّ المراد بالرّسول ذي القوّة المكين هو جبريل، بل هي أيضا دليل آخر على ما نحن فيه؛ إذ أنّها تدلّ على أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لا يتكلّم بشي ء، قرآنا كان أو غيره ممّا ترتبط برسالته، إلّا و يكون ذلك الشّي ء وحيا، علّمه إيّاه شديد القوى، الّذي هو جبريل، و هذا هو نفس ما نحن بصدد إثباته.

الأقوال

هذا و يتّضح بعد كلّ ما تقدّم أنّ القرآن كلّه قد نزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله بوساطة جبريل عليه السّلام و يبدو أنّ أهل السّنّة لا يمانعون في ذلك؛ فقد رووا ذلك عن ابن عبّاس بأسانيد صرّحوا بصحّتها؛ قال السّيوطيّ في الإتقان: و عن الحاكم، و ابن شيبة من طريق حسّان بن حريث ... [و ذكر كما تقدّم عنه].

توهّم و دفع و أخيرا فلعلّنا لا نرى مبرّرا لتوهّم أن يكون ما قدّمناه يخالف و ينافي قوله تعالى:

______________________________

(1)- النّجم/ 1- 5.

نصوص في علوم

القرآن، ص: 669

وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ، و نحو ذلك من الآيات الّتي نسب فيها التّنزيل إلى اللّه لا إلى جبريل.

و ذلك لأنّ الفعل كما يصحّ إسناده إلى المباشر المختار، كذلك يصحّ نسبته و إسناده إلى السّبب، فالوجه في إسناد الفعل إلى اللّه تعالى هو أنّه سبب، و إلى جبريل هو أنّه المباشر المختار ...

و إلّا فإنّ وساطة جبريل في الجملة ممّا لا ريب فيه، فإسناد تنزيل جميع القرآن إلى اللّه تعالى لا تصحّ على إطلاقها أيضا.

و من ذلك يعلم أنّ الوجه في نسبة تنزيل القرآن تارة إلى اللّه تعالى، و أخرى إلى جبريل عليه السّلام هو ما ذكرنا.

مناقشة

هذا و لا بدّ هنا من الإشارة إلى ما ربّما يقال: من أنّه لم لا يلتزم بالتّبعيض، بمعنى وساطة جبريل في بعض آيات القرآن لا في جميعها؟

و لكنّ ذلك لا يمكن الالتزام به؛ حيث أنّه لا دليل عليه و لا شاهد له، سوى ما يتوهّم من الأخبار الدّالّة على أنّ نزول الوحي كان على نحوين:

أحدهما: ما كان جبريل واسطة فيه بين النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بين اللّه تعالى. و الآخر: ما كان بلا واسطة شي ء أصلا.

فمن هذه الأخبار ما رواه في البحار عن المحاسن بسند صحيح، عن هشام بن سالم؛ قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا أتاه الوحي من اللّه، و بينهما جبريل، يقول:

هو ذا جبريل، و قال لي جبريل، و إذا أتاه الوحي و ليس بينهما جبريل تصيبه تلك السّبتة، و يغشاه لثقل الوحي عليه من اللّه عزّ اسمه «1».

و لكنّ هذا الحديث لا يكفي لإثبات ما يراد إثباته هنا، و ذلك

لأنّه في صدد بيان أنّ الوحي كان على نحوين، أحدهما: بواسطة جبريل، و الآخر: بدونه، و ليس في صدد بيان

______________________________

(1)- البحار 18: 271.

نصوص في علوم القرآن، ص: 670

أنّ الوحي القرآنيّ من أيّ من هذين النّحوين هو، أو من كليهما، و لا دلالة له على شي ء من ذلك، و حينئذ فيحتمل أن يكون الوحي القرآنيّ ممّا توسّط به جبريل. و أمّا ما لم يتوسّط فيه جبريل، فهو الوحي الّذي جاءه صلّى اللّه عليه و آله في الموضوعات أو في غير القرآن المجيد، ممّا يعبّر عنه ب «الأحاديث القدسيّة».

و هذا الاحتمال بعد أن عضده الدّليل، و أيّدته الشّواهد يكون هو المتعيّن، و يخرج عن كونه احتمالا إلى كونه من الأمور المعتبرة و الثّابتة.

و لا بدّ لنا أخيرا من الإشارة إلى أنّه قد روي في البحار بعد هذا الحديث مباشرة حديث آخر يرتبط فيما نحن فيه، و هو عن العيّاشيّ، عن عيسى بن عبد اللّه، عن جدّه، عن عليّ عليه السّلام؛ قال: كان القرآن ينسخ بعضه بعضا ... [و ذكر كما تقدّم عن البحرانيّ ثمّ قال:]

و رواه أيضا الأمين الطّبرسيّ في تفسير سورة المائدة عن العيّاشيّ مع اختلاف يسير.

و لكنّ هذا الحديث لا يدلّ بنفسه على أنّ جبريل ليس متوسّطا بين اللّه و النّبيّ حين نزول سورة المائدة؛ إذ لعلّها قد نزلت بواسطة جبريل أيضا.

اللّهم إلّا أن نستظهر عدم وساطة جبريل فيها بمعونة غيرها من الرّوايات، كأن نستظهر ذلك من عروض ما يشبه الإغماء العارض للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الثّقل؛ حيث أنّ الأخبار الّتي سبق بعضها تدلّ على أنّ الوحي إذا نزل بواسطة جبريل لم يحصل له ثقل و لا ما يشبه الإغماء، و

إذا كان بدونه تصيبه صلّى اللّه عليه و آله تلك السّبتة.

هذا بالنّسبة إلى الدّلالة في هذه الرّواية مع الإغماض عن أمور أخرى يطول بذكرها المقام.

و أمّا بالنّسبة إلى سندها فليس من القوّة بحيث يثبت هذا المطلب المخالف لظاهر آيات كثيرة تقدّمت، فإنّ الرّواة الّذين هم بين العيّاشيّ و عيسى بن عبد اللّه لم يصرّح بأسمائهم، حتّى نعرف أنّهم واجدون لشرائط اعتبار أقوالهم أم لا، و هذا يكفي وحده و هنا في هذه الرّواية، و إسقاطها عن درجة الاعتبار.

و هكذا فإنّ النّتيجة تكون أنّ جبريل كان واسطة في نزول تمام القرآن على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله الطّيبين الطّاهرين. (ص: 9- 17)

نصوص في علوم القرآن، ص: 671

الفصل الثّامن و السّبعون نصّ الصّابونيّ في كتابه: «التّبيان في علوم القرآن»

نزول القرآن الكريم

شرّف اللّه هذه الأمّة المحمّديّة، فأنزل عليها كتابه المعجز- خاتمة الكتب السّماويّة- ليكون دستورا لحياتها، و علاجا لمشاكلها، و بلسما شافيا لعللها و أمراضها، و آية مجد و فخار على اصطفاء هذه الأمّة، و اختيارها لحمل أقدس الرّسالات السّماويّة؛ حيث أكرمها اللّه بإنزال أشرف كتاب. و خصّها بالانتساب إلى أشرف مخلوق محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و سلم. و بنزول هذا القرآن اكتمل عقد الرّسالات السّماويّة، فشعّ النّور على العالم، و سطع الضّياء على الكون، و وصلت هداية اللّه إلى الخلق، و كان هذا النّزول بواسطة أمين السّماء جبريل عليه السّلام، يهبط به على قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم ليبلّغه وحي اللّه، و في ذلك يقول اللّه جلّ ثناؤه: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «1».

كيف نزل القرآن الكريم؟

للقرآن الكريم تنزّلان:

الأوّل: من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا جملة واحدة في ليلة القدر.

______________________________

(1)- الشّعراء/ 193- 195.

نصوص في علوم القرآن، ص: 672

الثّاني: من السّماء الدّنيا إلى الأرض مفرّقا في مدّة ثلاث و عشرين سنة.

التّنزّل الأوّل

فقد كان في ليلة مباركة من ليالي الدّهر هي ليلة القدر، أنزل فيه القرآن كاملا إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا، و يدلّ عليه عدّة نصوص، و هي:

أ- قوله تعالى: حم* وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ «1».

ب- و قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ «2».

ج- و قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ «3».

فقد دلّت هذه الآيات الثّلاث على أنّ القرآن أنزل في ليلة واحدة، توصف بأنّها مباركة، و تسمّى لَيْلَةِ الْقَدْرِ، و هي من ليالي شهر رمضان، و يتعيّن أن يكون هذا النّزول هو النّزول الأوّل إلى بيت العزّة في السّماء؛ لأنّه لو أريد به النّزول الثّاني على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم لما صحّ أن يكون في ليلة واحدة، و في شهر واحد هو (شهر رمضان)؛ لأنّ القرآن إنّما نزل في مدّة طويلة هي مدّة البعثة (23) سنة، و نزل في غير رمضان في جميع الأشهر، فتعيّن أن يكون المراد به النّزول الأوّل، و قد جاءت الأخبار الصّحيحة تؤيّد ذلك، منها: [ثمّ نقل رواية ابن عبّاس عن السّيوطيّ كما تقدّم عنه].

قال السّيوطيّ: و لو لا أنّ الحكمة الإلهيّة ... [و ذكر كما تقدّم عن أبي شامة]

التّنزّل الثّاني

و أمّا التّنزّل الثّاني فقد كان من السّماء الدّنيا على قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم منجّما، أي مفرّقا في

______________________________

(1)- الدّخان/ 1- 3.

(2)- القدر/ 1.

(3)- البقرة/ 185.

نصوص في علوم القرآن، ص: 673

مدّة ثلاث و عشرين سنة، و هي من حين البعثة إلى حين وفاته صلّى اللّه عليه و سلم. و الدّليل على

هذا النّزول و أنّه نزل منجّما قول اللّه تعالى في سورة الإسراء. وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «1».

و قوله تعالى في سورة الفرقان: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «2».

روي أنّ اليهود و المشركين عابوا على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم نزول القرآن مفرّقا، و اقترحوا عليه أن ينزل جملة واحدة، حتّى قال اليهود له: يا أبا القاسم لو لا أنزل هذا القرآن جملة واحدة كما أنزلت التّوراة على موسى، فأنزل اللّه هاتين الآيتين ردّا عليهم. و هذا الرّد- كما يقول الزّرقانيّ- يدلّ على أمرين:

أحدهما: أنّ القرآن نزل مفرّقا على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم.

و الثّاني: أنّ الكتب السّماويّة قبله نزلت جملة ... [و ذكر كما تقدّم عنه].

حكمة نزول القرآن منجّما

لنزول القرآن الكريم منجّما- أي مفرّقا- حكم جليلة، و أسرار عديدة عرفها العالمون. و غفل عنها الجاهلون. و نستطيع أن نجملها فيما يأتي، و هي:

أوّلا: تثبيت قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم أمام أذى المشركين.

ثانيا: التّلطّف بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم عند نزول الوحي.

ثالثا: التّدرّج في تشريع الأحكام السّماويّة.

رابعا: تسهيل حفظ القرآن و فهمه على المسلمين.

خامسا: مسايرة الحوادث و الوقائع، و التّنبيه عليها في حينها.

سادسا: الإرشاد إلى مصدر القرآن، و أنّه تنزيل الحكيم الحميد.

و لنبدأ بشي ء من التّفصيل عن هذه الحكم العديدة الّتي أجملناها فيما سبق، فنقول

______________________________

(1)- الإسراء/ 106.

(2)- الفرقان/ 32.

نصوص في علوم القرآن، ص: 674

و من اللّه نستمدّ العون:

أمّا الحكمة الأولى: و هي تثبيت قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم فقد ذكرتها الآية الكريمة في معرض الرّدّ على المشركين، حين اقترحوا أن

ينزل القرآن جملة واحدة كما نزلت الكتب السّماويّة السّابقة، فردّ اللّه عليهم بقوله: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا و تثبيت قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم إنّما هو رعاية من اللّه، و تأييد لرسوله أمام تكذيب خصومه له، و إيذائهم الشّديد له و لأتباعه، فقد كانت الآيات الكريمة تنزّل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم تسلية له و شحذا لهمّته؛ للمضيّ في طريق الدّعوة مهما اعترضته المصاعب و الشّدائد، و تقوية لقلبه الشّريف، فقد تعهّده اللّه سبحانه و تعالى بما يخفّف عنه الشّدائد و الآلام، فكان إذا اشتدّ الأذى عليه نزلت الآيات تسلية له و تخفيفا عمّا يلقاه، و كانت التّسلية تارة عن طريق قصص الأنبياء و المرسلين؛ ليقتدي بهم في صبرهم و جهادهم، كما قال تعالى: وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا ... «1» الآية، و قوله تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «2»، و قوله: وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا «3».

و قد أوضح الباريّ جلّت عظمته الحكمة من ذكر قصص الأنبياء، فقال و هو أصدق القائلين: وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ «4»، و تارة كانت التّسلية عن طريق الوعد بالنّصر و التّأييد للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، كقوله تعالى: وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً «5»، و كقوله: وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ «6».

و أخرى تكون التّسلية عن طريق إخبار الرّسول باندحار أعدائه و انهزامهم، كما في

______________________________

(1)- الأنعام/ 34.

(2)- الأحقاف/ 35.

(3)-

الطّور/ 48.

(4)- هود/ 120.

(5)- الفتح/ 3.

(6)- الصّافات/ 171- 173.

نصوص في علوم القرآن، ص: 675

قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ «1»، و قوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ «2». إلى آخر ما هنالك من ألوان في التّخفيف عن قلب الرّسول، و تطييب نفسه و فؤاده.

و لا شكّ أنّ في تجدّد نزول الوحي، و تكرّر هبوط الأمين جبريل بالآيات البيّنات الّتي فيها تسلية للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، و فيها الوعد بالنّصر و الحفظ و التّأييد، كان لها أعظم الأثر في تثبيت قلب الرّسول لمتابعة الدّعوة، و المضيّ في تبليغ الرّسالة الإلهيّة؛ لأنّ اللّه معه، و هل يشعر بالخذلان و الفتور من كانت عناية اللّه تحوطه و عينه ترعاه؟

أمّا الحكمة الثّانية: و هي التّلطّف بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم عند نزول الوحي، فقد كانت بسبب روعة القرآن و هيبته، كما قال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا «3»، فالقرآن- كما هو مقطوع به- كلام اللّه المعجز الّذي له جلال و وقار، و هيبة و روعة، و هو الكتاب الّذي لو نزل على جبل لتفتّت و تصدّع من هيبته و جلاله، كما قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ... «4» فكيف إذا بقلب النّبيّ الرّقيق؟ هل يستطيع أن يتلقّى جميع القرآن دون أن يتأثّر و يضطرب و يشعر بروعة القرآن و جلاله؟ و لقد أوضحت السّيدة عائشة حالة الرّسول حين ينزل عليه القرآن، و ما يلاقيه من شدّة و هول من أثر التّنزيل فقالت: كما رواه البخاريّ و لقد رأيته حين ينزل عليه الوحي في اليوم الشّديد البرد، فيفصم عنه

(أي ينفصل)، و إنّ جبينه ليتفصّد عرقا. يتفصّد، أي يتصبّب عرقا، و ذلك من شدّة الوحي و وطأته على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم.

و أمّا الحكمة الثّالثة: و هي التّدرّج في تشريع الأحكام فقد كانت جليّة واضحة؛ حيث سلك القرآن الكريم مع البشريّة- و خاصّة منهم العرب- طريق الحكمة، ففطمهم عن الشّرك، و أحيا قلوبهم بنور الإيمان، و غرس في نفوسهم حبّ اللّه و رسوله، و الإيمان

______________________________

(1)- القمر/ 45.

(2)- آل عمران/ 12. نصوص في علوم القرآن 675 حكمة نزول القرآن منجما ..... ص : 673

(3)- المزمّل/ 5.

(4)- الحشر/ 21.

نصوص في علوم القرآن، ص: 676

بالبعث و الجزاء، ثمّ انتقل بهم بعد هذه المرحلة- مرحلة تثبيت دعائم الإيمان- إلى العبادات، فبدأهم بالصّلاة قبل الهجرة، ثمّ ثنّى بالصّوم و بالزّكاة في السّنة الثّانية من الهجرة، ثمّ ختم بالحجّ في السّنة السّادسة منها، و كذلك فعل في العادات المتوارثة. زجرهم أوّلا عن الكبائر، ثمّ نهاهم عن الصّغائر في شي ء من الرّفق، و تدرّج بهم في تحريم ما كان مستأصلا في نفوسهم كالخمر و الرّبا و الميسر، تدرّجا حكيما، استطاع بذلك أن يقتلع الشّرّ و الفساد من جذوره اقتلاعا كاملا. و لنأخذ بعض الأمثله على ذلك التّشريع الحكيم الّذي نجح في انتهاجه القرآن، في معالجة الأمراض الاجتماعيّة، تحريم الخمر الّذي كان داء مستشريا عند العرب، كيف استطاع أن يمحوه و يقضي عليه الإسلام؟ لقد انتهج القرآن في تحريمه أربعة مراحل، كما هو الشّأن في تحريم الرّبا، فلم يحرّمه دفعة واحدة؛ لأنّهم كانوا يتعاطون شرب الخمر كما يشرب الواحد منّا الماء الزّلال، فلم يكن من الحكمة أن يحرّمه عليهم دفعة واحدة، و إنّما حرّمه بالتّدريج.

المرحلة الأولى: فبدأ أوّلا بالتّنفير

منه بطريق غير مباشر، فنزل قوله تعالى: وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً ... «1» الآية، فقد أخبر تعالى أنّه قد أنعم على النّاس بهاتين الشّجرتين: النّخيل و الأعناب، يستخرجون منهما السّكر، أي الخمر الّذي يسكر، و الرّزق الحسن الّذي ينتفع منه النّاس من مأكول و مشروب، فمدح الثّاني و وصفه بأنّه رزق حسن، و أخبر عن الأوّل بأنّه سكر، أي شي ء يسكر و يذهب بعقل الإنسان. و بهذه المباينة في الوصف يتّضح لكلّ عاقل الفارق الكبير بين الأمرين المذكورين.

المرحلة الثّانية: جاء التّنفير المباشر عن طريق المقارنة العمليّة بين شيئين: شي ء فيه نفع مادّي ضئيل، و شي ء فيه ضرر جسميّ و صحّيّ و عقليّ جسيم، و فيه كذلك زيادة على الإضرار العظيمة مهلكة للإنسان عن طريق وقوعه في الإثم الكبير، استمع إلى قوله تعالى:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ

______________________________

(1)- النّحل/ 67.

نصوص في علوم القرآن، ص: 677

نَفْعِهِما ... «1» الآية. و المراد بالمنافع هنا المنافع المادّية الّتي كانوا يستفيدونها من وراء التّجارة و البيع للخمر؛ حيث يربحون منها، كما يربحون من وراء الميسر، و قد جمع القرآن بين الخمر و الميسر في الآية الكريمة، و لا شكّ أنّ النّفع في الميسر مادّيّ بحت؛ حيث يربح بعض المقامرين فكذلك في الخمر.

قال العلّامة القرطبيّ في تفسيره عند تفسير هذه الآية قوله تعالى: وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ أمّا في الخمر فربح التّجارة، فإنّهم كانوا يجلبونها من الشّام برخص، فيبيعونها في الحجاز بربح، هذا أصحّ ما قيل في منتفعها. و بالمقارنة بين هذين الشّيئين تبيّن أنّ الإسلام نفّر من الخمر عن طريق بيان أضرارها

الجسميّة و لكنّه لم يحرّمها، و قد روي في سبب نزول هذه الآية أنّ جماعة من المسلمين فيهم عمر بن الخطّاب جاءوا إلى الرّسول الكريم، فقالوا: يا رسول اللّه، أخبرنا عن الخمر، فإنّها مذهبة للعقل، مضيّعة للمال، منهكة للجسم، فأنزل اللّه عزّ و جلّ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ ... الآية.

و في المرحلة الثّالثة: كان التّحريم للخمر، و لكنّه كان تحريما جزئيّا؛ حيث نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ... «2»

الآية. فقد حرّم اللّه عليهم الخمر وقت الصّلاة فقط حتّى يصحّوا من سكرهم، فكان المسلمون يشربونها ليلا و في غير أوقات الصّلاة.

و في المرحلة الرّابعة: و هي المرحلة الأخيرة كان التّحريم الكلّيّ، القاطع المانع، حيث نزل قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ، وَ الْأَزْلامُ، رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ... «3» ...

و هكذا تمّ تحريم الخمر تحريما بالتّدرّج، فكان في ذلك أعظم حكمة جليلة سلكها الإسلام في معالجة الأمراض الاجتماعيّة. و قد جاء في كتاب «مناهل العرفان» للزّرقانيّ ما نصّه: و تدرّج الإسلام بهم في تحريم ما كان مستأصلا ... [و ذكر كما تقدّم عنه].

______________________________

(1)- البقرة/ 219.

(2)- النّساء/ 43.

(3)- المائدة/ 90.

نصوص في علوم القرآن، ص: 678

أمّا الحكمة الرّابعة: فهي تسهيل حفظ القرآن على المسلمين، و فهمهم و تدبّرهم له، فمن المعلوم أنّ العرب كانوا أمّيّين، أي لا يقرءون و لا يكتبون و قد سجّل القرآن الكريم عليهم ذلك في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ... «1» الآية، كما كان صلّى اللّه عليه و سلم أميّا كذلك: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ

الْأُمِّيَ «2». فاقتضت حكمة اللّه أن ينزل كتابه المجيد منجّما؛ ليسهل حفظه على المسلمين، لأنّهم كانوا يعتمدون على ذاكرتهم، فكانت صدورهم أنا جيلهم، كما ورد في وصف أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلم و أدوات الكتابة لم تكن ميسورة لدى الكاتبين منهم على ندرتهم، فلو نزل القرآن جملة واحدة لعجزوا عن حفظه، و عجزوا بالتّالي عن تدبّره و فهمه.

أمّا الحكمة الخامسة: فهي مسايرة الحوادث و الوقائع في حينها، و التّنبيه على الأخطاء في وقتها، فإنّ ذلك أوقع في النّفس و أدعى إلى أخذ العظة و العبرة منها عن طريق الدّرس العمليّ، فكلّما جدّ منهم جديد نزل من القرآن ما يناسبه، و كلّما حصل منهم خطأ أو انحراف نزل القرآن بتعريفهم و تنبيههم إلى ما ينبغي اجتنابه و لطلب عمله. و نبّههم إلى مواطن الخطأ في ذلك الوقت و الحين، خذ مثلا على ذلك غزوة حنين، فقد دخل الغرور إلى نفوس المسلمين، و قالوا قولة الإعجاب و الاغترار، لمّا رأوا عددهم يزيد على عدد المشركين أضعافا مضاعفة، حينذاك داخلهم العجب فقالوا: لن نغلب اليوم من قلّة. و كانت النّتيجة انكسارهم و انهزامهم و تولّيهم الأدبار، و في ذلك يقول القرآن الكريم: وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ «3». و لو أنّ القرآن نزل جملة واحدة لما أمكن التّنبيه على الخطأ في حينه، إذ كيف يتصوّر أن تنزل الآيات في شأن المؤمنين و اغترارهم و لم تحدث بعد تلك الواقعة أو الغزوة؟ و كذلك الحال في أخذ الفداء من الأسرى في بدر؛ حيث نزل التّوجيه السّماويّ

______________________________

(1)- الجمعة/ 2.

(2)- الأعراف/ 157.

(3)- التّوبة/ 25.

نصوص في

علوم القرآن، ص: 679

الرّائع: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ... «1» الآية.

أمّا الحكمة السّادسة: فهي الإرشاد إلى مصدر القرآن الكريم، و أنّه تنزيل الحكيم الحميد. و في هذه الحكمة الجليلة يجدر بنا أن ننقل نصّ ما كتبه العالم الفاضل الشّيخ محمّد عبد العظيم الزّرقانيّ في كتابه: ... [و ذكر كما تقدّم عنه].

كيف تلقّى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم القرآن؟

تلقّى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم القرآن بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السّلام، و جبريل تلقّاه عن ربّ العزّة جلّ جلاله، و ليس لجبريل الأمين سوى تبليغ كلام اللّه و إيحائه للرّسول صلّى اللّه عليه و سلم. فاللّه جلّت حكمته قد أنزل كتابه المقدّس على خاتم أنبيائه بواسطة أمين الوحي جبريل، و علّمه جبريل للرّسول، و بلّغه الرّسول لأمّته، و قد وصف اللّه جبريل عليه السّلام بأنّه أمين على الوحي، يبلّغه كما سمعه عن اللّه تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ* مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ «2»، و قال تعالى في وصفه أيضا: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «3». أمّا حقيقة الكلام و حقيقة المنزل فإنّما هو كلام اللّه، و تنزيل ربّ العالمين، كما قال تعالى: وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ «4». و قد كان صلّى اللّه عليه و سلم يعاني عند نزول القرآن شدّة، و كان يحاول أن يجهد نفسه من أجل حفظ القرآن، فيكرّر القراءة مع جبريل حين يتلو عليه القرآن؛ خشية أن ينساه أو يضيع عليه شي ء منه، فأمره اللّه تعالى بالإنصات و السّكوت عند قراءة جبريل عليه، و طمأنه بأنّه تعالى سيجعل هذا القرآن محفوظا في صدره، فلا يتعجّل في أمره،

و لا يجهد نفسه في تلقّيه: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «5». و أمّا تكفّل اللّه تعالى له بالحفظ فقد جاء في قوله سبحانه: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ* فَإِذا

______________________________

(1)- الأنفال/ 67.

(2)- التّكوير/ 19- 21.

(3)- الشّعراء/ 193- 194.

(4)- النّمل/ 6.

(5)- طه/ 114.

نصوص في علوم القرآن، ص: 680

قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ «1». و قد كان جبريل يدارس النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم القرآن في رمضان، فينزل جبريل على رسول اللّه و يستمع له القرآن، فيقرأ الرّسول بين يديه، و جبريل يستمع، و يقرأ جبريل و النّبيّ يستمع، و هكذا يدارسه في كلّ رمضان ما نزل من القرآن مرّة واحدة، و قبل وفاته صلّى اللّه عليه و سلم نزل عليه جبريل مرّتين في رمضان، فدارسه القرآن، حتّى لقد شعر صلّى اللّه عليه و سلم من نزول جبريل مرّتين عليه بدنوّ أجله، و قال لعائشة: «إنّ جبريل كان ينزل عليّ فيدارسني القرآن مرّة واحدة في رمضان، و قد نزل عليّ هذا العام مرّتين، و ما أراني إلّا قد اقترب أجلي».

و قد كان الأمر كذلك، فقد انتقل في ذلك العام إلى جوار ربّه صلّى اللّه عليه و سلم، و انقطع بوفاته نزول الوحي.

أمّا كيف تلقّى جبريل القرآن عن اللّه عزّ و جلّ، فقد تقدّم معنا أنّه كان سماعا؛ حيث سمع من اللّه عزّ و جلّ هذه الآيات، فنزل بها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم [ثمّ حكى قول البيهقيّ و الزّرقانيّ كما تقدّم عنهما].

هل السّنة النّبويّة بوحي من اللّه؟

تقدّم معنا أنّ القرآن الكريم كلام اللّه، و معنى ذلك أنّ اللّفظ

و المعنى هو من عند اللّه، و لا دخل لجبريل أو لمحمّد فيه سوى التّبليغ عن اللّه عزّ و جلّ، أمّا السّنّة النّبويّة فإنّها بوحي كذلك من اللّه، و لكنّ اللّفظ للرّسول و المعنى من عند اللّه؛ لأنّ اللّه تعالى يقول: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «2». [ثمّ ذكر كلام الجوينيّ نقلا عن السّيوطيّ، كما تقدّم عنه]. (ص: 37- 52)

______________________________

(1)- القيامة/ 16- 19.

(2)- النّجم/ 3- 4.

نصوص في علوم القرآن، ص: 681

الفصل التّاسع و السّبعون نصّ الأبياريّ في «الموسوعة القرآنيّة» «1»

الحكمة في نزول القرآن منجّما

و فيما بين السّابع عشر من رمضان من السّنة الحادية و الأربعين من ميلاد الرّسول، و كان بدء نزول الوحي، و إلى ما قبل موته صلّى اللّه عليه و سلم بأيّام لا تجاوز الواحد و الثّمانين و لا تنقص عن العشرة، و كان آخر ما نزل من الوحي، أي في نحو من إحدى و عشرين سنة، أو على الأصحّ في نحو من ثماني عشرة سنة، بإسقاط المدّة الّتي فتر فيها الوحي و الّتي بلغت ثلاث سنين، نزل هذا القرآن منجّما يشرّع للنّاس، و يتابع الأحداث، و يجيب و يبيّن: وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً «2»، وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «3».

و ما كانت حكمة السّماء تقضي إلّا بهذا، مع أمّة يراد لها أوّلا التّحوّل من عقائد إلى عقيدة، و الخروج من و ثنيّة إلى دين، و من أوهام و ظنون إلى منطق و حقّ، و من لا إيمان إلى إيمان.

______________________________

(1)- و ذكر مثله أيضا في كتابه الموسوم ب «تاريخ القرآن».

(2)- الفرقان/ 33.

(3)- الإسراء/ 106.

نصوص في علوم القرآن، ص: 682

تلك خطوة أولى كان من الحكمة أن تبدأ

بها الدّعوة و تفرغ لها، حتّى إذا ما ضمّت النّاس على الطّريق أخذتهم بما تحمي إيمانهم به، فحاطتهم بعبادات و ألزمتهم بواجبات، و النّاس لا يمضون فيما جدّ عليهم خرسا لا ينطقون، و عميا لا ينظرون، و غفلا لا يتدبّرون.

فهم مع هذا كلّه سائلون يتبيّنون، و الوحي يتابعهم في كلّ ما عنه يستفسرون؛ إذ به تمام الرّسالة.

ثمّ إنّ هذه الدّعوة السّماويّة بدأت جهادا و عاشت جهادا، أملته الأيّام و تمخّضت عنه الأعوام، و هو و إن كان في علم السّماء قبل أن يقع، لكنّه كان على علم النّاس جديدا لم يقع، و كان لا بدّ أن يلقّنوه مع زمانه و أوانه.

ثمّ ما أكثر ما أخذ النّاس و أعطوا في ظلّ الدّعوة؛ لتثبت أركانها فى نفوسهم، و هذا و إن كان في علم السّماء قبل أن يقع، لكنّه كان على حياة النّاس جديدا لم يقع، و كان لا بدّ أن يلقّنوا بيانه مع زمانه و أوانه.

و هكذا لم تكن الرّسالة كلمة ساعتها، و إنّما كانت كلمات أعوام ثمانية عشر، و كانت هذه الكلمات كلّها في علم السّماء و في اللّوح المحفوظ، و لكنّها نزلت إلى علم النّاس مع زمانها و أوانها.

لهذا نزل القرآن منجّما، و لقد خال المشركون أنّ دعوة الرّسول إليهم كلمة، و أنّ صفحته معهم صفحة، وفاتهم أنّ الدّعوة معها خطوات، و أنّ هذه الخطوات معها جديد على علمهم لا على علم السّماء، و ما أحوجهم مع كلّ جديد إلى مزيد، و من أجل هذا الّذي فاتهم استنكروا أن ينزّل القرآن منجّما، و قالوا: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «1» و كان جواب السّماء عليهم. كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا

«2»، أي جعلناه بعضه في إثر بعض، منه ما نزل ابتداء، و منه ما نزل في عقب واقعة أو سؤال؛ ليكون في تتابعه مع الأحداث، و ما تثيره من شكوك، ما يردّ النّفوس إلى طمأنينة، و الأفئدة إلى ثبات.

و إنّك لو تتبّعت أسباب النّزول في القرآن و مواقع الآيات لتبيّنت أنّ رسالة الرّسول لم

______________________________

(1)- الفرقان/ 32.

(2)- الفرقان/ 32.

نصوص في علوم القرآن، ص: 683

تكن جملة واحدة، ليكون القرآن جملة واحدة، بل كانت أحداثا متلاحقة تقتضي كلمات متلاحقة.

فلقد نزلت آية الظّهار في سلمة بن صخر، و نزلت آية اللّعان في شأن هلال بن أميّة، و نزلت آية حدّ القذف في رماة عائشة، و نزلت آية القبلة بعد الهجرة، و بعد أن استقبل المسلمون بيت المقدس بضعة عشر شهرا، و نزلت آية اتّخاذ مقام إبراهيم مصلّى حين سأل عمر الرّسول في ذلك. كذلك كانت الحال في الحجاب، و أسرى بدر، و غير ذلك كثير، فكان القرآن ينزّل بحسب الحاجة خمس آيات و عشر آيات، و أكثر و أقلّ، و قد صحّ نزول عشر آيات في قصّة الإفك جملة، كما صحّ نزول عشر آيات من أوّل «المؤمنين» جملة، و صحّ نزول غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ «1» وحدها، و هي بعض آية، و كذا وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً «2» إلى آخر الآية، و هي بعض آية، و نزلت بعد نزول أوّل الآية. (1: 345- 348)

______________________________

(1)- النّساء/ 95

(2)- التّوبة/ 28.

نصوص في علوم القرآن، ص: 684

الفصل الثّمانون نصّ الشّرقاويّ في « [تاريخ] القرآن المجيد»

نزول القرآن

نزل القرآن مفرّقا و في أوقات متباعدة، و تاريخه هو تاريخ الرّسالة المحمّديّة، و مدّته هي مدّتها أو قريبا من ذلك.

و قد صرّح القرآن بأنّ نزوله كان في رمضان، و في ليلة القدر منه على

الخصوص، كما قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «1»، و قال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2».

و أكّد ذلك بالنّسبة إلى اللّيلة المذكورة قوله في الآية الأخرى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «3». و رمضان مختصّ بإنزال الكتب السّماويّة السّابقة، فقد جاء في مسند الإمام أحمد من حديث واثلة ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ].

و معنى إنزاله لأربع و عشرين خلت، أنّه نزل بعد تمام أربع و عشرين ليلة، فيكون إنزاله في ليلة خمس و عشرين.

و هذه الكتب المنزلة ما عدا القرآن نزل كلّ منها على الرّسول الّذي نزل عليه جملة

______________________________

(1)- البقرة/ 185.

(2)- القدر/ 1.

(3)- الدّخان/ 3.

نصوص في علوم القرآن، ص: 685

واحدة.

و أمّا القرآن المجيد فمعلوم أنّه نزل على محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مفرّقا من حين رسالته إلى قرب وفاته، بيد أنّ ظاهر هذه الآيات يدلّ على أنّه نزل كلّه جملة واحدة في ليلة من ليالي شهر رمضان، و هو أيضا ظاهر حديث واثلة السّابق.

و هذا يثير في النّفس تساؤلا: كيف يتسنّى القول بنزول القرآن كلّه جملة واحدة، مع ما هو معلوم يقينا من أنّه نزل على محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مفرّقا في اثنتين و عشرين سنة و خمسة أشهر تقريبا؟ حتّى أنّ الكافرين قالوا كما حكي اللّه تعالى عنهم: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «1».

و قد يجيب بعض النّاس عن هذا التّساؤل فيقول: إنّ الّذي أنزل في ليلة القدر إنّما هو أوّل القرآن نزولا، و هو قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ*

عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «2». فيكون قوله تعالى:

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «3»، معناه شهر رمضان الّذي ابتدئ فيه إنزال القرآن.

و قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ، معناه إنّا ابتدأنا إنزاله.

و هذا الجواب ليس بسديد؛ لأنّ فيه حمل الآيات على غير ظاهرها. و الجواب السّديد هو ما أجاب به ابن عبّاس في آثار صحيحة مرويّة عنه، نكتفي منها بما يلي:

أوّلا: أخرج الحاكم عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه أنّه قال: فصل القرآن من الذّكر، فوضع في بيت العزّة من السّماء الدّنيا، فجعل جبريل ينزل به على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم «4». و معنى قوله: فصل القرآن من الذّكر، أنّ الملائكة كتبوا القرآن الكريم نقلا من اللّوح المحفوظ، ثمّ أنزلوا ما كتبوه إلى مكان في السّماء الدّنيا يسمّى بيت العزّة؟

ثانيا: أخرج النّسائيّ و الحاكم و البيهقيّ عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه أنّه قال: أنزل القرآن

______________________________

(1)- الفرقان/ 32.

(2)- العلق/ 1- 5.

(3)- البقرة/ 185.

(4)- البرهان 1: 229.

نصوص في علوم القرآن، ص: 686

جملة واحدة إلى السّماء الدّنيا ليلة القدر، ثمّ أنزل بعد في عشرين سنة. و قوله: في عشرين سنة، فيه إيجاز بالاقتصار على ذكر العقدين الكاملين، و حذف الكسر، و هو سنتان و خمسة أشهر تقريبا.

ثالثا: أخرج ابن مردويه و البيهقيّ و ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه أنّه سأله عطيّة بن الأسود، فقال: وقع في قلبي الشّكّ ... [و ذكر كما تقدّم عن الطّبريّ ثمّ قال:].

و قوله: وقع في قلبي الشّكّ، لا يقصد به حقيقة الشّكّ، فإنّ القرآن لا يشكّ فيه مسلم، و إنّما مقصوده أنّ هذا التّعارض الّذي يبدو لأوّل وهلة يثير في النّفس حيرة في الفهم، مع إيمان بأنّ

القرآن حقّ لا ريب فيه.

و قوله: أنزل على مواقع النّجوم، معناه أنّه أنزل مفرّقا على مثل مساقط النّجوم، فإنّ النّجوم تسقط أمام الأنظار في أوقات مختلفة يتبع بعضها بعضا. و قوله: رسلا- بكسر الرّاء- معناه تؤدة، أي في زمن طويل.

و لا شكّ أنّ نزول القرآن من اللّوح المحفوظ إلى موضع مخصوص في السّماء الدّنيا يسمّى بيت العزّة لا يقوله ابن عبّاس رضى اللّه عنه اجتهادا و لا تخمينا، فإنّه من علم الغيب الّذي لا يطّلع اللّه عليه إلّا رسوله صلّى اللّه عليه و سلم.

و هذا النّزول الغيبيّ إن كان ممّا يحمل على القول به، هو إبقاء الآيات الواردة في نزول القرآن على ظاهرها من نزوله جملة واحدة، فإنّه لا يعارض نزوله الحسّيّ في التّاريخ المذكور، أي ابتداء نزوله على الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم مفرّقا، بل إنّ الرّواية نفسها تشير إلى ذلك و تبيّن المراد به، فهما إذن نزولان؛ غيبيّ و حسّيّ، و تاريخهما واحد «1».

و يتساءل العلّامة الزّركشيّ «2» عن السّرّ في هذا النّزول، و يجيب عن ذلك بقوله: فإن قيل: ... [و ذكر كما تقدّم عن أبي شامة، ثمّ قال:]

و قد بيّن اللّه تعالى حكمة نزول القرآن مفرّقا لا جملة واحدة في موضعين في الكتاب العزيز؛

______________________________

(1)- عبد اللّه كنون (ذكرى نزول القرآن): 7.

(2)- البرهان 1: 230، الإتقان 1: 50.

نصوص في علوم القرآن، ص: 687

الموضع الأوّل: قوله تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «1».

الموضع الثّاني: قوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا* وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً «2».

و

صدر آية الإسراء: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ، يرشد إلى حكمة من حكم التّفرقة، و هي أن يتيسّر على النّاس حفظه و فهمه، و تخلّيهم عن عقائدهم و أعمالهم الفاسدة بالتّدريج، و تحلّيهم بالعقائد و الأعمال الصّالحة بالتّدريج أيضا.

و آخرها وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا، يرشد إلى حكمة أخرى من حكم التّفرقة، و هي الدّلالة على أنّ القرآن منزل من اللّه تعالى و ليس من قول البشر، فإنّه مع نزوله مفرّقا حسب الحوادث و إعجازه بهذا التّرتيب الزّمنيّ كان الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم يأمر الكتبة كلّما نزلت آية أن يضعوها بأمر اللّه تعالى بعد آية كذا من سورة كذا، فكان ترتيبه في التّلاوة غير ترتيبه في النّزول، و كان مع ذلك متناسبا أعظم التّناسب، بل معجزا للخلق جميعا أن يأتوا بمثله، فهذا إعجاز متكرّر مرّتين؛

أولاهما: بترتيبه النّزوليّ الزّمنيّ المنسّق مع الوقائع.

و ثانيتهما: بترتيبه في التّلاوة آيات و سورا طوالا و قصارا و أوساطا.

و الآية الأولى من آيتي الفرقان: 31 وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا، ترشد إلى حكمة ثالثة، و هي تثبيت قلب الرّسول صلّى اللّه عليه و سلم بتجدّد الوحي و نزول الملك، و هو أمر يدعو إلى طمأنينة القلب و انشراح الصّدر، مع ما في ذلك من تيسّر الحفظ و تكرار انتصاره على الأعداء، بتكرار عجزهم عن الإتيان بمثله كلّما تحدّاهم.

و الآية الكريمة الثّانية من آيتي الفرقان: 32 وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ

______________________________

(1)- الإسراء/ 106.

(2)- الفرقان/ 32- 33.

نصوص في علوم القرآن، ص: 688

وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً، ترشد إلى حكمة رابعة، و هي مسايرة الحوادث بإجابة السّائلين،

و بيان حكم اللّه تعالى في الوقائع المتجدّدة، و توجيه أنظار المسلمين إلى ما يقعون فيه من أخطاء أوّلا فأوّل، و هتك أستار المنافقين و المشكّكين، كلّما همّوا بأمر فيه كيد للإسلام و المسلمين «1».

و كان أوّل ما نزل هو قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، كما تفيده السّنّة الصّحيحة، ففي البخاريّ عن عائشة قالت: أوّل ما بدئ به رسول اللّه ... [و ذكر كما تقدّم عنه، فقال:]

لكن جاء في صحيح مسلم عن جابر: أوّل ما نزل من القرآن سورة المدّثّر «2»، و هذا محمول عند العلماء على ما بعد فترة الوحي الّتي تلت النّزول الأوّل «3».

و الرّوايات المختلفة الألفاظ للحديث عند البخاريّ و عند مسلم نفسه تؤيّد ذلك، و نورد هنا رواية البخاريّ؛ لوضوحها و اختصارها، و هي عندهما معا من طريق ابن شهاب الزّهريّ عن أبي سلمة عن جابر ... [و ذكر كما تقدّم عنه، فقال:]

فبان بهذا أنّ الأوّليّة الحقيقيّة هي الّتي في حديث عائشة، و أنّ الّتي في حديث جابر إنّما هي أوّليّة إضافيّة؛ لأنّ الحديث عن فترة الوحي لا يكون إلّا بعد وحي سابق زيادة على أنّ مضمون الآيات المفتتح بها سورة المدّثّر و افتتاحها هذا، ممّا يؤذن بسبق خطاب اقْرَأْ على خطاب يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ.

و إذا كانت أوّل ما نزل هو قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، كما ثبت لدينا بالدّليل القاطع، فإنّ آخر ما نزل على الرّاجح و المعتمد هو قوله تعالى: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ الآية «4»، أخرجه النّسائيّ و ابن مردويه و الطّبريّ عن ابن عبّاس «5» ... (25- 33)

______________________________

(1)- الإتقان: 53، شهر القرآن، للشّيخ على البولاقيّ- الوعي الإسلاميّ، العدد 57.

(2)- البخاريّ 1: 66.

(3)- البرهان 1:

206.

(4)- البقرة/ 281.

(5)- الإتقان 1: 27.

نصوص في علوم القرآن، ص: 689

الفصل الحادي و الثّمانون نصّ الدّكتور على الصّغير في «دراسات قرآنيّة»

نزول القرآن

نزل القرآن بأرقى صور الوحي، و تأريخ نزوله يمثّل تأريخ القرآن في حياة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و هو تأريخ يستغرق ثلاثة و عشرين عاما «1».

هذه الحقبة الذّهبيّة هي تأريخ الرّسالة المحمّديّة في عصر صاحب الرّسالة، و العناية بها منبثقة عن عناية الوحي بصاحبها، و بتواجده معه يحمّله العب ء حينا، و يلقي له بالمسئوليّة حينا آخر، و يتناوب عليه بآيات اللّه بين هذا و ذلك.

و كان نزول القرآن مدرّجا، و تفريقه منجّما، ممّا أجمعت عليه الأمّة، و صحّت به الآثار الاستقرائيّة، استجابة للضّرورة الملحّة، و اقتضاء للحكمة الفذّة في تعاقب التّعليمات الإلهيّة، يسرا و مرونة و استيعابا.

و الّذي يهمّنا في هذه المرحلة عطاؤها الإنسانيّ في ضبط النّصّ القرآنيّ، و دقّة

______________________________

(1)- هنالك عدّة أقوال في مدّة نزول القرآن؛ فقيل: عشرون، أو ثلاث و عشرون، أو خمس و عشرون سنة. و هو مبنيّ على الخلاف في مدّة إقامته صلّى اللّه عليه و آله بمكّة بعد النّبوّة؛ فقيل عشر سنوات، و قيل: ثلاث عشرة، و قيل: خمس عشرة سنة. و لم يختلف فى مدّة إقامته بالمدينة أنّها عشر. (البرهان: 1/ 232). فإذا علمنا أنّه صلّى اللّه عليه و آله أوحي إليه و هو ابن أربعين سنة، و توفّي و عمره ثلاث و ستّون سنة، ترجّح أن تكون مدّة الوحي ثلاثة و عشرين عاما.

نصوص في علوم القرآن، ص: 690

أصوله و وصوله من ينابيعه الأولى، و هو موضوع البحث.

يكاد أن يتوافر لنا اقتناع نطمئنّ إليه بأنّ أوائل سورة العلق هو أوّل ما نزل من القرآن.

و منشأ هذا الاقتناع تأريخيّ و عقليّ، أمّا التّأريخيّ فمصدره إجماع

المفسّرين تقريبا، و رواة الأثر، و أساطين علوم القرآن «1». و أمّا العقليّ فالقرآن أنزل على أمّيّ لا عهد له بالقراءة؛ ليبلّغه إلى أمّيّين لا عهد لهم بالتّعلّم، فكان أوّل طوق يجب أن يكسر، و أوّل حاجز يجب أن يتجاوز، هو الجمود الفكريّ و التّقوقع على الأوهام، و ما سبيل ذلك إلّا الافتتاح، بما يتناسب مع هذه الثّورة، و قد كان ذلك بداية للرّسالة بهذه الآيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* اقْرَأْ بِاسْمِ ... إلى ما لَمْ يَعْلَمْ «2».

إنّها الدّعوة الفطريّة إلى العلم و الإيمان بوقت واحد، و البداية الطّبيعيّة لملهم هذا العلم، و رائد وسيلة التّعلّم، فهو إرهاص بإيمان سيشعّ، و إشعار بإفاضات ستنتشر، مصدرها الخالق، و أداتها القلم؛ لارتياد المجهول، و اكتشاف المكنون، و القرآن كتاب هداية و علم.

فلا ضير أن تكون أوائل العلق أوّل ما نزل، و سياقها القرآنيّ لا يمنع من نزولها دفعة واحدة، لا سيّما إذا وجدنا نصّا في أثر، أو رواية من ثقة.

و أمّا ما حكاه ابن النّقيب في مقدّمة تفسيره، و أخرجه الواحديّ عن عكرمة و الحسن، و الضّحّاك عن ابن عبّاس من أوّل ما نزل من القرآن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «3» فلا ريب فيه، و لا غبار عليه: فإنّه من ضرورة نزول السّورة نزول البسملة معها، فهي أوّل آية نزلت على الإطلاق «4».

و بدأت مسيرة الوحي تلقي بثقلها على عاتق الرّسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، و فتح محمّد للنّداء السّماويّ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا «5» ذراعا و قلبا و تأريخا. و هذا القول ثقيل

______________________________

(1)- الصّحيح 1: 5، الباقلّانيّ- نكت الانتصار: 88، مجمع البيان 5: 14، البرهان 1: 206، الإتقان 1: 68 و ما بعدها.

(2)-

العلق/ 1- 5.

(3)- الإتقان 1: 71.

(4)- المصدر نفسه 1: 71.

(5)- المزّمّل/ 4.

نصوص في علوم القرآن، ص: 691

بمبناه و معناه، فهبوطه من سماء العزّة، و ساحة الكبرياء و العظمة يوحي بثقله في الميزان، و تسييره للحياة العامّة بشئونها المتعدّدة يوحي بكونه عبأ ثقيلا في التّشريع و التّنفيذ و إدارة الكون و العالم.

إنّ تلقّي النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لهذا القول يعني النّهوض بما تتطلّبه الرّسالة من جهد و عناء و صبر، و نهوضه بذلك يعني تحمّله لهذا الثّقل في الإلقاء و الإنزال و التّبليغ و الإعداد.

و نزل القرآن منجّما؛ الآية و الآيتين و الثّلاث و الأربع، و ورد نزول الآيات خمسا و عشرا و أكثر من ذلك و أقلّ، كما صحّ نزول سور كاملة «1».

و نزل القرآن في شهر رمضان المبارك: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2»، و في ليلة مباركة فيه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «3»، و حملت اللّيلة المباركة على ليلة القدر:

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «4»، هكذا صرّح القرآن.

و اختلف في هذا الإنزال كلّا أو جزء، جملة أو نجوما، دفعة أو دفعات، إلى السّماء الدّنيا تارة، و على قلب النّبيّ تارة أخرى «5».

و أورد الطّبرسيّ جملة الأقوال في ذلك:

أ- إنّ اللّه أنزل جميع القرآن في ليلة القدر إلى السّماء الدّنيا، ثمّ أنزل على النّبيّ بعد ذلك نجوما، و هو رأي ابن عبّاس.

ب- إنّه ابتدأ إنزاله في ليلة القدر، ثمّ نزل بعد ذلك منجّما في أوقات مختلفة، و به قال الشّعبيّ «6».

ج- إنّه كان ينزل إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر ما يحتاج إليه في تلك السّنة جملة

______________________________

(1)- الإتقان 1: 124 و ما بعدها.

(2)- البقرة/ 185.

(3)- الدّخان/ 3.

(4)- القدر/ 1.

(5)-

تفصيل هذه الآراء و الرّوايات الكثيفة في المرشد الوجيز: 11 و ما بعدها، البرهان 1: 230 و ما بعدها؛ الإتقان 1: 118، و الأسماء و الصّفات: 236.

(6)- الإتقان 1: 118.

نصوص في علوم القرآن، ص: 692

واحدة، ثمّ ينزل على مواقع النّجوم إرسالا في الشّهور و الأيّام، و هو رأي ابن عبّاس «1».

إلّا أنّ ظاهر الآيات أنزل القرآن جملة، و يؤيّده التّعبير بالإنزال الظّاهر في اعتبار الدّفعة، دون التّنزيل الظّاهر في التّدرّج، فمدلول الآيات أنّ للقرآن نزولا جمليّا على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله غير نزوله التّدريجيّ الّذي تمّ في ثلاث و عشرين سنة «2».

لقد أكّد هذا المعنى من ذي قبل ابن عبّاس بقوله: إنّه أنزل في رمضان، و في ليلة القدر، و في ليلة مباركة جملة واحدة، ثمّ أنزل بعد ذلك على مواقع النّجوم رسلا في الشّهور و الأيّام «3».

و مهما يكن من أمر، فلا ريب بنزوله مفرّقا و منجّما؛ ليثبت إعجازه في كلّ اللّحظات، و لينضح بتعليماته بشتّى الظّروف، في حين يعترض فيه الكفرة على هذا النّزول: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «4».

و لكنّ الرّد كان حاسما؛ لأنّ الوحي إذا تجدّد في كلّ حادثة، كان أقوى للعزم، و أثبت للفؤاد، و أدعى للحفظ و الاستظهار، و أشدّ عناية بالمرسل إليه، فلا يغيب عنه إلّا و يهبط عليه، و لا يودعه حتّى يستقبله، و ذلك يستلزم كثرة نزول الملك عليه و تجديد العهد به، و بما معه من الرّسالة، و هو مضافا إلى العطاء الرّوحيّ، ذو عطاء نفسيّ تهذيبيّ بالنّسبة للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: و لهذا كان أجود ما

يكون في رمضان لكثرة نزول جبريل عليه السّلام عليه فيه «5».

و ناهيك في أسرار تعدّد النّزول حكمة و يقينا و استمرارا لجدّة القرآن، و حضوره في زخمة الأحداث، و تجدّد الوقائع، و طبيعة الرّسالة المتدرّجة في تعاليمها من الأسهل إلى السّهل، و من السّهل إلى الصّعب، و من الكلّيّات العامّة إلى التّفصيلات الجزئيّة.

و الوحي ينظر إلى النّاس باعتبارهم الهدف الرّئيسيّ من تنزيل القرآن قصد هدايتهم، و رجاء إثابتهم إلى الحقّ، فاهتمّ بهذا العنصر في سبب النّزول مفرّقا، و صرّح بذلك سبحانه

______________________________

(1)- مجمع البيان 1: 276.

(2)- الميزان 20: 330.

(3)- الأسماء و الصّفات: 236.

(4)- الفرقان/ 32.

(5)- المرشد الوجيز: 28.

نصوص في علوم القرآن، ص: 693

و تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «1».

1- و قد أفاض القدامى من العلماء و المفسّرين في أسرار التّنجيم في النّزول، استفادوا قسما منها من القرآن، و اجتهدوا في القسم الآخر، فمن الأوّل تيسير حفظ القرآن، و تثبيت فؤاد النّبيّ، و معرفة النّاسخ من المنسوخ، و الإجابة عن أسئلة السّائلين «2».

و من الثّاني كون القرآن أنزل و هو غير مكتوب على نبيّ أمّيّ، كما حكي ذلك عن أبي بكر بن فورك (ت: 406 ه) «3».

و قد لاحظ باحث معاصر أنّ القدامى قد أدركوا حكمتين في ذلك، هما: تجاوب الوحي مع الرّسول، و تجاوبه مع المؤمنين «4».

2- و إذا كان ما فهمه القدامى- كما يدّعى- يقف عند هذا الحدّ، فلا ينبغي عند الباحثين المحدثين أن يقف عند حدود معيّنة، و عليهم الإمعان و الإيغال في الاستنتاج.

و إن كان كلّ ما تقدّم هو الصّحيح، و لكن لا مانع أن يضاف إليه بأنّ القرآن الكريم- كما يبدو من منهجيته الاستقرائيّة-

يريد كتابة التّأريخ الإنسانيّ، بكلّ ما في هذا التّأريخ من مفارقات و أحداث و نوازع و تطوّرات، و التّأريخ إنّما يكتب في جزئيّاته، و من ضمّ هذه الجزئيات بعضها لبعض يتكوّن التّأريخ بمظاهره الماضية و تطلّعاته الحالية؛ لإنارة المستقبل و إضاءة درب السّالكين، و التّأريخ لا يتألّف جملة واحدة، و إنّما ينجّم موضوعات و صورا و مشاهد، و من مجموعها يتشكّل الأثر البارز لسمة من السّمات، و القرآن إنّما يعني بتأريخ الأمم و الإيمان، و الشّعوب و الهداية، فهما رمزان متلازمان، تنحصر عليه ذكر أحدهما بالآخر، حصرا عضويّا ترى فيه الكون و قضيّة التّوحيد يشكلان خطوطا رئيسيّة تنبثق منها حيثيّات فرعيّة في النّبوّة و الرّسالة و عوالم الحياة.

3- و الرّسالة المحمّديّة إحدى سنن الكون البنائيّة، و كما تقتضي سنن الكون

______________________________

(1)- الإسراء/ 106.

(2)- الإتقان 1: 85- 121، المرشد الوجيز: 28.

(3)- البرهان 1: 231.

(4)- صبحي الصّالح، مباحث في علوم القرآن 52.

نصوص في علوم القرآن، ص: 694

التّدرّج، فهي تقتضي التّدرّج كما اقتضتها، ابتداء بخلق السّماوات و الأرض و الأفلاك و ما فيهن و ما بينهنّ، و انتهاء بخلق الإنسان و حياته و أطواره و نشوئه و مماته و تلاشيه و إعادته حيّا، و إثابته أو عقابه.

و السّنن الطّبعيّة في الحياة تلتقي بالسّنن الرّوحيّة في القرآن، فمصدرهما واحد، و هو تلك القوّة الخلّاقة المبدعة المدبّرة، و هي كما تستطيع أن تحكم الأمر فجأة كلمح البصر وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ «1»، فهي كذلك تستمهل و تتدرّج وفقا لمصالح الكون، و تنظر لشئون الحياة، و كان التّدرّج في نزول القرآن من هذا الباب.

4- و ما التّدرّج في نزول القرآن إلّا دليل من أدلّة إعجازه البيانيّة، فما نزل

منه لم يكن بادئ الأمر إلّا سورا قصيرة، و آيات متناثرة تناثر النّجوم، و هو بهذا القدر الضّئيل ينادي بالتّحدّيّ، فدلّ على إعجازه في ذاته مع محاولة تقليده و مضاهاته، سواء أ كان جزء أم كلّا. فقليله معجز، و كثيره معجز، و لقد وقع هذا التّحدّي في مكّة على هذا القليل فما نالوه، و وقع في المدينة و هو متكامل بنفس المنظور، و بناء على هذا التّأسيس فقد كان التّدرّج في النّزول مصاحبا لعمليّة الإعجاز، و دليلا من أدلّتها النّاطقة، و هو بعد مشعل هداية في السّعي و العمل و المثابرة.

5- و هنالك ملحظ جدير بالأهميّة في هذا النّزول التّدريجيّ، هو إحكام الأمر و إبرام العقد، و هذا الإحكام و ذلك الإبرام يتمثّل بعمليّة صياغة النّفوس في إطار جديد، فهي على قرب عهد من الجاهليّة بأعرافها و مفاهيمها و أخطائها، و النّقلة الفوريّة ليست خطوة عمليّة في التّغيير الاجتماعيّ الّذي أرادته رسالة القرآن، فمن عزم الأمور- إذن- أن تستجيب النّفوس لهذا التّغيير الجذريّ، و لكن لا على أساس المفاجئة الخطرة، الّتي قد تولّد ردّة فعل مضادّة تطوح بكلّ شي ء، بل تقليص القيم القديمة شيئا فشيئا، و تضييعها جزء فجزء، لتتلاشى في نهاية المطاف، و تختفي عن صرح الاجتماع. و خير دليل على ذلك مسألة تحريم الخمرة؛ إذ ارتبطت بالعرب أدبيّا و اجتماعيّا و نفسيّا و اقتصاديّا، و هي جوانب متعدّدة، أباحت هذا الإدمان المستحكم عند العرب، فلو حرّمت دفعة واحدة لكفر

______________________________

(1)- القمر/ 50.

نصوص في علوم القرآن، ص: 695

بهذا التّحريم، و لضاعت فرصة التّغيير الاجتماعيّ، و لكنّ الوحي تلبّث و ترصّد و تأنّى، فجاء بالأمر في خطوات متعاقبة شملت بيان المنافع و المضارّ و المآثم،

و تدرّجت إلى النّهي عن اقتراب الصّلاة وَ أَنْتُمْ سُكارى، و انتهت إلى التّحريم النّهائيّ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ... «1».

6- و لنقف بهذا الجانب الحسّاس و المؤثّر على صلب الموضوع من بدايته قبل النّظر في التّطبيق.

كانت الجزيرة العربيّة بعامّة، و مكّة المكرّمة بخاصّة، تتجاذبهما عقائد شتّى، فالصّابئة لها طقوسها المختلطة من ابتداعات و شعائر ترتبط بالكواكب و تأثيرها على الأحداث الأرضيّة «2». و ما امتزج من عاداتهم في مذاهب قريش في الوثنيّة و عبادة الملائكة، و مراسم الحجّ.

و المسيحيّة و ما صاحب مبادئها من تحريف مزدوج، و تغيير مفاجئ، فبدل التّسامح الدّينيّ الّذي اشتهرت به تعاليم السيّد المسيح، و الزّهد في الحياة بكلّ مظاهرها، استخدم المسيحيّون في إرضاء شهواتهم كلّ وسائل العبث و التّرف و القسوة، فمن عزلة مصطنعة إلى تزمّت مفتعل، و من تثليت لا يستقيم إلى وثنيّة مستهجنة، و من تمسّك باللّاهوت إلى ابتزاز للحرّيّة، كلّ ذلك يتراصف نماؤه بين أوهام موروثة و خرافات مستجدة.

و اليهوديّة بما كان يكتنفها من غموض في ستر العلم و تحريف للكلم عن مواضعه، و استيعاب لاستحصال المال، و جمع الثّروة عن طريق الخيانة و الرّبا و الاحتكار.

و الحنفيّة و هي أسلم الأديان آنذاك عن الدّسّ و التّحريف الكبيرين، فقد أدخل عليها مع ذلك تزييف في بعض الوقائع، و مغالطة في طقوس الحجّ و متابعة الوثنيّة، و ارتباط قسم من العرب بها على أساس من التّعصّب للأخطاء الموروثة في تألية الملائكة و تأنيثها، و عبادة الأصنام و تقديسها، و رؤية الشّمس و القمر و الكواكب بمنظار الأرباب.

______________________________

(1)- المائدة/ 90.

(2)- أنظر جزء من عقائد الصّابئة- محمّد عبد اللّه دراز-

مدخل إلى القرآن الكريم (132) و ما بعدها.

نصوص في علوم القرآن، ص: 696

و الجاهليّة و أرجاسها في الوأد و البغاء و الرّبا و الزّنى، و قتل الأولاد خشية الفقر، و أكل التّراث و حبّ المال، و وراثة النّساء كرها بما صرّح به القرآن في آيات عديدة، و مواضع كثيرة من سوره «1».

ألا يتناسب مع هذا الخليط العجيب من الدّيانات المحرّفة و تعدّد الآلهة، أن يبدأ الوحي بنداء التّوحيد لأوّل مرّة، و قد كان ذلك كذلك، فاستنقذ النّاس من عبوديّة الفكر و استرقاق النّفوس، و اتّجه بها إلى عبادة اللّه الواحد القهّار، و هي عبادة تجمع إلى راحة الضّمير صدق العبوديّة دون إذلال، و صحّة الاعتقاد دون انحراف، ابتعادا عن الخرافات و الأساطير و المتاهات.

و كان من الجدير بعد هذه الاستجابة أن يتمّ تشريع الصّلاة؛ لأنّها تتضمّن التّوحيد و العبادة بوقت واحد.

و حينما اتّجهت القلوب للّه بدأ تطهير النّفوس بالخلق و الأدب و الصّفاء الرّوحي و الإيثار، و كان كذلك منطلق الوحي بتعليماته الواحدة تلو الأخرى.

7- و اشتدّ الأذى بالمسلمين، فكانت قصص الغابرين إيذانا بحرب نفسيّة، فما هم عنها ببعيد: وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى* وَ ثَمُودَ فَما أَبْقى «2».

و كانت أحاديث الأنبياء مع أممهم، و استقراء أحوالهم في العذاب نذيرا بما قد يصيب العرب نتيجة التّكذيب، و الأمور تقاس بأضرابها: كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ* إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ* تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «3».

و هكذا الحال في كلّ من قوله تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ، كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ، وَ لَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ «4».

______________________________

(1)- أنظر على سبيل المثال العادات الجاهليّة كما يصورّها القرآن: النّساء/

19، 20، 21، 22، 23، 38، 127، الأنعام/ 140، النّور/ 33، الفجر/ 17، 18، 19، 20.

(2)- النّجم/ 50- 51.

(3)- القمر/ 18- 20.

(4)- القمر/ 23، 33، 41.

نصوص في علوم القرآن، ص: 697

و هي مؤشّرات إنذارية في آيات من سورة واحدة، فكيف بك في السّور المكّيّة كافّة؟

و قد ذكّرت قريش بعذاب الاستئصال في الفترة المكّيّة، و كان ذلك مجالا رحبا من مجالات الوحي في هذه الحقبة العصيبة، فثاب من ثاب إلى رشد، و تجبّر من تجبّر في ضلال، و أمثلة عديدة متوافرة، و من نماذجه قوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَ فَلا يَسْمَعُونَ «1».

و هكذا الإشارة إلى مجموعة الأمم المكذّبة، و قد مزّقوا كلّ ممزّق، كما في قوله تعالى: ثمّ ارسلنا رسلنا تترى كلما جاء امّة رسولها كذّبوه فاتبعنا بعضهم بعضا و جعلناهم احاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون «2». و ما قصّة نوح مع قومه، و موسى مع آل فرعون، و صالح و شعيب و هود إلّا مؤشّرات فيما سبق.

8- و قد تناسق بشكل متقن عجيب استقراء اليوم الآخر، و التّذكير بأهواله و مظاهره، و التّحذير من عذابه و كوارثه، و التّصريح بفناء الأعراض و ذهابها، و تلاشي العوالم و نهايتها، و صفة الجنّة و النّار، و حال المؤمنين و الكافرين، و قد مثّل ذلك بسور فضلا عن الآيات، و بمجموعة مكّيّة منها زيادة عن المتفرّقات. و ما سورة الرّحمن و الواقعة و الحاقّة و المعارج و المدّثّر و القيامة و المرسلات و النّبأ و النّازعات و التّكوير و الانفطار و المطفّفين و الانشقاق و الطّارق و الغاشية و البلد و

القارعة و التّكاثر، و غير ذلك إلّا معالم في هذا الطّريق مضافا إلى مئات الآيات الأخرى المتناثرة نجوما في معظم السّور المكّيّة.

9- و زيادة على التّشريع المناسب في المدينة المنوّرة، و إقرار الأحكام، و توالي الفروض، و الدّعوة إلى الجهاد، و تصنيف معالم القتال، و تحديد سهام الحقوق، فقد عانت المدينة من ظاهرة النّفاق، متستّرة بالدّين تارة، و متأطّرة بسبيل أهل الكتاب تارة أخرى، فقد تعدّد مكرهم بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عظم وقعهم على المسلمين، فكانوا رأس كلّ فتنة، و أصل

______________________________

(1)- السّجدة/ 26.

(2)- المؤمنون/ 44.

نصوص في علوم القرآن، ص: 698

كلّ سوأة، فالدّسائس تحاك، و الأراجيف تروّج، و الأباطيل تلوكها الألسن، فما كان من القرآن إلّا أن تعقّبهم بالّتي هي أحسن تارة، و بالإنذار تارة أخرى، و بالتّقريع و التّوبيخ و غيرهما، فكان الوعيد على أشدّة، و الإغراء بهم على و شكّ الوقوع، و قد عالج القرآن مشكلتهم، و سلّط الأضواء على تحرّكاتهم، و تربّصهم الدّوائر بالإسلام، و صوّر حالتهم النّفسيّة و الخلقيّة الجماعيّة و الفرديّة، و أبان واقعهم الدّنيويّ و مآلهم الأخرويّ، و قد جاء ذلك متراصفا في سور عديدة؛ لمعالجة كلّ حالة بإزائها، فكانت سورة البقرة و آل عمران و النّساء و المائدة و الأنفال و التّوبة و العنكبوت و الأحزاب و الفتح و الحديد و الحشر و المنافقون و التّحريم، ميادين فارهة في تعقيب ظاهرة النّفاق و حقيقة المنافقين، فكان ذلك سمة لهم لا تبلى.

و لا نريد أن نطيل أكثر فأكثر في هذا الجانب و سواء، فهو بديهيّ لاستكمال الرّسالة و ضرورة تطبيقها، و مواكبة الوحي لهذه الأحداث و الأزمات و المؤشّرات دليل على أصالة هذا المنهج المتناسب تأريخيّا

و زمنيّا مع مرحليّة الظّروف.

10- و هناك العلاقة الثّنائيّة بين الوحي و النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و هناك التّجاوب المطلق بينهما، و كان تحقّق ذلك في التّدرّج بالنّزول، و كانت الأزمات- و هي تحاول أن تعصف بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله- تضرب فجأة بإرادة الوحي الإلهيّ، فهو إلى جنبه يشدّ عزمه، و يقوّي أسره، و يسلّيه تارة، و يعزّيه تارة أخرى، و يصبّره و يؤسّيه فيما يقتصّ له من الأنباء، و ما يورده من الصّبر، و ما يحدّده من الأحكام، مفرّقا بين الحقّ الثّابت الرّصين، و الباطل المتزعزع الواهن، و في ذلك تثبيت له على المثل، و تحريض له على المثابرة، و إعلام له بالنّصر؛ لأنّها سنّة اللّه مع رسله و أنبيائه.

و هناك أسئلة تتطلّب الإجابة المحدّدة، و حوادث تستدعي القول الفصل، و لا يضمن هذا إلّا الوحي فيما ينزل به، فقد سألوه عن الخمر و الميسر، و سألوه عن المحيض، و سألوه عن القتال في الأشهر الحرم، و سألوه عن الأهلّة، و سألوه عن السّاعة، و سألوه عن الرّوح، و سألوه عن الأنفال، و سألوه عن الجبال، و سألوه عن ذي القرنين و هكذا، فتصدّر الوحي للإجابة الفاصلة.

نصوص في علوم القرآن، ص: 699

و استفتوه في النّساء، و استفتوه في الكلالة، فأفتاهم الوحي عن اللّه. و وقع الظّهار و الإيلاء و حادثة الإفك، و غنموا في الحرب، و حصل الزّنى، و نزلت السّرقة، و بدأ القتل العمد و القتل الخطأ، و هي حوادث متعدّدة في أزمنة متعدّدة، و قد نزلت أحكامها المتعدّدة، و هكذا.

إنّ الإحصاء الدّقيق لهذه الجزئيّات قد لا ينتهي إلّا بصفحات كبيرة لا يتّسع لها هذا البحث، و فيما

أشرنا له غنيّة في التّمثيل التّطبيقيّ.

11- و هناك ملحظ جدير بالأهميّة في الوحي التّدريجيّ، يعود إلى التّنزيل نفسه؛ ليحكم فيه على ناحيتين:

الأولى: أنّه ليس من كلام البشر، و إنّما هو من كلام اللّه وحده، و ذلك أنّ هذه المراحل المتعدّدة الّتي مرّ فيها، لم يحصل فيه تفاوت في الأسلوب البيانيّ، فهو في الأوّل نفسه في الوسط و الآخر، و مع كثرة الأحداث و تعدّد المسئوليّات في بيان الأحكام، و تدارك النّوازل، و استيعاب المشكلات، لم يبد فيه- و لو مرّة واحدة- أيّ اختلاف و تناقض، و لو كان من كلام البشر، لحصل فيه التّفاوت و التّناقض معا، و صدق اللّه تعالى حيث يقول:

وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «1».

الثّانية: أنّ قليل هذا التّنزيل و كثيره هو الدّليل المتعاقب- مرّة بعد مرّة- على نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّ مراعاة المناسبة، و العقل في الأمر الجلل، و التّحدّث عن الغيب المطلق، كلّ ذلك بتحديد قاطع، و حجّة لا تقبل جدلا، لا يمكن أن يكون إلّا من قبل اللّه تعالى؛ لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمّيّ يفقد أدنى ما يمكن أن يتمتّع به غيره من النّاس الاعتياديّين في القراءة و الكتابة، فكيف إذن بمسائل التّشريع، و إخبار الغيب، و قضايا السّاعة، و مختلف الأحكام، و لم يسبق له أن مارس قبل بعثته أيّ نوع من أنواع الثّقافة و المعرفة الّتي تتناسب مع هذا العطاء المتواصل من الوحي، و في هذه القضيّة الخارجة عن مقدرة النّبيّ تأكيد لقوله تعالى: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «2».

(ص: 37- 49)

______________________________

(1)- النّساء/ 82.

(2)- الحاقّة/ 44- 47.

نصوص في علوم القرآن، ص: 701

الأعلام و المصادر نبذة مختصرة عن ترجمة أصحاب هذه النّصوص

اشارة

نودّ التّنبيه هنا على أنّنا نرى من الضّروريّ ذكر نبذة موجزة عن ترجمة هؤلاء المؤلّفين الّذين وردت أسماؤهم في هذه النّصوص مرتّبة بحسب تاريخ وفياتهم، ملخّصة عن عدّة مصادر، و في ما يلي أسماؤهم مرتّبة بحسب حروف الهجاء.

ملاحظات:

1- اكتفينا عند عرض النّصوص بالاسم الّذي اشتهر به المؤلّف و بها اشتهر كتابه، و لهذا ينبغي الرّجوع إلى هذا الفهرس: «فهرس الأعلام و المصادر» لأجل الاطّلاع على الأسماء الكاملة للمؤلّفين و لكتبهم.

2- إذا لم يتيسّر لنا الاطّلاع على سنة ولادة أو وفاة بعض أصحاب هذه النّصوص من المعاصرين، نذكر كلمة (معاصر) أمام اسمه و تاريخ تأليف كتابه أو تاريخ طبعته في آخر ترجمته.

3- ذكرنا المصادر و المراجع الّتي استقينا منها النّصوص في آخر ترجمة كلّ شخص، علما بأنّ بعض الأعلام الواردة أسماؤهم في هذا الفهرس هم من أصحاب المؤلّفات و المصنّفات الكثيرة، و لكنّا اكتفينا في الفهرس بما استفدنا منها من كتبهم في هذه النّصوص دون غيرها.

4- إذا وقفنا على مصادر أخرى في سائر الأجزاء نذكرها هناك من دون تكرار ما في هذا الفهرس.

نصوص في علوم القرآن، ص: 702

(آ)

الآصفيّ (معاصر)

هو الشّيخ عليّ بن محمّد البروجرديّ الآصفيّ، ولد في النّجف الأشرف، له «دراسات في القرآن» [ط: مطبعة النّعمان النّجف- ألّفه عام 1386 ه].

الآلوسيّ (1217- 1270 ه)

هو شهاب الدّين محمود بن عبد اللّه الحسينيّ الآلوسيّ البغداديّ، كان مفسّرا محقّقا، سلفيّ الاعتقاد، له «روح المعانى في تفسير القرآن» [30 ج، ط: دار إحياء التّراث العربيّ- بيروت- 1353 ه].

(ا)

ابن باديس (1305- 1359 ه)

هو عبد الحميد بن محمّد المعروف بابن باديس، قائد الثّورة الإسلاميّة العربيّة ضدّ الاستعمار الفرنسيّ بالجزائر، له تفسير يسمّى باسمه [1 ج، ط: دار الفكر- بيروت- 1390 ه].

ابن جزيّ (693- 741 ه)

هو أبو القاسم محمّد بن أحمد بن جزيّ الكلبيّ، العالم اللّغويّ الفقيه المفسّر من أهل غرناطة، له «التّسهيل لعلوم التّنزيل» [4 ج، ط، دار الكتب العربيّ- بيروت- 1393 ه].

ابن الجوزيّ (508- 597 ه)

هو أبو الفرج جمال الدّين عبد الرّحمن بن عليّ، المعروف بابن الجوزيّ الحنبليّ، محدّث، مفسّر، مولده و وفاته ببغداد، له «زاد المسير في علم التّفسير» [9 ج، ط: المكتب الإسلاميّ- بيروت 1384 ه].

نصوص في علوم القرآن، ص: 703

ابن حجر (773- 852 ه)

هو أبو الفضل شهاب الدّين أحمد بن عليّ المعروف بابن حجر العسقلانيّ الفلسطينيّ، و هو أعظم نقّاد الحديث و شرّاحه، له «فتح الباريّ بشرح صحيح البخاريّ» [ط (2) دار إحياء التّراث العربيّ- بيروت- 1402 ه].

ابن شهرآشوب (...- 588)

هو أبو جعفر رشيد الدّين محمّد بن عليّ بن شهرآشوب السّرويّ المازندرانيّ، أصله من سارية (ساري) من بلاد مازندران، له كتب كثيرة منها: «مناقب آل أبي طالب» [4 ج، ط (2) دار الأضواء- بيروت- 1412 ه].

ابن طاوس (589- 664 ه)

هو عليّ بن موسى بن جعفر بن طاوس حفيد بنت الشّيخ الطّوسيّ، فقيه، أديب، و صاحب الكرامات، مولده بالحلّة و مدفنه ببغداد، له «سعد السّعود» [ط: أمير- قم- 1363 ه].

ابن كثير (701- 774 ه)

هو أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الشّافعيّ، حافظ، فقيه، مؤرّخ، ولد ببصرى الشّام. له تفسير يعرف باسمه [7 ج، ط (2) دار الفكر- بيروت- 1389 ه] و «البداية و النّهاية». [14 ج، مكتبة المعارف- بيروت- و مكتبة النّصر- الرّياض- 1388 ه].

ابن النّديم (438 ه)

هو أبو الفرج محمّد بن أبي يعقوب النّديم البغداديّ. له كتاب «الفهرست»، و هو من أقدم كتب التّراجم و أفضلها [ط: دار المعرفة- بيروت- 1398 ه].

أبو حيّان (654- 745 ه)

هو محمّد بن يوسف بن عليّ بن حيّان الغرناطيّ الأندلسيّ الشّافعيّ، مفسّر، محدّث، لغويّ، له «تفسير البحر المحيط» [8 ج، ط: دار الفكر للطّباعة و النّشر- بيروت- 1403 ه].

نصوص في علوم القرآن، ص: 704

أبو زهرة (معاصر)

هو الشّيخ محمّد أبو زهرة من الأساتذة الكبار بجامعتي الأزهر و القاهرة، عالم بفقه المذاهب الإسلاميّة، له «المعجزة الكبرى» [ط، ن: دار الفكر العربيّ- بيروت- ألّفه عام 1390 ه] و «الملكيّة و نظرية العقد في الشّريعة الإسلاميّة» [ط، ن: دار الفكر العربيّ بيروت ألّفه عام 1396 ه].

أبو شامة (599- 665 ه)

هو أبو القاسم عبد الرّحمن بن إسماعيل المقدسيّ، محدّث، مفسّر، أصله من القدس، مولده و وفاته في دمشق، و لقّب بأبي شامة لشامة كبيرة كانت فوق حاجبيه، له «المرشد الوجيز» [ن:

دار صادر بيروت: 1395 ه].

أبو شهبة (1333- ..)

هو الدّكتور محمّد محمّد أبو شهبة المصريّ، أستاذ علوم القرآن بجامعة الأزهر، له كتب كثيرة منها: «المدخل لدراسة القرآن الكريم» [ط (2) دار الكتب- القاهرة- 1973 ه].

أبو الفتوح (...- 535 ه) «1»

هو جمال الدّين حسين بن عليّ الخزاعيّ المعروف بأبي الفتوح الرّازيّ، مفسّر، متكلّم، فقيه، مولده و مدفنه بالرّي، له «تفسير روض الجنان و روح الجنان» [ط: مكتبة آية اللّه العظمى المرعشيّ النّجفيّ- قم- 1404 ه].

الأبياريّ (معاصر)

هو إبراهيم الأبياريّ، عالم، محقّق من القاهرة بمصر، له «الموسوعة القرآنيّة» [11 ج، ط، ن: مؤسّسة سجلّ العرب ألّفه عام: 1405 ه].

______________________________

(1)- ذكر الزّركليّ في أعلامه: توفّي عام 588 ه، و ما ثبّتناه مأخوذ من كتاب «ريحانة الأدب».

نصوص في علوم القرآن، ص: 705

أحمد خليل (معاصر)

هو الدّكتور السّيد أحمد خليل، له «دراسات في القرآن» [ط، ن: دار المعارف بمصر- 1392 ه].

الأراكيّ (معاصر)

هو الشّيخ محسن الأراكيّ، محقّق، كاتب، من علماء الحوزة العلميّة في قم المقدّسة، له مقالات في مجلّة «رسالة القرآن» [ط، ن: دار القرآن الكريم العدد (1)- قم- 1411 ه].

الأشيقر (معاصر)

هو محمّد عليّ الأشيقر، الأستاذ بكلّيّة بغداد سابقا، له «لمحات من تاريخ القرآن» [ط: مطبعة النّعمان- النّجف- 1387 ه].

الأصفهانيّ (1266- 1308 ه)

هو الشّيخ محمّد حسين الأصفهانيّ النّجفيّ، محدّث، فقيه، حكيم، له «مجد البيان في تفسير القرآن» [ط: مؤسّسة البعثة- طهران- 1408 ه].

(ب)

البحرانيّ (...- 1107 ه)

هو السّيد هاشم بن سليمان الحسنيّ البحرانيّ الكتكانيّ، مفسّر، محدّث، فقيه، له «البرهان في تفسير القرآن» [4 ج، ط (2):

آفتاب- طهران- 1375 ه].

البخاريّ (195- 256 ه)

هو أبو عبد اللّه محمّد بن إسماعيل البخاريّ، المحدّث المشهور، جمع نحو ستّمائة ألف حديث طويل و اختار في كتابه «الجامع الصّحيح» ما وثق برواته؟! و هو أوثق الكتب السّتّة المعوّل عليها عند السّنّة. [ط: دار إحياء التّراث العربيّ- بيروت-].

البروجرديّ (1238- 1277 ه)

هو السّيد حسين بن السّيد رضا الحسينيّ البروجرديّ الفاطميّ، فقيه، مفسّر و من تلامذة صاحب الجواهر، له «تفسير الصّراط المستقيم» [ط: الصّدر- طهران].

نصوص في علوم القرآن، ص: 706

البروسويّ (...- 1127 ه)

هو أبو الفداء إسماعيل حقّيّ بن مصطفى الإسلامبوليّ الحنفيّ، مفسّر، متصوّف من أتباع الطّريقة الخلوتيّة، له التّفسير الكبير «روح البيان» [10 ج، ط: المطبعة العثمانيّة- إستانبول- 1928 م]

البيضاويّ (685- 791 ه)

هو عبد اللّه بن عمر بن محمّد البيضاويّ، قاض، مفسّر، ولد في مدينة البيضاء قرب شيراز، له «أنوار التّنزيل و أسرار التّأويل» [2 ج، ط (2) مصطفى البابي- مصر- 1388 ه].

البوطيّ (معاصر)

هو الدّكتور محمّد سعيد رمضان البوطيّ كان سوريّا، له كتب، منها: «من روائع القرآن» [ط (2) مكتبة الفارابيّ دمشق 1378 ه].

البيهقيّ (384- 458 ه)

هو أبو بكر أحمد بن الحسين بن عليّ الشّافعيّ البيهقيّ، من أئمّة الحديث، ولد في خسروجرد «1». له «السّنن الكبرى» [ط: دار المعرفة- بيروت] و «الأسماء و الصّفات» [ط: مطبعة السّعادة- 1358 ه- ن: دار إحياء التّراث العربيّ].

(ح)

الحاكم (321- 405 ه)

هو أبو عبد اللّه محمّد بن عبد اللّه بن حمدويه المعروف بالحاكم النّيسابوريّ، من أكابر الحفّاظ و المصنّفين، له «المستدرك على الصّحيحين» [4 ج، ط: مكتب المطبوعات الإسلاميّة- حلب].

______________________________

(1)- من قرى بيهق.

نصوص في علوم القرآن، ص: 707

الحجازيّ (1338- ...)

هو الشّيخ محمّد محمود الحجازيّ، من العلماء البارزين و أستاذ التّفسير و أصول الدّين في الأزهر، له «التّفسير الواضح» [ط (2): دار الكتب العربيّ بمصر، 1371 ه] و «الوحدة الموضوعيّة» [ط: دار الكتب الحديث- القاهرة- 1390 ه].

حجّتي (معاصر)

هو الدّكتور محمّد باقر حجّتي، أستاذ علوم القرآن في كلّيّة الإلهيّات بطهران و عضو مجمع اللّغة العربيّة بدمشق، له «مختصر تاريخ القرآن الكريم» [ط: المستشاريّة الثّقافيّة للجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة بدمشق 1405 ه].

الحكيم (معاصر)

هو السيّد محمّد باقر بن المرجع الشّيعيّ الأكبر المرحوم آية اللّه العظمى السّيّد محسن الحكيم العراقيّ، له «علوم القرآن» [ط:

مطبعة الاتّحاد- طهران- 1403 ه].

(خ)

الخازن (678- 741 ه)

هو عليّ بن محمّد بن إبراهيم، المعروف بالخازن الشّافعيّ، و قيل: الشّيعيّ «1». عالم بالتّفسير و الحديث، له «لباب التّأويل في معاني التّنزيل» المعروف بتفسير الخازن [7 ج، ط: مطبعة الاستقامة- القاهرة- 1381 ه].

الخضريّ (معاصر)

هو الأستاذ الشّيخ محمّد الخضريّ بك المصريّ، كان مفتّشا في وزارة المعارف، و مدرّسا للتّاريخ الإسلاميّ في الجامعة المصريّة سابقا، له: «تاريخ التّشريع الإسلاميّ» [ط: دار الكتب العلميّة- بيروت- 1390 ه].

______________________________

(1)- معجم مصنّفات القرآن لعلي شواخ، ج 4: 214.

نصوص في علوم القرآن، ص: 708

الخطيب (1339- ...)

هو عبد الكريم الخطيب المصريّ، من كبار المؤلّفين البارزين في القاهرة، له «التّفسير القرآنيّ للقرآن» [16 ج، ط: مطبعة السّنّة المحمّديّة- القاهرة- 1386 ه] و «إعجاز القرآن» [ط:

دار المعرفة- بيروت- 1395 ه].

خليفة (معاصر)

هو الدّكتور محمّد محمّد خليفه، له «مع نزول القرآن» [ط، ن:

مكتبة النّهضة المصريّة- القاهرة- 1391 ه].

خليل ياسين (...- 1405)

هو الشّيخ خليل ياسين العامليّ اللّبنانيّ، له «أضواء على متشابهات القرآن» يحتوي على 1600 سؤال و جواب [2 ج، ط: مطبعة الجديدة- لبنان- 1388 ه].

الخمينيّ (...- 1398 ه)

هو الشّهيد السّيّد مصطفى المصطفويّ، ابن آية اللّه العظمى الإمام الخمينيّ قائد الثّورة الإسلاميّة في إيران كان عالما مجتهدا، فيلسوفا عارفا، له «تفسير القرآن الكريم» [ط: وزارة الإرشاد الإسلاميّ- طهران- 1404 ه].

(د- ر- ز)

الدّوزدوزانيّ (معاصر)

هو الشّيخ ميرزا يد اللّه بن عبد الحميد الدّوزدوزانيّ، إحدى الشّخصيّات العلميّة و أستاذ في الحوزة العلميّة بقم المقدّسة، له «دروس حول نزول القرآن» و هي عبارة عن محاضرات ألقاها على عدد من الطّلاب. [ط: (1) أمير- قم- 1413 ه].

رشيد رضا (1282- 1354 ه)

هو السّيد محمّد رشيد بن عليّ رضا، بغداديّ الأصل، عالم بالتّفسير و الأدب، له «تفسير المنار» تقريرا لدرس أستاذه محمّد عبده [11 ج، ط: دار المعرفة- بيروت-].

نصوص في علوم القرآن، ص: 709

الزّرقانيّ (معاصر)

هو الأستاذ محمّد عبد العظيم الزّرقانيّ، مدرّس علوم القرآن و علوم الحديث في جامعة الأزهر سابقا، له «مناهل العرفان في علوم القرآن» [2 ج، ط: دار إحياء الكتب العربيّة 1362 ه].

الزّركشيّ (745- 794 ه)

هو أبو عبد اللّه بدر الدّين محمّد بن عبد اللّه الزّركشيّ الشّافعيّ، مولده و وفاته بمصر، له «البرهان في علوم القرآن» [4 ج، ط (2) دار إحياء الكتب العربيّة 1391 ه].

الزّفزاف (معاصر)

هو محمّد الزّفزاف، أستاذ الشّريعة المساعد بكلّية دار العلوم جامعة القاهرة، له «التّعريف بالقرآن و الحديث» [ط (1) ...؟].

الزّمخشريّ (467- 538 ه)

هو أبو القاسم جار اللّه محمود بن عمر الخوارزميّ الزّمخشريّ «1» الحنفيّ المعتزليّ، من أئمّة علوم التّفسير و اللّغة و الأدب، له «الكشّاف عن حقائق التّنزيل» [4 ج، ط: دار المعرفة- بيروت- 1387 ه].

الزّنجانيّ (1309- 1360 ه)

هو العلّامة الشّيخ أبو عبد اللّه الزّنجانيّ ابن الميرزا نصر اللّه، كان فيلسوفا، مفسّرا، مولده و وفاته بزنجان، له «تاريخ القرآن» [ط:

مكتبة الصّدر- طهران- 1387 ه].

(س)

السّبحانيّ (معاصر)

هو المحقّق الشّيخ جعفر السّبحانيّ التّبريزيّ، أحد الشّخصيات العلميّة و أستاذ في الحوزة العلميّة بقم المقدّسة، له كتب و مقالات متعدّدة، منها: مقالات في مجلّة «رسالة القرآن» [ط، ن: دار.

______________________________

(1)- زمخشر من قرى خوارزم.

نصوص في علوم القرآن، ص: 710

القرآن الكريم- قم- 1411 ه].

السّبكيّ (معاصر)

هو الأستاذ عبد اللّطيف محمّد السّبكيّ، الحنبليّ و من العلماء الكبار بالأزهر عام 1372 ه و عضو المجلس الأعلى للشّئون الإسلاميّة، له كتب كثيرة منها: «في رياض القرآن» [ط:

المجلس الأعلى للشّئون الإسلاميّة- القاهرة- 1383 ه].

سيّد قطب (...- 1386 ه)

هو من أعوان حسن البنّاء، و قد سجنته الحكومة المصريّة، ثمّ أعدمته، له تفسير «في ظلال القرآن» [5 ج، ط (11) دار الشّروق- بيروت- 1405 ه].

السّيوطيّ (849- 911 ه)

هو أبو بكر جلال الدّين عبد الرّحمن بن الكمال السّيوطيّ الأشعريّ الشّافعيّ، مفسّر، مؤرّخ أديب، مولده و وفاته في القاهرة، له «الإتقان في علوم القرآن» [4 ج، ط (2) أمير- قم- 1405 ه] و «الدّرّ المنثور في التّفسير بالمأثور» [6 ج، ط:

الميمنيّة بمصر- 1314 ه].

(ش)

شبّر (1188- 1242 ه)

هو العلّامة السّيّد عبد اللّه بن محمّد رضا شبّر، ولد في النّجف الأشرف و عرفت أسرته ب «آل شبّر» و هي من بيوت العلم و الفضل ... أصلهم من الحلّة في العراق، له كتب كثيرة منها:

«الجوهر الثّمين في تفسير الكتاب المبين» [6 ج، ط: مكتبة الألفين، الكويت- 1407- ه].

الشّربينيّ (...- 977 ه)

هو شمس الدّين محمّد بن أحمد الخطيب الشّربينيّ الشّافعيّ، من أهل القاهرة، له «السّراج المنير» [4 ج، ط (2) دار المعرفة للطّباعة و النّشر- بيروت- 1285 ه].

نصوص في علوم القرآن، ص: 711

الشّرقاويّ (معاصر)

هو محمود الشّرقاويّ من علماء القاهرة بمصر، له كتاب الموسوم ب «القرآن المجيد» [ط: دار الشّعب بالقاهرة- 1390 ه].

الشّريف الجرجانيّ (740- 816 ه)

هو عليّ بن محمّد المعروف بالسّيد الشّريف الجرجانيّ، الحنفيّ، و قيل: الإماميّ، ولد في تاكو قرب استرآباد، له «حاشية على تفسير الكشّاف» [ط: دار المعرفة- بيروت- 1387 ه].

الشّريف المرتضى (355- 436 ه)

هو أبو القاسم السّيّد عليّ بن الحسين الموسويّ علم الهدى، كان جامعا للعلوم العقليّة و النّقليّة و فنون الأدب و العربيّة، مولده و وفاته ببغداد، له «الأمالي في القرآن» [2 ج ط (2) دار الكتب- بيروت- 1387 ه] و «رسائل الشّريف» [2 ج، ط (1) سيّد الشّهداء- قم- 1405 ه].

الشّعرانيّ (1320- 1393 ه)

هو العلّامة المحقّق آية اللّه ميرزا أبو الحسن بن الشّيخ محمّد الشّعرانيّ، و هو من أحفاد ملّا فتح اللّه الكاشانيّ، كان مفسّرا، فقيها، فيلسوفا، رياضيّا، ولد بطهران و دفن فيها و له كتب كثيرة منها: «نثر طوبى» [2 ج، ط (2) من مطبوعات المكتبة الإسلاميّة- طهران- 1398 ه].

الشّهرستانيّ (479- 548 ه)

هو أبو الفتح محمّد بن عبد الكريم الشّهرستانيّ الأشعريّ، مفسّر، متكلّم. ولد في شهرستان، له «مفاتيح الأسرار و مصابيح الأبرار» [2 ج، خطيّ، 900 ه].

شيخ زاده (...- 951 ه)

هو محي الدّين محمّد بن مصطفى القوجويّ، مفسّر من فقهاء الحنفيّة، له «حاشية على تفسير أنوار التّنزيل البيضاويّ» و هي أعظم الحواشيّ فائدة و أكثرها نفعا [ط: المكتبة الإسلاميّة تركيا].

نصوص في علوم القرآن، ص: 712

(ص)

الصّابونيّ (معاصر)

هو محمّد عليّ الصّابونيّ، الأستاذ بكلّيّة الشّريعة و الدّراسات الإسلاميّة بمكّة المكرّمة، له «التّبيان في علوم القرآن» [ط: دار القلم- بيروت- 1390 ه].

صبحي الصّالح (...- 1407 ه)

هو الدّكتور صبحي الصّالح أستاذ الإسلاميّات و فقه اللّغة في كلّيّة الآداب بالجامعة اللّبنانيّة، سابقا، له «مباحث في علوم القرآن» [ط (5) دار العلم للملايين- بيروت- 1385 ه].

صدر المتألّهين (979- 1050 ه)

هو محمّد بن إبراهيم صدر الدّين الشّيرازيّ المشهور بملّا صدرا أو صدر المتألّهين، أحدث تحوّلا في العلوم العقليّة، إذ كان أوّل من جمع بين الفلسفة المشّائيّة و الإشراقيّة و الكلام، له كتب كثيرة منها «تفسير القرآن الكريم» [6 ج، ط (2) أمير- قم- 1406] و «أسرار الآيات» [ط: وزارة الثّقافة و التّعليم العالي- طهران- 1402] و «تفسير سورة الواقعة» [ط: خواندنيها- طهران- 1404 ه].

الصّدوق (...- 381 ه)

هو أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين موسى بن بابويه القمّيّ المعروف بالشّيخ الصّدوق، محدّث إماميّ كبير، و كتابه «من لا يحضره الفقيه» من الكتب الأربعة للشّيعة، له «رسالة في الاعتقادات» [مخطوطه].

الصّعيديّ (معاصر)

هو الدّكتور عبد المتعال الصّعيديّ، أستاذ اللّغة العربيّة بجامعة حلب، له مقالات و بحوث كثيرة، منها: ما نشر في مجلّة «رسالة الإسلام» الصّادرة عن دار التّقريب بين المذاهب الإسلاميّة بالقاهرة [15 ج، ط (3) مجمع البحوث الإسلاميّة بمشهد المقدّسة- ايران- 1411 ه].

نصوص في علوم القرآن، ص: 713

الصّغير (معاصر)

هو الدّكتور الشّيخ محمّد حسين عليّ الصّغير، أستاذ كلّيّة الفقه في النّجف الأشرف، ولد في النّجف الأشرف، ينحدر من عائلة آل الخاقانيّ، له كتب منها «دراسات قرآنيّة» [ط: (2) مكتب الإعلام الإسلاميّ- قم- 1413 ه].

الصّفّار (...- 290)

هو أبو جعفر محمّد بن الحسن الصّفّار بن فرّوخ القمّيّ من أعاظم المحدّثين الإماميّة. كان من أصحاب الإمام العسكريّ عليه السّلام، و له كتب كثيرة، أشهرها: «بصائر الدّرجات» [ط: منشورات مكتبة آية اللّه العظمى المرعشيّ- قم- 1404 ه].

(ط)

الطّباطبائيّ (1321- 1402 ه)

هو العلّامة السّيد محمد حسين القاضي الطّباطبائيّ التّبريزيّ، ولد في تبريز و توفّي في قم المقدّسة، و كان له أفكار جديدة في العلوم العقليّة و التّفسيريّة، له «الميزان في تفسير القرآن» [20 ج، ط (3) إسماعيليان- طهران- 1394 ه] و «القرآن في الإسلام» [ط: سبهر- طهران- 1404 ه].

الطّبرسيّ (...- 548 ه)

هو أبو عليّ الفضل بن الحسن الطّبرسيّ، من أجلّاء الإماميّة، نسبته إلى «تفرش» من بلاد ايران، مدفنه في المشهد الرّضويّ، له تفسير «مجمع البيان لعلوم القرآن» [5 ج، ط: مطبعة العرفان- صيدا- 1333 ه] و «تفسير جوامع الجامع» [3 ج، ط (3) بهرام- طهران- 1404 ه].

نصوص في علوم القرآن، ص: 714

الطّبريّ (225- 310 ه)

هو أبو جعفر محمّد بن جرير الطّبريّ، مفسّر، مؤرّخ، و كان شافعيّا، ثمّ اختار لنفسه مذهبا مستقلّا. ولد في آمل من أعمال طبرستان، له «جامع البيان في تفسير القرآن» [11 ج، ط (3) مطبعة مصطفى البابي الحلبيّ- مصر- 1388 ه].

الطّريحيّ (979- 1085 ه)

هو الشّيخ فخر الدّين عليّ بن أحمد بن طريح الرّماحيّ، فقيه، مفسّر، لغويّ، ولد في النّجف الأشرف و دفن فيها، له «مجمع البحرين و مطلع النيّرين» [6 ج، ط: طراوت- طهران- 1362 ه].

الطّوسيّ (385- 460 ه)

هو أبو جعفر محمّد بن الحسن الطّوسيّ، من أعاظم فقهاء الشّيعة، جامع المعقول و المنقول، و مؤسّس الحوزة العلميّة في النّجف الأشرف، و كتاباه «التّهذيب» و «الاستبصار» من الكتب الأربعة للشّيعة، له «التّبيان في تفسير القرآن» [10 ج، ط: المطبعة العلميّة- النّجف- 1376 ه].

(ع- غ)

عزّة دروزة (1305- ...)

هو محمّد بن عبد الهادي المعروف بعزّة دروزة، ولد في نابلس بفلسطين، له «التّفسير الحديث» [12 ج، ط: دار إحياء الكتب العربيّة- 1381 ه] و تاريخ «القرآن المجيد» [ط: المطبعة العصريّة- صيدا].

الإمام العسكريّ (232- 260)

هو الإمام أبو محمّد الحسن بن عليّ الهاشميّ، المعروف بالعسكريّ، الإمام الحادي عشر عند الإماميّة. ولد في المدينة و قضى شهيدا في سامرّاء على يد المعتمد من خلفاء بني العبّاس، و له تفسير منسوب إليه، المعروف بتفسير الإمام

نصوص في علوم القرآن، ص: 715

العسكريّ. [ط (1) مهر- قم- 1409 ه].

العطّار (...- 1403 ه)

هو الدّكتور السّيد داود العطّار، عميد كلّيّة أصول الدّين ببغداد سابقا، توفّي في ايران، له كتب منها «موجز علوم القرآن» [ط:

مؤسّسة الأعلميّ- بيروت- 1399 ه].

على ددة (...- 1007 ه)

هو الشّيخ على ددة بن مصطفى الموستاريّ الملقّب بشيخ التّربة، ولد في موستار إحدى مدن البوسنة و الهرسك، له «حل الرّموز و كشف الكنوز في الأسئلة الحكميّة و الأجوبة العلميّة» [المخطوطة 1314 ه].

عيّاد (معاصر)

هو جمال الدّين عيّاد، ماجستير في الدّراسات العربيّة و الإسلاميّة من الجامعة الأمريكيّة بالقاهرة، له «البحوث في تفسير القرآن، سورة العلق» [ط دار الحمّاميّ للطّباعة- القاهرة- 1380 ه].

الغزاليّ (معاصر)

هو الشّيخ محمّد الغزاليّ من علماء الأزهر البارزين المجاهدين و عضو دار التّقريب بين المذاهب الإسلاميّة سابقا، له «نظرات في القرآن» [ط ...؟].

(ف)

الفخر الرّازيّ (544- 606 ه)

هو أبو عبد اللّه محمّد بن عمر التّيميّ البكريّ الفخر الرّازيّ، المفسّر الكبير و المتكلّم الشّهير، أصله من طبرستان، مولده في الرّي، له «مفاتيح الغيب» المعروف «بالتّفسير الكبير» [32 ج، ط: البهيّة المصريّة- القاهرة-].

نصوص في علوم القرآن، ص: 716

الفيروزآباديّ (729- 817 ه)

هو محمّد بن يعقوب الشّيرازيّ الفيروزآباديّ، ولد «بكازرون»، من أئمّة اللّغة و الأدب، له «بصائر ذوي التّمييز في لطائف الكتاب العزيز» [6 ج، ط: لجنة إحياء التّراث الإسلاميّ- القاهرة- 1383 ه].

الفيض الكاشانيّ (...- 1091 ه)

هو محمّد محسن بن المرتضى المعروف بالفيض الكاشانيّ، تلميذ صدر المتألّهين و صهره، ولد و نشأ في قم و توفّي في كاشان، له «تفسير الصّافيّ» [5 ج، ط (1) دار إحياء الكتب العربيّة بمصر- 1376 ه].

(ق)

القاسميّ (1283- 1332 ه)

هو جمال الدّين محمّد بن سعيد بن قاسم، مولده و وفاته بدمشق، و كان سلفيّ العقيدة، له «محاسن التّأويل» المعروف «بتفسير القاسميّ» [17 ج، ط (1) دار إحياء الكتب العربيّة- مصر- 1376 ه].

القرطبيّ (...- 671 ه)

هو أبو عبد اللّه أحمد بن أبي بكر الأنصاريّ الخزرجيّ الأندلسيّ، من أهل قرطبة، توفّي في أسيوط مصر، له «الجامع لأحكام القرآن» المعروف «بتفسير القرطبيّ» [20 ج، ط (2) دار إحياء التّراث العربيّ- بيروت- 1372 ه].

القطّان (معاصر)

هو منّاع خليل القطّان، أستاذ التّفسير بكلّيّة الشّريعة، و محاضر بالمعهد العالي للقضاء في «الرّياض»، له «مباحث في علوم القرآن» [ط (2) منشورات الحديث- الرّياض- 1391 ه].

نصوص في علوم القرآن، ص: 717

القمّيّ (328 ه)

هو المحدّث، الثّقة الجليل أبو الحسن عليّ بن إبراهيم بن هاشم القمّيّ، عاش في عصر الإمام العسكريّ عليه السّلام، و له كتب منها:

التّفسير المسمّى باسمه [2 ج، ط (1) دار الكتابة للطّباعة و النّشر- قم- 1403 ه] و كتاب الأنبياء [مخطوط].

(ك)

الكاشانيّ (...- 988 ه)

هو مولى فتح اللّه بن مولى شكر اللّه الكاشانيّ، فقيه، مفسّر، متكلّم إماميّ، له «منهج الصّادقين» [10 ج، ط: أفست المطبعة الإسلاميّة- طهران- 1388 ه].

الكلينيّ (...- 329 ه)

هو أبو جعفر محمّد بن يعقوب المعروف بثقة الإسلام الكلينيّ، رئيس المحدّثين للشّيعة الإماميّة، مولده في كلين بالرّي، و مدفنه ببغداد، له «الكافي» في الأصول و الفروع و الرّوضة (من الكتب الأربعة للشّيعة) [8 ج، ط: دار الكتب الإسلاميّة- طهران- 1388 ه].

(م)

مالك بن نبيّ (1323- 1393 ه)

ولد في مدينة قسطنطينة في الجزائر، كان مهندسا كهربائيّا، له «الظّاهرة القرآنيّة» [ط: دار الفكر- دمشق- ساحة الحجاز 1402 ه].

مؤلّف المبانيّ (...؟ ...)

هو صاحب كتاب «المباني في نظم المعاني» اسمه مجهول، لأنّ الصّفحة الأولى من النّسخة الوحيدة قد فقدت، لكنّه يذكر في الصّفحة الثّانية من المخطوطة أنّه بدأ في تأليفه عام (425 ه).

نصوص في علوم القرآن، ص: 718

المجلسيّ (1027- 1111 ه)

هو محمّد باقر بن محمّد تقي المعروف بالمجلسيّ الأصفهانيّ، محدّث، فقيه، متكلّم. له ثلاثمائة مصنّف، أعظمها و أشهرها «بحار الأنوار ...» [110 ج، ط (3) دار إحياء التّراث العربيّ- بيروت- 1403 ه].

المراغيّ (معاصر)

هو أحمد بن مصطفى المراغيّ، أستاذ الشّريعة الإسلاميّة بكلّيّة دار العلوم في القاهرة سابقا، له تفسير يعرف باسمه. ألّفه عام (1365 ه) [10 ج، ط (3) إحياء التّراث العربيّ- بيروت- 1394 ه].

مرتضى العامليّ (1364- ...)

هو السّيد جعفر مرتضى العامليّ، الأستاذ و المؤرّخ الإسلاميّ، ولد في جبل عامل بلبنان، له كتب كثيرة منها: «حقائق هامّة حول القرآن الكريم» [ط (1) مؤسّسة النّشر الإسلاميّ قم المقدّسة 1407 ه] و «الصّحيح من سيرة النّبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله» [6 ج، ط: قم المقدّسة- 1403 ه].

المسعوديّ (...- 346 ه)

هو أبو الحسين عليّ بن الحسين المسعوديّ المعتزليّ، و قيل:

الإماميّ، من ذريّة عبد اللّه بن مسعود، مؤرّخ مشهور، ولد ببغداد و نشأ فيها، ثمّ شدّ الرّحال إلى بعض الأقطار الإسلاميّة، له كتب منها: مروج الذّهب [4 ج، ط (2) دار الهجرة- قم- 1404 ه].

مسلم (206- 261 ه)

هو أبو الحسين مسلم بن الحجّاج بن مسلم القشيريّ النّيسابوريّ، مولده و وفاته بنيسابور. أشهر كتبه: «صحيح مسلم» و هو أحد كتب الصّحاح المعوّل عليها عند أهل السّنّة [ط: دار إحياء التّراث العربيّ- بيروت- 1373 ه].

نصوص في علوم القرآن، ص: 719

المصطفويّ (1334- ...)

هو الأستاذ المحقّق الميرزا حسن المصطفويّ التّبريزيّ، سكن بطهران، و له كتب كثيرة منها: «التّحقيق في كلمات القرآن الكريم» [14 ج، ط (1) وزارة الثّقافة و الإرشاد الإسلاميّ- طهران- 1412 ه].

مطهّريّ (...- 1399 ه)

هو الشّهيد المحقّق آية اللّه مرتضى المطهّريّ، مولده في فريمان بخراسان، مفسّر، فيلسوف من تلامذة الإمام الخمينيّ و العلّامة الطّباطبائيّ رضوان اللّه تعالى عليهما، له مصنّفات كثيرة و محاضرات مسجّلة، أخرجت في كتب متعدّدة منها: «معرفة القرآن» [ط: مؤسّسة القرآن الكريم- طهران- 1402 ه]، و منها: «تفسير سورة الفجر و القيامة» بالفارسيّة [ن: الحزب الجمهوريّ الإسلاميّ، قم 1402 ه].

معرفت (1356- ...)

هو الشّيخ محمّد هادي معرفت، ولد بكر بلاء، و درس في النّجف الأشرف، فأصبح أستاذا و محقّقا في قم المقدّسة، له «التّمهيد في علوم القرآن» [5 ج، ط: مهر- قم- 1396 ه].

المفيد (336- 413 ه)

هو أبو عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النّعمان المعروف بالشّيخ المفيد و بابن المعلّم، الفقيه، و المتكلّم الإماميّ المشهور، ولد في عكبرا ببغداد، و له «تصحيح الاعتقاد» [ط: أمير- قم- 1363 ه].

الملكيّ (ت: 1324- ...)

هو الشّيخ العالم الفاضل المتّقي محمّد باقر الملكيّ، ولد في ميانة من توابع آذربايجان بإيران، و سكن في قم المقدّسة، له كتب كثيرة منها: «تفسير مناهج البيان» [2 ج، ط: وزارة الثّقافة و الإرشاد الإسلاميّ- طهران- 1414 ه ق].

نصوص في علوم القرآن، ص: 720

مولى صالح المازندرانيّ (...- 1085 ه)

هو العلّامة حسام الدّين محمّد بن ملّا أحمد سرويّ، المعروف بملّا صالح المازندرانيّ، كان تلميذ الشّيخ البهائيّ و المجلسيّ الأوّل و صهره، له «شرح أصول الكافيّ» [12 ج، ط: مكتبة الإسلاميّة- طهران- 1382 ه].

الميبديّ (...- 530 ه)

هو رشيد الدّين أبو الفضل بن أبي سعيد أحمد الميبديّ اليزديّ، له «كشف الأسرار و عدّة الأبرار» و قد ذكر فيه كثيرا من أقوال «خواجه عبد اللّه الأنصاريّ» و لهذا عرف باسمه [10 ج، ط (2) سبهر- طهران- 1399 ه].

مير محمّديّ (معاصر)

هو السّيّد أبو الفضل مير محمّديّ، أستاذ علوم القرآن في جامعة الإلهيّات بطهران، له «بحوث في تاريخ القرآن و علومه» [ط:

مؤسّسة البيادر للطّباعة- بيروت- 1400 ه].

(ن)

النّسائيّ (215- 303)

هو أحمد بن عليّ بن شعيب، القاضي الحافظ، أصله من نساء (من قرى سرخس بخراسان). استوطن مصر، فمات بالرّملة ببيت المقدس و قيل: بمكّة و هو الأرجح. و له كتب كثيرة منها:

«السّنن بشرح جلال الدّين السّيوطيّ» و هو أحد كتب الصّحاح السّتّة عند أهل السّنّة [8 ج، ط: دار الفكر للطّباعة و النّشر- بيروت- 1348 ه].

النّهاونديّ (...- 1369)

هو الشّيخ علي أكبر بن ملّا محمّد حسين، أصله من نهاوند من توابع بروجرد نشأ في النّجف الأشرف و رجع إلى المشهد الرّضويّ عام 1328 ه، و توفيّ فيه، له كتب منها: «خزينة الجواهر من الأصول و الفروع و الأخلاق» [ط (5) المطبعة

نصوص في علوم القرآن، ص: 721

الإسلاميّة- طهران- 1390 ه].

النّهاونديّ (...- 1371 ه)

هو الشّيخ محمّد بن المحقّق آية اللّه الميرزا عبد الرّحيم، كان مولده في الغريّ «1» و موطنه في المشهد الرّضويّ، له «نفحات الرّحمن في تفسير القرآن» [4 ج، ط: مطبعة العلميّ- طهران 1357 ه].

النّيسابوريّ (...- 728 ه)

هو الحسن بن محمّد القمّيّ النّيسابوريّ، كان مفسّرا، رياضيّا، حكيما، مولده في قم، و موطنه في نيسابور، له «غرائب القرآن» المعروف بتفسير النّيسابوريّ [10 ج، ط: مطبعة البابى بمصر 1381 ه].

(و- ى)

الواحديّ (...- 468 ه)

هو أبو الحسن عليّ بن أحمد الواحديّ، مفسّر، النّحويّ، الإماميّ «2»، أصله من ساوة من بلاد ايران، مولده و وفاته بنيسابور، له «أسباب النّزول» [ط: دار الكتب العلميّة بيروت- استنساخ انتشارات الرّضيّ- قم- 1403 ه].

الوشنويّ (1329- ...)

هو العالم المحدّث المتتبّع الشّيخ محمّد قوام بن حبيب اللّه القميّ، ولد في وشنوة من توابع قم، له كتب منها: «حياة النّبيّ و سيرته» [ط: الخيّام- قم- 1412 ه].

______________________________

(1)- هو الإسم السّابق الّذي كان يطلق على المنطقة الّتي شيّدت عليها مدينة النّجف الأشرف.

(2)- ذكره صاحب الذّريعة بأنّه من مصنّفي الشّيعة.

نصوص في علوم القرآن، ص: 722

اليعقوبيّ (...- 284 ه) «1»

هو أحمد بن إسحاق بن واضح اليعقوبيّ، مؤرّخ جغرافيّ شيعيّ «2» من أهل بغداد، أصله من أصفهان. له كتاب في التّأريخ يسمّى باسمه [ط: دار صادر بيروت ...].

______________________________

(1)- في تاريخ وفاته خلاف، و المثبت أعلاه اخترناه من؟ كتاب «ريحانة الأدب».

(2)- تشيّعه ظاهر من خلال كتابيه (التّأريخ و البلدان).

نصوص في علوم القرآن، ص: 723

مصادر الأعلام

1- الأعلام [9 ج] خير الدّين الزّركليّ

2- أعيان الشّيعة [10 ج] السّيد محسن الأمين

3- الذّريعة إلى تصانيف الشّيعة [25 ج] محمّد محسن الشّيخ آغا بزرك الطّهرانيّ

4- ريحانة الأدب [8 ج] الشّيخ ميرزا محمّد عليّ مدرّس

5- طبقات أعلام الشّيعة [2 ج] محمّد محسن الشّيخ آغا بزرك الطّهرانيّ

6- الكنى و الألقاب [3 ج] الشّيخ عبّاس القمّي

7- معجم الدّراسات القرآنيّة عند الشّيعة عامر الحلو

8- معجم مصنّفات القرآن [4 ج] الدّكتور علي شواخ إسحاق

9- المنجد في الأعلام لويس معلوف

10- وفيات الأعيان [8 ج] أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن أبي بكر بن خلّكان

11- التّراجم الموجودة في مقدّمة كتبهم

12- الشّخصيّات المعاصرة للمترجم له.

فهرس الموضوعات

اشارة

تصدير بقلم العلّامة آية اللّه واعظزاده، 9

أقسام علوم القرآن، 10

البحث حول هذا الكتاب، 17

تصدير بقلم المؤلّف، 21

المدخل في أقسام الكتاب، 21

طريقة العمل، 23

شكر و تقدير، 25

الآيات و تفاسيرها

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ...، 91،

109، 227، 238

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، 34، 57، 73، 79، 86، 97، 106، 109، 149، 161، 170، 179، 197، 219، 224، 264، 283، 310، 327، 362، 374، 419

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ...، 274، 311، 400،

490

وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ* مِنْ قَبْلُ ...، 171

وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ ...، 637 نصوص في علوم القرآن 723 الآيات و تفاسيرها ..... ص : 723

وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ، 80

كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ...، 397، 635

وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ، 92

وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً، 401

نصوص في علوم القرآن، ص: 724

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ...، 36،

74، 77، 98، 112، 150، 162، 171، 198، 224، 286، 481

وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ...، 158

وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ ...، 39، 59، 80، 87، 98، 104،

107، 113، 150، 200، 227، 265، 283، 328، 403، 645

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ ...، 266

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ ...، 375

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً، 40، 74، 87، 92، 98، 104، 114، 151، 159، 162، 166، 173، 180، 200، 225، 275، 283، 287، 328، 330، 360، 373، 376، 404، 445، 483.

كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ ...، 485

وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، 81، 105، 159، 174

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ، 228، 275،

289

لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ، 66

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، 41، 75، 82، 88، 93، 99، 107، 116، 152، 160، 164، 167، 174، 201، 220، 258، 276، 284، 296، 333، 446، 477.

وَ النَّجْمِ إِذا هَوى، 260

فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ...، 42، 101، 107، 153،

181، 202، 296

لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، 241، 642

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، 43، 75، 88، 95، 100، 108، 120، 154، 167، 175، 181، 193، 203، 277، 334، 373، 415، 422، 604.

إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ، 122

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا، 89، 225

فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ* مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، 83، 102، 125، 177، 297

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى، 48، 83، 94، 103، 126، 155، 168، 204، 220، 229، 266، 284، 336

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، 49، 85، 95، 104، 131، 157، 160، 164، 169، 177، 223، 260، 266، 280، 298، 331، 337، 359، 417، 446، 611.

النّزول و مراتبه

كيفيّة نزول القرآن، 31، 62، 136، 186، 189، 205، 424، 549، 569، 599، 689، 684.

و في كيفيّة نزول القرآن ثلاثة اقوال، 549

و في كيفيّة نزول القرآن في ليلة القدر، 272

كيف نزل و لما ذا خلّد؟، 71

معنى نزول القرآن في ليلة القدر، 272، 513

جبرئيل نزل بجميع القرآن، 666

كيف تلقّى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله القرآن، 679

الآيات الدّالّة على وساطة جبرئيل، 667

حقيقة إنزال القرآن، 255

هل نزل القرآن بلفظه و معناه، 463

إنزال القرآن على قسمين، 421، 529

نزول القرآن على النّبيّ مرّتين، 617

الفرق بين الإنزال و التّنزيل، 217، 302، 411، 627.

إنزال القرآن و تنزيله، 427، 492

ترتيل القرآن ترتيلا، 487

للقرآن الكريم وجودات ثلاثة [أو] تنزّلات ثلاثة، 341، 460، 527

مراتب وجود القرآن في النّزول و الصّعود، 306، 308

نزول القرآن جملة، 552

نزول القرآن

جملة و تدريجا، 626

المنازل الأربعة عشر للقرآن الكريم، 320

روايات نزول القرآن جملة واحدة و أثرها، 363

روايات نزول القرآن بالمعنى و أثرها، 367

تعليق على روايات نزول القرآن جملة واحدة، 359

نصوص في علوم القرآن، ص: 725

تعليق على تحدّى الكفّار بإنزال القرآن جملة واحدة، 360

الحكمة في إنزال القرآن جملة واحدة، 231

سرّ نزول القرآن جملة إلى البيت المعمور في ليلة القدر، 323

الحكمة في وضع القرآن بالسّماء الدّنيا، 232

الرّدّ على ما اعترضه المفيد على قول الصّدوق، 271

النزول منجما

نزول القرآن نجوما، سورة سورة، 591

التّدرّج في تنزيل القرآن، 495، 618

نزول القرآن منجّما، 555، 621

تنجيم الوحى، 378

كيف كان هذا النّزول، 533

الحكمة [أو] أسرار نزول القرآن منجّما، مفرّقا، حكم تدرّج تنزيل القرآن، حكمة النّزول التّدريجى و ...، 232، 325، 314، 448، 349، 384، 466،

534، 537، 557، 570، 622، 673، 681.

حظّنا من العمل بهذه الحكمة، 315

مواجهة الأحداث، 490

أثر تدرّج تنزيل القرآن في نشرة الدّعوة الإسلاميّة، 495

الاستفادة من نزول القرآن منجّما في التّربية و التّعليم، 567

حكم تدرّج تنزيل القرآن، 498، 537

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و القرآن

حكم تخصّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، 498

حكم تخصّ القرآن، 500

حكم تخصّ النّاس، 502

باب ما كان يعرض القرآن على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، 32

أين كان القرآن قبل النّزول؟

تهافت النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله على نزول القرآن و على تلقيه حين الوحي، 439

ما الحكمة في إنزال القرآن على النّبيّ و هو ابن اربعين سنة؟، 234

القرآن و الملائكة

ما الحكمة عند نزول الوحى في تقدّم صوت الملك؟، 233

ما الحكمة في أنّ الملائكة بأسرها صعقت ليلة نزول القرآن؟، 237

ما الحكمة في تعدّد مواطن نزول القرآن، 274

ترتيب النّزول

ترتيب القرآن حسب النّزول، 594

ترتيب آيات المصحف الفعليّ، 595

ترتيب سور المصحف الموجود فعلا، 595

ما ذا عن تصرّف الصّحابة في تأليف القرآن؟، 596

لما ذا لم يذكر الموضوع الواحد تامّا في سورة واحدة؟، 471

البعثة و تاريخ النّزول

البعثة في رجب أوفى شهر رمضان؟، 599

تاريخ البعثة، 182، 268، 502

بعثته و نزول الوحي إليه و ما حولهما من الرّوايات، 580

ابتداء نزول القرآن، 328، 567

تاريخ زمان نزول القرآن و تحقيق ذلك، 262، 305، 441، 575

كلام اللّه تعالى

فترة ثلاث سنوات، 506

قاعدة: في تحقيق كلامه تعالى، 253

جبرائيل و القرآن

كيفيّة أخذ جبريل للقرآن و عمّن أخذ؟، 344

ما الّذي نزل به جبريل؟، 345

نصوص في علوم القرآن، ص: 726

الوحى القرآني و السّنّة

ما هي تلك العجلة في أثناء الوحي، 423

الخصائص الظّاهريّة للوحي، 378

هل السّنّة النّبويّة بوحي من اللّه تعالى، 680

الفرق بين إنزال كلام اللّه على قلب النّبيّ و بين إنزال الكتب السّماوية إلى ساير الأنبياء، 250

كيفيّة نزول الكتب السّماويّة السّالفة، 535

إنّ النّازل على أكثر الأنبياء هو الكتاب دون كلام اللّه، 249

مكاشفات و تنبيهات

مكاشفات سرّيّة و نفثات روعية، 238

تنبيهات، 207

شبهات، 429، 517

تذنيب، 208

آراء و تأويلات، 508

توهّم و دفع، 668

مناقشة، 669

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.